المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من محكمة دوما إلى محكمة دمشق - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌من محكمة دوما إلى محكمة دمشق

-122 -

‌من محكمة دوما إلى محكمة دمشق

تعاقب على دوما قبلي قُضاة أعلام، منهم علماء كالشيخ سليمان الجوخدار وكان قاضياً فيها سنة 1300 هجرية، والشيخ الفقيه الفرضيّ الشيخ حسن الشطي، ومنهم الشيخ عبد الفتاح الأسطواني والشيخ أنيس الملوحي. وممّن سمعت عنه ولم ألقَه من قُضاة دوما الشيخ زاهد أفندي الألشي، وهو والد جميل بك الألشي الذي كان وزيراً مِراراً، وأحسب أنه كان يوماً رئيس الوزراء، وكان من الممالئين للمستعمرين الفرنسيين، يسير معهم حيثما سيّروه وينفّذ لهم ما أرادوه (1).

وكان زاهد أفندي الألشي -كما سمعنا من أستاذنا محمد كرد علي- صاحب نكتة وكان من ظرفاء الشام، وكان يسكن في أول القيمرية عند أدنى النّوفرة، لا يبعد عن الجامع الأموي أكثر من مئة متر، وكان لداره طاقة يُطِلّ منها على الباب، فقُرع الباب مرّة فمدّ رأسه ليرى فوجد المفتي ونقيب الأشراف وجماعة من

(1) ويتّهمه ساطع الحصري في كتابه عن يوم ميسلون صراحة، فارجعوا إلى هذا الكتاب.

ص: 323

المشايخ، ولم يكن مستعداً لاستقبالهم وقد جاؤوه على غير موعد فقال للولد: قُل لهم ليس هنا. فقالوا له: كيف تقول أنه ليس هنا وقد رأيناه يُطِلّ علينا؟ فتلعثم الغلام ولم يدرِ بماذا يجيب، فبرز لهم بوجهه وقال لهم: خلوا عندكم شيئاً من الذوق، جئتم على غير موعد والله يقول:{فإنْ قيلَ لكمُ ارْجِعوا فارجِعوا} ، وكلمة ليس هنا معناها أن صاحب البيت يريد أن ترجعوا. فشتموه مازحين وانصرفوا.

ولعلكم تنبهتم إلى أنني دعوته زاهد الأفندي، ولقب «أفندي» مرّت عليه أدوار، فكان في الأصل لقباً لابن السلطان (يقابل لقب «البرنس» عند الإفرنج)، فإذا لُقّب به الشيخ دلّ على أنه ولي القضاء أو الإفتاء، لذلك كانوا يسمّون المفتي والقاضي: قاضي أفندي ومفتي أفندي. ثم هبطَت قيمة «الأفندي» حتّى صارت تُطلَق على كل واحد من الناس. ولمّا كنّا ندرس في مصر أيام الملك فؤاد كانت الألقاب تُمنَح من الملك وكان لها نظام وقانون، فكان الأفندي إذا أخذ لقب «بك» لُصق باسمه ودُعي بصاحب العزّة، وهي مترجَمة عن الاصطلاح العثماني «عزتلو أفندي» ، فإن ارتقى صار صاحب السعادة ولُقّب بالباشا. وأُحدِثت في مصر في أواخر عهد المَلَكية ألقاب صاحب المقام الرفيع، وأظنّ أن أول من لقب به النحاس باشا (1).

* * *

(1) وكانت سوريا أول بلد عربي ألغى الألقاب كما كانت السابقة إلى إلغاء الامتيازات الأجنبية.

