الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-115 -
بين إقرار العدل وتطبيق نص القانون
هذه الحلقة فيها تَتِمّة الكلام عن النبك. والنبك لمّا جئتها (في أواخر سنة 1941) كانت بُلَيْدة أو قرية كبيرة، القديم منها قائم فوق الجبل والمدينة الجديدة -بشوارعها المستحدَثة ودورها الأنيقة ذات الواجهات الحجرية الجميلة والأقواس والأعمدة- في منبسط من الأرض حول هذا الجبل، وذلك كله قائم على ذروة من ذُرى لبنان الشرقية تعلو عن البحر أكثر من علوّ مصيف صوفر في لبنان. فاستأجرت أول دار على يمين الداخل على البلد من جهة الشام، ثم جاء أخي ناجي بعد ذلك بأمد طويل فصار قاضياً فيها، فاستأجر آخر دار على يسار الخارج منها إلى حمص، فكان ذلك من عجيب المصادفات.
جئتها في الشتاء، وكان شتاء بارداً والبلد لعلوّه شديد البرودة، ولم نكن نتخذ في الشام هذه المدافئ، إنما كان يتخذها ذَوُو اليسار والغِنى، ولم نكن منهم، فكنّا نكتفي بـ «المنقل» ، وهو وعاء من النحاس أو الحديد مختلف الأشكال والنقوش يوضع فيه الرماد، ثم يكون فوق الرماد وخلاله الجمر المتقد
فيدفئ القريب منه. فلما عُيّنت في النبك حذّرني مَن يعرفها من شدّة بردها، فاشتريت مدفأة (صوبا) من أصغر الأنواع وأرخصها فأخذتها معي.
وبلغ من شدة البرد في الشتاء تلك السنة في دمشق (فضلاً عن النبك) أن الماء الذي ينزل من الحنفيات كان يتجمّد فيصير عموداً صغيراً من الجليد. وكانت المدافئ تُوقَد بالحطب، فكان من المألوف في الشام أن ربّ البيت عندما يأتي بالمؤونة للشتاء: بالرز والسمن والزيت والسكّر وما تحتاج إليه الدار، كان يأتي بأحمال الحطب، فمِن الأسر من يكتفي بحمل الجَمَل الواحد ومنهم من يأتي بالحملَين والثلاثة والأربعة؛ يُنزِلونها أمام البيت، ثم يأتي الكسّارون (وكان أكثرهم من الألبان، أي الأرناؤوط)، وكانوا ذوي لِحى بيضاء، شيوخاً ولكنهم أقوياء أتقياء، يجرّدون فؤوسهم ويتولّون تكسير الحطب، وكلما صغّروا القطع كان أجرهم أعلى وكان ثمن الحطب أغلى. ثم ارتقت الحال بعد ذلك فصار الحطب يُباع مكسّراً.
ومن عجائب أحداث الزمان أنني كنت قبل ذلك بسنوات (كما عرفتم) مدرّساً في البصرة في صيف حارّ شديد الحرارة، فخرج ثلاثة من الناس معهم إفريقي أسوَد اللون، فتعطّلَت السيارة وانقطعوا في البرّية فماتوا عطشاً من شدّة الحرّ، ولمّا ذهبوا يتتبعون أثرهم وجدوا الرجل الأول منهم قد مات فدفنه أصحابه، والثاني دُفن دفناً غير كامل، ووجدوا الإفريقي الأسود المتعوِّد على لذع الحرارة وعلى مسّ الشمس قد سار شوطاً بعيداً وحده،
ثم غلبه الحرّ والعطش فمات في أرضه. تلك جماعة من الناس يموتون من شدة الحرّ، فلما جئت النبك رأيت جماعة ماتوا من شدّة البرد في الذّرى العالية المحيطة بالنبك ويبرود الممتدّة إلى بَعْلَبكّ.
* * *
وقعت لي حوادث كثيرة في السنة التي أقمتها في النبك، لكنني لم أدوِّنْها فأنا أذكر الآن ما بقي في ذاكرتي منها.
