الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-124 -
في سبيل إصلاح محكمة دمشق
كان عنوان أول مطبوعة صدرَت لي سنة 1347 هجرية هو «في سبيل الإصلاح» . ولقد حرصت عمري كلّه أن أسلك هذه السبيل، وكنت أُوفَّق بحمد الله أحياناً وتغلبني نفسي أو تعترضني العقبات فأتنكّبها حيناً.
من الناس من يبالغ في الشجاعة حتّى يجرّد سيفه ليقاتل طواحين الهواء وأعمدة الكهرباء، ومن الناس من يغلو في الجبن «حتّى إذا رأى غيرَ شيء ظنّه رَجُلاً» ، {يَحسَبونَ كلَّ صَيحةٍ عليهم} ، ومن يتشدّد في الطهارة حتّى تصير عنده وسواساً
…
وأنا أبالغ في الشعور بالظلم والإشفاق على المظلومين؛ لو سمعت بمظلوم في المغرب وأنا في أقصى المشرق، أو قرأت قصّته التي وقعت منذ قرون، لم تمنعني شدّة البعاد ولا اختلاف الآماد من أن أغضب له، وأتمنّى أن أردّ عليه حقّه وأن أضرب على يد من ظلمه. حتّى إنني لأشاهد المسلسلة في الرائي فيها عادٍ ومعدوّ عليه، شيطان يأخذ ما ليس له بحقّ ومغفّل يُعطي ماله لمن لا يستحقّ، فأتمنّى أن أتمكّن من العادي فأردّ كيده وأعرّفه حدّه،
وهي مسلسلة خيالية كلها تمثيل في تمثيل!
فتصوّروا حالي وقد لبثت سنين أرى الرشوة والظلم والفساد ولا أقدر على إزالته ولا على تقليله، كانت عيني بصيرة بالمعايب ولكن يدي كانت قصيرة عن محوها، كنت أرى السيارة تسير على غير الطريق ولكن مِقوَدها بيد غيري، كنت أعرف المرض وعندي دواؤه ولكن لا سبيل إلى إيصاله إلى المريض. فالآن طالت يدي القصيرة وتسلّمت أنا مِقوَد السيارة، وفُتح لي الباب لأحمل إلى المريض العلاج.
إنها لذّة من أكبر اللَّذَاذات: أن ترى الباطل غالباً والحقّ مغلوباً وترى نفسك عاجزاً، ثم تُعطى القوّة على دحر الباطل وعلى نصرة الحقّ. لقد وجدت هذه اللذّة التي لا تعادلها اللذاذات مرتين: مرّة في النبك لمّا كنت قاضياً فيها، وقد مرّ بكم الخبر، وهذه الثانية.
إنها لذة، ولكن هل في الدنيا لذائذ لا تشوبها الآلام؟ هل يصفو لأحد نعيم في الدنيا؟ كنت أنظر فأرى نفسي مسؤولاً عما أقضي فيه. والقضاء مَركب صعب، لذلك فر منه كثير من كبار السلف وأبَوه واحتملوا في سبيل إبائهم الضرب والسجن والإيذاء، فإذا كان أبو حنيفة وكان سفيان الثوري وكان أمثالهما يهربون منه ويخافون أن يعجزوا عنه، فكيف أُقدم أنا مطمئنّاً عليه؟ اقرؤوا سيرة أبي حنيفة لمّا أُكرِهَ على القضاء. بل ارجعوا إلى كتاب «قُضاة الأندلس» ، فإن فيه أحاديث كثيرة عمّن أبى دخول القضاء من العلماء.
ثم أرجع فأقول لنفسي: إذا فرّ الناس جميعاً من القضاء فمن يقوم به؟ ولقد قلت في محاضرة لي قديمة (1) أشرت إليها في هذه الذكريات: إن القضاء أعلى درجة استطاع البشر الارتقاء إليها؛ ارفعوا القضاء من تاريخ الإنسان يهبطْ إلى درك البهائم ويأكل القويُّ من بني آدم الضعيفَ. وإن معنى الإنسانية وحقيقتها إنما تكون في الحياة المستقيمة الهادئة الآمنة، التي لا يطغى فيها أحدٌ على أحد، والتي تُصان فيها الحَيَوات والحرّيات وتُحفَظ الدماء والأعراض، ويتحقّق فيها التعاون على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا يكون ذلك كلّه إلاّ بالقضاء.
والقضاء عند المسلمين أقوى الفرائض بعد الإيمان؛ إنه عبادة من العبادات، ففيه إظهار للعدل، وبالعدل قامت السماوات والأرض. وصف الله به نفسه إذ قال:{فاللهُ يحكُمُ بينهم} وقال: {إنّ ربّكَ يقضي بينهم} ، وأمر به نبيّه فقال:{وأنِ احكُمْ بينهم بما أنزَلَ اللهُ ولا تتّبعْ أهواءهم} ، وجعل أنبياءه قُضاة بين خلقه:{إنّا أنزلنا التوراةَ فيها هُدىً ونورٌ يحكُمُ بها النبيّون} ، وبه أثبت الله اسم الخلافة لداود حين قال له:{يا داوُد إنّا جعلناكَ خليفةً في الأرضِ فاحكُم بينَ الناسِ بالحقِّ ولا تتّبعِ الهوى} . وقلت من قديم إن القضاء أول ما تَعقد عليه أمةٌ خناصرَها إذا عَدّت أمجادها ومفاخرها.
