المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وقفة في نهاية سبع وسبعين سنة - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌وقفة في نهاية سبع وسبعين سنة

-106 -

‌وقفة في نهاية سبع وسبعين سنة

غداً هو يوم الجمعة الثالث والعشرون من جمادى الأولى. إنه عندكم يوم كالأيام تشرق شمسه ثم تغرب وتتعاقب ساعاته ثم تنقضي، قد ترون فيه ما يسرّ أو ما يسوء، ثم لا يدوم سرور ولا يبقى ألم. أمّا أنا فإنني أرى في هذا اليوم ما لا أراه في غيره، ففي مثله حدث أمر لم يهتمّ به أحد ولم يكن له في حياة أحد أثر، ولكنه كان بداية حياتي أنا؛ ففي يوم مثله، يوم الجمعة 23 جمادى الأولى سنة 1327هـ ولدَتني أمي. كلّما مرّ هذا اليوم قال لي بعده أهلي وقال الفتيان والفتيات من ذُرّيتي: هلاّ ذكّرتَنا به لنحتفي معك، أو لنحتفل فيه بك؟ أوَلم أخبرهم به عشرين مرّة وهم ينسونه؟ أما قلت لهم: إن الدولة العثمانية نقشَته على الليرة الذهبية الرشادية (1327)؟ ذلك هو تاريخ بيعة السلطان محمد رشاد وهو تاريخ مولدي.

خبّروني: ما الذي تصنعون إن ذكّرتكم به؟ تعملون لي قرصاً ضخماً من الفرانيّ (أي الكاتو) وتجمعون عليه الأهل والأقارب وتغرسون فيه الشموع ثم تقولون لي: أطفئها. أنفخ عليها فأطفئها،

ص: 85

وكيف أطفئ بنفخة واحدة سبعاً وسبعين شمعة؟ ولماذا أتعجّل إطفاءها وسيطفئها مَن وكله الله بها حين يجيء الأجل، فأموت كما مات آلاف وآلاف وملايين وملايين من قبل:

ماتوا فما ماتتِ الدّنيا لموتِهمُ

ولا تعطّلَتِ الأعيادُ والجُمَعُ

ماتوا ولبث الناس أحياء يصبحون ويُمسون. يألمون لموتي أياماً وشهوراً ثم ينسون، إن لم ينسوا في شهر نسوا في سنة:

إلى الحَولِ ثم اسمُ السلامِ عليكما

ومَن يَبْكِ حَولاً كاملاً فقدِ اعتذَرْ

أما نسيت أنا موت أبي ونسيت موت أمي، وكدت (ولن أنسى) قتل بنتي؟

* * *

لقد وقفت هذا الموقف مرّات لست أذكرها لأحصيها، وكتبت مقالات حفظت الأقلّ ممّا نُشرَ منها وطويت باقيها فأضعتها (1).

فماذا ربحت ممّا نشرت وماذا خسرت بما فقدت؟ كنت في كلّ سنة أصبّ على الورق من عواطفي التي اعتصرَتها الأيام، أصبّ منها هذا الرحيق فأكتب به مقالات أُودِعها الصحف، وأودع فيها آمالي التي تفيض بها نفسي وآمل أن أحقّقها. كنت

(1) انظر هذه المقالات في كتاب «من حديث النفس» : «على أبواب الثلاثين» و «على عتبة الأربعين» و «بعد الخمسين» (مجاهد).

ص: 86

أفتح صِمام الأمان (1) لآلامي المحبوسة في صدري، لأنفّس عنه حتّى لا تفجّره الآلام.

كنت أكتب للأدب، أشتري رضا القُرّاء وإعجابهم، كنت أبالغ أحياناً وأزخرف الحقيقة وأجمّلها، أمّا اليوم فسأكتب شيئاً آخر. لا أقول إني فقدت الحسّ حتّى لا أفرّق بين المدح والذمّ ولا بين الخيبة والنجاح، فأنا كغيري من الناس أحبّ أن أُمدَح وأن أنجح وأن أكون الذي تتوجّه إليه الأنظار وتشير إليه الأيدي، ولكن الأيام علّمتني أن هذا كله مؤقَّت: تمثال من الثلج كالذي يصنعه الأولاد في البلاد الباردة. تمثال جميل ولكنه يعيش ريثما تطلع عليه الشمس وتحمى، فإذا هو يسيل ماءً يختلط بتراب الأرض فيصير وحلاً.

