المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من ذكريات المدرسة الغربية في بغداد - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌من ذكريات المدرسة الغربية في بغداد

-110 -

‌من ذكريات المدرسة الغربية في بغداد

أَصِلُ الكلام من حيث قطعته في آخر الحلقة الماضية فأكمل قصّة تدرّبي على الملاكمة.

لا، لم أصِر من أبطالها ولا بلغت مبلغ جو لويس أو محمد علي، بل أقول: إني ألممت بأصولها وقواعدها وأتقنت بضع لكمات حتّى صارت مَلَكة لي؛ أي أنني في ساعات الحرج وفي مواقف الدفاع عن النفس أستعملها عفواً بلا تفكير، وهذا ما أقصده بقولي إنها صارت مَلَكة. كما أتقنت من مسكات المصارعة اليابانية مسكة أستطيع أن أغلب بها من هو أقوى مني بثلاث مرّات، تعلمتها من رسالة صغيرة اشتريتها سنة 1347هـ وأنا أدرس في مصر، وهي أن أمسك بيدي اليمنى يسار الخصم ثم ألوي معصمه إلى الجهة الوحشية منه، أي البعيدة عن جسده، فإنه يُضطرّ لدفع الألم عنه أن يميل معها حتّى يعطيني ظهره فأتمكّن منه، وإذا هو ثبت ولم يستدِر تُكسَر يده. والشرط فيها أن تصير لك -كما قلت- مَلَكة، أي أنك تعملها بلا تفكير، لأن المرء في ساعات الخطر والغضب لا يستطيع أن يفكّر، وأن تباغت خصمك بها من غير أن ينتبه إليها.

ص: 143

وقد طبّقت هذه وتلك في مواقف كثيرة، لو أنني عرضتها مفصلة لملأت ثلاثاً من حلقات هذه الذكريات. وكل إنسان في الدنيا مُعرَّضٌ يوماً لمعركة أو خصومة، فردية أو جماعية، فأنا أنبّه الشباب إلى أمر هو أن الإنسان يتردّد عادة ثواني معدودة قبل أن يقرّر ماذا يفعل إذا رأى الهجوم عليه، فبمقدار ما تكون لحظات التردّد قصيرة يكون المرء أقرب إلى النصر. ولقد استفدت كثيراً من هذه السرعة في القرار.

ولا تظنّوا أنني أمضيت حياتي أصاول الأبطال أو أقاتل الرجال، فأنا بعيد عن المشكلات، ولكنني قد أتعرض لها فينبغي أن يكون تحت يدي السلاح الذي ينجيني من عقابيلها.

ورُبّ سائل يسأل: ما حكم الملاكمة شرعاً؟ ولماذا تعلّمتها؟ والجواب أن الظلم حرام والتعدّي حرام، وأن دفع العدوان جائز، على أن يكون بأيسر الطرق لا بأعسرها وبأهونها لا بأشدّها، وأنّ ضرب الوجه منهيّ عنه، وفي الحديث أن النبي ‘ رأى رجلاً يضرب عبده على وجهه فنهاه وقال له:«إن الله خلق آدم على صورته» (أي أن صورة هذا العبد هي الصورة التي خُلق عليها آدم، فكان التعدّي عليها إساءة إلى أولاد آدم جميعاً. ومن الناس من يروي جزءاً من الحديث ويفهمه فهماً ربما أوصل إلى الكفر، إذ يعيد ضمير «على صورته» إلى الله، ومن اعتقد أن لله صورة فقد كفر)(1).

(1) انظر تفصيل هذا الإيجاز في الجزء الثاني من «فتاوى علي الطنطاوي» ، ص16 (مجاهد).

ص: 144

وأحسب أني قد بينت بهذا الذي قلت حكم الملاكمة. فالأمور بمقاصدها، فمن تعلّمها ليظلم الناس ويعتدي عليهم كان آثماً، ومن تعلمها لغرض مشروع كانت وسيلة حكمها حكم الغاية التي قُصد بلوغها من تعلمها.

