الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-120 -
دفاع عن الأطبّاء
كانوا يقولون قديماً: «وعداوةُ الشّعراءِ بئسَ المُقتنى» ، لأن مَن يعاديهم يتعرّض لألسنتهم ولا يسلم من هجائهم، ومن الهجاء ما يهبط بالعالي ويُذِلّ العزيز ويفضح المستور. على أن عداوة الأطبّاء أشدّ من عداوة الشعراء، فالأطبّاء بيدهم أسباب الموت والحياة، وإن كانت الحياة والموت بيد الله، وقد توجد الأسباب ولا يكون المسبّب. والشعراء لا يستطيعون أن يُميتوا أحداً. ولقد كان الناس يخشون لسان الفرزدق، فجاءه مرّة رجل من غمار الناس يقول له: هل أموت إذا هجوتَني؟ قال: لا. قال: هل تموت امرأتي أمّ كذا؟ (ونسيت أم ماذا) قال لا. قال: هل يموت حماري؟ قال: لا. فأسمعه كلمة سبّ فظيعة لا أستطيع أن أرويها.
على أنني ما عاديت الأطبّاء ولا أستطيع أن أعاديهم، لأنهم من ركائز الحضارة البشرية ولأنهم من رموزها الظاهرة. للحضارة رموز تُقاس بها، منها الحاكم العادل، منها القضاء الحرّ النزيه، منها التعامل بين الناس، منها الأطبّاء والمحامون وأرباب المهن ومعاملتهم واستقامتهم أو انحرافهم
…
فلا تظنّوا أني عدوّ
للأطبّاء، فإن الذي يبيّن للإنسان مرضه ليعمل على الخلاص منه يكون صديقاً ولا يكون عدواً، وهذا الذي صنعته أنا مع الأطبّاء. هم يبيّنون للناس أمراضاً ليداووها، وأنا بينت لبعض الأطبّاء بعضَ أمراضهم الخلُقية والاجتماعية ليعملوا على الخلاص منها.
ولي بين الأطبّاء أصدقاء، ولي من الأطبّاء أساتذة وإخوة كرام.
وعندي من طرائف الحوادث مما يُسجَّل لهم مثل الذي ذكرت بعضه فسُجّل عليهم. من ذلك أنه كان عندنا في المدرسة الثانوية (مكتب عنبر) طبيب معروف اسمه الدكتور يحيى الشمّاع، كان يدرّس لنا الكيمياء، فلما انتهى عهدي بالدراسة صرت صديقاً لمن كان أستاذاً لي في المدرسة، شرّفوني بمودّتهم وفتحوا لي أبوابهم، فكنت أتردّد عليهم لا طمعاً بدنيا أنالها منهم بل وفاء لهم واعترافاً بفضلهم.
زرت الدكتور الشمّاع يوماً مبكّراً، وكان جاراً لنا في المهاجرين، أصحبه إلى البلد فأستفيد منه على الطريق. وكان من عادته أن ينزل إلى البلد ماشياً، ولكنه كان في ذلك اليوم مستعجلاً فركبنا الترام من أول الخطّ حيث يقلّ الركّاب، ودخلنا مقصورة الدرجة الأولى فلم نجد فيها إلاّ أحد جيراننا، وهو رجل كهل وقور، فسلّم على الدكتور وعليّ، ثم شكا إليه ألماً يجده في بطنه وأخذ يصفه له، فقال له الدكتور: تفضل معي إلى العيادة لأكشف عليك. قال: لماذا العيادة؟ وتمدّد على مقاعد الترام وبسط رجلَيه وكشف عن بطنه وقال: ها هنا الألم. وكنّا قد بلغنا المحطّة التالية
وبدأ الناس يصعدون إلى الترام، فرأوا منظراً عجباً!
فللأطبّاء على الناس أنهم يستغلون وجودهم حيثما وجدوهم ليتداوَوا من غير أن يدفعوا أجرة المداواة. وأكثر الأطبّاء يستحيي فلا يعترض، أو يكون الذي صنع ذلك صديقاً له عزيزاً عليه يحترمه فلا يقدر أن يصرّح له.
