المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أخي المبتعث إلى باريس - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌أخي المبتعث إلى باريس

-107 -

‌أخي المبتعَث إلى باريس

الحادث الأكبر في حياتي أنا وفي حياة بلدي هو حرب 1914 التي هتكت الستار بيننا وبين حياة أوربّا، فدخلت علينا بخيراتها وبشرورها وعلومها وفسوقها، فبدّلت بذلك طرائق معيشتنا وأساليب تفكيرنا، وكانت كأنها صخرة كبيرة أُلقيت في البحيرة الساكنة، فلم تحدث على سطحها دوائر ولكن قلبتها قلباً فجعلت أسافلها أعاليها.

في ذهني صورة باهتة من حياتنا في الشام قبل الحرب وصور كثيرة واضحة لما آلت إليه بعدها. ولقد كتبت في هذا كثيراً وعرضت له في محاضراتي وأحاديثي كثيراً، ولكن أجمع ما قلت فيه المحاضرة التي ألقيتها في الرياض في ذي القعدة سنة 1329هـ (1)، في الدورة الأولى للندوة العالمية للشباب الإسلامي التي يُشرف عليها الرجل العالِم الصالح سليل العلماء الصالحين

(1) وهي منشورة في آخر كتاب «فصول إسلامية» واسمها «موقفنا من الحضارة الغربية» ، وقد نشرتها دار المنارة في رسالة صغيرة أيضاً (مجاهد).

ص: 99

الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ. ولقد بيّنت فيها ما أكّدَته لي الأيام وأثبتَته لي التجارِب، من أن جُلّ الفساد الذي دخل في مجتمعنا فأضاع أخلاقنا وأبعدنا عن ديننا، وأكبر العلم الذي فتح عقولنا وجدّد أفكارنا، إنما جاءنا كله من الغرب، من أوربّا وأميركا، من ذهاب أبنائنا إليه ومن ورود أهله علينا.

وكم من شابّ نشأ في أسرة مؤمنة حريصة على دينها متمسكة بفضائلها، أرسلناه إلى تلك البلاد ليعود منها بالعلم، فعاد بشهادة بلا علم أو عاد بعلم بلا دين، أو ترك الدين والعلم هناك ورجع متأبطاً ذراع حليلة بيضاء شقراء، ولكن وراء بياض جلدها وشقرة شعرها قلباً أسود مملوءاً كفراً، يسري في قلوب أولاده منها.

ولقد عشت زماناً كنّا نقارع فيه الفرنسيين المستعمِرين في الشوارع نهاراً، ثم يأوي نفر منّا إلى بيوتهم فيجدون المستعمِرات الفرنسيات متحكمات في دورهم، ومربّيات لأولادهم، لا يملكون لهنّ قِراعاً ولا يثيرون عليهن حرباً. وهل يعلن أحدٌ الحربَ على زوجته وأم أولاده؟

وما ضعضع دولة العباسيين وزعزع أساس ملكها إلاّ الجواري الجميلات الفاتنات من بنات أعدائهم، صرن اللباس لهم في مضاجعهم والحبيبات المالكات أفئدتهم، وصرنَ أمهات أبنائهم، ثم صار الأمر لهؤلاء الأبناء فغدون الحاكمات من وراء ستار.

كنت أعرف هذا ولكن لا أشعر به تماماً لأنه بعيد عني، والناس لا يدركون حقيقة الخطر إلاّ إن شبّت النار في الدار

ص: 100

ونشبت الفأس في الرأس، عند ذلك يُحسّون بها. وقد أحسست أنا بالخطر حين أعلنَت وزارة المعارف في الشام سنة 1937 عن عزمها ابتعاث طالبَين اثنين للدراسة في فرنسا، أحدهما للرياضيات والآخر للعلوم. ولم تكن البعثات كل عام ولا كل خمسة أعوام، بل كانت قليلة نادرة، فكان الطلاّب يحرصون عليها ويتسابقون إليها.

وكان أخي عبد الغني نابغاً من صغره في الرياضيات، يدهش منه كل من علّمَه من الأساتذة ويفاخر به، كما كان متقدّماً في العلوم، فدخل المسابقة. وكنت أحبّ أن ينجح فيها ولكن ما فكّرت -إنْ نجح- في أمر سفره وحده، وإنما قلت: إن دخولها إن لم ينفع لم يضرّ. ودخلها كثير من الطلاّب، وكانت مسابقة صعبة شاقّة، ولكن الله منّ علينا فكان أخي هو الأول في مسابقة الرياضيات وهو الأول في مسابقة العلوم.

