المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

-123 -   ‌ ‌القاضي الشهيد كنت أتردد -كما عرفتم- بين دمشق ودوما، عملي - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: -123 -   ‌ ‌القاضي الشهيد كنت أتردد -كما عرفتم- بين دمشق ودوما، عملي

-123 -

‌القاضي الشهيد

كنت أتردد -كما عرفتم- بين دمشق ودوما، عملي الرسمي في دوما وانتدابي إلى دمشق، ثم صرت قاضياً رسمياً في دمشق. وكان أمامي ثلاثة، القاضي الممتاز الشيخ عزيز الخاني والقاضيان الأَخوان الشيخ صبحي الصباغ والشيخ عادل العلواني. فتوفى الله الشيخ عزيز، وقتل مجرمون الشيخ عادل، ثم نُقل الشيخ صبحي مستشاراً في محكمة النقض، فصرت أنا القاضي الأول في المحكمة الذي كانوا يدعونه القاضي الممتاز.

لا يخطرْ على بال واحد منكم أنني سُررت بأنهما فسحا لي الطريق إلى المنصب، لا والله لقد تألمت ألماً حزّ في قلبي وترك فيه آثاراً بقيَت زمناً طويلاً. وأنا حين أقعد لأكتب الحلقة من هذه الذكريات أجد حرجاً وأتمنّى منها مخرجاً، لأنني لا أعتمد إلاّ على ذاكرة أبلاها طول الزمان، فأنا أكدّ ذهني كدّ الفارس المغوار فرسَه العجوز، فتعطيه أكثر ما تقدر عليه ولكنها لا توصله إلى ما يطمح إليه.

لكني هذه المرّة وجدت قطعاً قديمة فيها قصاصات من

ص: 335

مقالات لي (كنت أكتبها في جريدة «النصر» أولاً ثم في جريدة «الأيام»، كان عنوانها «كلّ يوم كلمة صغيرة»، جمعت طائفة منها في كتاب لي اسمه «مقالات في كلمات»، نفدَت طبعتُه من زمان بعيد وربما جدّدَتها دار المنارة التي طبعَت هذه الذكريات، وضاعت طائفة منها وبقيَت عندي طائفة لم تُنشَر في كتاب)(1)، ليس فيها تاريخ، بل ليس فيها اسم الجريدة التي نشرتها، ففرحت بها لأنني وجدت ما أتكئ عليه وأستند إليه.

* * *

هذه قطعة وجدتها كتبت فيها كلمة يوم مات الشيخ عزيز، لا أحسب أن في قرّاء الجريدة المنتشرين ما بين منكبَي الأرض من اطّلع عليها، وإن كان قد اطّلع عليها فما احتفظ بها ولا وعتها ذاكرته، لأنها نُشرت من أكثر من ثلث قرن في جريدة دمشقية لا تكاد تجاوز حدود الشام، فلا بأس عليّ إذن إن أنا أدرجتها هنا بحروفها لم أبدّل شيئاً فيها. قلت يوم مات الشيخ عزيز:

أَحَقٌّ ما نَعى النّاعي؟

أحقٌّ أن الرجل الذي كان ملء الأبصار وملء الأسماع وملء القلوب قد اختفى إلى الأبد، فلن تراه بعد اليوم عين ولن تسمعه أذن، ولن ينعم بلقياه قلب؟ أحقّ أنّ الرجل الذي تسلسلَت

(1) من هذه التي لم يضمّها الكتاب اخترتُ مجموعة صالحة للنشر صدرَت جزءاً ثانياً من «مقالات في كلمات» ، أصدرَته دارُ المنارة عام 2000، ومن قبله أعادت طباعة الجزء الأول من الكتاب (مجاهد).