أعود إلى الموضوع. دخلت في فرقة الملاكمة فتعلّمت من هذا المدرّب الألماني وقفة الاستعداد وأنواع اللكمات: المستقيمة الأمامية والمنحنية الجانبية والقصيرة الصاعدة. والقاعدة عندهم أن يستعمل المبتدئ في بداية التدريب يده اليسرى وحدها، حتّى إن من المدربين من يربط اليمنى حتّى لا يستعملها.

تدرّبت أولاً على الكيس الثقيل، ثم شرعت أنازل بعض الطلاّب، أضربهم ويضربونني، فإذا دخلت الفصل عدت مدرّساً وعادوا طلاّباً. وأشهد أن طلاّب العراق يعرفون الانضباط تماماً. ولبثت على ذلك شهوراً، حتّى كان يوم أصابَتني فيه ضربة من طالب تورّمَت منها عيني وظهر أثرها عليها، فقلت للمدرب: إلى هنا وبَسْ (1).

ولكن سرعان ما طبّقت ما تعلمتُه من دروس الملاكمة؛ ذلك أنني زجرت يوماً طالباً مسيئاً يبدو أنه من أسرة غنيّة وجيهة، فحقد عليّ أهله. وكنت في صباح يوم مطير من أيام الشتاء أمرّ أمام وزارة الخارجية ذاهباً إلى المدرسة، فاعترضني رجل طويل ممّن يُدعَون في بغداد «أبو جاسم لِرْ» أي من صنف الفتوّات كما

(1) وكلمة «بس» بمعنى «فقط» فصيحة معرَّبة من القديم.

ص: 145

يُقال في مصر أو القَبَضايات كما يُقال في الشام. وكلمة «لِرْ» تركية هي علامة الجمع عندهم. ففتح معي باباً للشرّ وقال: لماذا شتمت فلاناً (يعني من الطلاّب؟) أما عرفت من هو؟ وهل بلغ من قدرك أن تتطاول على ابن فلان؟

فقلت له: حافظ على أدبك، وإن كان لك كلام فراجع مدير المدرسة. فقال قولاً بذيئاً وهدّدني وأمسك بصدر ردائي حتّى كاد يشقّه، ثم لوّث ثوبي بحذائه المحمّل بالوحل والطين فترك عليه أثراً ظاهراً. وكان يمشي إلى يساري، فقبضت يدي وتناولته بلكمة جانبية جاءت تحت صدغه لم يكن يتوقّعها.

وتجمّع الناس وحالوا بيني وبينه، ولم أعد أستطيع المشي إلى المدرسة بهذا الثوب الملطّخ بالوحل فأخذت عربة (عَرَبانة كما يقولون) وذهبت فبدّلت ثيابي، ومررت بالأخ الكبير الذي كان مَفْزَعنا في كلّ مُلِمّة تُلِمّ بنا، الأستاذ بهجة الأثري، فخبّرته. فقال: لا تدير بال (أي لا تُدِرْ لها بالاً).

ووصلت المدرسة متأخراً فوجدت شيئاً عجيباً؛ الطلاّب جميعاً يستقبلونني يحفّون بي، يقولون:"خاطر الله شنو هذا" ماذا عملت؟ كيف ضربته؟ وأسئلة كثيرة من أمثال هذه كرّت عليّ باكراً. قلت: ويحكم، خبّروني أولاً ما القصّة؟

فإذا القصّة أن هذا الذي ضربتُه معدود في حيّه من أبطال الرجال لا يقدر عليه أحد، أو هو يوهم مَن حوله بأنه لا يقدر عليه أحد. فلما يئس من أن ينتقم مني بيده ذهب إلى المخفر وشكاني،

ص: 146

وكانت اللكمة قد أصابت أصول أسنانه فنزل منها الدم، فهوّل الأمر على الضابط وكبّره حتّى أحالوه إلى الطبيب الشرعي. ويظهر أنه استمال الطبيب فربط وجهه بالرباط الأبيض ورجعه إلى الضابط، فبعثه الضابط مع شرطي إلى المدرسة يفتّش عن المجرم الذي اعتدى على هذا البطل

وكنت أنا ذلك المجرم.