ص: 324

لا أستطيع أن أسرد كثيراً من الحوادث التي وقعَت لي في قضاء دوما، لبُعد العهد بها ولأنني لم أدوّن شيئاً منها، ولكن من غرائبها ما يصدّق قولَ الله عز وجل (ولا يحتاج قوله إلى تصديق):{ولوْ كانَ من عندِ غَيرِ اللهِ لَوَجدوا فيه اخْتِلافاً كثيراً} ؛ فالقوانين الوضعيّة مهما كبُرَت عقول واضعيها واتسعَت مداركهم وامتدّت أنظارهم تختلف فيما بينها، فإن لم يكن بينها اختلاف فإن أوضاع الناس وأعرافهم تتبدّل دائماً، فتتخلف القوانين عن مسايرة أوضاع الناس فتحتاج إلى تعديل.

وعندي على ذلك شواهد تستعصي على الحصر، من أعجبها أنه جاءني مرّة رجل في قضية إرث. وكان القانون المتّبَع عندنا أن يُبرز قيد النفوس من دائرة الأحوال المدنية قبل رفع الدعوى. فلما جاء بالقيد وجدنا فيه أنه قد توفّي من عشر سنين! فقلت له: إنك ميت في القيد الرسمي، فكيف ترفع الدعوى؟

فحسب أنها مزحة مني، واستسهل هو ومن معه الأمر وقال: ما قيمة قيد يكذّبه الواقع؟ ألست تراني حياً أمامك؟ قلت: بلى، لكن القيد يحتاج إلى تصحيح. قال: إذن صحّحوا القيد. قلت: والقانون لا يسمح بتصحيحه إلاّ بحكم من المحكمة بعد دعوى تُقام لديها، فمن يُقيم الدعوى؟ قال: أنا طبعاً. قلت: ولكنك ميت رسمياً فكيف أسمع الدعوى من ميت؟ قال: وما العمل؟ قلت: لا أدري والله!

الرجل حيّ ماثل أمامي وكل من معه يعرفه ويوقن بأنه لا يزال حياً، والقيد الرسمي يقول إنه ميت. فهل أشكّ في حياته وهو

ص: 325

يكلّمني أم أشكّ في هذا القيد الذي يوجب القانونُ تصديقَه ولا يقبل البينة الشخصية لإثبات كذبه؟

أرأيتم؟ لقد بدا القانون عارياً ظاهرةً سوأتُه لا يستطيع أن يخفيها، ولكنه يستعصم بسلاح يمنع الناس من أن يقولوا له: إنك تمشي بلا ثياب. وكانت معضلة حقاً؛ كتبت فيها إلى وزارة العدل فلم تستطع أن تصنع شيئاً، إلاّ أنْ تقدمت باقتراح إلى مجلس النواب لتعديل هذا القانون ومعالجة أمثال هذه الحالات الطارئة.

وصدق ربنا: {ولو كانَ من عندِ غيرِ اللهِ لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} .

* * *

الشيخ حسن الشطي (الذي كان قاضياً في دوما قبلي بزمان طويل) من أفقه الحنابلة عندنا في الشام، ولعله أفقه من الشيخ جميل الشطي الذي كان مفتي الحنابلة.

لم تكن المواصلات بين دمشق ودوما على عهده في قضائها ميسورة ولا كان الطريق معبّداً موسّعاً، ولم تكن السيارات معروفة فكان يركب العربة تجرّها الخيول، فيمضي على الطريق من دوما إلى دمشق ساعتين.

ولقد حدّثني أنه كان مرّة منصرفاً من المحكمة في آخر وقت الدوام، فأقبل عليه جماعة من النَّوَر (الذين يُدعَون في مصر الغَجَر) وابتدرته امرأة منهم فقالت: يا سيدَنا القاضي، احكم بيننا. فقال لها: ما لك؟ قالت: هذا زوجي وهو لا ينفق عليّ. قال: أنفق

ص: 326

عليها يا رجل. ومشى القاضي في طريقه، فلحقَته المرأة تصيح: كم يُعطيني في اليوم؟ قال: ربع مجيدي.