وذلك بفضل الله علينا؛ فلقد كان أبونا فقيهاً في الطبقة الأولى من فقهاء الشام، كما كان من أقدر مدرّسي الحساب، وهي خلّة في أسرتنا موروثة عن جدنا الشيخ محمد الذي قدم الشام من مصر، فلقد كان عالِماً من كبار علماء الدين وكان من كبار علماء الفلك. أمّا امتشاق القلم وركوب صهوة المنابر، ومصاولة الأقران في حلبات الأدب والبيان، فما أعرف في أسرتنا من انصرف إلى شيء منه قبلي. فمن أين جاءني؟ لست أدري.

لقد تقاسمنا أنا وإخوتي الاتجاهَين؛ فكان الغالب علينا أنا وأخي ناجي، القاضي في الشام والمستشار الآن في وزارة الحجّ

ص: 101

والأوقاف هنا من عشرين سنة، الغالب علينا الاشتغال بالفقه والعربية، إلاّ أن أخي ناجي يَنْظم الشعر، ويسهل عليه حتّى لكأنه يرتجله ارتجالاً. وله قصائد منشورة من خمسين سنة لم يجمعها، وكان (وأحسب أنه لا يزال) يحفظ من الشعر ما يندر أن يحفظ أحدٌ مثلَه في هذه الأيام. وأخواي الصغيران عبد الغني وسعيد غلب عليهما الاشتغال بالرياضيات (القديمة والحديثة) والعلوم، وإن كان لهما نصيب كبير من علوم الدين والعربية.

* * *

كنّا نرى أوربّا ناراً تحرق ونوراً يهدي، فكان المشايخ من أهلي وأساتذتي يرون نارها: يخشون حَرّها ويخافون ضُرّها، وكان الشباب يرجون نورها ويريدون خيرها. كنّا نتناقش في أمر هذه الحضارة الجديدة وهي بعيدة عنّا، وإن كانت بوادرها قد وصلت إلينا. فلمّا نجح أخي في المسابقة رأيت الخطر قد وصل إلى بيتي، بل إلى بيتنا، فلم يكن بيتي وحدي بل كان بيتي وبيت إخوتي. وكنت -بحكم أني الأكبر وأني استلمت مجداف الزورق بعد موت أبي عليه رحمة الله- أحسّ أنهم أولادي، وإن لم يكن بيني وبين أكثرهم في السنّ ما يسوّغ لي أبوّتهم. فكيف ألقي بولدي في هُوّةٍ مظلمة لست أدري أيخرج سالماً منها أم يهلك فيها؟

كانت محاربة هذه الحضارة والوقوف دون تغلغلها في حياتنا شبه مستحيلة، لأنها دخلت علينا على غير استئذان منّا، وصرنا أقرب في بيوتنا وفي أسواقنا وفي أزيائنا وفي طرائق معيشتنا، بل وفي تفكيرنا، صرنا أقرب إلى الأجانب منّا إلى ما كان عليه

ص: 102

أجدادنا قبل مئة سنة.

فما دمنا لا نستطيع وقف هذا السيل فلنحفر له مجرى يسيل فيه، لئلاّ يسيح في الأرض فيُغرق البلاد ويُهلك العباد. إذا كنّا لا نقدر أن نعتصم من هذا الوباء في أقفاص زجاجية خالية من جراثيم المرض، فلنأخذ اللقاح الواقي منه ثم لنقتحم عليه الحياة ولنسلك مسالكها. إن لم يكن بد من الدراسة في أوربّا فأَولى أن يذهب إليها شباب مسلمون ناشئون في طاعة الله متزوّدون من التقوى بزاد، من أن يذهب شُبّان لا يبالون بحلال أو حرام ولا يذكرون الله إلاّ قليلاً.

ولكن الذهاب لا يخلو من خطر، فلماذا أعرّض أخي لهذا الخطر؟ ولماذا أجعله هو محلّ هذه التجرِبة وهي تجرِبة موت أو حياة، إن لم يكن فيها الموت الذي تخرج فيه الروح ففيها موت شرّ منه، هو موت الإيمان والخلق والعفاف!