ص: 336

الصداقة بين بيتنا وبيته منذ مئة وخمسين سنة (فقرأ جدّي الأكبر على شيخ البيت الخاني وقرأ أهل البيت على جدي) والذي كنتُ إذا رأيتُه رأيت في طلعته صورة أبي الحبيب قد عادت حيّة بعدما واراها التراب وحالت بيني وبينها السنون، الرجل الذي خُلق من الحُبّ فكان يُحبّه كلّ قلب، وصيغ من الجمال فكان جميلاً في كل عين، والذي كانت له الهيبة وكان له الجلال

لم يبقَ منه إلاّ صورة في الذاكرة وفكرة في النفس، وحديث حلو من أحاديث النبل والطّيب والكرَم يتداوله الناس من بعده؟ أحق أنه قد مات عزيز أفندي الخاني، ووقف ذلك القلب الذي لم يخفق إلاّ بالحبّ، وكان ينشر الحبّ حيثما سار كما تنشر العطرَ الأزهارُ والشمسُ الأنوار؟

أفي كل يوم ينطفئ مصباح، ويهوي نجم، ويموت عالم؟ أين الشيخ بدر الدين الحسني؟ أين السيد محمد بن جعفر الكتاني؟ أين الشيخ عطا الكسم؟ أين من قبلهم الشيخ جمال الدين القاسمي؟ أين الشيخ أمين سويد؟ أين الشيخ مصطفى الطنطاوي؟ أين الشيخ الجوبري والشيخ الأيوبي والعلمي؟ أين مشايخ القراء: الحلواني والمنجّد والعربيني؟ وأين العشرات ممّن فقدنا من العلماء؟ مَن خلفهم من أولادهم أو من تلاميذهم؟ مَن سدّ المكان الذي أخلوه؟

مضوا ومضت معهم كنوز من العلم، ودُفنت معهم ثروات من المعرفة ما حوتها الكتب ولا حفظتها التصانيف، لأن القوم كانوا راغبين عن الكتابة منصرفين عن التأليف. أدمغة عبقرية غذّاها

ص: 337

دأب السنين وإحياء الليالي وثني الركب، ثم كان مصيرها إلى التراب! وينابيع عِذاب، ولكن العِطاش انصرفوا عنها وزهدوا فيها، حتّى غاضت في الأرض كما فاضت من الأرض.

مضوا وسيمضي هؤلاء الباقون، فتزودّوا منهم، ارتووا قبل أن يجفّ الينبوع فإن أمامكم بيداء قاحلة. اقتبسوا من نورهم قبل أن تنطفئ الشعلة فإن أمامكم ليلاً أَلْيَل. رحمة الله على من مضى وللأحياء طول البقاء.

* * *

ثم أبّنتُه في قاعة الجامعة السورية بتلك الخطبة التي حدّثتكم عنها. وقد وجدت هذه الورقة مقطوعة من جريدة، ولو سئلت عنها لما ذكرتها لأنني نسيتها فيما نسيت ممّا كتبت. ولو قدّر الله يوماً بعد موتي أن يأتي أخ كريم لا أعرفه، فيحقّق الأمل الذي لم أحلم يوماً بتحقيقه فيجمع كل ما كتبت، لجاء معه أكثر من خمسين مجلّداً. لا تظنوا أني أبالغ، فلقد عشت عمري كله أقرأ وأكتب، فاحسبوا كم قرأت كلّ يوم وكم كتبت.

* * *

أعود إلى حديثي. أما الشيخ عادل واغتياله: فما أقول ولا يقول أحد إننا شعب من الملائكة لا نعرف القتل ولا نعرف الفواحش، فإنها من طبيعة البشر. وكل ابن آدم خطّاء، ولو أن مجتمعاً بشرياً خلا من الجريمة لخلا أشرف وأفضل مجتمع عرفه تاريخ بني آدم، وهو مجتمع الصحابة، لكنها طبيعة البشر التي طبعهم الله عليها.