فكانت دعاية لي بأنني قهرت مَن هو أقوى الرجال وأنني صرت بذلك من الأبطال، وذهبوا فحدّثوا بالقصّة إخوانهم وأهليهم، وزادوا في سردها على عادة الناس في المبالغات، وملّحوها وفَلْفَلوها ووضعوا لها الحواشي والذيول، فكانت النتيجة أنني صرت بطلاً. والحقيقة كما قال المثل:«مُكرَه أخاك لا بطل» (1)!

* * *

ولم تنتهِ السنة المدرسية حتّى جاء يوم خِفت فيه حقيقة؛ ذلك بأنني بعد أن أنهيت عملي في المدرسة وأكملت امتحاناتي كلّفوني بمراقبة فرقة من الطلاّب الأحرار الذين يدرسون الدراسة المسائية، وكانت هذه الفرقة تؤدّي امتحانات الشهادة الثانوية، وكان هؤلاء الطلاّب غالباً من الجنود والعُمّال وكبار السنّ.

فوجدت جندياً ضخم الجثّة بادي القوّة، متراكب الأعضاء غليظ العنق ينطق كلّ ما في جسمه بقوّته وشدّته. وكان قاعداً عند الشبّاك ينظر في الخارج متلهفاً كأنه يرقب عوناً، فوضعت عيني

(1) كذا حفظنا المثل، والصواب «أخوك» .

ص: 147

عليه، فخلا مقعد في وسط الغرفة فقلت له: قم فاقعد فيه.

فتردّد وهمّ بأن يقول لا فما استطاع، لأنه جندي خاضع للنظام العسكري ومُعرّض للعقوبة إن هو أعلن العصيان. ووضعت عيني عليه، وكانت عينه إلى الشبّاك، فأُلْقِيَت إليه رزمة أوراق فسبقتُه إليها فأخذتها فإذا فيها الأجوبة المطلوبة، فأبقيتها معي ولم أدفعها إليه. فضمّ شفتيه ورماني بنظرة وعيد يتطاير منها الشرر، وهزّ رأسه كأنه يقول: سترى.

وكان قد بقي لموعد سفرنا عشرة أيام، فذهبت إلى المدير فرجوته أن يسمح لي بالسفر وأن يُعفيني من هذه المراقبة التي لم تكن من عملي الأصلي. فعجب وقال: لماذا؟ فقصصت عليه القصّة. فقال: وهل تخاف؟ قلت: نعم، أخاف. فضحك وقال: عجيب. قلت: لا، بل العجيب ألاّ أخاف. ألم يُقتَل السنة الماضية الأستاذ المصري الدكتور سيف؟ ألم يكَد يَلحق به الأستاذ محمود عزمي لولا أنه أخرج مسدسه وهدّد به؟ ألم يعتدوا في الكرخ على الأستاذ فاضل الجمالي وهو يومئذ مدير المعارف؟

إن الطلاّب في الشام إن غضبوا لحقوا المدرّس يسبّونه أو يهتفون به الهتاف العامّي الوسخ «بعرو» أو يرمونه بالحجارة، وربما ضربوه، أمّا القتل

القتل؟ فلا والله، لا أعرّض نفسي للقتل حتّى تقول عني إنني شجاع. فأبى أن يأذن لي بالسفر، واعتذر بأنه لا يملك الإذن، إنما تملكه وزارة المعارف، وخرجت منزعجاً.

وكنت أنام (كما عرفتم) في دار العلوم الشرعية في المدرسة

ص: 148

الملحَقة بجامع أبي حنيفة في الأعظمية، وكان عندنا رجل مُسِنّ اسمه حاجي نجم (الحاج نجم) كان بمثابة رئيس الفرّاشين، ولكنهم يوقّرونه لسنّه ويحترمونه، وكان عاقلاً. فرآني مهموماً فسألني: ما لك؟ قلت: لا شيء. فأصرّ عليّ أن أخبره وحلف عليّ بالله أن لا أكتمه شيئاً.