من ذلك أن الشيخ تاج الدين الحَسَني رجع تلك السنة إلى دمشق واتفق مع الفرنسيين: الجنرال كاترو والكولونيل كوليه (وهم أصدقاؤه) على إعلان استقلال سورية. ولم يكن استقلالاً كاملاً ولكنه كان -على كلّ حال- خطوة إلى الأمام، ونصّبوه رئيساً للجمهورية. وكنّا نتندّر بذلك، لأن رئيس الجمهورية إما أن تنتخبه الهيئة التشريعية (البرلمان) أو أن ينتخبه الشعب مباشرة، أمّا رئيس للجمهورية يُعيَّن من غريب عن البلد يحكمها حكم قوّة وتسلّط فلم يُسمَع بذلك من قبل. على أن من الحقّ أن أشهد أن حكمه الذي كنّا نناوئه ونقاومه ولا نرضى به كان خيراً، أو كان أقلّ شراً، من كل حكم شهدناه بعده.
أراد رئيس الجمهورية، الشيخ تاج الدين الحَسَني، أن يجول جولة في سورية، فبدأ بالنبك في طريقه إلى حمص فحماة فحلب. وأبلغَنا قائم المقام أن علينا (أي على الموظفين) أن يخرجوا إلى استقباله من الطريق العامّ (طريق حمص)، فأبَيت واعتصمت بمحكمتي، وكرهت أن أخرج، وصمدت لكل ضغط وُجِّه إليّ.
مع أنه خال زوجتي، شقيق أمها، وهو ابن شيخ مشايخنا الشيخ بدر الدين الحسني.
كما أنني (كما سيأتي) كنت بعد هذا التاريخ بقليل قاضياً في دوما، وكان قد استلم رئاسة الجمهورية شكري بك القوّتلي، وكان زعيمنا أيام النضال وأنا أحبّه وأحترمه، ولكنني امتنعت أيضاً عن الخروج لاستقباله بحجّة أنني عُيّنت قاضياً ولم أُعيَّن رئيس تشريفات، وليس عليّ أن أستقبل رئيساً ولا أن أودِّعه ولا أن أقوم على خدمته!
* * *
استحدث الشيخ تاج شيئاً جديداً، سنّة لا تخلو من نفع، هو أنه عيّن يوماً سماه «يوم الفقير» ، وسخّر أقلام الكُتّاب في الصحف وألسنة الخطباء في المساجد ليدعوا الناس إلى مساعدة الفقراء والعطف عليهم والتبرع لهم في هذا اليوم، دفعاً لما أصابهم من الضيق والضنك في أيام الحرب.
أعجبَتني الفكرة. وكنت أخطب أحياناً في المسجد خطبة الجمعة، فدعوت إلى الاهتمام بالفقير في هذا اليوم. ثم ألّفت لذلك -برأي قائم المقام- لجنة وحشدنا له من الطلاّب ومن شباب الأحياء أعداداً كبيرة، فلما كان هذا اليوم اجتمعنا أولاً في شبه احتفال فألقيت فيه كلمة بدأتها بقوله تعالى:{ها أنْتُم هؤلاءِ تُدعَون لتُنفِقوا في سبيلِ اللهِ، فمنكم مَن يبخَلُ، ومَن يبخَلْ فإنّما يبخل عن نفسِهِ، والله الغنيّ وأنتم الفقراءُ، وإنْ تتولَّوا يَستبدلْ قوماً غيرَكم، ثمّ لا يكونوا أمثالكم} .
ثم أقبل الناس يتبرّعون بما يقدرون عليه، وكنت أعاود الكلام وأقول لهم: القليل والكثير يكون لأصحابه الأجر الوفير، ورُبّ درهم سبق عشرة آلاف درهم
…
وأذكر لهم ما أحفظ من الآيات والأحاديث في فضل الصدقة وعظيم ثوابها.
