المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌كيف صرت ضابطا

-112 -

‌كيف صرت ضابطاً

؟

قلت لكم إن وزارة المعارف على عهد سامي شوكت في العراق جعلت المدارس ثكنات وجعلت الطلاّب جنوداً. والجنودُ لا بد أن يُضبَط أمرهم وأن تُقاد جماعتهم، فمن أين يأتون لهذا العدد الكبير من الطلاّب بعدد يكفيه من الضبّاط ومن القادة؟ لم يجدوا أمامهم إلاّ المدرّسين. فجاؤوا بنا وقالوا لنا: كونوا ضبّاطاً. فلم نكن، لأن الله وحده هو الذي يقول للشيء كُن فيكون، أمّا البشر فإن عليهم أن يُعِدّوا الأسباب وأن يهيّئوا الوسائل حتّى يبلغوا بها ما يريدون.

كانت العطلة الصيفية قد اقتربت، فأعطونا نوع القماش الذي تُفصَّل منه ثياب الضبّاط وأعطونا شكل الحلّة التي يلبسونها. وكان الزيّ المألوف يومئذ للضابط أن يعقد على وسطه نطاقاً عريضاً من الجلد، وأن يربط بجلدة أدقّ منه تصعد من فوق الكتف لتنزل من الظهر، فترتبط من الجهتين بهذا النطاق. وأن نلبس حذاء طويلاً يصل إلى الركبة.

وقد صنعت ذلك، فأحسست لمّا لبست هذا الثوب كأنني

ص: 175

الصنم الذي ورد ذكره في كتاب «كليلة ودمنة» ؛ لا أستطيع فيه أن أهزّ رأسي لئلاّ تسقط السيدارة عنه، والسيدارة (كما تعرفون) لا تستر من الرأس إلاّ ربعه ولا تكاد تستقرّ فوقه، أو أنني أنا الذي لم أعرف كيف ألبسها. ولقد كان زكي مبارك رحمة الله عليه في العراق يلبس السيدارة معترضة (بالعرض)، كأنها قبعة نابليون، وهم يلبسونها مستطيلة (بالطول).

وأشدّ منها هذا الحذاء. لقد بذلت جهداً في دمشق حتّى وصلت إلى حذّاء (كندرجي) يصنع أحذية الجند فأوصيته عليها، وكلّفَتني أربعين ليرة في تلك الأيام. وكان لبسها عملاً شاقاً، ولكن نزعها مصيبة. فلم أكن أستطيع (رغم أنهم علموني) أن أُخرج رجلي منها حتّى يأتي من يمسك بكتفي ويأتي آخر فيقبض على كلّ فردة منها، ثم يندفعان إلى الوراء فتخرج من رجلي وينقلب كل منهما على ظهره! ولست أدري ما الحكمة في اتخاذها ولماذا لم نكن نلبس -كما يلبس ضبّاط اليوم- حذاء عادياً؟

* * *

أعود إلى ذكر كركوك.

كركوك بلد صغير قائم على ظهر تلّ صناعي، والبلدة حولها سور وبيوتها قديمة متداخلة، ولكن العمران خرج من السور ونزل من فوق التلّ وانتشر في السهل.

ركبت القطار من بغداد. وقطارات العراق مريحة وجيّدة، وكانت أرقى من قطارات فلسطين ومصر التي عرفتها في تلك

ص: 176

الأيام. وقد ركبت هذا القطار من البصرة إلى بغداد ومن بغداد إلى كركوك. والمحطّات في العراق ملك للحكومة، وفي كلّ محطّة فندق ومطعم، أسعار المبيت في الفندق والطعام في المطعم محددة ورخيصة.

ومن المحطّة إلى الشوارع القليلة المنتشرة في السهل طريق مستقيم، لا أستطيع الآن أن أقدّر طوله. ومكانة كركوك إنما جاءتها من آبار النفط. ولم يكونوا يستثمرون الغاز الطبيعي فكانوا يحرقونه، فيبدو في الليل شعلة طويلة لا تطفئها الأمطار، وإن كانت تحرّكها الرياح كأنها شمعات كل شمعة منها بمقدار منارة، وكان ضوؤها يصل إلى الفندق. وكان الفندق الذي نزلت فيه كأنه بيت من البيوت القديمة، ففي الغرفة حصير فوقه بساط، وفوق البساط سجّاد، وأثاثه ضخم، فيحسّ الإنسان فيه بجوّ البيت. وإلى جنب غرفتي كانت غرفة الدكتور عبد الحليم العلمي وإخوته رفاقنا: عبد الستار العلمي وكان أصغرهم، وعبد الباسط الذي ذهب إلى رحمة الله.