ص: 338

كنّا نعرف القتل انتقاماً، ونعرفه أخذاً بالثأر شفاء لما في الصدر، ونعرفه في ساعة الغضب التي تُعمي البصر وتعطّل الفكر، ولكن ما عرفنا هذا النوع من الاغتيال لأنه ليس من فعل الرجال ولا من سمات الأبطال. ولعلّ أول قتيل سياسي عرفناه هو الرجل الكبير، السياسي البارع الخطيب العالِم الدكتور عبدالرحمن شهبندر، كان مقتله كما أذكر سنة 1940 ميلادية، وقد مررت به ونسيت أن أحدّثكم حديثه كما نسيت غير ذلك من الأحداث، فإذا عادت إلى ذهني عدت إليها فحدّثت بها.

ذكّرني بمقتله كلمة نُقلت إليّ عن رجل يُقيم هنا كان قد اتُّهِم مع من اتّهِم بقتل الشهبندر، زعم الناقل أنه افتخر في مجلس بأنه أحد قتلة الشهبندر. وما أحسب ذلك حقاً، وما أظنّ أن مسلماً يفتخر بقتل مسلم بعد وعيد الله عز وجل بأنه يجعله في النار خالداً فيها. والشهبندر ما كان في تقوى عمر بن عبد العزيز ولا أحمد بن حنبل، ولكنه ما خرج من الإسلام ولا ارتكب ما يُستباح به دمه الحرام. وكان قتله إثماً كبيراً، زعموا أنه كان بفتوى من جماعة صالحين ولكنهم من الجاهلين، نُقلت إليهم عنه أشياء فلم يتحقّقوا منها ولم يتثبّتوا من صحّتها، وأفتوا بقتله وما كانوا مُفتِين، وقضوا عليه وما كانوا قُضاة، فعلق إثم هذه الفتوى بأعناقهم. وسمع ذلك شباب ليست لهم عقول فنفّذوا هذا الجرم، يحسبون أنهم يُحسِنون صنعاً، مع أن دم مسلم واحد قُتل بلا حقّ أكبر عند الله من هدم ركن الكعبة.

حضرت المحاكمة كلها في المدة التي فصلَت بين انشغالي بالتعليم وبين انتسابي للقضاء (وقد اشتغلت فيها بالمحاماة).

ص: 339

وكانوا قد ألّفوا للمحاكمة مجلساً عدلياً خاصاً، أعضاؤه من الفرنسيين ومعهم قُضاة من السوريين، وطالت المحاكمة، وكان على رأس المتهَمين فيها شابّ من آل عصّاصة، وآخر شاب بعمامة وجبّة من طلبة العلم من بيت الشيخ معتوق. وقد أدهش عصاصة القُضاة والمحامين كما أدهش الحاضرين وهم مئات (لأن المحاكمة كانت في المجلس النيابي، استعاروه ليعقدوها فيه) فكان القُضاة وكان محامو الاتّهام يحيطون بعصاصة، يحاولون إمساكه فلا ينالون منه منالاً ولا يصلون منه إلى شيء. حتّى دُعي السيد مكي الكتاني وألقى خطبة وعظ فيها عصاصة فاعترف بأنه القاتل، والسيد مكي رحمة الله عليه ليس عالِماً متمكناً، ولكنه رجل نبيل النفس سامي الخلق مخلص فيما يقول، وإذا قال دخل كلامُه قرارة نفس المخاطَب، فكان له في السامعين أبلغ التأثير.

وأذكر أنه يوم تنفيذ الحكم في عصاصة ومعتوق في ساحة المرجة (إذ قتلوهما شنقاً) تردّد الشيخ معتوق وجزع، فثبّته عصاصة ولامه وجعله يستقبل الموت استقبال الرجال. وفي مثل هذا المجال تكون الرجولة ويكون الصبر ويكون الاختبار. والغريب أن اسم عصاصة كان يلفظه القاضي الفرنسي «أساسان» ، ومعنى ذلك بالفرنسية «القاتل» ، زعموا أنها من لفظ «الحشاشة» ، اللقب الذي كان يُلقَّب به الإسماعيلية في غابر الزمان.

