المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحياة الأدبية قبل نصف قرن (1) - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌الحياة الأدبية قبل نصف قرن (1)

-127 -

‌الحياة الأدبية قبل نصف قرن (1)

كتبت في عدد «الرسالة» الصادر يوم الإثنين 17 ذي القعدة سنة 1354 مقالة عنوانها: «الحياة الأدبية في دمشق» ، وصفتها فيها وصفاً موجَزاً شاملاً، فكتب عبد الوهاب الأمين في «الرسالة» (عدد الخامس عشر من ذي الحجّة 1354) مقالة عن الحياة الأدبية في بغداد تعقيباً على مقالتي وتعليقاً عليها. وفي عدد السابع من المحرّم سنة 1355 كتب حيدر موسى عن الحياة الأدبية في السودان، وفي عدد الرابع عشر من المحرّم كتب سامي الشقيقي عن الحياة الأدبية في لبنان، وفي عدد الواحد والعشرين من المحرّم كتب الأستاذ عبد المجيد شبكشي عن الحياة الأدبية في الحجاز، وفي عدد السادس من صفر كتب الأستاذ محمد تقي الدين النبهاني عن الحياة الأدبية في فلسطين، وفي عدد الثالث عشر من صفر كتب محمد عبد المجيد بن جلون عن الحياة الأدبية في المغرب، وفي عدد العشرين من صفر كتب الأستاذ عبد القدوس الأنصاري عن الحياة الأدبية في الحجاز، وفي عدد الرابع من ربيع الأول كتب جريس القسوس عن الحياة الأدبية في شرقي الأردن، وفي عدد الخامس والعشرين من ربيع

ص: 391

الأول نُشرت مقالة في الرسالة أيضاً عن الحياة الأدبية في المغرب الأقصى للأستاذ ع. ك. (وأظنه الأستاذ عبد الله كنون)، وفي عدد العاشر من ربيع الثاني سنة 1355 كتب محمد الحليوي عن الحياة الأدبية في تونس.

والمقالات لها حظوظ كحظوظ الناس، منها الذي يقصر عمره ولا يكون له أثر، ومنها ما يطول عمره ويبعد أثره، كهذه المقالة التي كتبتها عن الحياة الأدبية في دمشق؛ قيّض الله لها مَن علّق عليها هذه التعليقات كلّها، التي يجيء منها صورة مُجمَلة للحياة الأدبية في البلاد العربية قبل نصف قرن.

هذه المقالات كلها نُشرت في «الرسالة» . ومجموعة «الرسالة» التي أملكها تنقص فيما تنقص الجزء الأول من سنة 1936، وهو الجزء الذي نُشرت فيه هذه المقالات. وحاولت أن أصل إليها فتعذّر ذلك عليّ، فذكرتُه لمخرج برنامجي في الرائي ولدي السيد عبد الله رواس، فأرسل لي شاباً ذكياً طالباً في قسم الإعلام في جامعة أم القرى، وهو ابن أخيه عصام رواس، ليساعدني على جمعها. فلما أعلمتُه أنها في «الرسالة» صنع أكثر ممّا كنت أرتقب وما كنت أتمنّى، فصوّرها لي جميعاً وجاءني بها، وكتب في رأس كلّ مقالة تاريخ نشرها في الرسالة. فله ولعمّه الشكر.

* * *

وأنا هنا لا أنقل هذه المقالات كلها، ولا يتّسع لها مجال هذه الذكريات في الجريدة، ولكن أشير إلى أهمّ ما جاء فيها

ص: 392

ليستفيد منه مَن يريد الاطلاع على حال الأدب في هذه البلاد العربية قبل خمسين سنة.