هذه القلعة التي هي المدينة قائمة على تلّ صناعي، وإلى جنبها قلعة مثلها في إربل (أربيل) وقلعة في الموصل مثلها. وأكبر هذه القلاع وأعظمها وأبقاها إلى اليوم هي قلعة حلب، وإلى الجنوب منها قلعة حماة، وإلى جنوبيها قلعة حمص

سلسلة من القلاع الصناعية التي تشمل بيوت الناس تكون ضمن السور لتدفع عنها هجوم الأعداء؛ هذه السلسلة أُنشئت أيام الخوف وفي عهود الاضطراب.

ص: 177

سكان هذه المنطقة من الأكراد، والغالب عليهم التمسك بالإسلام واتّباع الطريقة النقشبندية، ولمشايخها منزلة بين الناس ولهم مقام كبير. عرفت جماعة منهم لهم تكايا (جمع تكيّة) هي أشبه بمدرسة وفندق مجّاني ومجتمَع لوجوه القوم، ولها أوقاف، فمَن شاء نزل فيها وأكل من طعامها ولم يرزؤوه شيئاً. وإن كان يقابل هؤلاء الشيوخ وأتباعَهم طبقةٌ جديدة من الشبّان أكثر أفرادها بعيد عن الدين، ومنهم من يميل إلى الشيوعية. وهذه هي النتيجة الطبيعية لبعدنا عن الطريق الواضح المستقيم، فالرسول عليه الصلاة والسلام تركنا على بيضاء نقيّة على شارع ظاهر المعالم، مستقيم يوصل إلى الغاية، فإذا تركناه ضعنا، واتخذنا السبل التي تفرّقنا وتبعدنا عن غايتنا.

* * *

ممّا وقع لنا في كركوك أنهم لما جعلونا -معشر المدرّسين- ضبّاطاً أعطونا رُتَباً عسكرية بمقدار رواتبنا، فاستحققت رتبة «مقدم» . وكنّا نلبس مثل لباس الضبّاط إلاّ أننا بدلاً من النجوم على الكتف نضع شرائط. وكان النظام العسكري يقضي بأن يسلّم عليّ الجنود في الطريق والملازمون من الضبّاط والنقباء وكلّ من هم دوني في الرتبة العسكرية، التي لبست لباسها واتخذت شعاراتها وما عرفت آدابها ولا فنونها. فحدّثت إخواني المدرّسين وسألتهم: ما رأيكم أن نطلب من القيادة أن تدرّبنا كما يُدرَّب المبتدئون من الجنود، حتّى نعرف كيف نمشي وكيف نقف وكيف نسلّم، وإذا عرفنا بعد ذلك شيئاً من فنون القتال وقواعد الجندية كان ذلك عوناً لنا إذا ألهمنا الله يوماً أن نكون من المجاهدين في سبيله؟

ص: 178

قالوا: نِعْمَ الرأي. وانتخبوا وفداً منهم كنت فيهم، ذهبنا إلى قائد المنطقة وطلبنا إليه أن يختار لنا من يعمل على تدريبنا. فعجب من ذلك وسُرّ منه، وقدّره وشكرنا عليه، وبعث إلينا بأحد العرفاء أو الرقباء (لست أدري) ليعمل على تدريبنا.

وكنّا مختلفين في الطول وفي السنّ، فمنا الشاب ومنا الكهل، ومنا السمين الذي يسير بطنه أمامه إذا مشى ومنا النحيل، فصفّنا تبعاً لأطوالنا، وبدأ يدرّبنا على الحركات العسكرية، يقول لنا: إلى اليمين دُرْ، ثم لا يدعنا نفكّر حتّى يقول إلى اليسار، ثم إلى اليمين واليمين، واليسار واليسار

فما عدت أعرف يميني من يساري، وشعرت كأن الأرض تدور بي أو تلتفّ من حولي. حتّى صار أكثرنا إذا سمع الإيعاز بالدوران إلى اليمين دار إلى اليسار! فصبر علينا حتّى ضاق صبره عنّا فشتمنا، وقال كلمة معناها خبيث، وإن كانت مألوفة في العراق تمشي على ألسنة الناس.