لقد فتحت بالأمس كتاباً فوجدت فيه وردة جافّة، ما أمسكت بها حتّى تفتّتَت وصارت كالهباء. كانت يوماً وردة نضرة حيّة فوّاحة العطر فصنع هذا بها الزمانُ، لست أدري الآن ما ذكراها ولا لماذا وضعتها في هذا المكان. إنها كمومياء مصرية لفتاة يراها الباحث عن الآثار، ولا يدري من هي ولا يعرف ماذا كانت؟ ماذا كانت حياتها؟ بماذا كانت تفكّر وكيف كانت تشعر؟ هل كانت سعيدة أم غطّى عليها الشقاء فعاشت بلا أمل ولا رجاء؟ لم يبقَ من هذا كله إلاّ هذه البقايا الجامدة من جثّة هامدة.

لو فتحت القبر على أجمل الجميلات التي يخرّ أبطال الرجال على الرّكَب من هيبة جمالها، ويبذلون كرائم الأموال

(1) صِمام على وزن كِتاب.

ص: 87

مهراً لوصالها، ويجعلون أرواحهم تحت أقدامها، لو فتحت عليها بعد عشرة أيام من موتها فماذا ترى؟

هذه هي الدنيا وهذي لذائذها. عشت سبعاً وسبعين سنة، ذُقت الحلو وشربت المرّ، ورأيت النفع وقاسيت الضرّ، وعرفت الشهرة والمجد وعرفت أيضاً الخمول والنكران، وأنا أقول هذا بعد تجارِب هذا العمر الطويل، فهل زهدت في الدنيا وتجرّدت للعمل للآخرة وسعيت لها سعيها؟ أقول: لا. أقولها وأنا غارق في عَرَق الخجل من الله، وأنا منغمس في غمرة الألم، أقولها لأنها هي الحقيقة. هل تريدون أن أكذب عليكم؟ إنها لتمرّ بي أوقات أذكر فيها الحقيقة الكبرى التي كتبت عنها مقالة في مجلة «الرسالة» أو «الثقافة» (لم أعد أذكر) من أكثر من أربعين سنة إثر قراءة كتاب أندريه موروا عن الوزير الإنكليزي اليهودي دزرائيلي (1).

سأحدثكم حديث موتي غرقاً في بيروت سنة 1954 وأني رجعت إلى الدنيا بعدما وضعت رجلي على عتبة الموت (2)،

(1)«الحقيقة الكبرى» ، نشرها في «الثقافة» سنة 1947، وهي في كتاب «فصول إسلامية» ، وقال في آخرها:"لقد خرجت من قراءة هذا الكتاب وأنا أزهدُ ما يكون إنسانٌ بالشهرة والمجد، وأفهمُ ما يكون لغاية الحياة وحقيقتها، وأنها إن لم تكن مزرعة للآخرة لم تكن شيئاً، وأن مسرّاتها أوهام ومُتَعها سراب وكل ما فيها إلى زوال، إلا ما كان لله فهو الباقي". فمَن أحب فليقرأها هناك (مجاهد).

(2)

انظر مقالة «في لجّ البحر» ، وهي في آخر كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

ص: 88

وسيكون إن شاء الله حديثاً مفصّلاً بمقدار ما بقي في ذهني من تفاصيله، ولكن أقول الآن: إني لمّا رأيتني غائصاً في الماء أحاول أن أتنفّس فلا أجد الهواء، وأن أثبّت قدمي على أرض راسية فلا تصل إلى شيء ثابت، وأمدّ يدي فلا تعلقان بشيء، وكنت في مكان منفرد ما حولي أحد

سأذكر لكم ما الذي كنت أشعر به في تلك اللحظات: لقد رأيت فيها أنّ كلّ ما في الدنيا قبض الريح. ابسط يدك وامددها في مهبّ الريح ثم اقبضها وشدّ أصابعك عليها، ثم انظر ما الذي أمسكَت يدُك؟

لقد نسيت كثيراً ممّا قرأت، ولكن كلمات وقعت عليها مصادفة أو سمعتها من مدرّس أو صديق بقيَت عالقة في ذهني، في مكان عال لا يبلغه ليسحبه معه سيل النسيان، ومن هذه الكلمات التي وجّهَت حياتي كلمة لابن الجوزي في كتابه «صيد الخاطر» الذي حقّقه أخي ناجي، وكتبت له مقدّمة طويلة وعلّقت عليه تعليقات كثيرة.