كان ممّا قلت في مقالتي:

لا شكّ أن «الرسالة» بسموّها عن الفكرة الإقليمية الضيقة، وفتحها أبوابَها لأبناء العربية جميعاً، ودعوتها إلى الاجتماع على التوحيد في العقيدة، والفضيلة في الأخلاق، والوحدة في السياسة، والصحّة في اللغة، والجمال في الأسلوب، والتجديد في الأدب، سيكون لها أثر كبير في تاريخ الصحافة العربية لِما سنّت من هذه السنّة الحسنة التي لم تعرفها من قبل كُبريات مجلاّت مصر إلاّ قليلاً، وبما بلغته من الجمال والإتقان في الشكل والموضوع. وسيكون لها أثر كبير في تاريخ الأدب العربي لِما وضعت للأدب من منهج مستقيم، وما أحيَت من الأسلوب البليغ، وما قبسَت من روائع الآداب الأجنبية، وسيكون لها أثر كبير في التاريخ العربي العامّ بما دعَت إليه من الوحدة العربية، وما نشرَت من أمجاد السلف، وما وضعَت في نفوس الناشئة من قُرّائها من العمل للجامعة العربية الواسعة لا للإقليمية الضيّقة.

ولا شكّ أن «الرسالة» اليوم للأقطار العربية كلّها لا لمصر وحدها؛ فكما تفتح «الرسالة» أبوابها للمقالات وللقصائد والبحوث التي يبعث بها إليها أدباء الشام والعراق وغيرهما، فلتفتح أبوابها للفصول النقدية والبحوث المستفيضة عن الحركة الأدبية في هذه البلاد، ولو كانت قاسية شديدة على النفوس، ولو كشفت عن حقائق يحبّ بعض الناس ألاّ ينكشف عنها الستار.

ص: 393

وليس من مصلحة الأدب أن يظل أدباء مصر والعراق جاهلين مدى الحركة الأدبية في الشام ومغترّين بها، وليس من المصلحة أن يبقى أدباء الشام ومصر جاهلين مدى الحركة الأدبية في العراق، بل يجب أن يصف أدباء كلّ قطر من الأقطار الحياةَ الأدبية في قطرهم، ومبلغ قوّتها أو ضعفها، وسبب تقدّمها أو عِلّة قصورها، وأن يُحلّلوا أدواءها وأمراضها، لنتعاونَ جميعاً على علاجها ومداواتها وتقويتها وشدّ أزرها.

والحياة الأدبية في الشام أحوج شيء إلى المداواة والعلاج

إن كان في الشام حياة أدبية لها وجود ولها آثار يستطيع الناقد أن يصفها ويتحدث عنها. وأنا أشكّ في وجود هذه الحياة، فلا أستطيع أن أجزم بوجودها لأني لا أرى علامة من علامات الحياة في أدباء دمشق وأدبها، ولا أستطيع أن أنفيها لأن في دمشق أدباء كباراً معروفين، ولأن دمشق -كما يعلم الناس جميعاً- عاصمة من عواصم البيان العربي.

ولقد رجعت أعرض التاريخ الأدبي في دمشق منذ عهد الاحتلال إلى اليوم (أي إلى سنة 1936) وأنظر الآثار الأدبية الخالصة التي أخرجها أدباء دمشق في هذه السنين، فلا أجد إذا استثنيت مجلّتَي «الرابطة الأدبية» و «الميزان» وروايتَي «سيد قريش» و «عمر بن الخطاب» لمعروف الأرناؤوط وكتابَي «المتنبّي» و «الجاحظ» لشفيق جبري (وإن كان هذان الكتابان نمطاً جديداً من الكتابة عن الأدباء، ويكاد صدورهما يُعَدّ فتحاً لكنه غير كامل) ورسائل «أئمة الأدب» لخليل مَرْدَم بك

إذا استثنيت

ص: 394

هذه الكتب وكتابَين آخرَين أو ثلاثة قد أكون نسيتها، لا أجد أثراً أدبياً له قيمة. وهناك كتب محمد بك كرد علي:«خُطَط الشام» و «الإسلام والحضارة» وغيرها، ولكنها ليست من الكتب الأدبية الخالصة وإنما هي كتب تاريخ لا تدخل في موضوع المقال، وإن كان كتابه «غرائب الغرب» نمطاً عالياً من كتب الرحلات، وكان أسلوب الأستاذ كرد علي لا سيما في «أمراء البيان» أسلوباً فريداً في الترسّل، ولقد كتبت عنه حين صدوره صادقاً غير مبالغ: إنني كنت أتخطّى عبارة عبد الحميد الكاتب الذي يكتب عنه كرد علي لأقرأ عبارة كرد علي!

