الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-114 -
دخولي في القضاء
المكان: دمشق، التاريخ: سنة 1941م.
أنا رسمياً مريض في إجازة، ولكني في الحقيقة صحيح ما بي من مرض إلاّ هذا المرض السياسي الذي فُرض عليّ، ولطالما أمرضَت السياسةُ ناساً كثيراً، ولكن ما شفت أبداً مريضاً.
ثابرت على ما كنت فيه من الكتابة في الصحف اليومية، والمشاركة في أحداث البلد، والخطابة في المجامع وفي المساجد، والكتابة في مجلّة الرسالة. وقد توطّد مكاني فيها وصرت في الطبقة الثانية من كُتّابها، بعد الزيات والعقّاد والرافعي وطه حسين والمازني، وربما قُدِّمَت مقالتي على مقالة زكي مبارك، وهو أَكْتَبُ مني وأحلى أسلوباً.
لمّا رأيت ذلك انتسبت إلى نقابة المحامين، أي أنني صرت محامياً. ومهنة المحاماة ليست سائبة، ولا هي عمارة بلا بوّاب يدخل إليها من شاء، ولكنها مهنة لها شروط، فلا يكون محامياً إلاّ من حمل إجازة الحقوق وتدرّب مُدّة سنتين في مكتب محامٍ من الأساتذة. وكنت قد نلت الشهادة منذ ثماني سنوات، فاضطُررْت
إلى الانتساب إلى مكتب الأمير بهجة الشهابي والأستاذ إحسان الشريف، وكان في المكتب رفيقنا في مكتب عنبر الأستاذ محمد الجيرودي.
وكان نقيب المحامين يومئذ أستاذنا العبقري سعيد المحاسني، فقدّمت أوراقي إلى النقابة ودفعت رسم الانتساب، ولكني لم أرافع إلاّ في قضايا قليلة جداً، كذب عليّ المدّعي في إحداها فبنيت دفاعي على كلامه الكاذب، فلما تبيّن كذبه امتلأت خجلاً من القاضي. وكان القاضي هو الأستاذ صبحي القوّتلي الذي تشرّفت بزمالته في محكمة النقض، وأشهد أنه من أفضل القُضاة ومن أعقلهم ومن أعدلهم.
وممّا ينغّص على المحامي عملَه أن يُعِدّ دفاعاً قوياً يستند فيه إلى الأدلّة القانونية والحُجَج المنطقية فلا يجد من القاضي إلاّ الإعراض عنه، وربما قصر فهمه عن إدراك ما جاء فيه. فتيقّنت أنني لا أصلح للمحاماة ولا تصلح المحاماة لي.
* * *
ربما كان لمصادفة صغيرة أثر في حياة الإنسان كبير. هي مصادفة بالنسبة إلينا، ولكن هذا الكون الذي وضع الله لكل شيء فيه أسباباً وربطه بنظام مُحكَم وقدّر كل ما فيه تقديراً دقيقاً ليس فيه مصادفات. هي مصادفة بالنسبة لنا، ولكنها عند الله خطّة مرسومة ومدوّنة في اللوح المحفوظ.
كنت أسكن في حيّ المهاجرين على سفح جبل قاسيون،
وكنت تلك الليلة في سهرة في الشام. ونحن نطلق اسم «الشام» على البلدة القديمة فقط، فمَن كان في حيّ الميدان أو كان في المهاجرين يقول: نزلت إلى الشام. وكذلك يُطلِق المصريون اسم «مصر» على البلدة القديمة فيقول مَن في شُبْرا: أنا نازل إلى مصر. وإن كان اسم الشام ومصر أعمّ في أصل اللغة وأوسع.
جئت بعد انقضاء السهرة أريد أن أركب الترام ليصعد بي إلى بيتي في الجبل، فتأخّر، فوقفت في ساحة المرجة التي كانت تلتقي فيها خطوط الترام (قبل إلغائه ونزع خطوطه). وطال وقوفي فمللتُ، وجعلت أنظر حولي فوجدت إعلاناً مهترئاً على عمود الكهرباء أمام بناية «العدلية» القديمة. فقرأتُه، فإذا هو دعوة لحَمَلَة إجازة الحقوق للدخول في القضاء.