فذهبنا نشكوه إلى القائد. وكنت أنا المتكلّم في الوفد فقلت له: إننا نشكرك أن استجبت لطلبنا وبعثت إلينا مَن يدرّبنا، ولكنه لم يراعِ أعمارنا ومكانتنا وأننا مدرّسون لسنا طلاّباً مبتدئين، فهو يخاطبنا بألفاظ لا تليق بنا.

قال: ماذا يقول لكم؟ قلنا: كلمة لا نستطيع أن ننطق بها، إنها من فاحش القول وبذيئه. قال: وما هي؟ وأصرّ على أن يعرفها، فقالها واحد منّا (وهي كلمة «قَوّاد»)، فضحك هذا القائد الكبير حتّى كاد يستلقي على قفاه وقال:"شنو فيها آغاتي"؟ وقرر لنا أنها كلمة عادية لا شيء فيها. قلنا: نعم. ولم نكن نملك أمامه إلاّ أن

ص: 179

نقول نعم، لأن النظام العسكري لا يسمح لنا بمناقشته أو الردّ عليه. وسلّمنا وانصرفنا.

* * *

كنت أعيش في كركوك حياة هادئة، كالبِرْكة الساكنة لا يحرّكها شيء؛ أنام في الفندق، وأتغدى وأتعشّى في حديقته في مطعم تابع له. وكان معي من إخواننا طائفة تحسن معاشرتهم، وكان في أربيل القريبة منّا أخونا الأستاذ أحمد مظهر العظمة رحمة الله عليه. فكنت أزوره أحياناً وأجتمع إلى مَن فيها من المشايخ الذين صَحِبهم بحكم نشأته بين أمثالهم. وكنت أزور السليمانية، وفيها ابن عمّ لي هو الدكتور سامي الطنطاوي رحمة الله عليه. وقد نشأ معي وكان رفيق صباي، وكان ثالثنا الأستاذ حلمي حبّاب، الخطّاط المعروف، وكلاهما (أي سامي وحلمي) أخ لي من الرضاع.

ولم أكن أجد في كركوك منغّصاً، ولكني رأيت الدنيا من حولي كأنها امرأة حامل قد دنا مخاضها، فالأوضاع فيها تُنذِر بانفجار كبير والجرائد تشير إلى ذلك. وقد تحقّق هذا فلم تمضِ إلاّ مدّة يسيرة حتّى كانت الحرب العالمية الثانية، ولم تمضِ إلاّ مدة قصيرة بعدها حتّى قام رشيد عالي الكيلاني بحركته المعروفة في العراق، وتعرفون تفاصيلها وما نشأ عنها.

أما الشام فقد ذهبت إليها في العطلة الصيفية، أي قبل أن أسافر إلى كركوك، فوجدت الكتلة الوطنية التي كنت أعمل معها سنة 1931 قد تفرّق أعضاؤها، ولم يعُد ظاهراً في الميدان من

ص: 180

أولئك الزعماء إلاّ واحد فقط هو شكري بك القوتلي رحمة الله عليه. وشكري بك عمل لوطنه بإخلاص، أنفق أكثر ماله في سبيل النضال، ولولا أن أخاً له تُوفّي وأورثه إرثاً كبيراً لكاد يفتقر. وكان شكري بك متديناً، وإن كان تديّنه كتديّن العامّة: يصلّي ويصوم ويؤدّي الفرائض ويجتنب الكبائر، ولكنه -مثل أكثر المسلمين- لا اطّلاع له على حقائق الدين وعلى أحكامه.