ومرّت أيام طويلة ونسي الشيخ القصّة كلها، فجاءه نَوَري ومعه امرأته وقال: يا سيدي اصطلحنا، ارفع النفقة عني. قال القاضي: أيّ نفقة؟ قال: النفقة التي فرضتَها عليّ، أنا والله لا أقدر عليها والمرأة في بيتي. فسأل المرأة فقالت: صحيح يا سيدَنا القاضي. قال القاضي: لقد رفعتها عنك. فانصرف الرجل وهو يشكره والمرأة وهي تدعو له.

هذا والقوم نَوَر، وهم يُعَدّون من أحطّ طبقات البشر، ولكن فيهم فطرة الخير التي فطر الله النفوس عليها، لم تُفسِدها أوضاع المجتمع ولا أوضار الحضارة. فما بالنا نرى أقواماً هم في الذروة والسنام عِلماً وجاهاً وغِنى ثم لا يُؤَدّون الذي عليهم ولا يكتفون بالذي لهم، ولا يزالون يلجّون في الخصام ويغرقون في النزاع، وكلّما مالت المحكمة إلى الفصل فتحوا أبواباً للتأجيل، حتّى صارت تتصرّم السنون وتنقضي الأعمار ولا تنتهي الدعوى، وحتى كان بين أسرتنا وأسرة الصلاحي في دمشق دعوى لبثَت في المحكمة ثلاثاً وثمانين سنة! مات الذي أقامها ومات ولده، وقام بها مَن لا يدري منشأها ولا يعرف حقيقتها، ولا يسرّه الظفر فيها ولا تؤذيه خسارتها.

مع أن القضاء لا يحلو في نفس ذي الحقّ ولا ينجح في ردع ذي الباطل إلاّ إذا كان سريعاً مع الصواب مصيباً مع السرعة، يجيء والخصومة حامية فيرفع ألم المظلوم ويمنع أذى الظالم. وكذلك

ص: 327

كان القضاء في الإسلام، فلما كان من شؤم الأيام علينا أن أخذنا الأسلوب الفرنسي (عن طريق الترك أولاً ومن الانتداب الفرنسي ثانياً) أخذ الناس يشكون من طول المحاكمات ومن بطء صدور الأحكام.

كان الشيخ حسن الشطي رجلاً لطيف المعشر كريم النفس مُحِباً للأنس وللسمر ولمناقلة الحديث على الشاي الأخضر، يفتح لذلك داره ويستقبل إخوانه ويبسط لهم وجهه ويده، لكن فيه مع ذلك شِدّة فيما يراه حقاً، بل لعلّه كان أدنى إلى الظاهرية. أسوق على ذلك مثالاً، أتعجّل ذكره وإن لم يأتِ موعده في ترتيب هذه الذكريات:

كان الشيخ حسن مديراً للكلّية الشرعية في دمشق، وسترون أني دعيت لأدرّس عنده الثقافة الإسلامية، فعرفته في الكلّية وفي الدار وفي المسجد معرفة أخ وصديق، بل معرفة تلميذ، فأنا بالنسبة إلى علمه وفضله في القضاء لا أجاوز أن أُعَدّ تلميذاً له. وكنت (كما سيأتي) رئيس المجلس الأعلى للكلّيات الشرعية في دمشق وحمص وحماة وحلب.

وكانت الكلّية في زقاق النقيب في وسط دمشق، بين الأموي وبين السور، وكان الطلاّب ساعة الظهيرة يزدحمون على أنبوب الماء ليشربوه فاتراً غير مبرَّد. فاتفق يوماً أن قُرع الجرس ولم يستكملوا شربهم. وكان سبيل الماء البارد (من عين الفيجة)(1)

(1) والماء في هذه السُّبُل بارد دائماً يكاد يكون مثلّجاً، وهذا شيء ما رأيته في غير الشام وما رأيته في غير ماء الفيجة.

ص: 328

عند باب المدرسة، فلو أن طالباً أخرج رجله الواحدة وترك رجله الثانية داخل بابها لاستطاع أن يشرب منها. تضايق الطالب من العطش ومن دخول وقت الدرس، فجاوز الباب خطوة فشرب ورجع.