نظرت في التاريخ فرأيت أنه لم يبقَ على آخر موعد لتقديم الطلب إلاّ يومان اثنان، فتركت الترام وأخذت عربة فذهبت إلى رفيقي محمد الجيرودي، ولم يكن قد تزوّج فكان يقيم في غرفة مستأجَرة عند أسرة نصرانية. فطلبت منه الكتب والمراجع وسألته أن يدلّني على طريق الاستعداد لهذا الامتحان.
وكان الامتحان صعباً جداً؛ كلّ ما درسناه في كلية الحقوق نُطالَب به في هذه المسابقة لدخول القضاء، وأول ما طُلب منّا «المجلّة» (مجلة الأحكام العدلية). وكانت المجلة هي القانون المدني الذي نحكم به، وضعَتها في أواخر القرن الماضي لجنة من كبار علماء الدولة العثمانية كان منهم السيد علاء الدين عابدين (ابن صاحب «الحاشية»)، وكانت جامعة لأبواب الفقه
ففيها أحكام البيع والإجارة والوكالة والكفالة وفيها باب في أصول المحاكمات، وكانت لها مقدّمة في مئة مادّة تتضمّن القواعد العامّة في الفقه، كقولهم:«الأصل براءة الذمّة» ، «القديم يبقى على قِدَمه» ، «العِبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني» (1).
وكنّا قد درسنا «المجلّة» مقسَّمةً على سنوات الدراسة في كلّية الحقوق، وكان مدرِّسنا الأستاذ سعيد المحاسني. وفي «المجلّة» نحو ألف وثمانمئة مادّة قانونية، ولولا أنها اقتصرت على المذهب الحنفي فقط، ولو أنها أخذت من المذاهب الأربعة، أو لو أن واضعيها اعتمدوا على الدليل وعلى ما يلائم روح العصر ولم يتقيدوا بالمذهب الحنفي ولا بغيره من المذاهب الفقهية، لكانت هي القانون المدني المنشود، لِحُسْن سبكها ودقّة تعبيرها، وإيجازها وبلاغتها وشمولها وإحاطتها (وإن كان العثمانيون نسفوا -بعدُ- أكثرَها بالمادّة 64 من قانون «أصول المحاكمات المدنية»).
وكان عليّ للدخول في هذه المسابقة أن أراجع «المجلّة» كلها، وعندي لها شروح كثيرة: شرح الأستاذ سعيد المحاسني، وشرح باز، وشرح الأتاسي، وهو شرح فقهي قيّم. وكان عليّ-ثانياً- أن أؤدّي الامتحان في أصول المحاكمات الحقوقية (وتُسمّى في مصر أصول المرافعات المدنية). وكان عليّ -ثالثاً- أن
(1) وفي كتاب «المدخل» لأخي الشيخ مصطفى الزرقا كلام واسع ونافع عن هذه القواعد.
أدرس قانون الجزاء (قانون العقوبات) وما طرأ عليه من تعديلات، وأن أدرس بعد ذلك أصول المرافعات الجزائية (أي الجنائية)، ومجموعة أخرى كبيرة من القوانين والنظم وقرارات المفوض السامي، الذي كان يملك وحده السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية. السلطات الثلاث كانت مجموعة بشخص المفوض السامي، أي أنه كان أوسع سلطاناً من رئيس جمهورية فرنسا ومن رئيس مجلسها النيابي ومن رئيس مجلس قضائها الأعلى معاً!
لقد أعطاني الأخ محمد الجيرودي ما أحتاج إليه من الكتب، فحملتها وذهبت إلى داري على أن أقدّم الطلب صباح الغد، ولكن اعترضني أنّ من جملة الشروط أن يكون الطالب قد أكمل مُدّة التمرين في المحاماة، وهي سنتان، وأنا لم أكمل تلك المدّة. فحِرْت ماذا أعمل، ولكن الله إذا أراد أمراً هيّأ أسبابه ويسّر وسائله، وذلك أنّ وزارة العدل لمّا وجدَت المتقدّمين لهذه المسابقة قلّة ووجدَت عددهم دون العدد المطلوب سهّلَت الأمر فألغت هذا الشرط، وسمحت لكل من يحمل إجازة الحقوق بدخول المسابقة ومدّدَت مدة تقديم الطلبات عشرة أيام.
