المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌«قصة» انتهت بنقلي إلى البصرة - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌«قصة» انتهت بنقلي إلى البصرة

-102 -

«قصّة» انتهت بنقلي إلى البصرة

علّمونا ونحن صغار أن الولد المهذب هو الذي لا يرفع بصره عن الأرض إذا كان مع الكبار، وإذا قعد أمامهم ضمّ أعضاءه بعضها إلى بعض وأحنى رأسه ولم يتكلم حتّى يُسأل، وإن سُئل خفض بالجواب صوته، وكلّما نطق بجملة أعقبها بقوله «سيدي» ، وإن قابل كبيراً قبّل يده ورفعها إلى جبينه. ثم تعلّمنا في المدرسة أن المسلم يكون أبداً عزيز النفس مرفوع الرأس جريئاً، إن تكلّم أسمع.

أي أنهم وجّهونا وجهتين متعارضتين، فكان عليّ أن أمشي إلى الوراء وأنا أتقدم إلى الأمام، وأن أصعد نازلاً وأنزل صاعداً.

وكنّا في ذلك صورة من عصرنا؛ فلقد كان -كما قلت مرّات- عصر انتقال من حال إلى حال، مرّ بمثله العرب لمّا حملوا الإسلام ففتحوا به البلدان، ومرّ به الرومان لما أخضعوا أمة اليونان، ولا تزال الأمم تمرّ بمثله في كلّ زمان ومكان.

كنّا في عزلة عن أوربّا، عزلة مادّية وفكرية، لم نُشِد حضارة

ص: 29

مثل حضارة أجدادنا ولم نقتبس ممّا شاد غيرنا. كان بيننا وبينهم باب، ولكنه لم يكن محكَم الإغلاق بل كان فيه فرجة يدخل علينا منها بعض الجديد، فكان ممّن سبقونا قليلاً مَن نال نصيباً (كان يُعَدّ يومئذ كبيراً) من جديد أوربّا. كان منهم من درس في إسطنبول ومن درس في فرنسا وإنكلترا، ولكن هذا النفر القليل لم يكن له أثر ظاهر في حياتنا. فلما كانت الرجّة الكبرى 1914 حرّكت هذا الباب بيننا وبينهم، فلما انتهت الحرب سنة 1918 فُتح الباب على مصراعَيه.

من هنا ظهر في مجتمعنا الازدواج: في أساليب الحياة وفي طريق التفكير وفي كثير من المظاهر. وكنّا نحن الذين تلقّوا منه الصدمة الأولى، لأنني وأمثالي كنّا في سنة 1918 في أواخر المدرسة الابتدائية؛ فمن هنا ما ترون من الازدواج أحياناً في تفكيري وفي سلوكي: ما بين محافظة على القديم وتمسّك به ودفاع عنه، وأخذ بالجديد وحماسة له. وما بين اشتغال بالعلوم الأزهرية من الفقه والحديث والتجويد وأخواتها وإقبال عليها وملازمة لعلمائها، ومن حرص على الأدب وعناية به، وتتبّع لقديمه وجديده وأساليب أهله ومذاهب نُقّاده.

حتّى نتج عن ذلك أنهم لمّا أنشؤوا في مصر والشام أيام الوحدة لجاناً ومؤسسات للأدب، نثره وشعره، أقصوني عنها وقالوا: هذا شيخ فقيه. ولما ألّفوا المجالس الفقهية أبعدوني عنها، وقالوا: هذا رجل أديب!

وما أقول هذا أسفاً على ما ضاع عليّ منها، لا والله. ولو

ص: 30

دعوني إليها لهربت منها، ذلك لأن طبعي يأبى عليّ العمل الجماعي، إلاّ أن أُدعى إلى خطبة أخطبها أو محاضرة ألقيها أو رأي أُبديه ثم أمضي في سبيلي، وما انتسبت في حياتي إلى حزب ولا جمعية ولا هيئة، وكل ما عملته عملته وحدي صادراً عن إيماني وقناعتي، فإن وافق خُطّة قوم كنت معهم في هذا العمل وحده الذي وافق خُطّتي، فإن انقضى العمل المشترَك مضيت في طريقي ومضى كلّ واحد منهم في طريقه. كالذي يريد أن يسافر من مكّة إلى الشام فيرافق من يريد السفر إلى القاهرة، يمشي معه في الطريق المشترَك من مكّة إلى جدة، ثم يتابع كلّ منهما طريقه إلى غايته.