على أن هذه الكتب التي استثنيتها ليست في درجة واحدة من حيث قيمتها الأدبية، فبينما نعدّ «سيد قريش» عملاً فنّياً كبيراً (على ما فيها من ضعف العقدة الروائية، وتشابه المناظر، وتكرار الأوصاف، وغلبة النصرانية على أجمل صفحاتها) نعدّ رسائل أئمة الأدب لخليل مردم بك كتباً مدرسية موضوعة لطلاّب البكالوريا، لا تبلغ أن تُعَدّ في الدراسة الأدبية القوية التي تستند إلى طريقة في البحث معروفة وتكشف عن نواحٍ مجهولة من حياة الأديب الذي تبحث عنه ومن أدبه. ثم إن هذه الكتب إذا قيسَت بمدينة كدمشق في مُدّة طويلة كهذه المُدّة لا تعدو أن تكون أثراً ضئيلاً لا يدلّ على حياة.

وهذا الأثر -على ما فيه من ضعف- ينحصر في فنّين من فنون الأدب هما: القصّة التاريخية والدراسة التحليلية. أمّا سائر فنون الأدب كالقصّة التمثيلية، والأقصوصة الصغيرة، والرواية

ص: 395

الطويلة، والصورة الوصفية، والذكريات الأدبية، والتأمّلات الفلسفية والشعرية، والخطب البليغة، وغيرها من فنون الأدب فلا نكاد نجد لأدباء دمشق فيها أثراً يُذكَر.

لأجل ذلك لم أقُل إنّ في دمشق حياة أدبية لأن ما نجده فيها ليس بالحياة ولا يصوّر الحياة، ولم أنفِ هذه الحياة لأن في دمشق أدباء يُنتِجون أو يستطيعون أن ينتجوا. وإنما أقول بأن أدباء دمشق في منزلة بين الموت الكامل والحياة الصحيحة، هي كالسّبات العميق والنوم الطويل

(إلى أن قلت): وإلاّ فما يصنع كتّاب دمشق وشعراؤها؟ وأين هي منتجاتهم الأدبية؟ وهل يكفي شاعراً أن يقول كلّ سنتين قصيدة واحدة تضطرّه إليها المناسبات اضطراراً، ثم لا يكون في القصيدة أثر من نفسه ولا تصف شيئاً من عواطفه؟ وهل يكفي الكاتبَ أن ينشر كلّ عام مقالة تُطلَب منه أو مقدّمة كتاب يُسأل كتابتها؟ بل هل يستطيع أن يملك لسانَه الشاعرُ فلا يقول شيئاً، وهو يرى كل يوم ما يُنطِق الصخرَ بالشعر من مصائب الأمة ونكباتها، بل من همومه هو ومتاعبه وما يشاهده في حياته في بيته وحياته في عمله؟

أليس في حياته سرور أو ألم؟ أليس فيها أمل أو قنوط؟ أليس فيها ضحك أو بكاء؟ أفيضحك الشاعر فلا يغنّي ويبكي فلا ينوح، وتهزّ قلبَه الحادثات فلا يقول شيئاً؟ أنا لا أستطيع أن أتصوّر شاعراً أو كاتباً لا يكتب ولا يَنْظم وكلّ ما حوله يهيج نفسه ويثير عاطفته!

ص: 396

إن أدباءنا يحتجّون بأنهم لا يجدون مكاناً ينشرون فيه، وإذا لم يجد الأديب سبيلاً إلى النشر ضعُفَت هِمّته وانكسر نشاطه ولم يجد حافزاً إلى العمل، لأن فَقْد الناشر من أكبر الأسباب في هذا الركود الأدبي.

وهذا صحيح، فليس في دمشق مجلاّت أدبية إلاّ مجلّة صغيرة اسمها «الطليعة» يُصدِرها نفر من الشباب المثقفين الذين يحملون أكبر الشهادات العالية من أكبر المعاهد في أوربّا، ولكن لها منحى خاصاً لا يرضى عنه الناس كلهم، وأخصّ أهل الدين والمحافظة منهم، وهي تمشي بخُطىً مضطربة، وربما اضطُرّ أصحابها إلى إغلاقها كما اضطُرّ من قبل أصحاب «الثقافة» إلى إغلاقها. على أن أصحاب «الثقافة» كانوا من صفوة أدبائنا ومفكّرينا، كخليل مردم بك وجميل صليبا وكاظم الداغستاني.