وقد حدّثني الدكتور الشماع نفسه أن جماعة جاؤوه وهو راجع من صلاة الفجر، والجوّ لم يخلص من غبَش الليل وإن تعارفَت الوجوه، فشكوا إليه أن عندهم مريضاً حالته مخطرة وآلامه شديدة ولا يستطيع أن ينزل إليه ليفحصه. وكان هذا الطبيب طيّب القلب لين الجانب، فقال: هلمّوا بنا، أنا أذهب إليه.
وحيّ المهاجرين في الشام مبنيّ من غير تخطيط سابق، ففيه الجادة الأولى التي يمشي بها الترام تمتد ما بين المشرق والمغرب، وفوقها الجادة الثانية موازية لها فالثالثة فالرابعة (وقد بلغن الآن أكثر من عشر جادّات) وطرق صاعدة توصل من جادة إلى جادة. وكان المريض في الجادة العاشرة ولا تستطيع السيارة أن تصل إليها. وكان الدكتور ممتلئ الجسم ثقيل الوزن كبير السنّ، ولكنه آثر -كما حدّثني- رضا الله والعمل الإنساني على راحته، فمشى معهم، فلم يكد يصل إلى البيت حتّى أوشك أن يسقط من التعب. فلما بلغ باب الدار جاء من يخبر مَن معه أن المريض شفي ولا يحتاجون إلى الطبيب. وقالوا له: اصرفه لئلاّ ندفع أجرته.
فحاول الرجل أن يعتذر إلى الدكتور ليصرفه، ولكنه خجل
منه أن يعود من غير أن يستريح فدعاه إلى الدخول، فدخل وقال: أين المريض؟ فحاروا ماذا يقولون له وتردّدوا وارتبكوا، ثم قال واحد منهم: لقد شفي المريض ولم تبق حاجة لأن تُتعِب نفسك برؤيته. قال الدكتور: دعوني لكي أراه ولا أريد منكم شيئاً لأنكم جيراننا. فأخذوه إليه مُرغَمين، فلما وصل إلى فراشه وأحسّ به المريض لفّ نفسه باللحاف حتّى لم يَعُد يبدو منه شيء وصار كأنه كرة مدوّرة، فمدّ الطبيب يده ليستخرج كفّه فيرى نبضه فخبّأها منه، وما زال به وهو يبتعد عنه كأنما هي رواية هزلية أو كأنها مصارعة يحمي بها المصارع نفسه من هجمة الخصم! حتّى يئس منه فتركه ونزل.
* * *
وإذا كان في الأطبّاء من يريد أن يأخذ أكثر من حقه وأن يستلب المريض أمواله، وإذا كانت بعض المستشفيات الخاصّة إنما أنشئت لغرض تجاري هو جمع المال واستعجال الغِنى، تريد أن تجرّد المريض من كل ما في كيسه من مال، ولو استطاعت لجرّدَت عظامه من اللحم الذي يلتصق بها، فإن من الناس من يظلم الأطبّاء ويعتدي على حقوقهم ويسرقهم ويأخذ منهم ولا يعطيهم.
لاحظوا أنني قلت «بعض المستشفيات» ولم أعمّها كلها ولم أعيّن بلدة بعينها، فهذا وصفٌ مَن كان متصفاً به من أصحاب المستشفيات فليستغفر الله وليعُد إلى الصواب، ومن كان بعيداً عن هذا الوصف فما ناله منه شيء.
ومن العادات المألوفة عند العوامّ من أهل الشام، لا سيما النساء منهم، أن الواحدة إذا اشترت شيئاً ثميناً، خاتماً أو سواراً، أخذت «على البيعة» قطعة صغيرة لا تدفع ثمنها، فإذا اشترت غرفة نوم مثلاً طلبَت على البيعة كرسياً أو وسادة زائدة. ولقد رأيت من يصنع ذلك مع الأطبّاء؛ مرض مرّة أحد أصدقائنا من التجّار الموسرين واحتاج إلى طبيب متخصّص يعوده في داره لأنه لا يستطيع أن يذهب إليه في عيادته، وكان الطبيب صديقاً لي، وكان كثير الزبائن ضيّق الوقت مزدحم الأعمال، لذلك كان أجره غالياً، والمريض -على غناه- لا يحبّ أن يدفع كثيراً، فكلّمت الطبيب حتّى أسقط عنه نصف الأجر المعتاد الذي يأخذه من غيره.