وممّا ركّب الله في طبعي أنني طري باللطف أَبيّ على العنف، فمن جاءني من باب اللين والمسايرة والرفق غلبني، ومن جاءني من طريق التحدي والمكاسرة نازلته فكسرني أو كسرته.

ولما كنت أدرّس في الثانوية المركزية أول عهدي ببغداد دخل عليّ الصف (الفصل) يوماً شابّ في مثل سِنّي أو يكبرني قليلاً. وكان من عادتي في دروسي أن أدع الباب مفتوحاً، فمن شاء أن يدخل دخل ومن أراد من طلاّبي أن يخرج خرج، لا أمنعه ولا أجبره على أن يستمع إليّ بالعصا. ولو فتح الطالب كتاب الكيمياء في درس الأدب، بل لو قرأ قصّة من القصص لما قلت له شيئاً، ما كنت أمنع إلاّ شيئاً واحداً هو أن يُحدِث الطالب صوتاً يعكّر عليّ صفاء درسي، فإن لم يكن منه صوت فَعَل ما أراد، ممّا لا يحرّمه شرع ولا قانون ولا عُرف.

ص: 31

حسبت هذا الشابّ أحد الذين يدخلون ليستمعوا، ولم يكن ذا سِنّ ولا هيبة ولا شيءَ فيه يدلّ عليه، فقعد في آخر الصف ومضيت في درسي، ورأيته قد أخرج دفتراً صغيراً فجعل يكتب فيه فقلت: حريص على الفوائد يدوّنها لئلاّ ينساها.

فلما انتهى الدرس وخرجنا لحقني الطلاّب على عادتهم يمشون معي، ومشى هو معهم. فلما انتهينا إلى غرفة الأساتذة رجعوا ودخلت فدخل هو معي، وافتتح القول بالثناء على درسي الذي سمعه وعلى مقالاتي التي قال إنه كان يقرؤها في «الرسالة» . وأنا لا أجد في مثل هذه الحال ما أقوله، لأن من سألني عمّا أعرفه أجبتُه، ومَن حيّاني حيّيته، ومن شتمني شتمته، أما الذي لا ينطق إلاّ بمدحي فماذا أقول له؟ اللهمّ إلاّ كلمات الشكر أعيدها وأكرّرها، ولا أتمنّى إلاّ أن يخلّصني الله من هذا الموقف الذي أراه (إلى الآن) أشَقّ المواقف عليّ.

فلما ظنّ أنه خدّرني بمدحه وأنه تمكّن مني، وأنه عقل لساني بالحياء عن جوابه قال: أعرّفك بنفسي، أنا الدكتور فلان من مصر، المفتّش الاختصاصي للّغة العربية.

وأحسست أنه مدّ باللقب صوته ونصب عنده قامته، ودانى ما بين حاجبَيه ووقف وقفة القائد الذي يريد أن يُلقي أوامره فتُطاع. وأنا مهما حاولت أن أروّض نفسي على طاعة المفتّشين والرؤساء لا أستطيع، وأجدني مدفوعاً دفعاً لا يُقاوَم إلى المنازلة وإلى مجابهة مَن يأمرني وينهاني مستعلياً، بما يكره، إلاّ اثنين من المفتّشين والرؤساء؛ الأول: مَن كنت أرى له الفضل عليّ بعلم أو سنّ أو تجرِبة، كالمفتّش مصطفى تمر الذي كان أبا التعليم في

ص: 32

سوريا رحمة الله عليه، والذي كان أستاذنا وأستاذ مَن هم قبلنا، وكنّا ونحن معلّمون أمامه تلاميذ، نسمع منه كل يوم جديداً من العلم لا نعرفه أو خلاصة تجرِبة في الحياة لم نمرّ بمثلها. والثاني: مَن يجيء باللطف والأدب واللين، لا يُشعِرك بأنه فوقك وأن له عليك سلطاناً.