وإذا استُدلّ بفرد على خلائق شعب كان القاضي العالِم العادل أكبرَ دليل على مكارم شعبه ونبل أمته، وإذا كان بين
(1) أُلقِيَت في نادي «التمدّن الإسلامي» سنة 1361هـ.
الشعوب اليوم من يفخر باستقلال قضائه وعزّته ومضائه ففاخروا -يا شبابنا- بقضائكم يكن لكم الفخار وتُعقَد على جباهكم تيجان الغار، ولكن لا تناموا على هذا المجد التليد بل انهضوا فصِلُوه بمجد لكم جديد (1).
* * *
هذا ما قلته من قديم، ولم أكن ألقي فيه خطابيات بل أسرد حقائق، فالقضاء لا بدّ منه ولكنه امتحان صعب، والداخل إليه داخل على خطر. فقعدت أفكر: ما حُكم تَوَلّي القضاء في الشرع؟ رجعت إلى ما يقول الفقهاء فإذا خلاصة أقوالهم أنه إذا لم يكن في البلد إلاّ واحد يقدر على تَوَلّي القضاء -علماً منه بأحكامه واستقامة في سيرته- كان دخول القضاء بالنسبة إليه فرض عين. وإن كان في البلد اثنان فأكثر كلٌّ منهم يصلح له كان دخوله فرض كفاية عليهم. وإن كان رجل يصلح للقضاء وغيره أقلّ صلاحاً منه كان دخوله القضاء مندوباً إليه، وإن كان صالحاً له وغيره أصلح كان دخوله مكروهاً، وإن كان يعلم من نفسه العجز عنه وقبل به كان آثماً ظالماً.
هذا في تولي القضاء في ذاته. ولكن من يكون رئيس محكمة يكون حمله أثقل لأنه يصبح مسؤولاً عن كل العاملين معه في المحكمة؛ إن زلّ واحدٌ منهم أو ضلّ عوقب معه الرئيس إن سكت عنه. فماذا أعمل وهي تَبِعة تَضعف عن حملها شُمّ الجبال
(1) هذه قطعة من أول مقالة «القضاء في الإسلام» ، وهي في كتاب «فِكَر ومباحث» ، فمن شاء أكمل قراءتها هناك (مجاهد).
الرواسي؟ ماذا أصنع لأُحكِم المراقبة وأمنع ما كنت أُنكِره؟ وهل أستطيع وحدي أن أحارب هذه المجموعة من الناس، ومنهم من هو متمرّس بهذا العمل له معارف وأصدقاء يؤمنون بما يقوله لهم، ويأخذون الحقيقة كما صوّرها هو لا كما هي في صورتها؟ سيُشيع عني هؤلاء قالة السوء في الناس، وما يشيع (أي الشائعات) كالدخان تقذف به المدخنة، لا يستطيع أحد أن يردّه ولا التي أطلقته أن تستردّه.
وجفا النوم عيني ليالي كوامل متعاقبات، أقلّب فيها جسمي على الفراش وتتقلّب في رأسي الآراء، وأقوم متعَباً من الأرق كمن مشى عليه فيل صغير فضعضع جسده وحطّم أضلاعه! وكنت أسأل الله أن يهديني، أرجع إليه ولا يُرجَع في الشدّة إلى غيره. فهداني وله الحمد وأراني الحقّ، فسألته أن يقوّيني على تحقيقه، فجلا الله لي وجه الحقّ ورأيت أنّ مراقبة الكُتّاب والمساعدين وهم متفرّقون في هذه الغرف الكثيرة، كلٌّ في غرفة وحده لا رقيب عليه إلاّ الله، أمر يكاد يكون كالمستحيل، وفكرت في جمعهم جميعاً في مكان واحد. ولكن أين أجمعهم وكيف؟
وتذكّرت أنها لمّا كانت الوزارات كلها في قصر الحكومة في سراي المرجة كان لوزارة العدل بهو واحد يجتمع فيه موظفوها جميعاً، وأمامهم حاجز يفصلهم عن الناس، هم من ورائه والمراجعون أمامه، ولهم نوافذ صغيرة يكلّمون الناس منها يأخذون ويُعطون ما يريدون من الأوراق.