لمّا ذهبت إلى الشام وجدت أنه لم يبقَ في ميدان النضال غيره، فمشيت إليه في داره في جادة الرئيس تحت الجسر الأبيض، وذكّرته بأنني جندي قديم كنت أقود الطلاّب جميعاً سنة إحدى وثلاثين حين كنت أكتب في «الأيام» عند الأستاذ عارف النكدي، فذكَرني الرجل ورحّب بي وتفضّل عليّ بما هو أهل له من الثناء والتشجيع، فعرضت عليه جهودي القليلة وطلبت منه أن يكلّفني بعمل لأنه لا يجوز أن نسكت وأن نقعد عن نضالنا في سبيل استقلالنا. فقال ما معناه بأنه حينما يكون مجال للعمل فإنه يستدعيني.

ولم يمرّ إلاّ قليل حتّى كانت نكسة من هذه النكسات، وأقام الفرنسيون «حكومة المديرين» ، أي أنهم عزلوا الوزراء وأبعدوهم وعطّلوا الحكم النيابي، وجاؤوا بمديري الوزارات فسلّموهم أمر إدارة الحكومة. وكان رئيس حكومة المديرين بهيج الخطيب، وهو قريب الشيخ فؤاد الخطيب الشاعر العربي الكبير الذي تعرفونه، وأحسب أنه أخوه ولا أؤكّد ذلك الآن (1). وهذه الأسرة

(1) وقد أكّده لي الأستاذ زهير الشاويش.

ص: 181

من لبنان من بلدة شحيم وليست لها قرابة بآل الخطيب، الأسرة الدمشقية الكبيرة التي منها أمي ومنها زوجتي.

وكان يلي أمرَ المعارف الأستاذ عبد اللطيف الشطي، ونسيت بقية أسماء المديرين الذين حلّوا محلّ الوزراء. كانت حكومة المديرين من حيث ضبط الأعمال واختصار النفقات حكومة ممتازة، ولكنها ليست حكومة وطنية ولا شعبية، كان الوزراء فيها هم المديرون.

سمعت بهذا كله وأنا في كركوك، بعيد عن بغداد وبعيد عن الشام، ولا تكاد تصل إلينا الأخبار إلاّ متأخّرة. فضاق صدري واشتغل فكري، وخفت أن تقوم الحرب فينقطع ما بيني وبين إخوتي وأهلي، وكنت قد عقدت زواجي (عقداً فقط). ففكّرت طويلاً واستشرت كثيراً، ثم عملت ما ينبغي للمسلم أن يعمله بعد التفكير وبعد أن يستشير، وهو أن يستخير الله. والاستخارة المشروعة كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعلّم أصحابه كيف يعملونها وماذا يَدْعون فيها كما يعلّمهم سائر أحكام الدين.

وليست الاستخارة كما يظنّ الجَهَلة قعوداً عن العمل ولا جنوحاً إلى الكسل، ولا هي من باب التعلّق بمغيّبات لم تتحقّق، بل إن سرّ الاستخارة أن طاقة الإنسان محدودة وأنه يرى أول الطريق ولا يبصر آخره، وأن الأسباب لا توصل دائماً إلى النتائج، لذلك كان علينا أن نبذل جهدنا كله وأن نُحكّم عقولنا وأن نستعين بعقول غيرنا، وهذه هي الاستشارة، ثم ندع الاعتماد كله على الله، ثم نقول ما معناه: يارب هذا جهدنا وهذا مبلغ علمنا،

ص: 182

وأنت القادر على كل شيء والعالِم بالنتائج، فإن كان هذا الأمر الذي نفكّر فيه «خيراً لنا في ديننا ودنيانا ومعاشنا ومعادنا فيسّره لنا وهوّنه علينا، وإن كان شراً فاصرفه عنّا واصرفنا عنه، واقدر لنا الخير حيث كان ثمّ رضّنا به» .

أمّا الاستخارة بأن نذهب إلى إنسان آخر ونطلب منه أن ينام على نيتنا، وأن ينظر ما يراه في منامه فإن رأى ما يسرّ كان الأمر خيراً وإن رأى ما يضرّ كان الأمر شراً، فهذه ليست الاستخارة الشرعية. ربما يكون هذا الرجل قد أكل كثيراً فسبّب له الأكل عُسراً في الهضم، أو يكون مريضاً قد ارتفعت حرارته فرأى في منامه أضغاث أحلام، فما ذنبي أنا بها؟ وما العلاقة بينها وبين ما أفكّر فيه؟

أقول: إنني فكّرت واستشرت واستخرت الله، فانصرف قلبي إلى الاستقالة والعودة إلى دمشق، فاستقلت وسافرت.