وكنت حديث عهد بدراسة الأدب الفرنسي، وكنت أحفظ المقطع الرائع في رواية «السيد» لكورناي حين تردّد بين واجبه في الانتقام لشرف أبيه ولو ضاعت منه حبيبته (شيمين) وبين الإبقاء على شيمين ولو هدر شرف أبيه! وما أصعب أن يتردد الإنسان بين أمرين لا يرجح أحدهما إلاّ ريثما يعود مرجوحاً. إنه كالذي كانوا قديماً يربطونه بين فرسَين قويَين يذهب هذا يميناً وهذا شمالاً فيتمزّق جسمه مزقاً.

في ذهاب أخي ضمان مستقبله وكفالة عمله، ولكنه شابّ غرير ما عرف من شرور الحياة ومكايدها شيئاً؛ كانت دنياه

ص: 103

بيته ومدرسته والطريق بينهما، وكان في نحو التاسعة عشرة من عمره. فكيف أبعث به إلى بلد لا نزال نسمع عنه من أخبار الفساد والإباحية وسهولة الوصول إلى الفاحشة ما يُشيب رأس طفل رضيع؟

وأنا لم أكن ممّن يرتاد القهوات، ولكنها فُتحت في تلك الأيام قهوة في طرف غوطة دمشق عند بوابة الصالحية كانت تُدعى قهوة فاروق، وهي أشبه بمتنزه، خالية من كل محرم، تقام فيها صلوات الجماعة إذا دخل وقتها، يقعد فيها من أساتذتنا: سليم الجندي وجودة الهاشمي ومحمد البزم، ومن إخواننا: سعيد الأفغاني وأنور العطار وحلمي اللحام ومحمد الجيرودي. وجاؤوا يهنئونني بنجاح أخي في المسابقة فقلت: ولكني لا أستطيع أن أحمل تبعة إرساله، أخاف أن يلومني هو يوماً أو أن يلومني الناس، وهذا كله أهون من أن يعاقبني الله في الآخرة إن أنا عرّضته لفتنة في دينه أو خلقه.

فأخذني جودة بك الهاشمي (وكانت له في نفوسنا ونفوس من كان قبلنا ومن جاء بعدنا من الطلاّب هيبة هي أقرب إلى الرهبة، لم نكن نجد مثلها لغيره، ولبث حيناً من الدهر مديراً لمدرستنا، مكتب عنبر) أخذني إلى منضدة قريبة خالية، وألقى بثقله كله عليّ ليقنعني بالموافقة ويخوّفني الندم إن أنا أضعت على أخي هذه الفرصة التي لا يتهيّأ مثلها كل يوم، وقال: اسأله هو.

وكنت قد سألته فترك الأمر إليّ، فزادني حملاً إلى حملي. فقلت للأستاذ: أستخير الله وأعود من الغد. وأمضينا ليلة نفكّر، أنا وهو وأخي ناجي ومن كان معنا من أصحابنا، فاجتمعوا على

ص: 104

أن الخير في سفره، فوافقت وأنا خائف.

ولست أنسى ليلة السفر. وقد أرادوا أن يخفّفوا عنه ويسلّوه، وكانت لمحمد عبد الوهاب أغنية جديدة هي «ليلة الوداع طال السهر، وقال لي قلبي: إيه الخبر؟ قلت: الحبايب هجروني» . وطفقوا يغنّونها، وقعدت أنا أتصور الوداع فتقطّع قلبي سلَفاً، لا لرهبة ساعة الوداع وحدها بل لما كنت أتوقعه بعد هذا الوداع.

وحان موعد عودتي إلى بيروت، وكنت -كما قلت لكم- أسافر إلى دمشق عشيّة الثلاثاء من كل أسبوع وأعود صباح السبت، فسافر أخواي ناجي وعبد الغني معي. وقطعنا له تذكرة على الباخرة «مارييت باشا» ، وكانت يومئذ من البواخر الكبيرة التي تسافر من بيروت إلى مرسيليا مجتازة الإسكندرية، تقطع في هذه السفرة ستّ ليال. خبّرني بعدها أنه لم ينم فيها ساعتين متصلتين، إذ كان البحر هائجاً، وكانت الباخرة تعلو حتّى تكون كأنها على رأس جبل صغير ثم تهبط فجأة، فيحس ركابها بقلوبهم لدى حناجرهم وبأن مِعَدهم قد قفزت إلى بلاعيمهم، فتنقلب فيندفع ما فيها.