فخبّرته بما كان، فاستراح وقال: المسألة هيّنة، أنا أذهب معك غداً. فتعجّبت وضحكت وقلت شبه ساخر: تذهب معي؟ أشكرك، ولكن ماذا تصنع وأنت يا حاجي رجل عجوز؟ هل تقاتل عني إن قاتلوني؟ قال: لا تستصغر أحداً يا أستاذ، وغداً إن شاء الله سترى. فاذهب الآن فتعشَّ ونَم مطمئناً.

وذهب معي صباحاً، فلما نزلنا من الحافلة في طرف بغداد مشيت ومشى ورائي بجانب الطريق، فلما اقتربت من المدرسة وجدت الطالب الذي هدّدني ومعه ثلاثة من أشباهه، لو صارعوا دباً قطبياً لصرعوه أو قاتلوا ثوراً هائجاً لقتلوه. فأقبلوا عليّ من الجهات الثلاث بخُطى بطيئة كخُطى الجاموس الذي يتقدّم للنطاح. فوزنت قوّتي بقوّتهم فرأيت أني لن أقوى عليهم، ولكني لن أكون ضحيّة سهلة، وسأتناول واحداً منهم أو اثنين بلكمة قوية أو لكمتين قبل أن يصلوا إليّ.

وتوقّعت الشرّ وأيقنت أنه لا بدّ من وقوعه. وإذا بهم يقفون، ثم ينظر بعضهم إلى بعض ويستديرون راجعين. فلم أفهم ماذا جرى، وإذا الحاجّ نجم، هذا الرجل العجوز، لم يزد أن مشى خطوتين إليهم وتنحنح يقول: إحم! كأنه يقول لهم: "نحن هنا".

ص: 149

فلما رأوه تطايروا كما يتطاير سرب من العصافير حطّ عليها الباشق.

ومشى معي إلى المدرسة. قلت: أشكرك، أشكرك، ولكن خبّرني أولاً لماذا ذهبوا؟ لماذا خافوا منك؟ قال: هذا توفيق من الله. فأصررت عليه فلم يخبرني. فتقصّيت خبره بعد ذلك ممّن يعرفه، فعلمت أنه كان في شبابه مقدم حيّه وكبير «فتوّاته» ، وبقي معه من أتباعه ومن إخوانه جماعة يفدونه بأرواحهم ويبذلون له دماءهم، وكل واحد منهم بخمسة من هؤلاء الشباب الذين قطعوا عليّ الطريق وجاؤوا يهدّدونني.

فلما رأيت ذلك رجوته أن ينزل معي كل يوم من أيام الامتحان من الأعظمية إلى بغداد فقبِل، وبقينا على ذلك حتّى حان موعد السفر، وجزيته خير ما قدرت عليه من الجزاء، وأسأل الله الآن أن يرحمه وأن يجزل له الجزاء.

* * *

وممّا وقع لي تلك السنة أن الطلاّب اليهود كانوا في الأقسام العلمية تسعة أعشار الطلاّب، وكانوا ينالون أعلى الدرجات في الامتحانات حتّى في الأدب العربي الذي أدرّسه (كما أدرّس الديانة). وكان منهم الأول والثاني والثالث والرابع والخامس، أي أن الخمسة الأوائل كانوا من اليهود.

فغاظ ذلك المدير، وكان شاباً يتفجّر حماسة وإخلاصاً ويمتلئ قلبه بغضاً لليهود وكرهاً، وقد نسيت اسمه مع الأسف

ص: 150

(ولعل الأخ العراقي الذي علّق فيما سبق على هذه الذكريات يرسل تعليقاً جديداً من مقامه في بغداد يبيّن فيه اسم هذا الرجل). كلّمني المدير بشأن هؤلاء اليهود فقلت له: إني ليغيظني الذي يغيظك، ولكن ماذا أعمل؟ وأنا إنما اؤتُمنت على تقدير الدرجات لما في ورقة الامتحان، فلو أن بين الطلاّب ابني أو أخي ما زدته درجة على ما يستحقّ، ولو كان بينهم قاتل أبي ما نقصته درجة. وهذا ما أمرَنا ربنا حين قال لنا:{ولا يَجْرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلى ألاّ تَعْدِلوا، اعدِلوا} . فإذا وجدت أنت سبيلاً إلى ضمان مصلحة البلد بمعاملة اليهود بما يستحقّونه، بشرط ألاّ أدع العدالة بين الطلاّب، كنت لك شاكراً.