كأن الله أراد لي دخولها فأزال كلّ عائق أمامي، فقدمت الطلب وقُبلت في المسابقة. وكان بيني وبينها أمد نسيت الآن مقداره، فذهبت إلى بيتي وأغلقت عليّ بابي، وانقطعت عن الناس تماماً فلم أتصل بأحد. وكنت قد تزوّجتُ (وسيأتي خبر زواجي) ووُلد لي، فحالت زوجتي بين الناس وبيني أن يشغلوني، فعكفت على هذه الكتب وهذه القوانين، وفرّغت عقلي ووقتي لها
فلم أشتغل بغيرها، حتّى إنني أحطت بموادّ «المجلّة» كلها حفظاً عن ظهر قلب (وهي -كما قلت- 1800 مادّة) وبقوانين الأصول وقرار حقوق العائلة الذي كان قانون الأحوال الشخصية في تلك الأيام، وزدت على ذلك فبحثت فيه مادّةً مادةً وبيّنت من أين استُمِدّت موادّه، فما كان منها من المذهب الحنفي عرفته لأنني تفقّهت من صغري في المذهب الحنفي، وما كان مأخوذاً من المذهب المالكي (وهو كثير) سألت عنه الشيخ الكافي والصديق الفقيه الأديب الأستاذ عبد الغني الباجقني رحمة الله عليهما، فأرشداني إلى مكان وجوده في كتب الفقه المالكي المعتمَدة. ووجدت فيها مادّة تخالف المذاهب كلها، بل تخالف الكتاب والسنّة، فجعلت من عملي الحملة عليها في كل مكان والسعي لإبطالها وإلغائها، حتّى وفّق الله إلى ذلك يوم وضعتُ أنا مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري الذي يُطبّق الآن في سوريا.
تلك المادّة هي أنه لا يجوز لأحد أن يزوّج البنت التي لم تكمل التاسعة من العمر، فإن زوّجها كان هذا الزواج باطلاً لا يُعتَدّ به ولا يكون له أثر معتبَر. ألقيت بعد ذلك محاضرات وكتبت مقالات أحمل فيها على هذه المادّة، وأقول إنها تقتضي اعتبار عقد الرسول عليه الصلاة والسلام على عائشة بنت أبي بكر عقداً فاسداً، لأن الرسول ‘ عقد عليها وهي بنت سبع سنين.
وجاء يوم الامتحان ولم أكمل استعدادي، فأتمّ الله نعمته عليّ فأُجّل الامتحان لأن المتقدّمين كانوا أقل من العدد المطلوب، فجدّدت استعدادي وعكفت مرّة أخرى على هذه القوانين وهذه النظُم حتّى ظننت أنني استكملتها حفظاً وفهماً.
ودخلت الامتحان، وكنت فيه -بحمد الله- من أوائل الناجحين، وعُيّنت قاضياً شرعياً في منطقة النَّبْك.
كان القاضي الشرعي يومئذ في مصر يختلف وضعه عن القاضي المدني؛ لأنه متخرّج في الأزهر والقاضي المدني في كلّية الحقوق، ولأنه لا اطّلاع له على القوانين الأجنبية واللغة الأجنبية. أما الوضع عندنا في الشام فعلى غير ذلك؛ إذ كان كل من القاضي المدني والقاضي الشرعي يُشترط فيه أن يكون حاملاً إجازة الحقوق، ولا يحملها إلاّ من أكمل الدراسة الثانوية ونال شهادتها، ولا يكملها وينال شهادتها إلاّ من عرف لغة أجنبية وأتقنها، فلم يكن في الحقيقة فرق كبير في سوريا بين القاضي الشرعي والقاضي المدني. لذلك كان من المألوف عندنا أن يُنتدب القاضي الشرعي للقيام بعمل حاكم الصلح (أي القاضي الجزائي) وأن يكون عضواً في محكمة البداية (المحكمة الكبرى) أو مستشاراً في محكمة الاستئناف.