ولم يكن هذا المفتّش الذي دخل عليّ واحداً من الصنفَين، أو كذلك بدا لي. وبدأ يُلقي عليّ ملاحظاته فاستمعت إليها ظاهرَ الضيق مستعداً للنزال وللصدام، وإذا هي ملاحظات شكلية لا يزيدني اتباعها ولا ينقص مني الإعراض عنها، أي أنها لا تضرّ ولا تنفع، وإنما هي أشياء حفظها من الكتب التي كان يدرسها في الجامعة في فرنسا ترجمها وحملها معه وجاء يصبّها على رأسي.

فلما أطال لم أعد أحتمل، وقلبت له ظهر المجنّ وسخنت له القول:«ونحنُ أُناسٌ نُتْبِع الباردَ السُّخْنا» كما قال المتنبّي. وافترقنا على خلاف، وإن حاول أن يعود قبل الفراق إلى الملاطفة وإلى إصلاح الأمر بيني وبينه فما نجح في محاولته.

وتناسيته وعدت إلى دروسي، وإذا أنا كلّما لقيت أخاً من إخواننا المدرّسين في بغداد، السوريين منهم والعراقيين، حدّثني عن خلاف بينه وبين هذا المفتّش. ومرّت أسابيع فإذا نحن نتلقى كتاباً صغيراً طبعَته وزارة المعارف وبعثت توزّعه علينا معشر مدرّسي العربية، فيه أوامر ونصائح وتوجيهات بعث بها هذا الرجل وأنزلها علينا من فوق، «من الباب العالي» ! فغضبنا واجتمعنا عند الأستاذ محمد مهدي الجواهري الشاعر، وكان من

ص: 33

المدرّسين الذين نالهم أذى هذا المفتّش، اجتمعنا في جريدته التي سَمّاها «الانقلاب» وتكلّمنا في أمر هذا المفتّش، وبثّ كلّ من إخوانه ما لقي منه وعرض الخُطّة التي يراها للردّ عليه والنيل منه. فقلت للجواهري: أنا أكتب قصّة آتيك بها غداً، وأعدك أنها ستطيره من العراق (وكان السفر بالطيارة قليلاً في تلك الأيام) فهل تنشرها كما هي؟ قال: نعم، أنشرها.

فكتبتها وحملتها إليه، ونُشرت كما هي في عدد 19 من ذي الحجة سنة 1355هـ. وأنا أُقِرّ الآن (بعد تسع وأربعين سنة) أني ظلمته فيها وأني أسأت إليه، وأن القصّة التي كتبتها كانت هجاءً لا نقداً وكانت للتشفّي والانتقام لا للإصلاح. وغضب وطار إلى مصر، وغضب معه كثير من إخواننا المدرّسين المصريين، وإن لم أمسّهم بشيء فيما قلت وما كان كلامي إلاّ عليه وحده، ولكنهم غضبوا معه. وبقي نفر منهم على مودّتي لم يشاركوهم غضبهم، وكان من هؤلاء أخي وصديقي عبد المنعم خلاّف، وكان منهم الأستاذ الكبير سفير مصر (أو وزيرها المفوض) عبدالرحمن عزّام، الذي اتصل الودّ بيني وبينه على ما بيننا من فارق السنّ والمنزلة والمقام، وكنت أشهد مجالسه وأستفيد منه، فهو من أعرف العرب اليوم بعرب اليوم، وهو مفكّر عميق الفكر، بيِّنٌ رفيع البيان، جاهد الطليان في طرابلس الغرب (ليبيا)(1) قبل الحرب، وحسبكم أن من كتبه كتاب «بطل الأبطال» ، وهو أجود مختصَر أعرفه في شمائل الرسول عليه الصلاة والسلام.