ففكّر ثم قال: ندمج مادّتَي الديانة والأدب معاً ونعطيهما درجة واحدة. قلت: ولكن بقي للامتحان أسبوعان وسيُفاجَأ اليهود بهذا القرار ويثورون علينا. قال: هم أقلّ وأذلّ من أن يثوروا، وهذا الدمج من الأمور الإدارية التي نيطَت بي وأنا المسؤول عنها.

فوافقتُه مُكرَهاً. وصدر القرار ونُفِّذ، ولم يُسمَع صوت اعتراض لأن مادّة الديانة كانت دراسة سورتين من القرآن وتفسيرهما، والقرآنُ كتابُ العربية وكتاب الإسلام، فلا عجب أن يكون بين النصوص الأدبية المختارة شيء من القرآن، بل ذلك هو الأصل وذلك هو المطلوب.

وجاء الامتحان، وصحّحت الأوراق وظهرت النتائج، فكان الأول والثاني والثالث والرابع والخامس أيضاً من اليهود. فذهبت

ص: 151

إليه قبل أن أعلن النتيجة وقلت: ماذا ترى؟ قال: إنّا لله وإنا إليه راجعون. ماذا أعمل إذا كان الطلاّب العرب المسلمون كسالى لا يعملون وكان هؤلاء الخبثاء هم العاملين الجادين؟

* * *

وكان وكيل المدرسة الحاجّ محمود أحد القرّاء المشهورين في بغداد، ولم يكن في منهج الدراسة درس في التجويد، مع أن التجويد من فروع مادة اللغة العربية وينبغي أن يعرفه وأن يلمّ به كل طالب يدرس لغة العرب وأدب هذه اللغة، ضروري لضبط مخارج الحروف وحسن الأداء وسلامة النطق. وقد استُحدث علم ما عرفناه أيام الدراسة هو «علم الأصوات» ، وقد رأيت إحدى حفيداتي الطالبة في جامعة الملك عبد العزيز تحمل كتاباً في هذا العلم، فاطّلعت عليه فوجدت موضوعه قريباً من علم التجويد، يزيد عليه في مسائل ويقصر عنه في مسائل.

فطلبت من الحاجّ محمود أن يجعل للطلاّب ساعة اختيارية يعلّم فيها من شاء «القراءة» ، ولكن لم يتّسع لذلك وقته، ووجدت نفراً من الطلاّب لهم رغبة في التعلّم فعكفت على إقرائهم في ساعات فراغهم بين الدروس في المدرسة وبعد انتهائها.

وأنا لست من القرّاء، ولكني أقرأ قراءة صحيحة، لا أقصر إلاّ في مخرج حرف الراء فأنا فيه قريب من واصل بن عطاء. أمّا المدود وأحكام الميم والنون والأداء، أي الترقيق والتفخيم وما إليهما، فقد أتقنتُه وأحمد الله على ذلك، لأنني قرأت في مطلع شبابي على شيخ قرّاء الشام الشيخ محمد الحلواني الذي جمع

ص: 152

على طريقة «الشاطبية» وعلى الشيخ عبد الله المنجّد (وهو والد الدكتور صلاح الدين المنجد) الذي جمع على طريقة «الطيبة» ، وذلك على رواية حفص عن عاصم، وهي القراءة المنتشرة في مصر والشام وأكثر بلدان المشرق. أما في المغرب فيقرؤون بقراءة نافع برواية ورش، وأهل شنقيط (موريتانيا) يقرؤون بها برواية قالون، وسمعت من أخي وابن شيخي محمد ابن الشيخ عبدالقادر المبارك رحمهما الله (وقد أقام في السودان سنين) أنهم يقرؤون في السودان بقراءة أبي عمرو (1) أو بقراءة حمزة، نسيت أنا.

وأقول بالمناسبة إن معرفة القراءات مطلوبة لطلاّب العلم وفي المدارس، أما أن يقرأ القارئ الآية الواحدة للعامّة بالقراءات المتعدّدة فقد رأيت من كبار العلماء المتقدّمين من قال بكراهته.