إلى هنا لا ترون إلاّ حادثة هيّنة عادية لا تُعتبر ذنباً ولا يرى أحدٌ فيها مخالفة. ولكن المدير الفاضل الظاهري التفكير، أستاذنا الشيخ حسن، رجع إلى نظام العقوبات في المدرسة فوجد أنه على درجات: أولها التنبيه ثم التوبيخ ثم التكدير العلني، ثم الطرد المؤقّت أياماً، ثم الطرد من المدرسة طرداً نهائياً. ومُثِّل للذنوب التي تستدعي الطرد أن يكفر التلميذ بالله، أو أن يرتكب فاحشة من الفواحش، أو أن يشتم أستاذاً، أو أن يدع المدرسة ويخرج منها بلا إذن

فما كان من الشيخ إلاّ أن أوقع على هذا الطالب عقوبة الطرد بحُجّة أنه خرج من المدرسة بلا إذن، وعلّق القرار في لوحة الإعلانات فرآه الطلاّب جميعاً.

رُفع الأمر إلى مجلس العمدة، وكنت يومئذ رئيسه لأنني كنت قاضي دمشق والرياسةُ في قانون الكلّية لقاضي البلد. فعجبنا وعجب الأعضاء كلّهم من هذا القرار، وندبوني بطلب مني أن أذهب إلى الشيخ فأسأله أن يعدّله. وكان -كما قلت- صديقي، بل هو بحكم أستاذي، فذهبت إليه فكلّمتُه، وظننت أن الأمر سهل وأنه سيقتنع مني ويعدّل هذا القرار، وإذا به يقول: القانون هو القانون، من خرج من المدرسة بلا إذن فعقوبته الطرد. فهل خرج أم لا؟ قلت: نعم، لقد خرج. قال: هل استأذن؟ قلت ضاحكاً: لا. قال: فلِمَ إذن تعارض في تطبيق العقوبة؟

ص: 329

قلت: يا شيخ حسن، أنت صديقي بل أنت أستاذي، وأنت تعرف أن العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وأنا لا أعترض على نصّ القانون بل أعترض على هذا التطبيق الذي ذهبتَ إليه معتقداً أنه حكم القانون. هذا طالب حَسَن الخلُق جيّد التحصيل، يُرجى له مستقبل زاهر ويؤمَل أن يخرج منه عالم ينفع الله به الناس، فهل يطمئنّ ضميرك إلى حرمانه العلم وطرده من المدرسة لأنه خرج إلى الباب وشرب وهو عطشان؟ لو كان ولدك فهل توقع عليه هذه العقوبة؟

قال: نعم؛ لو كان ولدي لأوقعتها عليه، لأن القانون هو القانون وأنا لست مسؤولاً عن نتائج تطبيقه. فذهبت فاستعنت عليه بصديقه الشيخ عبد القادر العاني (رحمة الله عليه) ومن يجالسه كلّ يوم من إخوانه، فما تزحزح شعرة عمّا قرره وأمضاه.

قلت: يا سيدي أنا تلميذك، ولكني بحكم القانون الذي تعتمد عليه وتستند إليه أستطيع أن أُلغي قرارك هذا وأن أُبطله لأني رئيس مجلس العمدة وهو المرجع في شؤون الكلّيات الشرعية، وأن أعيد الطالب المطرود. فهل يرضيك أن أفعل؟ قال: نعم، يرضيني لأنه موافق للقانون. قلت: أمري إلى الله.

واتخذت قراراً أعلنته إلى جنب قراره بأنني أبطلت هذه العقوبة وألغيتها وقرّرت إعادة الطالب إلى مدرسته. فهل ترونه تألم أو تكدّر من فعلي؟ أؤكّد لكم أنه لم يكن شيء من ذلك، وأن صلتنا وما كان بيننا من الحبّ والاحترام بقي على حاله لم يتبدّل منه شيء.