ثم عملت شيئاً جديداً، هو أننا جئنا بدوابّ وعربات صغيرة وضعنا فيها أكياساً فارغة وسلالاً كبيرة، وبعثت مَن ينادي في الناس نداء يشبه ما يكون في العرضات (العراضات) الشعبية في الشام:
هاتوا قمح هاتوا شعير،
…
هاتوا قليل هاتوا كثير
كله مليح للفقير،
…
كله عليه أجر كبير
فأقبل الناس يُعطون من القمح ومن الشعير ومن الرز، بل ومن الثياب التي لا يحتاجون إليها، بل ومن الأواني البيتية ما جمع عندنا من ذلك مقداراً وافراً. ثم جئنا إلى قوائم كنّا قد أعددناها بأسماء الفقراء في البلد، فدعونا بهم وسلّمنا كُلاًّ منهم نصيبه علناً أمام الناس؛ فكان الجمع علنياً والتوزيع علنياً، وما كان من المَؤونة بعثنا به إلى بيوت المستحقّين وبعثنا معهم شهوداً يشهدون أنه وصل إليهم. ذلك لأن المسلمين ليست فيهم أزمة بخل فهم كرام يبذلون أكثر ما يقدرون عليه، ولكن فيهم أزمةَ ثقة وخوفاً من أن يضيع المال قبل بلوغه غايته التي جمع من أجلها، فبسبب ذلك ما ترون أحياناً من بعض البخل وبعض الضنّ.
* * *
إن القانون حينما يكون ماشياً مع العدل ويحكم به القاضي يكون مرتاح الضمير مطمئناً إلى ما حكم به، ولكن أصعب ما يعترض القاضي أن يرى العدالة في طريق وأن يرى القانون في طريق آخر.
كان الناس في الشام إذا اشتروا القمح وما يشبهه اشتروه بالمُدّ، والمُدّ مكيال معروف، فجاء القانون وألغى استعمال المكاييل القديمة وألزم الناس جميعاً بالمكاييل الأجنبية الجديدة، فالقياس بالمتر لا بالذراع، والوزن بالكيل (الكيلو) لا بالرطل، والمكيال باللتر لا بالصاع والمُدّ.
وممّا وقع لي أني اشتريت قمحاً بالمُدّ وحمله البيّاع إلى بيتي، فلما غدوت على المحكمة صبيحة اليوم التالي وجدت بين المخالفات التي عُرضت عليّ في محكمة الصلح التي أتولّى الحكم فيها (إضافة إلى عملي الأصلي في المحكمة الشرعية)، وجدت بيّاعاً أُحيل عليها لمعاقبته على أنه اقتنى المُدّ وباع به.
فكيف أحاكمه على أمر جائز شرعاً ومستساغ عُرفاً، وأنا أعمله؟ إذا حكمت عليه اتباعاً للقانون أكون قد خالفت ضميري وجُرْت في حكمي، وإذا حكمت عليه بما أراه الحقّ والصواب خالفت القانون. فماذا أصنع؟ وعُرض عليّ في ذلك اليوم جزّار ضبطوه يذبح في اليوم الذي مَنعت الحكومة الذبح فيه توفيراً للّحم واجتناباً للضائقة أيام الحرب. وأنا أعلم أن طاعة وليّ الأمر في مثل هذا الموقف واجبة، إذا كان ولي الأمر منّا لا من غيرنا ولم يأمرنا ولم ينهَنا فيما يخالف شرع ربنا، فإذا منعَت الحكومة
الذبح في بعض الأيام وجبَت طاعتها في هذا الأمر. ولكن الذي منع الذبح ليس منّا، ليس من المسلمين بل هو مستعمر دخيل علينا، وكلنا نشتري اللحم في يوم المنع لا نرى في ذلك بأساً، بل ربما كان اللحم الذي اشتريته بالأمس من هذه الذبيحة عينها التي حاكموا الجزّار عليها.