* * *

وفي هذه السنة جاء الدكتور سامي شوكت مديراً عاماً (أي وكيلاً) لوزارة المعارف، وكان قومياً مندفعاً متحمّساً، فصبغ المدارس بالصبغة القومية.

ولي في القومية كتابات كثيرة جداً وخضت فيها مناظرات

(1) تنتشر في السودان رواية الدوري عن أبي عمرو، كما يقرأ أهل السودان في أنحاء مختلفة منه بقراءة نافع من روايتيه: قالون وورش. وانتشرت في أوساط الجيل الجديد الذي تعلّم في المدارس الرسمية رواية حفص عن عاصم، ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى تأثير الأساتذة المصريين الذين كان لهم دور كبير في التعليم في السودان.

ص: 153

ومناقشات، ومن أشهر ما كتبت مقالة «العربية والإسلامية» (1)، وقد نُشرت في «الرسالة» من قديم وطُبعت مرّات في رسالة مستقلّة وُزّعت مجّاناً. ولما كنت في بداية عهدي بالكتابة (وقد نشرت أول كتاب لي سنة 1348هـ) كنت لا أفرق بين الإسلامية والعربية، فأقول مثلاً الفتوح الإسلامية لأنها قامت بالإسلام ولنشر الإسلام، أو أقول الفتوح العربية لأن الذين قاموا بها جنداً وقُوّاداً هم من العرب، العرب الذين لم يكن لهم بين الدول الكبار مكان حتّى أعزّهم الله بالإسلام.

ثم بدأنا نسمع كلمة «القومية» ، ومن أوائل من جرت كلمة القومية على سن قلمه (ممّن أعرف أنا) خالي مُحبّ الدين الخطيب المولود سنة 1303هـ، ومن كان معه من لِداته وأقرانه. ولم تكن تحمل أكبر من معنى تنبيه العرب إلى ما كاد لهم الاتحاديون الملحدون من الأتراك الذين يريدون تتريك العناصر العثمانية، ويأبى هذه الدعوةَ الإسلامُ ويأباها العرب، ويأباها جمهور الأتراك المسلمين.

ثم بدأَت تحمل معاني جديدة على أقلام كُتّاب ودُعاة كثير منهم من النصارى. وكانت كلمة القومية متردّدة بين ما يقابل كلمة «ناسيوناليزم» الفرنسية كما تفهم في الشام وكلمة «راسيسم» أي

(1) وهي منشورة في كتاب «في سبيل الإصلاح» . وستجدون في كتاب «فصول في الدعوة والإصلاح» الذي أرجو أن يصدر قريباً مقالات في هذا الموضوع تستحق أن تُقرَأ هي: «موقف الإسلام من العربية» و «الدعوة القومية والإسلام» و «الدعوة إلى الوحدة» و «مَن هو العربي؟» (مجاهد).

ص: 154

العِرْقية، كما يغلب على شباب العراق فهمها بهذا المعنى. أمّا مصر فما وجدت لها في مصر (وقد درست فيها سنة 1928) أثراً ظاهراً، وأمّا في الشام (سوريا) فكان لها أثر ضئيل عند طائفة من الشباب.

فلما جئت العراق وجدت فكرة القومية طاغية على الشباب، بثّها فيهم مدرّسون أكثرهم من غير العراق، من أبرزهم ساطع الحصري، العربي الحلبي الذي ربّاه الترك وعاش بينهم دهراً من عمره، حتّى إنه مات وما يحسن النطق بالعربية كما يحسنها العرب وتظهر العجمة على لسانه من الجمل الخمس الأولى من حديثه إذا تحدّث أو محاضرته إذا حاضر. ومنهم النصولي، ويذكر كبار السنّ الفتنة التي ثارت في العراق لمّا ألف كتابه عن الأمويين.

كان الأمل والمطمح الأقصى لشباب بغداد في تلك الأيام هو تحقيق وحدة عربية كوحدة ألمانيا وإيطاليا، وكانوا يُعنَون بتاريخهما وتفاصيل أخبارهما عناية بالغة، وكانوا ينظرون إلى بلدهم العراق على أنه مثل بروسيا في الوحدة الألمانية وبيه مونت في إيطاليا.