كان رمضان الذي مضى في قلب الصيف وقد أمضيتُه في مكّة في أشدّ الحرّ. وأيام الصيف أطول الأيام، فاذكروا كم يقاسي الصائم من العطش والجوع. إنه يرى في كأس الماء البارد نعمة لا تعدلها أموال المصارف، فإذا أذّن المغرب وشرب فما الذي يبقى له من آلام الصيام؟ وإذا غلبَته نفسه فأفطر فأصاب اللذّة بشرب الماء، ما الذي يبقى له من هذه اللذّة عند المساء؟ إن اللذائذ المحرمة تذهب ويبقى عقابها، وآلام الطاعة تذهب ويبقى ثوابها. هذه هي كلمة ابن الجوزي.

* * *

ص: 89

سبع وسبعون سنة ما أطولها، ولكن ما أطولها حين تنظر إليها من أولها وما أقصرها الآن من آخرها. إنها كالعطلة الصيفية للطالب: تكون ثلاثة أشهر حين تبدأ، ولكن في آخر يوم منها لا تكون ثلاثة أشهر بل يوماً واحداً. كالمرتّب للموظف: عشرة آلاف حين يقبضه ولكن عند آخر مئة ريال تبقى منه يكون راتبه مئة ريال فقط.

فأنا ما عشت سبعاً وسبعين، بل خسرت من عمري سبعاً وسبعين.

والعبرة بالنتيجة، فماذا تكون نتيجة هذا الامتحان حين تُنشَر الصحف وتُعلَن النتائج؟ هل أتلقّى صحيفتي بيميني أم بشمالي أم من وراء ظهري؟ الأمر بيد واحد، هو يقرّر ما يراه وهو ينفّذ ما قرّره، لا يستطيع أحد أن ينقض قراره. ليس بعده استئناف ولا تمييز وما لحُكمه نقض. إنه عادل: إذا عاملني بعدله وأعطاني ما أستحقّ فيا خسارتي ويا نتيجة ظلمي نفسي! ولكنه رحيم رحمن، إن أولاني رحمته نجوت.

إن طبق عليّ قانون: {لها ما كَسبَتْ وعليها ما اكْتَسبَتْ} فيا ضيعة علي الطنطاوي! ولكن ينجّيني قانون: {ربَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسينا أوْ أخطأنا} . إني والله أخشى ذنبي ولكن لا أيأس من رحمة ربي، وآمل أن تنفعني إن متّ صلاة المؤمنين عليّ ودعاء من يحبني. فمن كان قرأ لي شيئاً أو استمع مني شيئاً فمكافأتي منه أن يدعو لي، ولَدعوةٌ واحدة من مؤمن صادق في ظهر الغيب خير من كل ما حصّلت من مجد أدبي وشهرة ومنزلة وجاه، ومن

ص: 90

لذائذ الدنيا كلها.

وما لذائذ الدنيا؟ لقد قلت من قديم: إن الفقير يمرّ بقصر الغني أو تمرّ به سيارته فيحسب أنه إن كان له مثلها فقد حيزت له الدنيا وجمع السعادة من أطرافها. ولكن هل يشعر بهذه السعادة مالكُ القصر والسيارة؟ إنها تصير له شيئاً عادياً يفقد الاستمتاع به ولكن يألم لفقده. والعادة -كما جاء في كتب علم النفس- تُضعِف الحس ولكن تزيد الفاعلية. أفليس هذا دليلاً على ما قلته من أن اللذائذ المادّية كلّها سراب؟ لا تدرك جمال السراب إلاّ من بعيد، فإذا صرت عنده تسرّب جمال منظر الماء ورأيت أنك لا تزال في الصحراء.

* * *

سبع وسبعون سنة أمضيت أكثرها في العلم والأدب: دراسة في المدرسة وقراءة على المشايخ ومطالعة في الكتب ومساجلة مع الإخوان. لو أحصيت معدَّل الساعات التي كنت أطالع فيها لزادت على عشر في اليوم، لأنني منذ الصِّغَر شبه معتزل بعيد عن المجتمع. فلو جعلت لكل ساعة عشرين صفحة، أقرأ من الكتب الدسِمة نصفها ومن الكتب السهلة نصفها، لكان لي في كل يوم مئتا صفحة. أتنازل عن نصفها احتياطاً وهرباً من المبالغة وخوفاً من الكذب (وإن كنت لم أكذب ولم أقُل إلاّ حقاً)، فهذه مئة صفحة في اليوم. فاحسبوا كم صفحة قرأت من يوم تعلّمت النظر في الكتب وامتدّت يدي إليها. سبعون سنة، في كلّ سنة اثنا عشر شهراً، في كل شهر ثلاثون يوماً، في كل يوم مئة صفحة. فإن هالكم الرقم فاحسموا منه نصفه، فكم يبقى؟ كنت (ولا أزال)

ص: 91

أقرأ في كل علم: في التفسير، وفي الحديث، وفي الفقه، وفي التاريخ، وفي الأدب: الأدب العربي والأدب الفرنسي، وفي العلوم على تنوّعها وتعدّدها.