* * *

قُتل في تاريخنا وفي تواريخ الأمم جميعاً حُكّام وقُوّاد وأغنياء، كما قُتل فقراء وقُتل ناس من عامّة الشعب، ولكننا

ص: 340

لم نسمع أن قاضياً قُتل لأنه حكم بالحقّ على واحد لم يرضَ بحكمه، لذلك كان نبأ قتل الشيخ عادل علواني نبأً رجّ دمشق رجّاً. ولست أذكر التفاصيل ولكن أتلو عليكم ما جاء في هذه القصاصات التي وجدتها بحمد الله مصادفة، وإن لم يكن لها عنوان ولا تاريخ (1).

القصاصة الأولى:

رجعت الآن من جنازة الزميل الشيخ عادل العلواني، وقعدت لأكتب هذه الكلمة وأنا لا أزال مشدوهاً مقسّم الذهن، لا أكاد أصدّق أنه مات ولا أدري ماذا أكتب عنه. ما الذي تسعه هذه الزاوية الصغيرة من إخاء عشرين سنة (كان قتله سنة 1949)؟ ماذا أقول عن الرجل الذي عرفته رفيقاً في كلية الحقوق جنبي في المقعد إلى جنبه، ثم عرفته قاضياً في المحكمة الشرعية قاعتي مقابل قاعته، والذي رافقته أمداً يملأ حديثي عنه تأريخاً؟

إني والله لا أدري ماذا أقول فاعذروني، فإنني لا أزال في روعة الصدمة الأولى. ولقد سمعت الناعي في الهاتف يقول لي إن الشيخ عادل قُتل، فما صدّقت وحسبتها مزحة ثقيل، وما ظننت أن من الممكن أن يُقتل قاضي دمشق وسط دمشق.

غدوت أسأل فإذا الخبر صحيح، فذهبت إلى داره أدبّر أمر الجنازة، فلم أرَ في الدار إلاّ امرأة حَيْري وأطفالاً تسعة أيتاماً،

(1) انظر مقالتَي «القاضي الشهيد» و «لا نريد من يدافع عن القاتل» في الجزء الثاني من كتاب «مقالات في كلمات» (مجاهد).

ص: 341

وإذا القاضي الذي كان مستوراً بالتجمّل لم يخلّف بعده ما يكفي لإيصاله إلى القبر. ولقد يكون في هذا الذي أقول إيلام لأسرة الفقيد، ولكنني أقوله بإكبار وإعجاب، وأحني هذا الرأس (الذي ما انحنى لغير الله) أمام نعش الرجل الذي استطاع أن يكون قاضياً نزيهاً أميناً وهو يكابد الفقر عمره كلّه ويتجرّعه ويصبر عليه، حتّى عاش مستوراً ومات إن شاء الله شهيداً (1).

وتولّى القُضاة والمحامون نعيَه وإخراجه، ومشَت الجنازة صامتة رهيبة على السنّة، لا صراخ ولا نشيد ولا أكاليل، كذلك جعلتها وأنا الذي تولى أمرها. ثم قمت أخطب ولا أعلم ماذا أقول، لأن أطفاله كانوا أمامي، فكان يشغلني التفكير في مصيرهم عن صوغ آيات البيان. كنت أفكّر فيهم فأخشى ألاّ تفي هذه الأمة للرجل الذي وفى لها وأن تدع أولاده يحتاجون من بعده لأن ضميره ودينه منعاه من أن يدّخر مالاً يجمعه من حرام، وأخاف أن تضيق خزانة الدولة بنفقات دراسة ولده الذي يدرس في الخارج ونفقات معيشة أولاده الذين بقوا في الشام، وألاّ تجود بالمال لمن جاد بالدم، وأن تتمسّك بحرفية قانون التقاعد وتُعطي أسرة الفقيد ما لا يكفيها ثمن الخبز، فيرى ذلك القُضاةُ فلا يبقى فيهم قاضٍ نزيه لئلاّ يشحد أولادُه بعد موته. إني والله لا أزال في روعة الصدمة الأولى فاعذروني اليوم.