وجدت مخلصاً من هذا فيما يشبه الحِيَل الشرعية الجائزة. الحِيَل في الشرع ممنوعة إذا كانت طريقاً لاستباحة محرّم أو للهرب من واجب، ولكن بعض الحِيَل ليست إلاّ مخرجاً من ورطة تَوَرّط المسلم فيها، وهذا النوع من الحِيَل أشبه بأن يكون جائزاً. ألم يعلّم الله نبيَّه الذي حلف أن يضرب زوجته مئة ضربة طريقة تخلص بها من ورطته إذ قال له:{خُذْ بيدِكَ ضِغْثاً فاضْرِبْ بهِ ولا تَحْنَثْ} ؟ هذه في ظاهرها حيلة، ولكنها ليست حيلة لاستباحة محرّم ولا للهرب من واجب بل للخلاص من مشكلة.
فلما وقف بين يديّ الذي ذبح في يوم المنع سألته: هل كان الحيوان مريضاً فاضطُررتَ إلى التعجيل بذبحه، أو هل وقع فانكسرت رجله فدفعك ذلك إلى ذبحه في هذا اليوم بالذات؟ فانتبه وكان ذكياً، فقال: نعم. وسألت الذي باع بالمُدّ وضبطه الشرطة عنده في دكانه، قلت له (ألقّنه حُجّته): هل كنت تستعمل المُدّ على أنه آنية من الأواني، وهل استبقيته عندك لهذا الغرض بعد أن مُنع استعماله؟ فقال: نعم.
فهل كنت مخطئاً في هذا؟ هل على القاضي أن يتبع حرفية القانون أو أن يمشي مع مقاصد الشارع؟ ذكرت هنا قصّة الصحابة
حين أمرهم الرسول عليه الصلاة والسلام ألاّ يصلّوا العصر إلاّ في بني قريظة، فمنهم من فهم الأمر فهماً حرفياً فأخّر صلاة العصر حتّى وصل إلى بني قريظة، ومنهم من فهم أن الرسول ‘ لم يكن يريد تأخير الصلاة ولكن تعجيل السير، فصلّى على الطريق. فما لام الرسول ‘ واحداً من الفريقين لأن العذر قائم. وأنا منعت العقوبة عن مرتكبي أمر يعتبره القانون ذنباً، ولكنه ليس ذنباً في نظر الشرع ولا في نظر العرف، وليس فيه مضرّة لأحد، وأنا أعمل مثله. فكيف أُعاقب رجلاً على عمل أنا أعمله والشرع لم يمنعه؟ وهل أستحقّ أن أكون مع ذلك قاضياً؟
* * *
وعُرضت عليّ في محكمة الصلح قضية عادية تافهة، ولكن الظروف كبّرَتها ونفخت فيها وجعلَت منها قضية مسلمين ونصارى.
وقد أمرنا الله أن لا نتّخذ بطانة من دوننا لا تألونا خبالاً، وبيّن لنا أنهم يودّون عنتنا وأننا نحبّهم ونخلص لهم ولا يحبّوننا، وأن البغضاء قد تبدو من أفواههم حيناً وتخفى أحياناً، ولكن ما في قلوبهم من بغضنا والدسّ علينا والألم لما يصيبنا من الخير أكبر. ومع ذلك لم ننتبه. وقد طالما رأيت في حياتي من تسامحنا نحن وتعصّبهم ومن إخلاصنا ومن كرههم ودسّهم علينا الشيء الكثير.
القضية أنه كان عندنا قانون من أيام العثمانيين، أن مَن أفطر في شهر رمضان علناً حُبس إلى نهاية الشهر. وقد رأيت
مرّة في النبك، في المحطّة المجاورة للمسجد في الحيّ الذي يُسمّى المخرج، وهو على الطريق الدولي الذي يصل بين دمشق وحمص ويمرّ من وسط النبك، رأيت رجلاً يدخّن علناً وهو قاعد في القهوة، لا يبالي شعور الناس ولا يحفل باعتراضهم، وقد كاد عمله يجرّ إلى فتنة، فأمرت بوقفه (أي بإيقافه) وحكمت عليه بالسجن إلى نهاية شهر رمضان.