ونحن -الإسلاميين- لا نأبى الوحدة العربية، ولكن نراها محطّة على طريق الوصول إلى الغاية وليست هي الغاية. ونحن لا نحارب القومية حرباً عمياء نخلط فيه خيرها بشرّها ثم نلقي ذلك جميعاً في لهب هذه الحرب، ونحن لا نسلب العرب فضائلهم وكريم سلائقهم، فلولا مزايا العرب التي أودعها الله فيهم، أي في طبيعتهم وفي سليقتهم، ما اختار الله رسوله منهم

ص: 155

{واللهُ أعلَمُ حيثُ يَجعلُ رسالتَه} ، ولا جعل القبلة البيت الحرام عندهم ولا أوجب الحجّ إلى أرضهم. ولكننا لا نفتري على الله ولا نكذب على التاريخ، ولا نزعم أنه كان للعرب قبل الإسلام -كما يقولون- هذه المزايا التي يدّعونها لهم ولم تكن لهم، ولا نقول مقالتهم: إن الإسلام إنما هو مظهر من مظاهر عبقريتهم الكامنة فيهم.

فما طبيعة العلاقة بين العرب والإسلام إذن؟ لقد فكّرت في ذلك طويلاً، ثم وضّحته في محاضرة لي في الكويت لمّا دعتني إليها جمعية الإصلاح، أي الأخوان الكريمان عبد العزيز وعبد الله المطوّع، وكانت تلك هي المرّة الوحيدة التي زرت فيها الكويت، في الخمسينيات (1).

ساءلت نفسي: هل بين العربية والإسلام تطابق بحيث إن العربية والإسلامية كلمتان مترادفتان تُغني إحداهما بمدلولها عن أختها، فكلّ ما هو إسلامي عربي وكل ما هو عربي إسلامي؟ وكان الجواب: لا. فقلت: هل بينهما تناقض كالوجود والعدم والموت والحياة، بحيث إنهما لا يجتمعان ولا ينعدمان؟ وكان الجواب: لا. هل بينهما تضادّ كالبياض والسواد بحيث إنهما لا

(1) زارها سنة 1956، وقد أشار إلى هذه المحاضرة في أول مقالة «عربية إسلامية» المنشورة في كتاب «في سبيل الإصلاح» ، قال: "دعتني من أشهُر جمعية الإصلاح في الكويت إلى إلقاء محاضرات، وكان منها محاضرة عنوانها «بين العربية والإسلامية»

"، فمن أحب أن يقرأ هذه المقالة فليقرأها في الكتاب المذكور، وفيها -كما يبدو- خلاصة المحاضرة وأهم ما فيها من أفكار (مجاهد).

ص: 156

يجتمعان ولكن قد ينعدمان؟ وكان الجواب: لا. هل بينهما عموم وخصوص كما يقول أهل المنطق، بحيث إن كل عربي إسلامي وليس كل إسلامي عربياً؟ وكان الجواب: لا. فما العلاقة إذن بين العربية والإسلامية؟

الجواب: إن العلاقة هي ما يُسمّى العموم والخصوص من وجه. أي أنهما مثل دائرتين، دائرة صغيرة ودائرة كبيرة، وُضعَت الصغيرة في طرف الكبيرة فانطبق أكثر أجزائها على أجزاء الدائرة الكبيرة، ولكن بقي من الصغيرة هلال صغير لم يدخل في الكبيرة وبقي من الكبيرة هلال كبير يحيط بالصغيرة. أي أن الناس ثلاثة أصناف: عربي مسلم، ومسلم غير عربي، وعربي غير مسلم.

أمّا العربي المسلم فلا إشكال في وضعه؛ لأننا إن دعونا بدعوة العربية دخل فيها وإن دعونا بالدعوة الإسلامية دخل فيها. ولكن الإشكال في العربي غير المسلم والمسلم غير العربي: أيهما هو أقرب إلينا وأيهما الذي هو جزء أصلي من أمتنا؟

* * *

ص: 157