ثم إن الجرائد اليومية لا تُعنى بالأدب عناية كبيرة ولا تخصّص له صفحات دائمة، وإن هذه الصفحات الأدبية التي تتزيّن بها صدور بعض جرائدنا اليومية أكثرُها صفحات فارغة، لا أظنّ أن أحداً من أهل الذوق الأدبي يرضى عنها، بل إن أصحاب الجرائد والقائمين عليها لا أحسبهم راضين بها.

وإذا ألّف الأديب كتاباً أو قصّة لم يجد الناشر، وإذا أنفق عليها من ماله لم يشترِها أحد، لأن دمشق بلد يقرأ أهله كثيراً ولكنهم لا يشترون! وهذه مجلّة «الرسالة» لا تجد في دمشق أديباً أو متأدّباً إلاّ اعترف لك بأنها خير مجلّة أُخرِجَت للناس وأن العالَم العربي لم يعرف مجلة مثلها منذ أُنشئت أول مطبعة في مصر، ولا تجد أديباً أو متأدّباً أو طالباً إلاّ وهو ينتظر يوم الثلاثاء ليقرأ

ص: 397

«الرسالة» (1)، وبعد ذلك كله يُباع من أعدادها في دمشق كلّها أقلّ من خمسمئة عدد! وإن كان يقرأ كلَّ عدد خمسةٌ أو عشرة من القُرّاء.

(إلى أن قلت): على أن الذنب في رأيي ذنب المدارس والمدرّسين، ليس ذنب الأدباء ولا ذنب القُرّاء؛ فليس في الشام اليوم من دروس الأدب إلاّ هذا المقدار القليل الذي يتعلّمه الطالب في مقرّر البكالوريا (أي الشهادة الثانوية)، وهذا المقدار لا يُحِقّ حقاً ولا يُبطِل باطلاً، ولا يصنع شيئاً أكثر من تكريه الأدب إلى الطلاّب وتسويده في أعينهم، ذلك لأن شُعَب الأدب في صفوف البكالوريا تسير في طريق عَوجاء أبعد ما تكون عن بثّ الملَكة الأدبية في نفس الطالب. وكيف تكوّن الملَكة الأدبية طائفةٌ من أخبار الشاعر وأشعاره يستظهرها الطالب من غير أن يفهمها غالباً، وإن فهمها لم يدرك جمالها ولم يتلذّذ بها ولكنه يحتفظ بها في دماغه إلى يوم الامتحان، فإذا أدّاه ونال الشهادة أهملها، أو دخله الغرور فظنّ أن معنى «بكالوريوس في الآداب» كاتبٌ أو أديب فهجر المطالعة وانصرف عنها.

إلى آخر المقالة، وهي طويلة وفيها نقد لمناهج الأدب في المدارس ولمدرّسيه ولأسلوبهم في التدريس (2).

* * *

(1) كتبت في «الرسالة» من قديم أننا كنا في الشام نسمّي الأيام: السبت، الأحد، الإثنين، الرسالة

(2)

الذي نُشر هنا جزء من المقالة، وهي كلها (لمَن شاء أن يقرأها) في كتاب «فِكَر ومباحث» (مجاهد).

ص: 398

أمّا المقالة الثانية عن الحياة الأدبية في بغداد فقد بين كاتبها أن الذي حمله عليها قراءته مقالتي التي أشرت إليها.

وممّا قال فيها أنه لو أتيح للقارئ أن يتصفّح الصحف والمجلاّت قبل عشر سنين (أي في سنة 1926) لَما فاته أن يلحظ فيها طيف اليقظة الأدبية وهي في مهدها، ولرأى من كثرة ما يُنشَر في الصحف حينذاك، من الشعر على الأخصّ ومن بقية الفنون الأدبية، وإن كانت بصورة بدائية، روحاً أدبياً يبشّر بمستقبل لا بأس به. إلى أن قال: على أننا قد خسرنا حتّى تلك الحركة البدائية البسيطة، وقد ماتت كلّ المحاولات التي كان القصد منها بعث الروح في الأدب العراقي.