وذهبنا إليه في داره، فلما انتهى من الفحص عن مرضه وأخذ الأجرة المخفّضة التي اتفقنا عليها وودّعناه نادانا قبل أن نصل إلى الباب: يا دكتور يادكتور
…
فالتفت الدكتور ليرى ماذا يريد، فقال له: من فضلك هذا الولد تعبان ومتألّم فأرجو أن تفحصه «على البيعة» !
ومن المرضى مَن إذا أكمل الطبيب الكشف عليه جاءه بأخيه أو بابن أخيه أو برفيق له فسأله عن مرض يشكو منه ليكتب له وصفة دوائه «على البيعة» .
نقابة المحامين في كلّ بلد تقرر أجرة للاستشارة الحقوقية، ومن كبار المحامين من لا يرافع في المحاكم ولكنه يدرس القضايا ويعطي مشورته فيها، ونجد مع ذلك كثيراً من أصحاب القضايا
يريد أن يأخذ المشورة بالمجّان. وأنا تأتيني رسائل كثيرة فيها أسئلة ظاهرُها سؤال فقهي أو ثقافي لأجيب عنها في أحد برنامجَيّ في الإذاعة وفي الرائي، وهي في الحقيقة خلاصة لدعوى قائمة في المحكمة، فهو يسرد لي تفاصيلها ووقائعها ليسألني عن الحكم الشرعي فيها، وما يريد معرفة الحكم وإنما يريد كسب القضية؛ أي أن هذا الجواب الذي يسعى لأخذه مني لو ذهب إلى محام متفرغ للاستشارات الحقوقية لطلب منه ثمن الجواب خمسة آلاف أو عشرة آلاف.
ولا أقول هذا لأتكلم عن نفسي، بل لأبين أن السرقات كما تكون مادّية (أي سرقة أموال وأشياء) تكون معنوية.
ومن الناس من يسرق من الأطبّاء من غير أن يدفع الثمن الشرعي لما يأخذه منهم، يَلقى أحدُهم الطبيبَ في مجلس من المجالس أو في طريق من الطرق فيحدّثه عن مرضه ويصفه له ويسأله عن طريق علاجه، بدلاً من أن يذهب إليه في عيادته على الطريقة التي وُجدت العيادات من أجلها. ومنهم من يطلب العلاج مجّاناً من البرامج الطبّية في الإذاعة أو في الرائي أو في الأبواب المخصّصة لأسئلة القراء في المجلاّت الطبّية والعلمية.
* * *
أنا لست طبيباً ولا ناقداً طِبّياً لِما يُذاع ولما يُنشر، ولا أقرّر هنا حقائق علمية أوجبها على الناس، وإنما أسرد ذكريات لما رأيت ولما سمعت.
أصابتني مرّة حكّة شديدة في موضع يصعب الوصول إليه لحكّه ولو من فوق الثياب، حتّى إنني كنت أُضطرّ إلى الوقوف في جانب الطريق لا أستطيع أن أوالي سيري ممّا أحسّ به من هذه الحكّة. ولقد شققت جيب بنطالي لأدخل يدي منه فأحك هذا الموضع. فلما طال ذلك عليّ واشتدّ بي ذهبت إلى كبير أطبّاء الأمراض الجلدية في كلية الطبّ في الشام، وهو الدكتور محمد محرّم. وكان أستاذاً لنا في مكتب عنبر مدّة من الزمان، وكان أبوه مصباح بك محرّم رئيس محكمة التمييز أيام الحكم الفيصلي في سورية في آخر الحرب العالمية الأولى. وكان الدكتور محمد أستاذاً كبيراً وعالِماً وكان وقوراً، فكيف أكشف له عن موضع يُستحيا من كشفه أمام الطبيب العادي؟ وكيف أكشفه لأستاذ له هيبته في قلبي واحترامه يملأ جوانب نفسي، ولكن:
إذا لم يكن إلاّ الأسنّةُ مركَباً
…
فما حيلةُ المضطرّ إلاّ ركوبُها
ذهبت إليه وصنعت ما كنت أخاف منه وأتهيّبه، فطمأنني الدكتور وقال: لا تخَف، فليس هذا مرضاً ولكنه انعكاس عصبي يكون من ضيق تشعر به أو أمر تتردّد فيه أو مشكلة وقعتَ فيها، وسأكتب لك بعض المهدّئات الخفيفة التي لا تضرّ، وأظنّ أن هذا الذي تشكو منه سيذهب بإذن الله.