نجحت في الامتحان وعُيّنت قاضياً، ولكنني لم أسارع إلى استلام العمل بل طلبت من الوزارة أن تُمهِلني شهراً. لا لألعب فيه وأستمتع ولا لأسافر وألهو، بل لأواظب في المحكمة الشرعية في دمشق حتّى أعرف المعاملات كلها: ابتداء من عقد النكاح وحصر الإرث وتنظيم الوصيّة، إلى الحكم في قضايا الإرْث والزواج والوقف
…
كان وزير العدل الزعيم الوطني زكي الخطيب، وقد مرّ ذكره لمّا تكلمت عن حسن الحكيم، وقلت إنهما من أنزه مَن
عرفت بلادنا من السياسيين ومن أنظفهم. وزكي الخطيب هو ابن عم أمي، لكنني لم أستغلّ هذه القرابة بيني وبينه بل طالبت بحقّ قانوني، فأمهلني شهراً كنت أواظب فيه على المحكمة الشرعية. وكان الذي يرشدني ويدلّني أخونا الأستاذ صبحي الصباغ الذي كان بعدي في كلية الحقوق، والصديق الأستاذ الشيخ أنيس الملوحي، وقد تُوفّي رحمه الله.
لم أدع معاملة ولا قضية يمكن أن تَرِد على المحكمة إلاّ بعد أن عرفت طريقة تقديمها وأصول النظر فيها؛ ذلك أنّ القاضي الذي يتسلم عمله وهو غير مطّلع على ذلك يتحكم فيه رئيس الكُتّاب ويصرّفه كما يشاء، وأنا لا أريد أن يتحكم بي من هو دوني (ولا أريد أن أشمخ بأنفي على من هو دوني).
ذهبت إلى النَّبْك. والنبك في اللغة جمع نَبْكة، والنبكة هي الأرض المرتفعة. وقضاء النبك في ذروة جبل من جبال لبنان الشرقية ترتفع عن سطح البحر أكثر من ألف وخمسمئة متر، وإلى جنبها يَبْرود، وهي أعلى منها وأجمل منظراً وأكثر ينابيعَ وعيوناً، وكلاهما مَصِيف مقصود.
أهل النبك يقيمون في منطقة جبلية لا زرع فيها ولا ضرع، فهم يذهبون إلى أمريكا لا سيما الجنوبية منها، لذلك تجد بينهم أغنياء وتجد بينهم فقراء.
* * *
كانت أول قضية قابلَتني قضية ضخمة جداً، إضبارتها تعدل في عدد صفحاتها جزأين من القاموس المحيط لا جزءاً واحداً.
وكان كبار المحامين يأتون من دمشق للنظر فيها، وكانت قضية إرث على مبلغ كبير. فتهيّبتها ولم أعرف من أين أبدأ النظر فيها، وبقيت ليالي أسهر عليها، أخشاها فلا أمدّ يدي إليها. ثم وجدت أنه لا بد من دراستها، فقرأت مئات من صفحاتها، ثم خطر لي خاطر هو أن أبدأ الدعوى من أولها، فقرأت الادّعاء فوجدت المدّعي يقول بأن القاضي حصر الإرث في فلان وفلان إلخ، فأعطاه أكثر ممّا يستحقّ.
رفعت يدي عن الأوراق متعجّباً؛ إنها دعوى غير صحيحة، لأن الدعوى الصحيحة هي التي يطلب فيها المدّعي طلباً مشروعاً ليُحكَم له به على خصمه، وهذا لا يطلب شيئاً، لا يقول أعطَوني أقل ممّا أستحقّ فأكملوا لي استحقاقي، بل يقول: إن الذي أخذتُه أكثر ممّا أستحقّ فأطلب تعديل الحكم.
وعجبت كيف خفيَت هذه الحقيقة الظاهرة على مَن نظر في الدعوى قبلي من القضاة، بل كيف خفيَت على كبار المحامين الذين كانوا يأتون من دمشق إلى النبك، مسافة ثمانين كيلاً، ليحضروا الجلسة ويُدلوا بما لديهم من دفوع! وشككت في نفسي، فرجعت إلى قراءتها مرّة ثانية لعلي كنت مخطئاً، فوجدت بعد الإعادة والتكرار أن الدعوى من الأصل غير صحيحة، أي أنها عِمارة من عشرة أدوار أُقيمت على غير أساس!