إلى أن قال: إن طغيان السياسة والصحافة على الأدب هو الذي أدّى إلى ضعفه. وقد جرى ذلك في الصحف اليومية، فإن كلّ صحيفة صدرت في العراق كانت في مبدأ أمرها خالصة لوجه الأدب أو تخصّه بأكبر عناية، فأصبحت كلّ الصحف تقريباً لا تنشر القطعة الأدبية أو القطعة الشعرية إلاّ في الأسبوع أو الأسبوعين مرّة، وقد كانت جريدة «البلاد» (وهي كبرى جرائد العاصمة) في أول مبدئها تخصّ الأدب بثلث صفحاتها يومياً، وكانت تستكتب الأدباء والشعراء وتنشر لهم، وكانت وقتئذ تصدر في ستّ صفحات فقط، والآن بعد أن زيدت صفحاتها إلى الثماني فقد تركت الأدب مرّة واحدة. وكذلك قلّ في الصحف الباقية اليومية منها والأسبوعية. وممّا يؤلم ويَستفزّ النفسَ أن الصحف في العراق لا تتكبّد في نشر الأدب شيئاً مادّياً، بل كل ما يُنشَر فيها تقريباً أدب التبرّع وليس أدباً مأجوراً.

ص: 399

ثم بيّن أن أكثر ما يُنشَر في بغداد كتب مدرسية غير مستكملة حتّى الشروط المطلوبة في مثل هذه الكتب، وأكثرها مترجَم ومقتطَع من الكتب الغربية، وهي تبدَّل حسب مناهج التعليم كلّ سنة، وفي بعض الأحيان في أقلّ من السنة. ثم قال: فليس هناك إذن لا مؤلّف ولا ناشر.

ثم تكلّم عن الطباعة فقال: والمطبعة العراقية فقيرة إلى حدّ مُزْرٍ، فهي لا تزال على نمط المطابع قبل عشرين سنة. وهناك جريدة يومية كانت تُطبَع إلى زمن قريب بمطبعة تُدار باليد

إلى آخر المقالة.

* * *

والمقالة الثالثة عن الحياة الأدبية في السودان، بيّن فيها أن أدب السودان يسير وراء الأدب المصري ويتبعه خطوة خطوة، نظراً للجوار ولتشابه الأخلاق والعادات وغير ذلك، إلى آخره. وبيّن أثر الصحف الأدبية الراقية كالسياسة الأسبوعية في إبّان حياتها، وعندما اختفت وظهرت «الرسالة» وسدّت الثغر تهافتوا عليها وخطبوا وُدّها، فإذا أنت تراها بأيديهم في النوادي والمجالس والمنازل وفي عربات الترام، حتّى صارت قراءتها محتمة على كلّ أديب ومتأدّب.

إلى أن قال: الشباب السوداني متطلّع دائماً إلى العلياء، وهم رغم ضيق وقتهم وقلّة مالهم يُقبِلون على تنظيم المحاضرات والمناظرات قدر المستطاع، حتّى النوادي الرياضية لم تُهمِل الأدب بجانب اشتغالها بترقية الروح الرياضية، وكذلك تُعنى

ص: 400

بإقامة حفلات تمثيلية تعرض فيها الروايات العربية والمصرية. ويسرّني (يقول) كل السرور أن القصّة السودانية قد صار لها شأن في عالَم التمثيل السوداني، ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنها اكتسحَت أو كادت تكتسح الروايات غير الوطنية، وكل هذه الروايات البلدية موضوعة بفعل الشعب المسمّى بـ (الدوبيك).

إلى أن قال: ودعني أعرّفك بأسماء هذه الروايات، فمنها «مصرع تاجوج ومحلق» ، وهي معروفة لدى المصريين وقد نُشر ملخصها في بعض المجلاّت المصرية، ثم رواية «خراج سوبا» ورواية «فتاة المستقبل» ورواية «البتول» وغيرها. وقد أُعيدَ تمثيل هذه الروايات كثيراً نظراً للإقبال العظيم الذي قوبلت به من الجمهور المتعطش لكل ما هو سوداني أصيل.