واتّفق أن كان هذا الرجل غير مسلم، فتحرّكَت أقلام المتزلّفين إلى المستعمرين وانطلقَت ألسنة الحاقدين والناقمين، ووصل ذلك إلى وزارة العدل فسألَتني، وكان جوابي أنّ منع الإفطار علناً في شهر رمضان ليس خاصاً بالمسلمين ولكنه عامّ لجميع السكان، لأنه من نوع الإخلال بالآداب العامّة.
ومرّت الأيام، وجاء انقلاب حسني الزعيم فألغى قانون الجزاء العثماني الذي كنّا نحكم به، وجاؤونا بقانون جديد مترجَم عن القوانين الأجنبية الوضعيّة. ولي مع هذا القانون شأن طويل؛ كتبت عنه وحوكمت أمام مجلس القضاء الأعلى وحُكم عليّ بعقوبة ماليّة، وسيأتي بيان ذلك في موضعه.
لمّا أُلغي قانون الجزاء وذهبَت معه هذه المادّة تجرّأ الناس على الفطر في رمضان، وظنّوا أنه لا عقوبة عليهم ولا أذى ينالهم، فاتخذَت محكمة النقض في الشام (محكمة التمييز) بهيئتها العامّة قراراً باعتبار هذا الإفطار العلني مُخِلاًّ بالآداب العامّة ومزعجاً للهيئة الاجتماعية، ومستحقاً للعقوبة.
وقرار الهيئة العامّة لمحكمة التمييز ليست له قوّة القانون
ولكن له أثراً في حكم القُضاة.
* * *
نساء النبك متحجّبات الحجاب الكامل، لكنهن يكشفن الوجوه والأيدي على عادة الفلاّحين عامّة في ديار الشام وعادة البدو في ضواحيها وفي باديتها. فجاءتني مرّة امرأة شابّة حسناء حديثة عهد بالزواج تطلب الطلاق من زوجها. ونظرت فإذا هو شابّ جميل الصورة مكتمل الشباب لا يُشتكى منه شيء، فسألتها عن سبب طلبها الطلاق فلم تأتِ بسبب واضح، فشممت منه ريحاً مؤذية، وكان جزّاراً جاء المحكمة بثياب العمل. فأجّلت الدعوى وصرفت المرأة، واستبقيت الرجل واستدنيتُه ونصحتُه بأن يذهب إلى داره فيغتسل ويبدّل ثيابه ثم يقصد حلاّقاً يأخذ من شعره، ففعل فعاد شخصاً جديداً، فلما جاءا من الغد للنظر في الدعوى سألتها: ماذا تقولين؟ قالت: لقد أسقطت الدعوى.
وليس هذا العمل من اختراعي أنا ولكنه تقليد للرجل العظيم الذي سمّاه الرسول عليه الصلاة والسلام «عبقرياً» ، وهو عمر بن الخطاب في قصّة مماثلة لهذه القصّة ترونها في كتب التاريخ وفي كتابي «أخبار عمر» .
وكان في النبك (كما هي الحال في أكثر الضواحي والمناطق البعيدة عن العاصمة) أُسَر لها وجاهة تتنازع فيما بينها عليها، كان في النبك أسرة آل النفوري وآل طيفور، وكانت الأيام تمشي مع آل النفوري ثم تبدّلَت فمالت مع آل طيفور، ثم عادت الرياح إلى سفينة النفوريين لمّا ظهر منهم ضابط كبير في الجيش، ولعلّ أخانا
المخرج في الرائي في الرياض منذر النفوري من هذه الأسرة.
عُرضت عليّ في المحكمة الشرعية قضية وصاية في إرث كبير، والوارثة قاصرة تحتاج إلى من يتولّى أمورها ويرعى شؤونها. وكانت للتركة مشكلات وقضايا معقّدة تحتاج إلى تنظيم وإلى مواجهة المحاكم، وخشيت أن أجعل الوصيّ من إحدى الأسرتين المتنازعتين فيضيع حقّ القاصرة، فولّيت رجلاً ثقة من أهل الشام هو الشيخ موسى الطويل رحمة الله عليه، وكان من كبار تُجّار الشام، وكان من طبقة كادت تنقرض وهي طبقة التجّار العلماء أو طلبة العلم، وكان من أقرب الأصدقاء لوالدي رحمه الله، بل ربما كان أدنى صديق منه. وكان من أصدقائه السيد شريف النصّ من التجار، والشيخ أحمد القشلان، وجماعة.