فأويت إلى فراشي مطمئناً، ونمت مسرعاً على خلاف عادتي، لأن الغالب عليّ أن أتقلب في الفراش، تتصادم الأفكار في رأسي يضرب بعضها بعضاً فيوقظني من غفوتي، لكنني في
تلك الليلة نمت وفكري مستريح.
وأصبح الصباح وغدوت على المحكمة، وجاء المحامون الكِبار، ولا أحبّ أن أسمّيهم لأن منهم من مضى إلى رحمة الله ومنهم من صار متقاعداً. والمحامون أمام القاضي الجديد كالطلاّب الكبار مع المعلّم الجديد: تكون معركة خفيّة بين الفريقَين، المحامون يريدون أن يعرفوا قوّة هذا القاضي من ضعفه، وعلمه من جهله، وحزمه من لينه، ففاجأتهم بقرار:"سُئل الطرفان عن كلامهما الأخير".
وهذا القرار إنما يكون بعد استيفاء المرافعات في آخر الدعوى ليُعلن بعده ختام المحاكمة ويصدر الحكم. فتعجّبوا، واعترضوا عليّ وتعالت أصواتهم، وحسبوا أنني قاضٍ ضعيف لا يدري ما يقول. ولكني أخذتهم بالحزم، وأفهمتهم أن هذا قرار لا يجوز لهم الاعتراض عليه إلاّ بعد ختام الدعوى واستئنافها أمام محكمة أعلى. فسكتوا على مَضَض ينتظرون ماذا سيكون مني، يتوقّعون أن يسمعوا قراراً يتّخذونه نكتة بينهم، يتندّرون به على وزارة العدل التي تُقيم في القضاء مَن لا يعرف أصول القضاء، فإذا القرار:"لمّا كان الادّعاء مَنوطاً بالمصلحة، وكان المدّعي لا مصلحة له في هذا الادعاء ولا يطلب شيئاً لتحكم المحكمة له به، لذلك أقرّر ردّ الدعوى (أي رفضها) لِما ذكرت، حُكماً قابلاً للتمييز (أي لمراجعة محكمة النقض) ".
انتهت المحاكمة. ونظرتُ إليهم فإذا هم مثل الذي يصحو من حلم عجيب. لقد تنبّهوا إلى أنهم كانوا يسيرون في طريق لا
يوصل! ويضحكون من أنفسهم ويهنئونني على هذا القرار. وذهبوا فحدّثوا به في الأوساط القضائية في الشام، فكان -والحمد لله- خير ابتداء لعملي في القضاء.
* * *
التقسيمات الإدارية في سورية تتبع ما كانت عليه الحكومة العثمانية، فتتألف من أقضية، و «القضاء» هو أصغر هذه الأجزاء الإدارية، ومن مجموع الأقضية تكون «الولاية» (أو «المحافظة» كما سُمّيَت الآن)، ومن مجموع المحافظات تكون الحكومة.
فالقضاء صورة مصغَّرة للحكومة بوزاراتها كلّها، يَرئسها (1) قائم المقام وهو ممثّل وزارة الداخلية، يليه -تبعاً للتشريفات العثمانية- القاضي الشرعي، ثم حاكم الصلح، ثم مدير المال (ممثل وزارة المالية)، والطبيب الذي يمثِّل وزارة الصحّة، وممثّل المصرف الزراعي ووزارة الزراعة، إلى آخره. أي أن لكل وزارة من الوزارات ممثّلاً من قِبَلها يمثّلها في القضاء.
وجدت الموظفين يجتمعون كل ليلة عند قائم المقام. وكان قائم المقام يومئذ في النبك رجلاً إدارياً قديماً من حيّ القيمرية في الشام، مهذّباً رقيق الحاشية يحسن معاملة الناس، ولكنه بعيد عن جوّ العلم والأدب. ووجدت الأحاديث في هذه المجالس تافهة لا منفعة منها، بل لا متعة فيها، فأعرضت عنها. وانتقيت جماعة
(1) الشيخ عبد القادر المغربي، أستاذنا الذي صار يوماً رئيس المجمع العلمي، بحث في هذه المادّة (أي رأس) فتبيّن له أن الأقرب إلى الصواب أنها «رأَسَ يَرْئِس» .