إلى أن قال: أمّا حركة التأليف فضعيفة لغلاء أجرة المطابع ولعدم وجود ناشرين يتولون إخراج الكتب. ويوجد الآن أدباء وشعراء يملكون كتباً ودواوين شعرية، وهم حائرون لا يعرفون كيف يُخرِجون هذه الآثار الأدبية التي هي ذخر للسودان. وهذه مشكلة يتألّم لها الأدباء ولا يعرفون لها حلاًّ، ولذلك لا تجد كتاباً قيّماً أخرج إلى الآن في السودان، لا لِعُقم في القرائح بل لِما بينّا.

أما الصحف فحدّث عنها ولا حرج، فلدينا الآن جريدة «حضارة السودان» وجريدة «السودان» وتصدران في الأسبوع مرّتين، وجريدة «النيل» اليومية وملحقها الأدبي الأسبوعي، ومجلّة «الفجر» وهي نصف شهرية، وكذلك لكلّية كردوم مجلّة

ص: 401

خاصّة لا تقف فائدتها على الطلاّب فحسب بل لا تخلو من فائدة لغيرهم. وقد اختفت بعض المجلاّت كمجلّة «النهضة السودانية» ومجلّة «مرآة السودان» نظراً لقلّة المال. وفي نظري أن صحفنا السودانية لو وجدت الإقبال الذي هي أهل له في البلاد العربية، وخاصّة في مصر، لَما تعثّرت ولَما اختفت.

* * *

المقالة الرابعة عن لبنان. يقول الكاتب: ظهر في «الرسالة» مقال عن الحياة الأدبية في دمشق، وفي عدد آخر تكلّم الأستاذ عبد الوهاب الأمين عن الحياة الأدبية في العراق، فكان من الإنصاف لإتمام الفائدة أن نتكلّم عن الحياة الأدبية في لبنان.

ظواهر الحركة الأدبية في لبنان راكدة كما هي في سوريا والعراق، فالصحافة الأدبية تكاد تكون معدومة والأشهُر تمرّ دون أن تُخرِج المطابع كتاباً نفيساً، وجمهور الشباب مُعرِض عن الآثار الأدبية العربية. والواقع أن إقبال الشباب على الثقافة الأجنبية، وإن يكن نفخ روحاً جديداً في الأدب العربي، فإنه قد أضرّ كثيراً بالحركة الأدبية، خصوصاً في لبنان. فشبابنا المثقف حائر بين الأدب الغربي (العالمي حقاً) والأدب العربي الناقص بإزائه، يُقبِل على الأول لأنه يُرضي ذوقه وثقافته، ويجذبه إلى الأدب العربي نوع من الشعور الوطني.

في مصر والعراق وسوريا، وهي بلدان مسلمة، يتعلّم الشبّان القرآن منذ صغرهم فينشؤون وفي نفوسهم ملَكة العربية، لا تستطيع الآداب الأجنبية أن تطغى عليها. وليس الأمر كذلك في

ص: 402

لبنان، ولولا البكالوريا اللبنانية التي توجب على الطلاّب درس الأدب العربي لأهمله هذا النشء الجديد إهمالاً تاماً.

وقد كانت الحركة الأدبية عندنا في لبنان إلى الأمس القريب تتجلّى بقصيدة رثاء أو مديح أو مقالة شكوى، أو كتاب لا يتعدّى موضوعه المبتذَل الفارغ. ولكن من الإنصاف أن نقول إن البعض من أدبائنا نشروا كتباً لا بأس بها، وإن كان لا يرضى عنها الذوق الأدبي السائد اليوم. ومن هؤلاء الأدباء أمين الريحاني صاحب «ملوك العرب» و «ابن سعود» و «فيصل الأول» و «قلب العراق» ، وعمر الفاخوري صاحب «غاندي» و «أناتول فرانس» ، ولبيب الرياشي، وجميل بيرم، وميخائيل نعيمة مؤلّف كتاب «جبران» ، وسلمى صائغ كاتبة «النسمات» ونظيرة زين الدين مؤلّفة «السفور والحجاب» .