ولمّا دخلت انتخابات سنة 1947 (وهي الغلطة الكبرى التي ارتكبتها في عمري، وسيأتي حديثها، وأراد الله لي الخير فلم أنجح فيها) كتب أحد خصومي في الجرائد يقول لي: هل نسيت ما فعلتَه في العراق ولماذا أخرجوك منه؟ وهذا أسلوب من أساليب الحرب القلمية لا يفعله ذو خلق وذو دين، ولكنه يؤثّر في الناس ويسوّئ سُمعة من يُقال عنه هذا الكلام، فتفضّل الصديق الوفيّ والأستاذ الكبير مدّ الله في عمره الشيخ بهجة الأثري فكتب رسالة يردّ فيها على أمثال هذا الرجل، ويشهد بأنني ما عملت في العراق إلاّ خيراً ولا تركت إلاّ أثراً طيّباً.

* * *

ص: 183

تركت العراق وعدت إلى الشام. ركبت القطار إلى حلب عن طريق تلّ كوشك، فلما وصلت حلب كان لي فيها اثنان: صديق العمر ورفيق الدراسة الشيخ مصطفى الزرقا، وحمي (حمي على وزن كلمة أبي وأخي، أي والد زوجتي) الأستاذ صلاح الدين الخطيب، وكان مستشاراً في محكمة الاستئناف.

وكانت تلك أول مرّة أزور فيها حلب، فقلت لسائق السيارة: خذني إلى فندق مريح ومعروف. فأخذني إلى فندق بارون، وهو أقدم فنادق حلب وبقي أكبرها مدّة طويلة، وأحسبه أُغلِق من سنوات معدودة. ذهبت إليه وكان فيه رفيقنا في الدراسة الأستاذ وجيه السمّان الذي جمع بين العلم بالهندسة وبين الأدب، وهو خرّيج المدرسة المركزية (إيكول سنترال)، وقد صار من بعدُ المدير العامّ للكهرباء وصار أيام الوحدة وزير الصناعة وصار عميداً لكلّية الهندسة. فسألت عنه في الفندق فلم أجده. فسألت عن الشيخ مصطفى الزرقا فدلّوني على بيته، وكان وسط البلد في ساحة كبيرة مثل ساحة المرجة في دمشق، ولجهلي إلى الآن بمدينة حلب لا أعرف اسمها. فلم أجده فكتبت ورقة وقلت له فيها إنني في فندق البارون.

ثم أردت أن أرى البلد وأن أُمضي الوقت فركبت خطوط الترام. وهذه أقرب وسيلة للغريب ليعرف البلد الذي نزله؛ أن يركب في سيارات النقل الجماعي أو في الترام فيقطع بها البلد، فيراها كلها ولا يضيع فيها لأنه يرجع إلى المكان الذي ركب منه.

ص: 184

ولمّا رجعت إلى الفندق خبّروني أن الأستاذ الزرقا سأل عني، والعجب أنهم أنكروا وجودي في الفندق، لا تعمّداً منهم ولا جنوحاً إلى الكذب ولكنه سألهم عن «الشيخ علي الطنطاوي» ، قالوا: ما جاء في الفندق أحد من المشايخ. قال: لقد وصل أمس وزارني وكتب لي هذه الورقة. قالوا: ما نزل عندنا بالأمس إلاّ ضابط من العراق. وظنّوني ضابطاً، فلما رأى اسمي قال: هذا هو. ذلك أنني لم أستطع أن أخلع هذا الحذاء العجيب من قدمي إلى اليوم الثاني، فتوضّأت ومسحت عليه لأنني مسافر وقد لبسته على طهارة. ولقيت الأستاذ الزرقا.

* * *

ذهبت فوراً إلى دمشق، وكنت قد كتبت إلى وزارة المعارف لأستعيد عملي في التدريس فصدر قرار الأستاذ عبد اللطيف الشطي رحمه الله بتعيِيني أستاذاً معاوناً في مدرسة التجهيز، أي الثانوية الرسمية. وهي التي كانت تُدعى مكتب عنبر، فلما أنشؤوا لها هذه العمارة الضخمة الكبيرة على عهد الشيخ تاج الدين الحسني نقلوها إليها.