من الموظفين، على طريقة الشيخ سليمان الجوخَدار (الذي تقدّم الكلام عنه) وجعلنا نقرأ كتاباً ونتحدث حديثاً علمياً، نحدّد موضوعه قبل الجلسة. وانضمّ إلينا جماعة من أفاضل أهل البلد منهم شابّ (أو يومئذ كان شاباً) متخرّج في المدرسة الخسروية في حلب، بعمامة بيضاء هو الشيخ عبد الفتاح مالك الذي صار من كبار موظفي الأوقاف، وعلمت أنه غدا متولي الجامع الأموي في دمشق والمشرف عليه. وكان الشيخ عبد الفتاح هذا يلازمني ويكون معي دائماً، وكنت أطمئنّ إليه وأُسَرّ بأسئلته وبما يخوض فيه من موضوعات علمية نافعة، وكان يعينني على ما لا أستطيع النهوض به من شؤون الحياة، لأنني عشت عمري كله وأنا لا أحسن بيعاً ولا شراء ولا أعرف كيف أخالط الناس وأداخلهم.
وقضاء النبك -على قلّة أهله- مترامي الأطراف بعيد الجنبات، فكان يصعب على من في السهل أن يصعد الجبل إلى النبك لحضور المحاكمات، فجعلَت وزارة العدل يوماً في الأسبوع ينزل فيه القاضي وحاكم الصلح إلى «القطيفة» . وطريق حمص طوله مئة وستّون كيلاً ولكنه مقسّم من القديم إلى محطّات، في كل محطّة قلعة وخان كبير كان يقوم يومئذ مقام الفنادق في هذه الأيام، يستريح فيه المسافر ويأمن فيه على نفسه وماله. في نصف الطريق تقوم النبك على بُعد ثمانين كيلاً من الشام، وما بين الشام والنبك، في نصفه، قرية القطيفة، وبين النبك وحمص في نصف الطريق قرية حسية على بعد أربعين كيلاً من حمص؛ أي أنه كان يقوم بعد كل أربعين كيلاً خان ومحطّة ومركز للحكومة.
كان حاكم الصلح يومئذ رجلاً أعرفه من أيام المدرسة، كان سابقاً لي في الدراسة، وكان أكبر مني سناً وهو من أسرة كبيرة في الشام، ذكيّ من أذكى الأذكياء ولكنه كان يستعمل ذكاءه في الباطل، فلم يكن قاضياً عادلاً بل كان مائلاً يميل مع مصلحته ويدور حيث دارَ القرش، فكانت الشكوى منه مستمرّة، يهمس بها الناس همساً خوفاً منه ولا يقدرون على مجابهته بها، بل إنهم يَجْبُنون عن رفع شكواهم إلى الحكومة خوفاً من انتقامه، لقوّة شخصيته ومضاء عزيمته وشدّة ذكائه وكبر أسرته.
وكان وزير العدل -كما قلت- زكي الخطيب، ثم تبدّلت الوزارة وصار مكانه القاضي الكبير الحلبي راغب الكيخيا (وأصل كيخيا: كتخدا). وكان عندي محاضرة في جمعية التمدّن الإسلامي حُدِّد وقتها وموضوعها قبل تبديل الوزارة، وكان موضوع المحاضرة «ماضي القضاء وحاضره» . تعبت عليها جداً وراجعت كتباً كثيرة جداً حتّى استخرجت قواعد أصول المرافعات من كتب الفقه الإسلامي، وكان يمكن أن يكون منها كتاب جامع لولا أني أهملتها حتّى اختلطَت أصولها وضاع أكثرها، وما أكثر ما أضعت من أمثالها (1). وحضر إلقاءها الوزيران: الوزير المستقيل زكي الخطيب والوزير الجديد راغب الكيخيا، وحضرها كبار القضاة منهم حَمي (أي والد زوجتي) القاضي صلاح الدين الخطيب.
أعجبَت المحاضرةُ السامعين وقام الوزيران فأثنيا عليها
(1) القسم الباقي من هذه المحاضرة منشور في مقالة «القضاء في الإسلام» ، وهي في كتاب «فكر ومباحث» (مجاهد).