ولا أزال والحمد لله أستوعب خلاصة وافية لِما قرأت. ما كنت أنسى شيئاً فصرت الآن أنسى أفراد المسائل: أنسى الأرقام وأنسى الأسماء، ولكنني أحفظ المسألة. لقد تمكّنت في نفسي الأصول وإن غابت منها الفروع، فتحوّل الحفظ إلى مَلَكة.

قرأت من دواوين الشعراء عشرات وعشرات، ومن كتب الأدب أكثرَها، ومن القصص الفرنسية والمترجَمة عن الإنكليزية والروسية ولغات الأرض كلها مئات. نعم مئات، لا يزال أكثرها عندي.

وكتبت ما لم يكتب أكثرَ منه ممّن أعرف إلاّ قليل، كالأمير شكيب أرسلان والأستاذ العقّاد وأمثالهما، وإن كان أمثالهما قِلّة من أصحاب القلم الفيّاض. والذي نُشر ممّا كتبت يزيد على ثلاثة عشر ألف صفحة، وما ضاع مني مثله أو أكثر منه. منها مقالات كان لها في حينها ضجّة كضجّة مدفع رمضان، يوقظ النائم ويسرّ الصائم ويغيظ المفطر الآثم، يسمع صوتَه كلّ من في البلد، ثم تهدأ الضجّة ويُنسى الأثر ويمضي كما يمضي كلّ شيء في الدنيا.

وخطبت خُطَباً هزّت الشعب وزعزعت كراسي الحكام وبدّلت خطّ مسيرة الناس، ثم عاد كل شيء إلى ما كان. خطبت

ص: 92

في مدن الشام كلها وفي مصر وفي العراق وفي لبنان وفي القدس وفي عمّان وفي الهند وفي الباكستان وفي أندونيسيا، وفي المراكز الإسلامية في أوربّا. وأنا من أقدم مَن تكلّم في الإذاعة، حدّثت منها من يوم أُنشئت محطّة الشرق الأدنى في يافا بعد إنشاء محطّة مصر بسنة واحدة، من أكثر من خمسين سنة، ولا أزال أتكلّم فيها إلى الآن. وفي الرائي (التلفزيون) من حين عرفنا الرائي، وكنت أول من دخل الأستوديو في جدّة، فتكلمت فيه قبل أن يدخله أحدٌ من المحدّثين والمغنّين والممثّلين، كنت أنا أول داخل إليه ومتكلّم فيه.

علّمت في جميع مراحل التعليم، من المدارس الأولية في القرى، إلى الابتدائية، إلى الثانوية، إلى الجامعة، إلى أقسام الدراسات العليا فيها.

واشتغلت بالقضاء من أدنى درجاته إلى أعلاها، حتّى لقد أُحِلْت إلى المعاش وأنا مستشار في محكمة النقض (التمييز) في دمشق وفي القاهرة أيام الوحدة. ووضعت أنا مشروعات قوانين لا يزال العمل بها في الشام: قانون الأحوال الشخصية وقانون الإفتاء، ومناهج التعليم في مدارس وزارة الأوقاف.

وكنت أول من عمل على إنشاء الجمعيات الإسلامية في الشام، ولم أدخل واحدة منها عضواً رسمياً فيها. وكنت أجمع كل العاملين في الحقل الإسلامي، واسألوا الشيخ الصواف يخبركم، ولو كان الشيخ أمجد الزهاوي رحمه الله حياً لاستشهدتُه؛ كنت أجمعهم جميعاً من أقصى الطرف الصوفي إلى أقصى الطرف

ص: 93

السلفي، لا لأني كنت معهم جميعاً بل لأني كنت أعاون كلّ من يعمل للإسلام، أمشي معه ما دام طريقي على طريقه، فإن اختلف الطريقان لم أبدّل من أجله طريقي. وكانوا يستجيبون لي لأنني لا أنازع شيخاً على مشيخته ولا رئيساً على رياسته، ولو عُرضَت عليّ (وقد عُرضت فعلاً) لأبيتها، لذلك كانوا يستجيبون لي ولا يستوحشون مني.