وكتب لي الوصفة وأخذتها، ومرّ على ذلك أكثر من شهر، ثم لقيت الأستاذ فسألني عمّا كنت أجد فقلت له: الحمد لله، لقد زال تماماً. قال: إن الأمر كما قلت، فقد كفَت هذه المهدّئات الخفيفة لدفع سبب ما كنت تشعر به. فضحكت وقلت: ولكني يا
سيدي ما اشتريت الدواء ولا استعملته، وإنما اكتفيت بكلامك.
من هذه الحادثة التي مرّت بي ومثيلات لها (رأيتها بنفسي أو رأيتها فيمن أعرف من الناس) تبيّن لي أمر، ما أدري هل الذي وصلت إليه حقّ يُقرّه الأطبّاء أو هو وهم أديب يتكلم في الطبّ بلا علم؟ وجدت أننا إذا تركنا الأمراض المعروفة التي تثبت بأعراض ظاهرة أو بفحص مجهري أو بتحليل كيميائي، إذا تركنا هذه الأمراض وجدنا أن كثيراً جداً من الآلام التي نحسّ بها في مفاصلنا تارة وفي رؤوسنا (في الصداع العادي بأنواعه) وفي صداع الشقيقة (أي نصف الرأس)، أكثر هذه الآلام التي نراجع الأطبّاء فيها مَنشؤه نفسي لا جسدي. فهل هذا الذي قلته صحيح؟
لا ينكر أحدٌ الصلةَ بين الحالة النفسية والأعراض الجسدية بل الأمراض أيضاً، فكما أن الغضب يزيد ضربات القلب والحزن الشديد يقلّلها واشتغال الفكر يُذهِب النوم
…
فإن أمراضاً تنشأ من أمثال هذه الأسباب.
ولقد قرأت من قديم أن «المريض الوهمي» في قصّة موليير يُحِسّ الآلام نفسها التي يُحِسّ بها المريض حقيقة. ولقد كنّا نسمع ونحن صغار من جداتنا الحكاية الشعبية المشهورة، أن صبيان الكتّاب أحبّوا أن يهربوا منه فاتفقوا على أمر، فجاء واحد منهم إلى الشيخ فقال له: يا شيخي وجهك أصفر. فزجره الشيخ ورفع عليه العصا. فجاء الثاني بعد قليل فقال: يا شيخي وجهك أصفر. فزجره زجراً أقلّ من الأول. ولمّا جاء الثالث والرابع بدأ يصدّق،
فلما قال له التلميذ التاسع: يا شيخي وجهك أصفر
…
اصفرّ وجهه فعلاً وبدأ يُحِسّ المرض، وأغلق الكُتّاب وذهب إلى الدار!
كنت في شبابي أذهب كلّ سنة إلى طبيب لا يعرفني فأقول له: أريد أن تفحصني فحصاً عاماً. فيفعل ويستعين بالصور الشعاعية بناء على طلب مني وبالتحاليل الممكنة كلها وبالفحص السريري، فإذا انتهى قال لي متعجباً: ما الذي تشكو منه؟ قلت: لا أشكو من شيء. فيقول: لماذا جئت إذن وليس فيك شيء وجسدك صحيح؟ فأقول: جئت أسمع منك هذه الكلمة.
إذا قلت للرجل الصحيح: "إنك متعب تبدو عليك بوادر المرض" فإنك تقربه بهذا إلى المرض. وإذا قلت لمن هو في أوائل المرض: "إنك صحيح قوي الجسم، القوّة ظاهرة عليك والصحّة بادية على وجهك" فإنك تبعده بذلك ولو شيئاً قليلاً عن المرض.
* * *
وممّا هو للأطبّاء على المرضى (وقد رأيت لذلك أمثالاً كثيرة) أن المريض يذهب إلى الطبيب، فإذا فحص عن مرضه وكشف عليه وكتب له الدواء جرّب من هذا الدواء أقراصاً معدودة (إذا كان الدواء في أقراص) أو ملاعق قليلة (إذا كان الدواء شراباً)، فإذا لم يجد أنه شُفي ترك هذه الأدوية وذهب إلى طبيب آخر ليفحصه كما صنع الأول، فيكتب له الدواء فيهمله كما أهمل الدواء الأول. فإذا ذهب إلى عدد من الأطبّاء واجتمعَت عنده مجموعة من الوصفات الطبية ومن قوارير الأشربة وعلب
الأقراص التي لم يأخذ منها إلاّ أقلّها ولم يجد الشفاء، ذهب فشهّر بالأطبّاء وتكلّم عنهم ونسب إليهم الجهل.