* * *

(1) كان أسلافنا يدعونها «لوبية» .

ص: 34

وأنا من القديم مبتلى بالأرق وطول السهر، لذلك أنام شطر نومي بعد صلاة الفجر، ولذلك أجعل حصصي ومواعيد أعمالي ما استطعت بعد الساعة العاشرة.

فجئت المدرسة في موعدي ولم أعلم بما كان قبل وصولي. والذي كان أن الوزارة -إرضاء للإخوة المصريين ولأنها وجدت في قصتي التي كتبتها جملة فيها مسّ بالعراق، حين قلت إنه عرض شهادته على جامعات الشرق والغرب فأبتها ولم تقبلها إلاّ العراق- فأصدرت الوزارة قراراً بإنهاء عقدي وتسفيري. وبعثت به إلى المدرسة وأنا لا أدري، وعلم به إخواننا أنور وغيره وسمع به الطلاّب.

وأراد أنور أن يجزيني بما كنت فعلته في مكتب عنبر قديماً سنة 1929 يوم قرروا طرده أسبوعاً، وقد تقدّم خبر ذلك في هذه الذكريات، فوقف مني موقفاً مثله: موقفاً بموقف ويوماً بيوم. فأثار الطلاّب وذهب إلى الأستاذ الأثري (وكان هو ملجأنا عند كلّ ضيق ومَفْزعنا عند كل مُلمّة)، فانتصر لي بإخلاصه المعروف وحماسته وعلوّ منزلته في وزارة المعارف. ثم ذهب أنور إلى الشيخ طه الراوي (وكان يعمل مع الشيخ رضا الشبيبي، رئيس مجلس الأعيان) فكلّمه في أمري، فألقى الشيخ الشبيبي والشيخ الأثري بثقلهما كله في كفّتي، فاجتمع شفاعة هؤلاء الكبار وثورة الطلاّب الذين تركوا دروسهم وأنا في بيتي لا أدري، ومشوا إلى وزارة المعارف وهي إلى جوار المدرسة فاحتلّوها يهتفون ويصيحون، يريدون بقائي وإلغاء هذا القرار. وأوشكَت أن تكون فتنة، فألقى عليهم الرجل الفاضل مدير المعارف العامّ (أي وكيل الوزارة)

ص: 35

الأستاذ خليل إسماعيل كلمة طمأنهم فيها، أكّد لهم أنني باقٍ وأن عقدي مستمرّ. وكان الوزير الأستاذ صادق البصّام قد استجاب لشفاعة الشيخ الشبيبي والشيخ الأثري، وانتهت الرواية.

* * *

لقد ذكرت الأستاذ الأثري من قبل وحسبتُني قد فُجعت به، فكتبت أستنزل له الرحمة وأبثّ القرّاء حزني عليه وأسفي لفقده، فجاءني من الأستاذ زهير الشاويش من بيروت أن الأستاذ أكرم زعيتر أكّد له أن الأثري والحمد لله حيّ يُرزَق، يكتب وينظم ويحاضر. فمدّ الله في عمره وزاده قوّة إلى قوّته، وبلّغوه سلامي (1).

فلقد كانت غرفته في وزارة المعارف أحبَّ مكان إليّ في بغداد، وكنت -على ما أُوصَف به من جرأة وما أُلام عليه من تهوّر- أسأله كلّما دخلت عليه أن يخفض من صوته أو أن يُغلِق عليه بابه، حينما كان يتكلم عن الإنكليز ومَن يمشي معهم ويعاونهم، فيزداد كلاماً عليهم، كلاماً صريحاً واضحاً ما كنت أعرف في بغداد مَن يصدع بمثله. وكان له أصدقاء ثلاثة لا يكادون يفترقون كالفرسان الثلاثة في قصّة إسكندر دوماس (وفرسان دوماس في الحقيقة أربعة بعد أن انضمّ إليهم دارتانيان)، وهؤلاء أيضاً أربعة: الأستاذ الأثري والأستاذ حسن رضا مدير الأوقاف العامّ، والأستاذ عبد العزيز الخياط القاضي، والأستاذ هاشم الألوسي مدير المعارف.