وكان الاعتقاد السائد بين الأدباء أن المثل الأعلى في الأدب هو أدب القرن السابع عشر الفرنسي، وإن كانوا لم يطّلعوا عليه، والمتطرّفون منهم كانوا يقتبسون من العصر الرومانتيكي. أما اليوم وقد نضج هذا الفوج من الأدباء الذين ذكرناهم ولا يُرجى منهم أفضل ممّا أنتجوا، فقد هُدمت حركتهم الأدبية وتوقّفَت مجلاّتهم.

وعندنا الآن فوج من الأدباء الشباب إلاّ أنهم أثّروا على الأدب في لبنان، منهم «عصبة العشرة» التي بثّت روحاً جديداً في الأدب ووجّهَت خطواته على غرار الأدب الغربي الحديث، ولكن حركتها ما عتمت أن سكنت ولمّا تؤدِّ رسالتها على الوجه الأكمل الذي كانت ترجوه.

ص: 403

وقامت أخيراً ندوة الاثني عشر تضمّ عدداً من الشبّان المثقفين ثقافة عالية، يجتهدون للنهوض بالأدب في لبنان نهضة صحيحة من كلّ نواحيه. والأدب في لبنان يتّجه نحو القصّة لأنها تتحمّل الدروس النفسانية ولأنها من أرقى صور الأدب. ومن أبرز الذين يُعنَون بالقصّة خليل تقيّ الدين وتوفيق عواد ورئيف الخوري.

أما النقد الأدبي على الأساليب العلمية الحديثة فحامل لوائه في لبنان فؤاد البستاني صاحب الروائع

وثمّة نَقّادة آخر يمكننا أن نفاخر به هو جبرائيل جبور الذي ينشر الآن كتاباً ضخماً عن عمر بن أبي ربيعة «دون جوان العرب» .

أما في الشعر فقد ساد أولَ الأمر المحافظون ينظمون في الرثاء والمديح والفخر، مثل أمين تقيّ الدين وبشارة الخوري، ثم جاء الشاعر إلياس أبو شبكة فتطوّر معه الشعر

وخطا يوسف غصوب بالشعر خطوة واسعة موفّقة بديوانه «القفص المهجور» . وكان أديب مظهر أول من أدخلَ إلى الشعر العربي نظرية الشعر الرمزي التي يعتنقها اليوم شعراء مُجيدون كصلاح لبكي وأمين نخلة وسعيد عقل، الذي نشر مسرحية شعرية هي «بنت يفتاح» .

إلى أن قال: وكان من إقبال اللبنانيين على الآداب الأجنبية أنهم أضحوا يؤلّفون بهذه اللغات. وكُتُب الريحاني وجبران بالإنكليزية مثلاً مشهورة، وآخر ما أنتجه اللبنانيون من دواوين شعر فرنسي وكان له دويّ بعيد جيّد في فرنسا شعر القرم الذي نال جائزة إدغاربوا في فرنسا بديوانه «الجبل الملهم» . والخلاصة أننا

ص: 404

لسنا متشائمين من حال الأدب عندنا، بل ما نراه حولنا من مظاهر النشاط الكامن يبشّرنا بمستقبل زاهر وبأن الحياة الأدبية في لبنان ستخطو خطوات بعيدة جداً.

* * *

المقالة الخامسة عن الحياة الأدبية في الحجاز. يقول الأستاذ عبد المجيد شبكشي:

كان الأدب العربي مثال الكمال والروعة والازدهار في دولة الأمويين وفي صدر الدولة العباسية، وكان نصيب الحجاز من هذا الازدهار طيّباً مرموقاً، واقتضى خلوّه من الأحداث السياسية أن يحيا مغموراً حتّى تجرّد من العلم والثقافة وصفر من الرجال الممتازين، وعملَت الهجرة على محو مقوّماته ومميّزاته. ثم بدرَت بادرة من بوادر النهوض ونسمة من نسمات الحياة، فنبغَت في الحجاز روح اليقظة الفكرية فأخذ يسترجع ماضيه بفضل جهود البعض من أبنائه المخلصين

سرَت اليقظة في أفكار بعض شباب الحجاز وأحسّوا بالواجب الوطني وتنبّهوا إلى فضل الأدب في نهضات الشعوب، فتأسّسَت لِجان للاجتماع ونوادٍ للأدب، حيث تمثّلوا حركة أدبية لا تشوبها شائبة.