* * *

ص: 330

كانت محكمة دوما طريقاً إلى محكمة دمشق، فكلّ من وَلِي قضاءها انتقل منها فصار قاضياً في المحكمة الكبرى في دمشق.

والمحكمة الشرعية في دمشق لها تاريخ قديم عظيم؛ كانت هي المحكمة الأصلية قبل أن تدخل علينا هذه النظم الإفرنجية في تأليف المحاكم، ويمكن أن يُكتَب عنها وعن الأدوار التي مرّت بها وعن القُضاة الذين تعاقبوا عليها وعن المنازل التي شغلتها كتابٌ كبير. ولو أن أحد طلاّب الماجستير أو طلاّب الدكتوراة أعدّ في ذلك رسالة بإشراف أستاذ له اطّلاع على خطط الشام وعلى معالمها من المشتغلين بخطط الشام وآثارها، لو أنّ أحد هؤلاء الطلاّب اختار المحاكم الشرعية موضوعاً لرسالته التي يُعِدّها لنيل شهادته، وبذل في ذلك جهده وتقصّى المراجع وسأل مَن بقي من المسنّين العارفين من أهل الشام، لجاء بمؤلَّف ربما صار مصدراً للمؤرّخين.

كانت المحكمة الشرعية -كما عرفتها أول مرّة- في زقاق ضيّق منسوب إليها مسمّى باسمها قريب من مدفن نور الدين زنكي. وأحسب أن المدرسة النُّورية التي دُفن فيها السلطان العظيم نور الدين هي دار هشام بن عبد الملك، سمعت ذلك من بعض أساتذتي ولم أوثّقه بمعرفة مصدره. وكان الخلفاء الأمويون من لَدُنْ معاوية يُقيمون في الدار الخضراء، وهي وراء جدار القِبْلة من جامع بني أميّة حيث يقوم سوق القَباقْبيّة (أي السوق الذي تُصنع فيه القباقيب)، ولم يبقَ من هذا الاسم الكبير، اسم «الخضراء» إلاّ مصبغة صغيرة جداً تكاد تكون في قبو تحت الأرض في حارة مظلمة تتفرّع عن القباقبية، تُدعى المصبغة الخضراء.

ص: 331

وأقول -بالمناسبة- إن أمنية كلّ شامي من القديم أن يفرغ ما حول الجامع الأموي من البيوت التي تزحمه وتلتصق بجدرانه، حتّى يبدو بعظمة بنيانه وينكشف لمن يؤمّه من المسلمين كما انكشف المسجد الحرام في مكة المكرمة (ولقد عرفته والبيوت والمدارس تزحمه ولا يبدو من جدرانه إلاّ ما يحيط بالأبواب) وكما انكشف المسجد النبوي في المدينة المنورة. ومن البشائر التي سمعت بها ولم أرَها أن المسجد الأموي قد انكشف الآن وأزيلَت البيوت التي كانت تستره وتحفّ به وتُخفي روعة بنائه وجمال مظهره. وكان ممّن فكر في ذلك جمال باشا خلال الحرب العالمية الأولى، أراد أن يكون أمام كل باب من أبواب الجامع الأموي الأربعة شارع مستقيم يمتد حتّى يخرج إلى ظاهر البلد، ومن أجل ذلك فتح أول شارع في دمشق، وكان يُسمّى باسمه ثم سُمّي شارع النصر.

كانت المحكمة الشرعية في دار قديمة، ليست من الدور الواسعة ولا الجميلة ولكنها مبنيّة بناء مرتَجَلاً، تدخل إليها من فناء مكشوف ثم تجد هذه الغرف المبنيّة على غير نظام هندسي ومن غير ذوق ظاهر. فانتقلت منها إلى إحدى الدور الشامية الكبيرة في حيّ القَنَوات.