تردّدت أولاً في تعيينه وصياً، وخفت أن أكون قد آثرت صديقاً لأبي فأحيد بذلك عن الحقّ، فاستشرت من أثق بدينه وخبرته بالناس وبالحياة فأشاروا به وبناس من أمثاله، فولّيتُه الوصاية وكلّفته بأعمال كثيرة يستخرج بها حقّ البنت ويخلّص مالها من القضايا المتشابكة، أي أنني ولّيته ولاية مشروطة، وجعلت له أجراً على هذه الولاية وأمهلته مُدّة محدودة لينجز هذه الأعمال. فانقضت المُدّة فلم يصنع مما كُلِّف به إلاّ القليل، فواجهت امتحاناً: هل أراعيه لفضله علينا بعد وفاة أبي ولصلته به وصداقته له، أم أُقيم ميزان الحقّ عليه كما أُقيمه على غيره؟
لقد أَرِقت ليالي أفكّر، وحاولت أن أستحثّ هِمّته ليصنع شيئاً وينجز ما كُلِّف بإنجازه فوجدت أنه لا يقدر على ذلك،
فطلبت إليه أن يُعيد ما كان قد أخذه من الأجرة. فوعد بذلك، وهو رجل ثقة أمين، ولكنه تأخّر عن السداد فلم يكن مني إلاّ أن بلّغتُه العزل وسلكت معه الطرق القانونية.
وأشهد أن الشيخ موسى (وربما عدت للحديث عنه) من أفضل مَن عرفت من الرجال، وكان في الثورة السورية هو الذي يتولّى إمداد الثوّار بالخبز، وكان موضع ثقة الجميع يأتمنونه على أموالهم وعلى أسرارهم، ولم يقع منه في هذه الوصاية خيانة (معاذ الله) ولا تقصير متعمّد، ولكنه عَجْزٌ منه وسوء تقدير مني لمّا ظننت أنه في شيخوخته يقدر على ما كُلِّف به.
وانقضت القضية بحمد الله بسلام، لم أؤذِ الرجل في شعوره وحفظت له كرامته، ولم أضيّع ذرة من حقّ القاصرة، وذلك من توفيق الله فله الحمد عليه.
* * *
كنّا في أيام الجامعة وحين تُستحَبّ الراحة نذهب إلى يَبْرود، ويبرود قريبة من النبك، وهي أجمل منظراً وأكثر ينابيع وعيوناً. وكان فيها متنزّه يُسمّى قرينة يؤمّه الناس، فذهبت في آخر أيامي في النبك إليه فوجدت مستأجر القهوة فيه (وكان قديماً من تلاميذي، وهو من أسرة مشايخ صالحين) وجدته يقدّم فيها الخمر، فدعوتُه ونصحته، فقال إن لديه رخصة من الحكومة، فبيّنت له أن حكومات الأرض جميعاً لا تملك أن ترخّص في أمر حرّمه الله ومنعه. فلم يسمع، فأثرت الخطباء وراجعت المسؤولين حتّى أزلت هذا المنكر وطردت المستأجر.
وإن كان الخطب قد طغى بعد ذلك وطمّ حتّى لم يبقَ متنزه في الشام، ولا نبع ماء، ولا مكان جميل يؤمّه الناس إلاّ وفيه الخمر معروضاً على الموائد يُباع ويُشترى.
إن رجعنا إلى الدين فالدين يحرّم بيع الخمر وشراءها ويحرّم شربها وتقديمها، وإن رجعنا إلى مبادئ الديموقراطية فإن الديموقراطية معناها حكم الشعب («ديموس» أي الشعب و «كراسي» أي حكم)، وجمهور الشعب في الشام بل كثرته المطلقة مسلمة تتمسّك بأحكام الإسلام، فإذا جارينا شُرّاب الخمر (ولا يبلغون واحداً في الألف) وأبحنا تقديمها لِنَسُرّهم نكون قد آذينا التسعمئة والتسعة والتسعين في سبيل مسرّة الواحد.