ستّ ليال بلا نوم هنيء ولا طعام مريء ولا راحة ولا استقرار. فليذكر هذا الذين يقطعون هذه المسافة اليوم في ساعتين وهم مضطجعون على كراسيهم في طياراتهم، يضعون فنجان الشاي فلا يهتزّ ولا تنقط منه نقطة، يأكلون ويشربون وينامون وهم مستريحون.

* * *

ص: 105

لم أذهب معه إلى المرفأ، لأني لا أطيق مواقف الوداع وأهرب منها ما استطعت. وبقيت في الكلّية أنتظر على مثل جمر الغضى

وجمره (وقد عرفته) مثل الفحم الحجري. حتى رجع أخي ناجي فخبّرني أن السفينة قد مضت به. لم أنَمْ تلك الليلة، كنت أحاول أن أتخيل ما يصنع: كيف نزل إلى السفينة؟ وأين مكانه فيها؟ وماذا كان يشعر به؟ ولم أكن ركبت البحر لأسترجع ذكريات عرفتها، فكنت أستضيء بضوء الخيال وأمشي في طرق مظلمة وفي ليلة ما فيها قمر. وأمضيت ليالي كانت أشدّ عليّ وأنا على الأرض الثابتة في البلد الآمن من لياليه في الباخرة التي كانت ترقّصها الأمواج ويلعب بها البحر.

وكان قد سبقه إليها أخونا وابن أستاذنا محمد المبارك رحمة الله عليه، وهو أكبر منه، بيني وبين أخي ناجي، فكتب إليّ رحمه الله يطمئنني عليه ويصف لي حاله (وبقيَت رسالته عندي أمداً طويلاً ثم فقدتها) يخبرني أن أخي قدم إلى باريس وهو ما يزال في دمشق، ما عرف من باريس إلا الجامعة والمدينة الجامعية، حتى المسجد ما عرف طريق الوصول إليه حتّى دلّه المبارك عليه. وقال لي على عادته في مزاحه: لقد حاولت إغواءه وأخذه إلى حيث يذهب الشباب فأبى واشتدّ في الإباء! ولم يكن المبارك يغوي أو يؤم دور الغواية، ولكنها مزحة من مزحاته.

لقد نفعَت أخي عزلتُه وأفاده بُعدُه عن ملاهي باريس، التي تجذب الطلاّبَ بمصابيحها الساطعة على أبوابها كما تجذب النارُ الفراشَ فيتهاوى فيها. ولَمصيرُ الطلاّب في أضواء الملاهي أسوأ

ص: 106

من مصير الفراش في لهب النار؛ تلك تحترق فتصير رماداً وهؤلاء تأكل النار أرواحهم المؤمنة فيعودون أشباحاً بلا أرواح.

لقد درس فأعطى الدراسة حقها، ووجد في السوربون أساتذة علماء فأخذ منهم أحسن ما عندهم. وكان المنهج يومئذ أن من حصّل ثلاث شهادات (دبلومات) أو أربعاً نال الإجازة (أي الليسانس) واستعدّ للدكتوراة، ولم يكن في فرنسا يومئذ ماجستير. ولا تظنوا نيل هذه الشهادات سهلاً:

لا تحسَبِ المجدَ تمراً أنت آكلُهُ

لن تبلغَ المجدَ حتى تلعقَ الصبرا

واقرؤوا -إن شئتم- ما كتب الدكتور طه حسين في مذكّراته عن شهادة الليسانس في فرنسا وما يقوم دونها من الصعاب.