إلى أن قال: ثم جاء دور التكوين للنهضة الفكرية، وكان ذلك قبل عشرة أعوام تقريباً نظم في خلالها أدباء الحجاز الشعر وكتبوا النثر ونشروا نماذج منه، وأعلنوا عن أفكارهم وسجّلوا آراءهم. فشَعر الحجاز حينذاك بدبيب الحياة يتمشّى فيه وأحسّ بجمال الأدب والفنّ معاً، وحينذاك قام أحد أدباء الحجاز البارزين

ص: 405

(الأستاذ محمد سرور الصبّان، مدير إدارة وزارة المالية) وأصدر كتاباً أدبياً ضمّ بين ضفّتيه مختارات لأدباء الحجاز، فأثبت للأمة أن هناك أدباً راقياً يُدعى الأدب الحجازي.

تجد في هذه المجموعة روح الحجاز الأدبية ممثلة من حيث صحّة النزعة وبساطة التفكير وجماله، فكان عمل هذا الأديب بشير يقظة فكرية. وقد كان الأدب الحجازي في ذلك الوقت بسيطاً شأن كلّ شيء في بدايته

وكان الكُتّاب البارزون في الحجاز لا يزيدون عن عشرة، أما الحجاز اليوم -بفضل الله ثم بفضل جهود أبنائه المخلصين- فتقدّم بخطوات واسعة إلى الأمام ومال إلى احتذاء أدب مصر ونزعاتها الفكرية.

إلى أن قال: والأدب الحجازي اليوم رمز لِما في أفئدة الحجازيين من عواطف وإحساس وحُبّ وولاء ولِما في نفوسهم من شعور وكرم وأخلاق

وأدباؤنا يشعرون ويتأثرون بعوامل الحياة الفكرية، ويُجيدون التصرّف في فنون القول، ويُبدِعون في سبك العبارات ووضعها في قالب من الحكمة والذوق ليحوزوا قصب السبق في معترك الحياة الأدبية وليرفعوا اسم بلادهم عالياً، وهذا ما يرجوه ويناصره كلّ أديب حجازي وُهب موهبة الإحساس والشعور بالحياة وفرائضها، وليس ولله الحمد ثمة ركود ولا فتور في النفوس والأفكار.

* * *

ص: 406

المحتويات

الحلقة (100) رمضان في بغداد

5

الحلقة (101) إيوان كسرى و «سُرّ مَن رأى»

15

الحلقة (102)«قصّة» انتهت بنقلي إلى البصرة

29

الحلقة (103) من ذكريات البصرة

43

الحلقة (104) في «الكلّية الشرعية» في بيروت

55

الحلقة (105) بيروت سنة 1937 وعملية الزائدة في دمشق

69

الحلقة (106) وقفة في نهاية سبع وسبعين سنة

85

الحلقة (107) أخي المبتعَث إلى باريس

99

الحلقة (108) بغداد تغضب لأختها دمشق

115

الحلقة (109) مقتل الملك غازي ورثاؤه

129

الحلقة (110) من ذكريات المدرسة الغربية في بغداد

143

الحلقة (111) رفضت دعوة القومية فنقلوني إلى كركوك

159

الحلقة (112) كيف صرت ضابطاً؟

175

الحلقة (113) إلى دير الزّور

191

الحلقة (114) دخولي في القضاء

205

الحلقة (115) بين إقرار العدل وتطبيق نص القانون

221

الحلقة (116) من ذكريات الحرب العالمية الثانية

237

الحلقة (117) في القضاء في دوما

249

ص: 407

الحلقة (118) ثورة في دوما: نار شَبَّتْ ثم خمدت

267

الحلقة (119) هجوم على الأطبّاء

281

الحلقة (120) دفاع عن الأطبّاء

295

الحلقة (121) أشتات من الذكريات عن موسم الحج

309

الحلقة (122) من محكمة دوما إلى محكمة دمشق

323

الحلقة (123) القاضي الشهيد

335

الحلقة (124) في سبيل إصلاح محكمة دمشق

349

الحلقة (125) بعض ما صنعت في محكمة دمشق

363

الحلقة (126) عقد الزواج في محكمة دمشق

375

الحلقة (127) الحياة الأدبية قبل نصف قرن (1)

391

ص: 408