* * *

(1) من الإنصاف للتاريخ أن أقرر أنه أخطأ خطيئة كبيرة حين أبرق لحسني الزعيم يؤيده في إصدار القانون المدني وإلغاء «المجلة» التي كانت القانونَ الشرعي. ولكن رحمة الله لا تضيق عنه، رحمه الله.

ص: 342

وأذكر (ويذكر الناس الذين كانوا معي) أننا صلّينا على الجنازة في تكية السلطان سليمان، فلما جاؤوا ليخرجوا بعدها من المسجد وقفت في الباب معترضاً، وكان يتقدمهم رئيس الوزراء وأحسبه كان الأستاذ صبري العسلي أو كان وزير العدل، وبينهم القُضاة والوجهاء، وألقيت كلمة فيهم سالت منها مدامعهم، ووصفت حال أولاده من بعده وقلت لهم: لن تخرجوا من هنا حتّى تتعهّدوا لي أمام نعشه بأنكم لن تضيّعوا أولاده بعده، وأنكم تجعلون لهم راتباً يكفيهم، ولا يفي هذا الراتب مهما كبر بما بذل أبوهم لبلده ولكم.

* * *

والكلمة الثانية التي وجدتها بين الأوراق ولا أعرف تاريخها هي:

عجب الناس أن مضى القاضي (العادل) ولم يخلّف وراءه ما يكفي لتغسيله وتكفينه وحمله للمقبرة رحمة الله عليه. يحسبون أنه وحده القاضي الذي عاش فقيراً ومات شهيداً. لا، لا تعجبوا فإن ثلاثة أرباع القُضاة هذه حالهم وإلى مثل هذا مآلهم؛ إنهم يعيشون عيش الفقراء ويموتون موت الشهداء، ولكن العلواني (غفر الله له) مات شهيد الواجب فبكَته كل عين في الشام وذكره فيها كل إنسان، وإن حاول المجرمون أن يُسكِتوا الألسنة بالمال، وسائر القُضاة يموتون كلّ يوم شهداء الصبر الصامت ولا يدري بهم أحد، ولا تبكيهم إلاّ عيون عارفيهم وأهليهم.

إنها إن بقيَت رواتب القُضاة على هذه الحال لم يبقَ في المحاكم قاضٍ يُعتمَد عليه. ومن أين نأتي بالقُضاة ونحن لا نزال

ص: 343

نرى الناس زاهدين في القضاء منصرفين عنه؟ وكم مسابقةً أعلنَت عنها الوزارة فلم يُقبِل عليها أحد حتّى اضطرت إلى إلغائها؟

(إلى أن قلتُ): إنكم تظنّون أننا نطالب بزيادة الرواتب طمعاً في الكسب وحُباً بالادّخار وابتغاء النعمة والرفاهية لأنفسنا وأهلينا. لا يا سادة، ولكن نطالب بها حفظاً لحقوق الناس وكرامة البلد، وليكون القُضاة مَكفيّين فلا يَمُدّوا عيونهم ولا أيديهم إلى غير ما أُحِلّ لهم، فارغين من همّ العيش لا يشغلون به بالهم عن قضاياهم، آمنين مطمئنّين فلا يزعجهم حاكم ولا يطمع في التأثير فيهم أحد، ولتدخل الحكومةُ كبارَ المحامين في القضاء حتّى يُقبِلوا عليه فيقوى بهم، كما يقوى النهر بالروافد التي ترفده وتنصبّ فيه.

* * *

الكلمة الثالثة:

تمّ الأمر وعُرف هذا المجرم النذل الذي فقد كل ما يعتزّ به الرجال من الفضائل: فقد الدين الذي يدعو إلى الخير، والضمير الذي يوزع عن الشر، والخلق والنبل والإنسانية، وفقد معها الشجاعة، فلم يواجه خصمه مواجهة البطل ولم يُعلنه بالحرب إعلان الشريف، بل تخفّى له في الظلام كما تختفي الحشرات وضربه على غرة كما تضرب العقارب.