واحداً بعد واحد، ونشأت على إثْرِها صلة بيني وبين الوزير الجديد راغب بك، حتّى إنه عمل على إذاعة هذه المحاضرة من الإذاعة مجزّأة كلّ أسبوع، فكان كل أسبوع يرسل إليّ سيارة الوزارة لتأتي بي من النبك إلى دمشق لألقي قسماً منها. ولم تكن للإذاعة عمارة خاصّة بها، بل كانت في غرفة من بناء الهاتف الآليّ.
وجدت من الأمانة أن أُعلِم الوزير بما عليه الحال في القضاء (قضاء النبك)، تخليصاً لذِمّتي لا قدحاً بزميلي ولا طعناً به، وقد قلت له ذلك بعد تردّد طويل وبعد أن وزنت الأمرَين (أمر السكوت وأمر الكلام) بميزان الشرع ثم بميزان العقل، فرجح عندي وجوب الكلام. ورجعت إلى مقرّ عملي.
وكان نزاعٌ بيني وبين حاكم الصلح على كاتب من كُتّاب المحكمة اسمه أحمد عبد المالك، هو يريد أن يأخذه إلى محكمته وأنا أريد أن أبقيه في محكمتي. وكان يتباهى أمام الناس بأن له سلطاناً في الحكومة فلا تَردّ له طلباً، فجئت بقرار من نائب الجمهورية بإبقائه عندي فسعى لإبطال هذا القرار، فجئت بقرار من النائب العامّ نفسه. ومرّت أيام وإذا بي أتلقّى ليلاً برقية سرّية من راغب بك الكيخيا (لا تزال موجودة عندي بأصلها الرسمي وخاتمها) وفيها:«تَقرّر كفّ يد حاكم الصلح. تولّوا أنتم أمر المحكمتين. راغب الكيخيا» .
ذهبت صباح اليوم التالي إلى محكمة الصلح فوجدت غرفة الحاكم مغلَقة، فقلت لرئيس الكُتّاب: افتحها. فتردّد وقال إنه
لا يستطيع حتّى يشرّف البك، فأريته البرقية، فاستخذى وفتح لي الغرفة، وقعدت على كرسي الحاكم.
وكان للحاكم وسطاء معروفون في البلد، أحدهم نائب المنطقة في المجلس النيابي وآخر من المحامين، يأخذون من الناس ويدفعون إليه. فلما دخل الأول ورآني تجمّدَت رجلاه فلم يتقدّم، وسأل الناسَ: ما الحكاية؟ فاستدعيتُه وقدّمت إليه كرسياً وقلت له: تفضّل. فقعد، ودعوت له بالقهوة ثم سألت: هل لك يا أبا فلان عمل في المحكمة لأساعدك على إنجازه؟ قال: لا. قلت: هل يمكن إذن أن أعرف لماذا كان حضورك إليها؟ فلم يستطع الجواب. فقلت له بلطف: أرجو ألاّ تفعل ذلك مرّة ثانية لأنني لا أفتح الباب إلاّ لصاحب عمل، للمدّعي أو المدّعَى عليه أو للشهود في الدعوى، أو لمن له معاملة رسمية.
ثم جاء المحامي الذي يعمل لحساب الحاكم فقلت له مثل ذلك. وأجّلت القضايا كلها حتّى أدرسها وعكفت عليها أنظر فيها، أميّز حقّها من باطلها، فلم تمضِ إلاّ مُدّة يسيرة حتّى أدرك القريب والبعيد أن المحكمة قد نظفَت وخلَت بحمد الله من كل ما يخالف الشرع أو القانون، وانتفت منها الشفاعات والوساطات والرشوات.
لقد كسبت عداوات ناس أقوياء ولكنني أرضيت الله، والله أقوى منهم، ومن ابتغى رضا الله بسخط الناس رضي عنه الله وأرضى عنه الناس. فلم تمضِ إلاّ مُدّة يسيرة حتّى رضي الناس عمّا كان وحمدوا الله عليه، وشكروني أني كنت السبب فيه.
وليس في مُتَع الدنيا متعة أكبر من أن ترى الاعوجاج والانحراف، ثم يعطيك الله القوّة على تقويم المعوجّ وعلى تعديل المنحرف. إن في ذلك رضا الله وموافقة الشرع ورجاء ثوابه، ولكن الثواب العاجل هو هذه المتعة النفسية العجيبة التي لا توصف، يجدها مَن يوفّقه الله إلى مثل ذلك.
* * *