إن من الناس من يخدعهم أن المبتعَث يعود إلى دينه أول أيام بعثته، فإن لم يكن يصلّي في بلده صلّى هناك وإن لم يكن متمسكاً بالعبادة تمسّك بها. ولكن هذا ليس دليلاً على السلامة، فالمرض عندما تدخل جرثومته جسد الإنسان لا يظهر أثرها ولا تعمل عملها إلاّ بعد أن تنتهي مدة التفريخ. والمرء ما كان له مورد فإنه ينفق من مورده، من مرتّبه إن كان موظفاً ومن دخله إن كان عاملاً ومن ربحه إن كان تاجراً، فإن انقطع مورده رجع إلى ما كان قد ادّخره ليوم الضيق. وكذلك يصنع المبتعَث، يتنبّه إيمانه في نفسه حتّى يستنفد كل آثار هذا الإيمان ويخلو قلبه لتلقّي سموم حياته الجديدة.

ص: 107

لقد اعتكف أخي في غرفته في المدينة الجامعية، يغدو إلى السوربون يسمع الدرس ثم يعود إلى غرفته، يفكّر وحيداً ما معه إلاّ الله، ولقد تفجّرت في نفسه ينابيع إمدادات إلهية أودع جانباً منها رسائله إليّ، رسائل احتفظت بها وجمعتها ثم أعدتها إليه، فأضاعها أو أخفاها. فما أسفت على ضياع شيء ما أسفت على ضياعها، ولو وجدتها ونشرتها كما هي لكان منها كتاب يترك في نفس قارئه مثلما تترك قراءة الصفحات البارعات من كتاب الغزالي. فيها من الصفاء الروحي، من التأمّل، من الإيمان، من رؤية الحياة على حقيقتها

ماذا أقول؟ تصوّروا شاباً لم يصل إلى العشرين يعيش في باريس بلد المُغريات والمُغويات، وفي نفسه ما في نفس كل شابّ من الغريزة والميل إلى اللذّات، واللذّاتُ حوله متاحة مباحة وهو يمسك نفسه عنها، يمنعه دينه عنها، فهو يعتصم به كما يعتصم الموشك على الغرق بالخشبة الباقية من السفينة الغارقة، كيف يشدّ يده عليها يخاف أن يغفل عنها، أو أن تفلت منه فيخسرها فيخسر حياته معها.

لقد كتب أستاذنا الرافعي رحمة الله عليه قصّة عنوانها «في اللهب ولا تحترق» ، وقد بيّن أخونا الأستاذ العريان رحمه الله أيضاً) أنهم خدعوه، فلا يمكن أن يكون إنسانٌ في اللهب ولا يحترق. فلا تصدّقْ ذلك فتاةٌ فتدخل مداخل الفتنة وترجو أن تنجو. وللجاحظ كلمة عن القَيْنات (أي المغنّيات) في زمانه يشرح فيها أن نجاة القَينة من السقوط في الموبقات تكاد تُعَدّ من المستحيلات.

وأرسلت إليه رسالة، ما بعثت بها إليه في البريد ولكن

ص: 108

نشرتها في «الرسالة» . مضى على نشرها الآن نحو خمسين سنة ولكنها لا تزال تنفع كل طالب يريد أن يذهب للدراسة في باريس أو لندن أو أميركا، من شاء أن يقرأها كاملة فإنه يجدها في مجلة الرسالة في عدد الثالث من شوال سنة 1356هـ (1)، أنقل هنا فقرات منها ليستفيد منها بعض الشباب. ممّا قلت فيها:

يا أخي إنك تمشي إلى بلد مسحور (والعوذ بالله)، الذاهب إليه لا يؤوب، إلاّ أن يؤوب مخلوقاً جديداً وإنساناً آخر غير الذي ذهب؛ يتبدّل دماغه الذي في رأسه وقلبه الذي في صدره ولسانه الذي في فيه، وقد يتبدّل أولاده الذين هم في ظهره إذا حملهم في بطن أنثى جاء بها من هناك.

إي والله يا أخي، هذه حال أكثر من رأينا وعرفنا، إلاّ من عصم ربك. يذهبون أبناءَنا وإخوانَنا وأحباءنا، ويعودون عُداةً لنا دعاة لعدوّنا، جنداً لحربنا وعوناً لمستعمري بلادنا. لا أعني الاستعمار العسكري، فهو هيّن ليّن، ثم إننا قد شفينا منه بحمد الله أو كدنا. وإنما أعني استعمار الرؤوس بالعِلم الزائف، والقلوب بالفنّ الداعر، والألسنة باللغة الأخرى، وما يتبع ذلك من الأرتستات والسينمات وتلك الطامّات من المخدّرات والخمر وهاتيك الشرور.