باشرت التدريس فيها خلفاً لأستاذنا الإمام اللغوي الشيخ عبدالقادر المبارك. وكان من تلاميذي فيها جماعة نبغوا وصاروا أدباء وصار منهم قضاة، منهم الأخوان عبد القادر ونشأت سلطان، وعبد القادر سلطان هو الآن مستشار في محكمة النقض، ومنهم اثنان أخوان من أولاد شيخنا الشيخ المبارك هما عدنان وهاني. أمّا الأستاذ الدكتور مازن المبارك فهو أصغر منهما، ولمّا كنت

ص: 185

أزور شيخنا الشيخ عبد القادر كان طفلاً صغيراً يدعوه إلى مجلسنا ليعجبنا من أجوبته ومن ذكائه ومن طلاقة لسانه، وهو الذي خلف أباه في العربية والاشتغال بها بعد وفاته ووفاة أخيه الأكبر رفيقنا الأستاذ محمد المبارك، رحمة الله عليهم جميعاً.

وقعت لي في تلك السنة حوادث، كان أظهرها وأشهرها أنه جاء يوم ذكرى المولد النبوي، وكان الناس في الشام يقيمون الاحتفالات تُلقى فيها الخطب والمواعظ بهذه المناسبة، كما يقيمونها بمناسبة يوم الهجرة ومناسبة ذكرى بدر وذكرى فتح مكّة.

وهذه الاحتفالات إذا ادّعى مُدّعٍ أنها من الدين وأنها قربة إلى الله قلنا له: لا، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام بلّغ الشريعة كلها ولم يترك باباً ندخل منه إلى رضا الله إلاّ دلّنا عليه وفتحه لنا. ومن ادّعى أن إقامة هذا الاحتفال وهذه الخطب وهذا التذكير في يوم المولد أفضل منه في غيره قلنا له: لا، لأن الأيام لا يفضل بعضها بعضاً إلاّ بدليل شرعي. وحكم هذا الاحتفال أنه إن كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله ونشر العلم، فهو مطلوب في كلّ وقت، غير أن تخصيصه بيوم معيّن -إذا ادّعي أن إقامته في هذا اليوم أفضل من إقامته في غيره- كان ذلك بدعة.

والخلاصة أن الطلاّب أرادوا الاحتفال بذكرى المولد، ولم تكن في المدرسة على ضخامة بنائها وجدّتها قاعة كبيرة تتّسع للطلاّب جميعاً، فصار طلاّب كلّ سنة من السنين يُقيمون حفلة

ص: 186

مستقلّة. وكان يدرّس اللغةَ العربية في الصف السادس الأستاذ ياسين طربوش، وفي الصف السابع بشعبه كلها أنا، وفي الصفّ الثامن والتاسع الأستاذ الشاعر محمد البزم، وكان يدرّسها في الصفوف العاشر والحادي عشر أستاذنا سليم الجندي.

بدأ طلاّب الصفوف العليا بالدعوة إلى اجتماع لمحاضرات بمناسبة المولد، وكان من زملائنا في المدرسة مدرّسون كانوا من رفاقنا في الدراسة، منهم الأستاذ نظيم الموصلي وقد تُوفّي، وكان من زملائنا الأستاذ ميشيل عفلق، ولم يكن قد دعا بدعوته. فكتب خطبة ألقاها عنه زميله وزميلنا الأستاذ نظيم الموصلي، تضمّنَت هذه الخطبة تعظيماً للرسول عليه الصلاة والسلام وتمجيداً له وذكراً لشمائله، ولكنه تكلّم عنه كما يتكلم عن عظيم من عظماء غير المسلمين. ما ذكر الرسالة ولا أشار إلى النبوّة، فكأنه يتكلّم عن عظمته البشرية فقط. ونظرت إلى الأستاذَين الحاضرَين: الشيخ محمد بهجة البيطار والأستاذ عزّ الدين التنوخي، فأنكرا بنظراتهما وبإشارة خفيّة من أيديهما، ولكنهما لم يتكلّما.