هل قرأتم وصف قصور الخلفاء في مثل القصص التي يرويها القاضي التنوخي؟ صحن واسع يُفضي إلى صحن واسع، وفي كليهما بِركة وحول البِركة شجر وزهر وورد، والأشجار تميل بغصونها على ماء البِرَك تُقبّله بأفواهها وتلمس صفحة خدّه برشاشها؟ كانت دار المحكمة شيئاً مثل هذا، بل ربما زادت على

ص: 332

ما ورد وصفه في أمثال هذه الكتب.

هي دار الحلبوني، لها (كما كان للكثير من الدور الشامية) برّاني وجوّاني، أما برّانيّها فهو دار فخري البارودي، الدار الواسعة المشرقة الضاحكة بالرخام وبالورد وبارع النبات، الدار التي طالما أقيمَت فيها الحفلات الوطنية وأُلقيَت فيها الخُطَب وخرجَت منها المظاهرات. والمحكمة هي القسم الجوّاني من هذه الدار.

أما دار فخري البارودي فبابها من الشابكلية، وأمّا دار المحكمة ففُتح لها باب من صدرها من شارع القَنَوات الذي يجري فيه أحد أبناء بردى (أي نهر القنوات) ضيّقاً عميقاً يمرّ أمام البيوت، تدخل منه شعبة إلى كل من هذه الدور ترقص في نوافيرها وتستلقي في بِرَكها وتسقي وردها وزهرها، حتّى إذا وصل النهر إلى آخر الحيّ لم يبقَ منه شيء.

تمتاز هذه الدار فوق سعتها وبهائها وجمالها وعِظَم أبهائها، تمتاز بشيء قلّ نظيره في غيرها، هو هذا الرخام وهذا المَرْمَر المنتشر في أرجائها. في صدر الإيوان مرآة عظيمة طولها يزيد على ثلاثة أمتار وعرضها أكثر من نصف ذلك، إطارها كلّه من ذلك الرخام، وإلى جانبَي الإيوان بَهْوان كبيران (قاعتان)(1) في وسط كل واحدة منهما بِركة صغيرة جداً (فِستقيّة) على شكل كأس مزخرَف من الرخام كله قطعة واحدة. ويقابل الإيوانَ من صدر الدار بهوٌ عظيم (قاعة كبيرة) بابها -مثل أبواب الدار كلها-

(1) القاع كلمة فصيحة. أما القاعة بهذا المعنى فهي مولَّدة، ولكنها ليست غريبة تماماً عن العربية.

ص: 333

من الخشب النادر المُطعَّم بقطع الرخام المنقوش، ويقابل البابَ في صدر البهو مرآةٌ كبيرة تصل من الأرض إلى السقف (وعلوّ السقوف في بيوت الشام القديمة يزيد على ستّة أمتار).

وللدار طبقة عُليا يُصعَد إليها من درَجَين متقابلَين كانت فيها محكمة التمييز الشرعية (أي محكمة النقض).

* * *

كان قُضاة المحكمة ثلاثة: القاضي الأول وكانوا يدعونه القاضي الممتاز، وقاضيان آخران يُدعَيان بالقاضيَين المعاونَين. أما القاضي الممتاز فكان عمله الإشراف على سير العمل في المحكمة وإنجاز الأمور الإدارية والمخابرات الرسمية مع المراجع العليا، أمّا الذي يتولّى القضاء فهما القاضيان المعاونان، في القاعتين المتقابلتين على طرفَي الإيوان. وكان القاضيان المعاونان هما: الشيخ عادل العَلواني الحموي الذي كان رفيقي في معهد الحقوق (كلّية الحقوق)، كنّا في سنة واحدة، والثاني هو الشيخ صبحي الصباغ الحلبي، وكان في الكلّية بعدنا بسنة واحدة.

انتُدبت أياماً معدودة أول الأمر إلى محكمة دمشق

وبقية الكلام تأتي إن شاء في الحلقات الآتية.

* * *

ص: 334