فانتبه لنفسك واستعِن بالله، فإنك ستُقْدم على قوم لا يبالي أكثرهم العفاف ولا يحفل العرض، بل ليس في لغاتهم كلها كلمة

(1) وهي في كتاب «صور وخواطر» (مجاهد).

ص: 109

بمعنى العرض كما نفهم نحن معناه. سترى النساء في الطرقات والسُّوح والمعابر يعرضن أنفسهن عرض السلعة، قد أذلّتهن مدنية الغرب وأفسدتهن وهبطت بهن إلى الحضيض، فلا يأكلن خبزهن إلاّ مغموساً بدم الشرف. وأنت لا تعرف من النساء إلاّ أهلك: مخدَّرات مَصونات كالدرّ المكنون، شأن نساء الشرق المسلم، حيث المرأة عزيزة مكرّمة محجوبة مُخدَّرة، مَلِكة في بيتها، ليست من تلك الحِطّة والمذلّة في شيء. فإياك أن تفتنك امرأة منهم عن عفّتك ودينك، أو يذهب بلبك جمالٌ لها مزوّر أو ظاهر خدّاع. هي والله الحيّة: ملمس ناعم، وجلد لامع، ونقش بارع، ولكن في أنيابها السم

إياك والسم.

إن الله قد وضع في الإنسان هذه الشهوة وهذا الميل وجعل له من نفسه عدواً لحكمة أرادها، ولكنه أعطاه حصناً حصيناً يعتصم به وسلاحاً متيناً يدرأ به عن نفسه، فتحصّن بحصن الدين وجرّد سلاح العقل تَنْجُ من الأذى كله. واعلم أن الله جعل مع الفضيلة مكافأة: صحّة الجسم وطيب الذكر وراحة البال، ووضع في الرذيلة عقابها: ضعف الجسد وسوء القالة وتعب الفكر، ومن وراء ذلك الجنّة أو جهنّم. فإن عرضَت لك امرأة بزينتها وزخرفها فراقب الله وحكّم العقل، واذكر الأسرة والجدود. لا تنظر إلى ظاهرها البرّاق بل انظر إلى نفسها المظلمة القذرة، أتشرب من إناء ولغت فيه الكلاب؟

يا أخي، إن في باريس كل شيء: فيها الفسوق كله ولكن فيها العلم، فإن أنت عكفت على سماع المحاضرات وزيارة المكتبات وجدت من لذّة العقل ما ترى معه لذّة الجسم صفراً

ص: 110

على الشمال (كما يقول أصحابك الرياضيون) ووجدت من نفعها ما يعلّقك بها حتّى لا تفكّر في غيرها، فعليك بها. استقِ من هذا المورد الذي لا تجد مثله كلّ يوم، راجع وابحث واكتب وانشر، وعِشْ في هذه السماء العالية، ودَعْ مَن شاء يرتعْ في الأرض ويعِش على الجِيَف المعطرة.

غير أنك واجدٌ في ثنايا هذه الكتب التي كتبها القوم المستشرقون عن العربية والإسلام، وفي غضون هذه المحاضرات التي يُلقونها، عدواناً كثيراً على الحقّ وتبديلاً للواقع، فانتبه له، واقرأ ما تقرأ وأصغِ لما تسمع وعقلك في رأسك وإيمانك في صدرك. لا تأخذ كل ما يقولونه قضية مسلَّمة وحقيقة مقرّرة، فإن الحقّ هو الذي لا يكون باطلاً، ليس الحقّ ما كان قائله أوربّا. فانظر أبداً إلى ما قيل ودع مَن قال.

ثم إنك سترى مدينة كبيرة وشوارع وميادين ومصانع وعمارات، فلا يَهُولَنّك ما ترى ولا تحقر حياله نفسَك وبلدك كما يفعل أكثر من عرفنا من روّاد باريس. واعلم أنها إن تكن عظيمة وإن يكن أهلها متمدّنين فما أنت من مجاهل الأرض ولا أمّتك بسَفَلة الناس، وإنما أنت ابن المجد والحضارة، ابن الأساتذة الذين علّموا هؤلاء وجعلوهم ناساً، ابن الأمة التي لو حُذف اسمها من التاريخ لرجع تاريخ القرون الطويلة صحفاً بيضاً لا شيء فيها، إذ لم يكن في هذه القرون بشر يدوّن التاريخ تاريخه سواهم. فمَن هؤلاء الذين ترى؟ إنما هم أطفال، أبناء أربعة قرون، ولكن أمتك أخت الدهر، لمّا وُلد الدهر كانت شابة وستكون شابّة حين يموت الدهر.