(1) راجع الحاشية في أول الحلقة الخامسة والتسعين من هذه الذكريات (مجاهد).

ص: 36

الأستاذ الأثري هو الذي كان يحامي عني، في هذه النازلة وفي كل نازلة ألمّت بي في العراق. وهو الذي جاء بي إلى العراق، فجزاه الله خيراً ومدّ الله في حياته.

أمّا المقالة فهي الآن أمامي وقد اصفرّ ورق العدد الذي نُشرت فيه. قرأتها فوجدت أنها تُعتبَر بالميزان الأدبي قطعة نفيسة، قصّة فيها وصف وفيها تحليل نفسي وفيها سخرية تلسع لسع الزنابير، ولكن فيها بميزان الدين ظُلماً للرجل، فلقد عرفت عند سفري إلى مصر (بعد ذلك بسنين) أنه رجل فاضل وأن له مؤلفات.

وأنا أعترف بعد هذا الأمد الطويل أنني ظلمته بهذه القصّة المختلَقة المؤذية، فإن كان حياً فاسألوه أن يسامحني وله الفضل عليّ، وإن كان قد توفّاه الله فأنا أسأل الله له الرحمة وأسأل الله لنفسي المغفرة.

* * *

انطفأ الحريق ظاهراً ولكن بقيَت النار تعجّ وسط الأنقاض؛ سكتوا عني وتركوني، ولكن المساعي الخفيّة لبثَت تُبذَل لإقصائي وإلغاء عقدي. ونجحَت أخيراً، ولكن لا بإخراجي من العراق بل بنقلي من بغداد إلى البصرة.

وما كرهت النقل إليها، بل لعلّي سُررت به؛ فأنا أعرف البصرة من قبل أن أراها، فلماذا لا أراها بعد أن عرفتها؟ إن في نفسي الكثير الكثير من أخبارها، ممّا حصلته من مطالعاتي وممّا قرأته في المدرسة، منذ أُنشئت على عهد عمر العبقري. وفي

ص: 37

كتابي عن عمر (المطبوع سنة 1352)(1) خبر إنشائها، إلى أنباء أدبائها وشعرائها وأمرائها، ومباريات مربدها الذي خَلَف سوق عكاظ. قرأت عنها الكثير، وكنت في شبابي أحفظ ما أقرأ. ولا يزال معي بحمد الله أكثر من نصف هذه النعمة، نعمة الحفظ التي أنعم الله بها عليّ، ولكنني صرت أذكر المعنى وأنسى اللفظ، وأحتفظ بالخبر وأنسى المُخبر أو المَرجع.

وإذا شكوت ضعف ذاكرتي الآن فإنما أشكو حين أذكر ما كانت عليه، وإلا فأنا أحمد الله، لا أنكر فضله ولا أجحد نعمته، فإنني بالنسبة لأمثالي أقوى ذاكرة ممّن أعرف منهم، وحسبي أن كلّ ما أكتبه هنا من ذكريات مضى عليه الآن نحو نصف قرن، أكتبه من ذهني لا أرجع فيه إلى مذكّرات مكتوبة وليس معي من رفاق تلك الأيام من يذكّرني بما نسيت منه. وإني كلّما رأيت فيما يكتبه إخواني وأصحابي إشارة إلى مذكّرات لهم يرجعون إليها وينقلون منها، غبطتُهم وتمنّيت أن لو كنت مثلهم، لا أحسدهم بل أُسَرّ لهم وآسى على نفسي أني لست مثلهم.