إن من الكُتّاب من يخالط أصحاب الرياسة وأرباب السياسة ومالكي الجرائد، ويصادق أهل النفوذ والسلطان فينوّهون به في كل مكان، وإن كانت جائزة أو منفعة ذكروه فقدّموه لها. وأنا أعمل وحدي بعيداً عنهم:

فإذا تكونُ كَريهةٌ أُدْعى لَها

وإذا يُحاسُ الحَيْسُ يُدعَى جُنْدُبُ

* * *

ما الذي أشتهيه الآن؟ لا أحتاج مالاً؛ إن ما رزقني الله منه يكفيني، وصحّتي إن بقيَت لي فإنها حسبي. ولا أطلب شهرة، فعندي منها الكثير؛ كنت معروفاً في دمشق من أكثر من خمس وأربعين سنة، وأنا معروف في بلاد كثيرة، أمّا في المملكة فيعرفني من وجهي وصوتي أكثر مَن أصادفهم من الرجال والنساء. هذه نعمة من الله أحدّث بها، وما قلتها لهذا بل لأسأل: ما نفعي منها؟ إني لا أراجع دائرة حكومية ولا أشتري شيئاً، وكنت أكتب إلى جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله مع شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار من أربع وخمسين سنة، ويتفضّل هذا الرجل العظيم عليه رحمة الله فيصلني جوابه وأنا شابّ لا يُؤبَه له. وكتبت بعده إلى

ص: 94

أولاده من الملوك، رحم الله من توفّاه منهم وأبقى سالماً موفّقاً وأطال عمر الباقين منهم. ولكن سلوني: كم مرّة خلال نصف قرن كتبت أطلب شيئاً لنفسي؟ ثلاث مرّات أو أربعاً، وليس الطلب لي شخصياً ولكن لبعض من يلوذ بي. والمرّة الوحيدة التي أخذت فيها عطيّة أحدّث بها الآن فقد جاءت مناسبة الحديث عنها.

كنت أشتغل وأتكسّب من سنة 1924 (1343هـ) فلما جاءت سنة 1954 كانت حصيلة عمل ثلاثين سنة ثلاثة آلاف ليرة سورية فقط (تعدل بسعر اليوم (1) ألفاً وثلاثمئة ريال)، وكان مع أخي عبد الغني مثلها. وهو أول دكتور في الرياضيات في سوريا، وكان أستاذاً في العلوم في الجامعة. فاشترينا قطعة من الجبل فوق البيوت مساحتها دونم، أي ألف متر مربع، وحرص إخواني على أن نبني فيها. وجاءني مَن أقرضني مبالغ للبناء، وقد تولّوه هم وأنا بعيد لا أشرف ولا أشارك في رأي ولا نظر، حتّى قام البناء، ولكن ركبني دَين مقداره ستة عشر ألف ليرة سورية.

وكنت أعرف الأستاذ عبد الله بَلْخير، قابلته أول مرّة عند شيخنا الشيخ بهجة، وكان يومئذ شاباً، وأحسبه كان طالباً في الجامعة في بيروت. فأُعجِبت بعقله ولسانه وذكائه وبيانه، وخرجت من عند الشيخ وصحبني، ومشينا من دار شيخنا في آخر الميدان جنوبيّ دمشق إلى دارنا في لحف جبل قاسيون شماليها، أي من طرف البلد إلى طرفها. ثم قامت مودّة بيني وبينه.

فلما كنت في كراتشي سنة 1954 وزارها الملك سعود

(1) يوم صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب.

ص: 95

رحمة الله عليه كان الأستاذ بلخير معه، ولقيته مرّات وسألني عن حالي، فحمدت الله على نعمه وذكرت له خلال الحديث ما يؤرقني من الدَّين، وانتهى اللقاء وافترقنا. فلما كان من الغد قال: لقد حدّثت جلالة الملك فأمر بقضاء دينك.

إني رغم طول المدّة لم أنسَ ما شعرت به من ذهول المفاجأة؛ لم أكَد أصدق أذني، حسبت أني أقرأ في كتاب من كتب الأدب خبر شاعر مع خليفة مدحه فقال:"اقضوا دينه"! هل يمكن أن تتحقق الأحلام على أيسر سبيل؟ هل يمكن أن أرى بالعين ما لا يستطيع أن يلحق به -لبُعده- الخيال؟ فقال لي ضاحكاً: إيه، ما لك؟ أين ذهبت؟ فانتبهت، فقال لي: إني أقول لك: إذا أخذتَها روبيّات خسرت، فانتظر حتّى أوصلها إليك بالإسترليني.