وربما شرح الطبيب للمريض كيف يستعمل الدواء فلم يفهم شرحه، أو لم يعمل به، ثم نسب الخطأ إليه.
كان لي ابن عمّ من أوائل الذين تخرجوا في كلية الطبّ في دمشق. تخرج فيها طبيباً سنة 1920، وتنقّل في البلاد ثم استقرّ في دوما التي تكلّمت عنها وأنا قاض بها منذ حلقتين. وكان يأتيه بعض المرضى من البدو النازلين حولها، فجاءه مرّة ثلاثة من الشبّان بأم لهم عجوز كبيرة لا تكاد تقدر على المشي، ففحص عن مرضها وعرفه. ولم يكن في دوما يومئذ صيدلية، وكان يجوز للأطبّاء في هذه الحال أن يركّبوا هم الدواء وأن يبيعوه. فغلى الماء وركّب لهم شراباً أعدّه لهم، ووضعه في قارورة وأحكم إغلاقها، ودفعها إلى الأولاد وقال لهم: تأخذ منها كل ساعتين ملعقة، على أن تخضّوها قبل إعطاء الدواء.
وأخذوا أمهم وقارورة الدواء وانصرفوا. وكانت مدّة العلاج خمسة أيام على أن يعودوا إليه بعدها ليرى ماذا انتهت إليه حال المريضة، والقاعدة عندنا في الشام أن العودة لمثل هذا السؤال لا تكلّف المريض مالاً، بل يكتفي الطبيب بما أخذ عند الفحص الأول.
مضت الأيام فسمع وهو في عيادته صراخاً من الشارع: آه، آه، آه
…
وتبيّن منه صوتَ العجوز التي فحصها، فخرج ينظر.
وكانت قد وصلت ودخلت إلى العيادة، فقالت له العجوز: آه آه يا دكتور، ما استفدت شيئاً، لقد أهلكوني من كثرة الخَضّ، لقد تقطّعَت أعضائي وتمزّقَت مفاصلي. فسألهم متعجباً: ماذا صنعتم بها؟ ألم تعطوها الدواء في مواعيده؟ قالوا: بلى، أعطيناها الدواء ولكنها ما كانت تقبل الخضّ وتألّمَت منه، فسمعنا رأيك وأعرضنا عن احتجاجها. قال: ويلكم، ماذا عملتم بها؟ قالوا: ألم تقل لنا ينبغي أن نخضها جيداً قبل أن نسقيها الدواء؟ ظنّوا بأن الواجب خضّ الأم لا خضّ القارورة! وكانوا شباباً أقوياء فكان يمسك أحدهم بيديها والآخر برجليها ثم يهزّونها هزاً ويشدّونها ويدفعونها قبل أن تأخذ الدواء، حتّى ذهبوا بالبقية الباقية من قوّتها ومن جَلَدها.
وخبّرني مرّة أنه صنع شراباً لمريض، وسلّم إليه قارورته وقال له: تأخذ منه كل يوم ثلاثة فناجين قهوة بعد الأكل. فرجع إليه بعد أيام وخبّره أنه أخذ الفناجين ولم يستفِد شيئاً. فقال الطبيب: فناجين ماذا؟ قال: "والله يا دكتور فناجين قهوة بالهيل والزعفران، قهوة أصولية، ولكنها لم تشفِني من المرض"
…
ظنّ بأنها ثلاثة فناجين من القهوة، وإنما أراد الطبيب ملء ثلاثة فناجين من الشراب!
وممّا هو للأطبّاء على الناس: أن بعض المرضى من الناس يدَعون الطبيب الإخصائي في المرض ويذهبون إلى طبيب مبتدئ، فيهملون رأي الطبيب الأستاذ ويأخذون رأي الطبيب الجديد. وربما داوى المرضى مَن ليس بطبيب؛ الصيدلي مثلاً قد
يكون عنده في صيدليته عشرون ألف دواء يعرفها ويعرف أسماءها ويعرف مصانعها، وربما أحاط بعناصرها التي تركّبَت منها، ولا يجوز له مع هذا أن يصف دواء. وربما استعان الناس بطالب الطب وسَمّوه في أسرته طبيباً وبينه وبين شهادة الطب سنتان أو ثلاث سنوات ورجعوا إليه وسألوه، وربما صنع معهم ما صنع مساعد الطبيب قديماً.