ص: 111

يا أخي، إذا وجدت واسعاً من الوقت فادرس أحوال القوم وأوضاعهم في معايشهم وتجارتهم وصناعتهم ومدارسهم، وابحث عن أخلاقهم ومعتقداتهم، على أن تنظر بعين الناقد العاقل الذي يدوّن الحسنة لنتعلمها والسيئة لنجتنبها. ولا تكن كهؤلاء الذين كتبوا عن باريس من أبناء العرب فلم يروا إلاّ المحاسن والمزايا، ولا كأولئك الذين كتبوا عن الشرق من أبناء الغرب فلم يبصروا إلاّ المخازي والعيوب، ولكن كُن صادقاً أميناً.

وبعد يا أخي، فاعلم أن أثمن نعمة أنعمها الله عليك هي نعمة الإيمان، فاعرف قدرها واحمد الله عليها، وكُن مع الله ترَ الله معك، وراقب الله دائماً واذكر أنه مُطّلع عليك يَعصِمْك من الناس ويُعِذْك من الشيطان ويوفّقْك إلى الخير.

وفي اللحظة التي تشعر فيها أن دينك وأخلاقك في خطر، احزم أمتعتك وعد إلى بلدك وخلِّ «السوربون» تنعَ من بناها، وانفض يدك من العلم إذا كان العلم لا يجيء إلاّ بذهاب الدين والأخلاق.

أستودع الله نفسك ودينك وأخلاقك، والسلام عليك ورحمة الله.

* * *

هذه كلمة نشرتُها من نصف قرن إلاّ سنتين، يوم لم تكن أوربّا بلغت من دنس الأخلاق ورجس الفواحش ما هي عليه اليوم، يوم كان لكلمات الأخلاق والحشمة والحياء والمروءة بقية من معانيها ودلالاتها، لم تفقد معانيها كلها كما حصل اليوم. وقد

ص: 112

خفت على أخي، فما لبعض الآباء يُلقون بأولادهم في هذا النهر الملوّث وهم لا يحسنون السباحة؟ ما لهم يبعثون بشابّ أمضى عمره كله في بلد الدين والحجاب، ما رأى يوماً أطراف جسد امرأة غريبة عنه ولا خلا بها، شابّ بين جنبَيه من الرغبة جمرة تتلظّى، لو أبصر فتاة من بُعد عشرة أمتار لَهَفَا قلبه إليها وتمنّى الدنوّ منها، ودفع ربع عمره ليبصر ما تحت ثوبها، يرمون به إلى بلاد بعض النساء فيها سلعة رخيصة على جوانب الشوارع، وربما تعرّضن له إن لم يتعرّض هو لهن! إلى بلاد المنكرات فيها مُعلَنة والأعراض مستباحة، فإما أن يُميله الهوى ويقوده الشيطان فيقع في الحرام، وإما أن يضمّ جوانحه على مثل لذع النار.

فاتقوا الله أيها الآباء، اتقوا الله في الشباب يا من تبعثون بهم إلى تلكم الديار. وإن اضطرّتكم الضرورة إلى ابتعاثهم فزوّجوا الشابّ ثم أرسلوه، تَكْفِه زوجته بالحلال عن الحرام وتَقُمْ عليه حارساً لا يفارقه يمسكه أن يقع في جهنم.

أما أخي فقد وفّقه الله وعاد، وكان أولَ مَن حمل شهادة الدكتوراة في الرياضيات في سوريا كلها. وكان عدد الذين يحملون شهادة الدكتوراة في الشام وفي لبنان أقل من ثلاثين (وهو اليوم أستاذ في جامعة أم القرى، جاءها بعد أن أحيل في الشام على التقاعد)(1).

* * *

(1) تُوفي رحمه الله في جدة ودُفن فيها قبل شهرين من كتابتي لهذه الحاشية، في أول جمادى الآخرة من عام 1426 (مجاهد).

ص: 113