ألف وستمئة جنيه إسترليني كانت عندي في تلك الأيام أكثر من مليون وستمئة ألف الآن. وقال: ليس من اللازم أن تخبر بها من معك. ولكن كيف أكتم هذه الفرحة؟ إن صدري لا يتسع لها وحدي، إنها أكبر منه، فذهبت إلى رفيقَي السفر الشيخ أمجد والصواف وقلت لهما. وقلت ذلك للوزير السعودي الشيخ عبدالحميد الخطيب، وكتبت أبشّر أهلي في الشام بأن الدين قد قُضي. وانتظرت أن تصل إليّ، ولكن الملك رحمه الله والشيخ بلخير سافرا ولم آخذها.

لماذا أطمعوني وما أطعموني؟ لماذا منّوني وما أعطوني؟ وصار التفكير فيها شغلي في نهاري ورؤياي في منامي. وذهبنا إلى كلكُتّا ثم إلى بومباي، ولقيت فيها الرجل الكريم النبيل

ص: 96

الشيخ محمد علي زينل مؤسّس مدارس الفلاح، فحدّثته حديثها. وطفقت أكتب الرسائل إلى الشيخ عبد الله بلخير حتّى نظمت مرّة أبياتاً حسبت أني فتحت بها القسطنطينية. ما كنت أدري أني أهدي التمر إلى هجر وأنني أقدّم سيارة إلى أصحاب مصنع سيارات مرسيدس، وأن عبد الله بلخير شاعر لا كاتب مثلي يحاول أن ينظم أبياتاً فلا يفلح فيها!

ولم أدع أحداً لم أخبره بخبر هذه العطيّة وشكري الملك عليها والوسيط بيني وبينه إليها! وطالت الأيام ومرّت ثقيلة حتّى مللت وأيقنت أن كلّ ما كان كلام في كلام.

وجئنا للحجّ أنا وسعيد رمضان وكامل الشريف، ولقيت الشيخ عبد الله بلخير، فمن غضبي منه ومن يأسي من نيل ما وُعدت به لم أقُل له شيئاً. فلما وقفنا للوداع قال: آسف آسف، لقد نسيت أن لك عندي أمانة، لم أعرف في أيّ بلد أنت لأرسلها إليك. وأخرج صكاً (شيكاً) بمبلغ 1600 جنيه إسترليني.

قلت هذا الآن لأشكر لأخي الشيخ عبد الله بلخير الذي لم أرَه من تلك الأيام، ولأدعو بالرحمة والمغفرة للملك سعود، ومن قبله الملك عبد العزيز، ومن بعده الملك فيصل والملك خالد، وأدعو للملك فهد، فكلهم أحسن إليّ أحسن الله إليهم جميعاً وجزاهم عني خيراً، وأعزّ الله بالملك دينه ووفّقه إلى ما يُرضيه عنه، وإلى ما يؤيّد شرعه ويُعِزّ عباده المسلمين له المؤمنين به.

* * *

ص: 97

وبعد، فما الذي أشتهيه الآن؟ أشتهي أن أستطيع الذهاب إلى الشام متى شئت لا يُحال بيني وبينها، وأن تُنقَل مكتبتي من بيتي في الشام إلى داري هنا، وأن يستقرّ أحفادي وأصهاري في هذا البلد الكريم، وأن يديم الله عليّ صحّتي وأن يمتّعني بسمعي وبصري. وهذا كله للقليل الباقي من العمر، أما ما أتمنّاه لآخرتي فهو المغفرة وحسن الختام، وأن أرى المسلمين قبل أن أموت قد عادوا إلى دينهم فعاد لهم عزّهم ومجدهم.

ربّ توَفّني مسلماً وألحقني بالصالحين. اللهمّ ما لي إلاّ القليل من العمل الصالح، ولكني أشهد أنه لا إله إلاّ أنت. أنت الخالق الموجد وأنت المالك المتصرّف، وأنت الإله المعبود وحده بحقّ، ما أشركت معك في شيء من العبادة أحداً، وكل شيء إلاّ أنت مخلوق لك، أنت أوجدتَه وأنت تملكه وأنت تتصرّف فيه وحدك. اللهمّ ثبّتني على الإيمان وأمِتني عليه، وعاملني برحمتك بما وعدت به عبادك المؤمنين.

* * *

ص: 98