زعموا أن طبيباً كان له تلميذ يساعده ويصحبه ويمشي معه أينما مشى ليتعلم منه، يوم لم تكن كلّيات الطبّ قد وُجدت على شكلها الذي نعرفه الآن. فذهبا مرّة يعودان مريضاً كان قد فرض عليه الطبيب حمية منعه فيها من أكل السمك، فقال له: لماذا خالفت عن أمري وأكلت سمكة؟ فحاول المريض أن ينكر فقال له: اعترف خير لك فإنّ لدي الدليل. فاعترف بأنه أكل السمك. ولما انفرد الطبيب بمساعده سأله: من أين عرفت أنه أكل سمكاً؟ قال الطبيب: ألم ترَ حَسَك السمك مُلقى على الباب؟
وشُغل الطبيب فبعث مساعده ليرى حال المريض، فلما دخل عليه قال له: لماذا أكلت حماراً؟ قال المريض ومن أين لك أني أكلت حماراً؟ وهل يأكل الناس الحمير؟ قال: لا تُنكر، فإنني رأيت برذعة الحمار على الباب!
* * *
على أن ممّا يُسجّل للأطبّاء أن في كثير ممّن عرفت منهم نبلاً وخُلُقاً وإيثاراً وعملاً به، فمنهم من يساعد الفقراء فلا يَرزؤهم شيئاً، بل ربما أعطاهم من جيبه ثمن الدواء. وكثير من الأساتذة
الكبار من لا يأخذ شيئاً من إخوانه ومن أصدقائه. رأيت ذلك من كبير الأطبّاء الدكتور حسني سبح حفظه الله، ومن أستاذ الأطبّاء الدكتور حمدي الخياط رحمه الله.
والدكتور حمدي الخياط أول طبيب في الشام اشتغل بالجراثيم (البكتيريا) وأنشأ مخبراً للتحليلات، سبق به البلاد المجاورة لنا، وجاء على أثره من تلاميذه من يمتلك مختبرات عظيمة حقيقة، منهم الدكتور محمد الهوّاري، ومنهم ولده الدكتور هيثم الخيّاط الذي نال الشهادة الثانوية وشهادة الطبّ والدكتوراة في الطبّ وهو أصغر أقرانه سناً في جميع البلاد. وممّن مشى على أثره الدكتور سميح الخضراء، صاحب المختبر الكبير في جدّة.
ومن أنبل الأطبّاء وأكثرهم تتبّعاً لكل جديد الدكتور شفيق شحادة في دمشق. ولست أريد أن أقوم بدعاية لهؤلاء الأطبّاء، فهم في جِدّهم ونجاحهم وإخلاصهم في عملهم وكثرة زبائنهم مستغنون عنها، ولكني أردت أن أقول إن في الأطبّاء نبلاً وفيهم فضلاً، وإن عندنا في بلادنا (في المملكة هنا وفي الشام وفي مصر وفي العراق) أطبّاء كباراً نستطيع أن نستغني بعلمهم وبخبرتهم عن مراجعة الأطبّاء في البلاد الأخرى. ولقد جُلْتُ في كثير من بلاد أوربّا الغربية فكنت أجد في كل مستشفى كبير طبيباً عربياً، رئيس قسم من الأقسام يُعتمَد عليه ويُرجَع إليه.
وكنّا قديماً كلّما مرض منّا مريضٌ قالوا لنا: خذوه إلى بيروت. ثم صارت «الموضة» الآن أن نأخذه إلى لندن أو إلى
أميركا. ولقد كتبت مقالة في جريدة «الأيام» في دمشق من أكثر من ربع قرن عنوانها «إن عندنا أطبّاء» . نعم، إن عندنا أطبّاء وعندنا مستشفيات وعندنا تجهيزات ووسائل للشفاء، كل هذا عندنا، ولكن ليست عندنا الثقة بأنفسنا.
فإذا وثقنا بأنفسنا وأطبّائنا، وراجع الأطبّاء أنفسهم فنزّهوها عن عيوبها واستكملوا فضائلها، لم نحتَجْ معهم إلى غيرهم.
* * *