وكنت يومئذ ألتهب حماسة، فما كان مني إلاّ أن وضعت كفّي على طرف المسرح الذي يخطبون عليه وقفزت فصرت فوقه، وأخذت بعنق ثوب الخطيب فجذبته ورميت به من فوق المسرح، فوقع على مَن في الصف الأول: على أستاذنا جودة الهاشمي وعلى إخوانه! واستلمت أنا مكبّر الصوت (الميكروفون) وردَدت عليه وتكلمت عن الرسول عليه الصلاة والسلام باعتباره خاتم الأنبياء، وأنه بشر مثلنا ولكنْ يوحى إليه، وأن عظمته

ص: 187

بالوحي

وأمثال هذا الكلام.

اضطربَت الحفلة وهاج الناس، وكثر المتكلّمون وخرجوا، وكانت لها عقابيل. أما الطلاّب فقد كتبوا عرائض وقّعوها، فكان أكثرهم عدداً معي وكانوا مؤيّدين لي، وكانت قلّة قليلة جداً منهم مؤيّدة له. وكنت عنيفاً في ردودي وفي مجادلاتي فشرعت أتكلم عنه (عن عفلق) في الدروس وأمام الطلاّب، وقلت لهم الكلمة التي انتشرت حتّى كادت تسير مثلاً من الأمثال على ألسنة الناس؛ قلت لهم: هذا الذي يدّعي العربية ونصرتها والدفاع عنها، ما فيه من العربية إلاّ أن اسمه مكتوب في القاموس المحيط (باب القاف فصل العين)، ورجعوا إلى القاموس وعرفوا معنى الكلمة!

واجتمعت الجمعيات الإسلامية كلها، ونشرت منشوراً واحداً طبعَته ووزّعَته تأييداً لي ونصرة لموقفي، بل اجتمع على توقيع المنشور الذي أخرجوه قومٌ لم يجتمعوا قبل ذلك على أمر.

عرفتم أنني لا أعتمد في كتابة هذه الذكريات على مذكّرات مكتوبة في وقتها، بل على ما بقي في ذهني منها وعلى الأوراق الرسمية بنقلي وتعييني التي ما زلت أحتفظ بها. وممّا أحتفظ به هذا المنشور، ولو كنت أكتب هذه الحلقة وأنا قريب من الجريدة لبعثت نسخة منه فنُشرت مع هذه الحلقة، ولكني أسجّلها وأنا بعيد عن أوراقي وكتبي؛ هي في مكّة وأنا أسجّلها في جدة، والأخوان في الجريدة جزاهم الله خيراً طاهر أبو بكر وحاتم، هذا ينقلها وله الفضل من الشريط إلى الكتابة وذاك يقرؤها عليّ، ثم يُعيد النظر في تصحيحها أخونا الأستاذ عادل الصلاحي، وهو

ص: 188

الذي كتب الحاشية القيّمة عن القراءة التي يقرأ بها أهل السودان، فكان عليّ أن أذكر هذا ليُنسَب الفضل إلى ذويه.

وكان ممّن ناصرني أشدّ المناصرة الأستاذ عبد الوهاب الأزرق، وكان يومئذ شاباً، وكان هو القائم على جمعية الشبّان المسلمين. والأستاذ الأزرق ذهب إلى رحمة الله، وقد كان قاضياً كبيراً، وكان يومئذ رئيس الجمارك العامّة، وكان يوماً رئيس القضاء العسكري. وممّن ناصرني أشدّ المناصرة جمعية الهداية الإسلامية التي يقوم بها ويقوم عليها شيخنا الشيخ أبو الخير الميداني، والأستاذ نقيب الأشراف السيد سعيد الحمزاوي، والشيخ عبدالقادر العاني، رحمهم الله جميعاً. والأخوان الكريمان رفيقا العمر الشيخ ياسين عرفة والشيخ كامل القصار.

وكانت عاقبة ما فعلت أنهم نقلوني -عقوبةً- إلى دير الزور ونقلوا نظيم الموصلي إلى حلب، وسيأتي إن شاء الله الحديث عن ذلك.

* * *

ص: 189