والذي فقد الرجولةَ فاستعان بماله الذي جمعه من حرام على الفعلة الحرام، واشترى به أيدياً يضرب بها بعد أن منعه الجُبن والتخنّث أن يضرب بيده التي عرفَت السرقة ولم تعرف

ص: 344

البطش. وخرست بذلك ألسنة انطلقَت ترجف بالفقيد والحكومة، توهم أنها حائرة مضطربة لا تدري من أين تمسك طرف الخيط، فلم تَمضِ إلاّ ثلاثة أيام حتّى عُرِف القاتل وعُرف شركاؤه، وعُرف الشيطان الذي وسوس له وحرّضه على الشرّ؛ هذا الشيطان الذي يظهر بين الناس بمظهر الوجهاء الأفاضل! وأقرّوا جميعاً طائعين مختارين، فظهر بذلك أن الشيخ عادل قضى شهيداً من أجل الحقّ الذي أقامه والقانون الذي أطاعه، لا من أجل هوى ولا مطمع، وأنه مات نظيف اليد طاهر الذيل شريفاً، كما عاش شريفاً طاهر الذيل نظيف اليد.

ولم يبقَ إلاّ أن تُتِمّ الحكومة هذا الفصل، فلا تمضي عشرة أيام حتّى يكون المجرمون منصوبين على أعواد المشانق في المرجة، كيلا ترى دمشقُ مرّة ثانية مثلَ هذه الجريمة التي ملأت كلَّ قلب في دمشق أسفاً على مَن فُقد ورحمة لمن ترك وغضباً على من أجرم، وحتى يكون راتب الفقيد كاملاً في يد أسرته.

إنكم لا تستطيعون أن تعيدوا لهؤلاء الأيتام أباهم، فأعيدوا لهم على الأقلّ راتب أبيهم.

* * *

القصاصة الرابعة

صارت المسألة بين أيدي القُضاة، فطلبوا من يدافع عنهم فأبى المحامون الدفاع عن مجرم ظاهر الإجرام، وتطوّع لذلك محام غريب الديار، قدم دمشق فآوته وأكرمَته وأعطته المال وأعطَته المجد. ولا اعتراض لنا على دفاعه فالدفاع عمل

ص: 345

المحامي، وهو عمل مشروع لا ممنوع، ولكنه أساء أسلوب الدفاع وتطاول على أهل البلد وكاد يمسّ القُضاة أنفسهم، فكتبت هذه الكلمة، وهي إحدى الكلمات التي وجدتها اليوم:

بعضَ هذا يا سي حسن (1) فإن الحياء من الإيمان، ولك أن تدافع عن القاتل فإن الدفاع حقّ مطلوب، ولك أن تحرص على الأجرة فإن المال مشتهى محبوب، ولكنْ ليس لك أن تنسى الحقّ من أجل المال وتضحّي بالإنسانية في سبيل المهنة، فتصغّر هذا الجرم وهو عظيم، وتكسر بلسانك قلوب هؤلاء الأطفال بعد أن كسر موكّلك بنذالته ركنهم وذبح بسكّينه أباهم. وليس لك أن تسخر من هذا الشعب الذي فتح لك أبوابه وأعطاك من المجد والمال ما لو وجدتَه عند أهلك لما لجأت إليه، والذي لا يزال -من غفلته- يكرم كلّ غريب ليناله بالأذى هذا الغريبُ.

ولو كنت من أهل البلد لعلمتَ أنها لم تصنع بأهله جريمةٌ آثمة سافلة ما صنعت هذه الجريمة، وأنها راعت قلوبَ ساكنيه وأغضبَتهم وآلمتهم، أسفاً على الفقيد وحزناً على أولاده وإكباراً لفقره، وخوفاً على العدالة أن لا يُنصَب لها في الشام ميزان بعد اليوم، ما دام كلّ نذل يُغضبه القاضي بحكمه عليه يبعث إليه بوحش يقتله. وأنها فُرشت بالشوك مضاجعُهم فما يقرّ لهم قرار حتّى يصطبحوا بمرأى المجرمين كافةً تهتزّ أرجلهم فوق أرض المرجة. وأن النساء في البيوت، إي والله والرجال في الأسواق والأولاد في المدارس، لا يزالون يسألون عن المحاكمة ماذا

(1) اسمه المحامي حسن غزاوي، وهو من مصر.