* * *

لمّا أزف الرحيل وتيقّنت أني مفارقٌ بغداد ذهبت أمشي وحدي، أطوف شوارعها، أقف على مواضع ذكرياتي فيها أودّعها، كما يصنع كلّ عاشق تحمله صروف الدهر على مفارقة ديار المعشوق. وكلّما وقفت على مربع عرضت في ذهني ما كان

(1) راجع تعليقي في الحاشية في الحلقة الثانية والثمانين من هذه الذكريات (مجاهد).

ص: 38

لي فيه من صلات، وما أخذت منه من ذِكَر، وما خلّفت فيه من عواطف، كأنه كتاب أقرأ فيه فصلاً من قصّة حياتي. ولمّا وقفت على تمثال الملك فيصل (ابن الحسين) ذكرت شيئاً كنت نسيت أن أضعه في موضعه من هذه الذكريات، هو أنه لمّا مات فيصل كانت في الشام رنّة حزن لموته عبّر عنها كلٌّ بأسلوبه وكُتبت فيها مقالات.

وكنت في بداية عهدي بالكتابة والنشر. وأراد ناس منّا أن يلبسوا ثوباً ما خيط على مقاس أجسادهم، وأن يأكلوا طعاماً لا يصلح لمعدهم وأمعائهم ولا يوافق أمزجتهم

تقليداً للإفرنج، تقليد الضعيف للقوي. فسعوا لإقامة تمثال له في دمشق، البلد المسلم الذي ما عرف التماثيل، والذي لم يُنصَب فيه (إلى الآن بحمد الله) إلاّ تمثالان أُقيما في ليلة مظلمة نام فيها العلماء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر (1).

وكانت الجمعيات الإسلامية جديدة في دمشق (وقد مرّ بكم خبرها في هذه الذكريات)، وكانت لجمعية الهداية الإسلامية منشورات، ولم نكن نحتاج في طبع منشور أو نشر رسالة أو كتاب إلى إذن من أحد، بل نأخذ ما نكتبه رأساً إلى المطبعة فنطبعه. فكتبت منشوراً عنوانه «لا تماثيل في الإسلام» وطبعَته ووزّعَته جمعية الهداية الإسلامية، تاريخه غرّة جمادى الآخرة سنة 1352 (أي قبل اثنتين وخمسين سنة) بإمضاء «علي الطنطاوي، ليسانس في الحقوق» . ممّا قلت فيه (وهو الآن بيدي):

(1) ما أظنهما بقيا تمثالين فقط، فحسبنا الله ونعم الوكيل (مجاهد).

ص: 39

وهل يُعوِز فيصلاً الخلود حتّى تخلّدوه بهذه الأحجار الصمّ وهذه الصخور الباردة؟ أليس باقياً في القلوب وفي التاريخ؟ ألم يخلد من قبله عُمَر وصلاح الدين ولا صور لهم ولا تماثيل؟ فلا تحيدوا عن نهج سلفكم الصالح، ولا تحسبوا أن هذه البلاد العربية المسلمة ترضى أن يُبنى فيها ما بُعث محمدٌ لتهديمه، وأن يأتي في آخر الدهر من يُطفئ النور الذي أضاءه محمد عليه الصلاة والسلام في أوله. لا والله لا يكون ذلك أبداً. ثم هل ضاقت بكم مذاهب التكريم ولم تجدوا مأثرة تخلّدون بها ذكرى فيصل وتنفعون بها هذه الأمة؟ ألا تفتحون مدرسة تبثّ الصالح من مبادئه وتخلّد ذكراه؟ ألا تشيّدون باسمه مستشفى؟ ألا تنشئون باسمه ملجأ أو مصنعاً؟ أغَفِلتم عن ذلك كله ولم تجدوا إلاّ هذه الأحجار الصمّ تمحقون بها مالكم وتؤذون بها المسلمين في دينهم؟

ألا إنّ نصب التماثيل حرام في دين محمد عليه الصلاة والسلام، وإن تبدل الزمن وتغيرت الدنيا. ودينُ محمد ثابت بقرآنه وبهدي نبيّه الذي لا ينطق عن الهوى

(إلى أن قلت): فيا أيها الملأ، أقلعوا عن هذه الفكرة. وإذا لم يكن بدٌّ من تقليد الغربيين واتّباعهم إلى «جحر الضبّ» ، فليكن ذلك مع غير فيصل المسلم وفي غير دمشق حصن الإسلام، والسلام (1).