ولكن هذا ما وقع وإلى الله المشتكى.
ووجدوا في أعلى الجبل صخرة لها منفذ صغير لا ينتبه إليها أحد، بل لا يكاد يصل إليها أحد، وجدوا فيها -بالمصادفة- مقداراً عظيماً جداً من عسل النحل تجمّع من آماد طويلة لا يعلم بها إلاّ الله، فاختلف عليها صاحب الأرض والمستأجر والبلدية. وكان عسلاً ما ذاق الناس مثله، وتركت النبك والقضية لم تنتهِ. وإذا كان ثمن العلبة من عسل النحل يباع الآن بمئات الريالات فكم يبلغ ثمن مثل ذلك العسل؟
* * *
بقيت في النبك أقلّ من أحد عشر شهراً، ثم كانت تنقّلات في وزارة العدل بين القُضاة، فاستدعاني الوزير راغب بك
الكيخيا رحمة الله عليه وسألني: إلى أين تحبّ أن تنتقل؟ وكان قاضي دوما الذي درّبني على أمور القضاء، الصديق الشيخ أنيس الملوحي رحمه الله، قد نُقل من دوما إلى حماة، فاقترحت أن أُنقل أنا إلى دوما وأن يُنقل أخونا الشيخ مرشد عابدين (وهو شقيق شيخنا الطبيب المفتي الشيخ أبي اليسر عابدين، وهما ولدا الشيخ أبي الخير عابدين مفتي الشام الذي كان أبي أميناً للفتوى عنده) إلى مكاني. وتمّت هذه التشكيلات وصدر بها المرسوم الجمهوري فانتقلت إلى دوما.
ودوما تُعَدّ حياً من أحياء الشام، كان يصل بينها وبين الشام على أيامي فيها خطّ ترام طوله ثلاثة عشر كيلاً (كيلومتراً) يقطع الطريق إليها في ساعة، أما السيارات فتقطعه بأقل من ثلث هذا الوقت، ولكن الترام أكثر راحة وأجمل منظراً لأنه يخترق الغوطة كلها، يمرّ بقُراها وبساتينها، فيجتاز جوبر ثم زملكا ثم العربيل (التي تُسمّى العربين)، ثم حرستا ثم إلى دوما.
ومن كل قرية من هذه القرى التي ذكرتها علماء نبغوا منها وانتسبوا إليها، فمن زملكا كان الشيخ الزملكاني، ومن العربيل ظهر علماء قديماً وحديثاً آخرهم الشيخ عبده العربيلي، وهو أحد شيْخَي القُرّاء في الشام، الشيخ الكبير هو الشيخ محمد الحلواني الذي لم أسمع قارِئاً في حياتي، لا في مصر ولا في الشام ولا في غيرها من البلاد التي مشيت إليها، أضبط منه مخارجَ حروفٍ وأحرصَ منه على الأحكام، وكان يجمع القراءات على طريقة الشاطبية، والشيخ عبده العربيلي هذا كان تلميذ الشيخ عبد الله
المنجّد (والد الأديب الصديق المؤلّف الدكتور صلاح الدين المنجد) الذي جمع على طريقة الطيبة.
ومن أعجب الأمور أن الشيخ الذي أخذ عنه الشيخ عبدالله المنجّد القراءات كان مُشيراً في الجيش العثماني. مشير قارئ مجوّد يأخذ عنه العلماء! وله أمثال من قادة الجيش العثماني، ومع ذلك نذمّ العثمانيين وننسى مزايا أوائلهم لذنوب أواخرهم من الاتحاديين، بل إن منّا من تبلغ به الجرأة على الحقّ وعلى الواقع وعلى مخالفة الآداب، أن يقرن الحكم العثماني بالحكم الأجنبي فيقول: الاستعمار الفرنسي والإنكليزي والاستعمار العثماني!
* * *