ص: 346

جرى فيها، وعن المجرمين متى يلقون جزاءَ ما جنوا؟ ولو كنت تقرأ التاريخ لعلمت أنها جريمة لم يعرف تاريخُنا جريمةً مثلها. ولقد قُتل كثير من الخلفاء والأمراء والحُكّام، ولكن لم يُقتَل قاضٍ في الإسلام اغتيالاً قبل القاضي العلواني.

فهل أدركت الآن أنها جريمة ليست كالجرائم؟

يا سيد حسن، إني لا أعرفك ولكني أظنّ ممّا سمعت عنك أن هذا كله لا يقنعك، إنه كان يقنعك لفظ واحد من الرئيس لو أنه قاله في حينه، هو أن يأمر بسجنك على هذا التعريض المكشوف بمجلس القضاء وأهله وهذه الجرأة الوقحة عليه. ولكن الرئيس كان حليماً جداً، فإياك إياك؛ فإن العرب تقول في أمثالها: اتقِ غضبة الحليم!

* * *

والكلمة الأخيرة من هذه الكلمات التي وجدتها في القصاصات هي:

رأيت اليوم وأنا على قوس المحاكمة طفلاً أشقر جميلاً صغيراً جداً يتسلّق درَج القوس، فحسبتُه ابن إحدى المتداعيات قد أطلقته يعبث في القاعة فهممت بزجره، ولكني رأيته يتقدّم مطمئناً ثابت الخُطى، حتّى أقبل فوضع خده على ظهر كفّي وجعل يتمسح بي كالقطة الأليفة. فنظرت إليه، وإذا هو ابن أخي الشهيد الذي قُتل ظلماً الشيخ عادل العلواني، فاستَعْبَرت ورقّ قلبي وامتلأت بالدمع عيناي، وتركتُه حيث وقف، وخالفت لأول مرّة من عشرين سنة مارستُ فيها القضاء نظام الجلسات وقواعد

ص: 347

المحاكمة، مع أن ابنة لي في مثل سنّه جاءت مرّة (مرّة واحدة) المحكمة مع أمها فنادتني وركضت لتصعد القوس، فأبكيتها وأنزلتها وأخرجتها. ولكن هذا الطفل كان متعوّداً على ذلك أيام أبيه فلم أشأ أن أكسر قلبه، وقال لي الطفل فجأة: صعي (أي صحيح) مات بابا؟

فأحسستُ كأنْ قد وقع على وجهي سوط من نار، وانعقد لساني فلم أُجِبْ. فسكت ثم قال: وين بابا؟ طَوَّلْ (أي تأخّر). إمتى بدّو يزي (يعني يجي)؟ فلم أنطق. قال ليس (يعني ليش) كل ما سألت عنه ماما بتبكي؟ الكبار يبكوا سي؟ ولم أُجِبْ، فرجع يقول: ما عاد بابا زاب (جاب) لنا سكّر. وين بابا؟

فأعطيتُه سكاكر كانت في جيبي أعددتها لأولادي فاشتغل بها، ثم أقبل عليّ ورفع وجهه إليّ وقال مهتماً: عمّو نزّلوا الدم لبابا، سفت (شفت) الدم على الدرز (الدرج). ليس (ليش) نزّلوا له الدم (1) إيس سوّى لهم (أي ماذا عمل لهم)؟ ليس (ليش) ما بحبّوا بابا؟ أنا أحبّ بابا.

وتعطّلَت الجلسة حقيقة وتحوّلَت إلى مناحة؛ النساء يبكين بصوت مسموع، والمحامون والكاتب والمحضر، وأنا، كلنا غلبَنا البكاء.

* * *

(1) تخفّى له مُغتالُه الذي استأجروه لقتله فطعنه بسكّين كان ينحر بها الإبل.

ص: 348