* * *

(1) انظر أيضاً مقالة «لا نريد تماثيل» في كتاب «مقالات في كلمات: الجزء الثاني» (مجاهد).

ص: 40

صحبني الطلاّب وبعض الإخوان إلى المحطّة لأسافر بالقطار إلى البصرة. والوداعُ صعب على أيّ حال، ولكن يبدو أنه أشدّ صعوبة عند السفر بالقطار لأنه يبتعد برفيقك عنك شيئاً بعد شيء، كمن يموت مرّات قبل أن يدركه الموت الذي يُنهي حياته.

ومن الحقّ أن أشهد أن القطارات في العراق من تلك الأيام (أي سنة 1937) كانت من أحسن القطارات. وأنا لا أجد -إن سافرت- أمتعَ من السفر في القطار لأن راكب السيارة كالمحبوس في الحاشرة (أي الزنزانة) تتيبّس عضلاته فلا يستطيع تحريكها، وإن كانت تقف أحياناً فيخرج منها فيمشي على رجلَيه، وراكب الطيارة يستطيع أن يمشي فيها من مقعده إلى الحمّام لكنه يبقى محصوراً فيها. ولقد أزعج أولادُ الركاب مرّة مضيفةَ (1) الطيّارة يَعْدون من حولها ويكادون يُسقطون ما تحمل من كؤوس، فغضبَت وقالت لهم: يا أولاد، إما أن تهدؤوا وتسكتوا وإما أن تخرجوا فتلعبوا «برّا» . فصارت نكتة.

أمّا راكب القطار، لا سيما إن كان مثل قطار العراق الذي ركبت فيه من بغداد إلى البصرة، فهو يمشي (أي الراكب) من أوله إلى آخره مجتازاً الحافلات كلها في مسلك ضيّق أمام أبواب الغرف المغلقة، لا يدخلها ولا يؤذي من فيها ويرى الدنيا من نوافذ الممرّ. وإن شاء وكان معه الثمن الغالي دخل عربة المطعم فأكل فيها؛ يأكل وهو يرى الدنيا وهي تمرّ به أو يمرّ هو بها، كلّما

(1) وجود نساء مضيفات يسافرن بلا محرم ويَبِتْن حيث نعلم ولا نعلم عادة سيّئة، يحرّمها دين الإسلام وتأباها خلائق العرب.

ص: 41

أكل عشر لقم تبدّلَت المناظر أمامه. وإن كان بين ركّاب الدرجة الأولى فدفع أجرة المنام فرشوا له المقعد كله فجعلوه سريراً على طوله ووضعوا الوسائد والأغطية البيضاء النظيفة، فنعم بأطيب نومة وأهنئها، بعد أن يكون قد ألف ضجّة القطار، بحيث إنه إذا وقف القطار أفاق. وكذلك الإنسان تملكه العادات وتسيّره، ومن أصدق ما قال قائلٌ شطرُ بيت المتنبّي:«لكلّ امرئٍ من دهرِهِ ما تعوّدا» (وإن كان شطره الثاني أسخف ما قال القائلون)(1).

ولقد سافرت بعد ذلك في القطار أسفاراً طوالاً كانت كلها متعة وأنساً، منها أنني سافرت من هانوفر إلى بروكسل إلى أمستردام، ومن جاكرتا إلى سورابايا من طرف جاوة إلى طرفها الثاني، وسافرت من قبل ذلك من حيفا إلى القاهرة في قطار دون قطارات العراق، وسافرت في أعجب قطار وأقدمه، القطار الذي صار المُفرَد العَلَم الذي لا نظير له في الدنيا، قطار «دمشق-بيروت» الذي كان يقطع المئة كيل (فقط) بينهما بإحدى عشرة ساعة!

* * *

ص: 42