فذهبت إلى زيوار بك الجابي محاسب وزارة العدل. وكان -كما قلت لكم- كبير السنّ مستقيم السيرة صافي القلب، إذا سمع
اقتراحاً نافعاً أخذ به. فقلت له: زيوار بك، أين الحواجز التي كانت تفصل موظفيكم عن المراجعين لمّا كنتم في سراي المرجة؟ قال: في المستودع، فماذا تريد منها؟ قلت: أريد أن أركّبها في القاعة الكبرى التي كان يقعد فيها الشيخ عزيز أفندي الخاني رحمة الله عليه، وأن أجمع الموظفين فيها فيسهل على المراجعين الاتصال بهم. فهل تعطيني هذه الأخشاب؟
فسُرّ وقال: خذها بارك الله فيك، فإنني لا أعرف ما أصنعه بها. قلت: وتبعث معي من يحملها إلى المحكمة ظُهر يوم الخميس بعد انصراف الموظفين، وتبعث معها نجّاراً يركّبها في القاعة على النحو الذي أتصوّره؟ قال: نعم.
وكان يقوم على وزارة العدل سامي بك العظم الذي سبق ذكره، وهو من أصدقاء أبي وخالي محب الدين الخطيب. وكان رئيس ديوان الوزارة رشدي بك الحكيم، وهو أيضاً من جماعة محب الدين، من السابقين إلى محاربة التتريك وتنبيه العرب من غفلتهم. وكلاهما (على بعد ما بيني وبينهما في السنّ والمنزلة) كان صديقاً لي وكان يعطف عليّ ويحبني، وكل هؤلاء وأستاذنا محمد كرد علي (وهو أسنّ منهم) كلّهم من تلاميذ الشيخ طاهر الجزائري. فذهبت إليهما فخبّرتهما بما أريد أن أصنع فوافقا عليه، فقلت: إنني أريد أن أنقل كلّ ما في غرف الكُتّاب إلى هذه «القاعة» (1)، أنقل المكاتب وأنقل الخزائن والأوراق، وأخاف أن
(1) القاع أرض بين جبلين مرّ عليها السيل فخلّفها نظيفة مستوية، أما «القاعة» فلم يعرفها العرب بهذا المعنى ولكن لا ينكرونها.
يأتي واحدٌ منهم فيدّعي فَقْدَ شيء ما كان في غرفته، فأرجو أن يُرسَل معي موظف تعتمد عليه الوزارة يكون هذا النقل بإشرافه وبنظره وبعلمه.
قالا: نعم، سنفعل. فلما كان يوم الخميس وانصرف الموظفون بقيت في المحكمة ووصلَت الأخشاب ورُكِّبت في القاعة، وتركت أمامها مكاناً للمراجعين يقفون فيه فيكلّمون الموظفين ويعطونهم ويأخذون منهم ولا يدخلون عليهم.
وكنت قد طلبت إلى الفرّاشين المجيء عدا واحداً منهم، هو فراش القاضي الممتاز الذي لم أكن أثق به ولا أطمئنّ إليه والذي كان من جملة العاملين الفاسدين في المحكمة. جاء الفرّاشان الباقيان في الموعد الذي ضربته لهما بعد صلاة الجمعة وجاء مندوب الوزارة، وكنّا قد هيأنا حَمّالين اختارهم زيوار بك، المحاسب، فجعلنا نفتح الغرف غرفة غرفة وننقل ما فيها من المكاتب والكراسي والخزائن والأوراق، بحضور مندوب الوزارة وبحضوري أنا، إلى المكان المخصّص لكل واحد منهم في القاعة الكبرى وراء الحاجز. فما كانت عشيّة الجمعة حتّى كان كل شيء قد تمّ وأمست الغرف خالية ما فيها شيء، واجتمع ديوان المحكمة كله في هذه القاعة الكبيرة جداً التي وسعَت هذا كله، وبقي ربعها للناس المراجعين يدخلون إليه ويقفون فيه.
* * *
فلما جاء الموظفون يوم السبت في مواعيدهم (وكنت قد سبقتهم مبكّراً إلى المحكمة) رأوا ذلك، وقامت قيامتهم وجُنّ
جنونهم وأقبلوا يَقدُمهم (1) رئيس الديوان محتجّين معترضين، فقلت لهم: هذا ما أقرّته الوزارة، فمن شاء منكم أن ينتقل إلى محلّه الجديد فأهلاً وسهلاً، ومن أبى فليذهب إلى الوزارة فليشكُ إليها.
رأوا أنهم لا حيلة لهم ولا ينفعهم احتجاج ولا تفيدهم شكوى، فقبلوا مُكرَهين بالأمر الذي وقع.
ثم جعلت لكل معاملة من المعاملات الإدارية مُدّة معلومة تُسلَّم بعدها صور قراراتها إلى أصحابها. فمعاملة الزواج وحصر الإرث تُنجَز في يومها، فتُسلّم صورها إلى أصحابها بعد أربع وعشرين ساعة على الأكثر، ومعاملات الوصايا جعلت لها مدة مناسبة، وأعلنت للناس أنّ مَن تأخّرَت له معاملة عن هذا الأمد الذي حدّدتُه فليراجعني.
وكان من المسموح به قانوناً أن تُعقَد عقود الزواج في المنازل بطلب من أصحابها، وكانت الأجرة المقررة للكاتب (أو المأذون) لإجراء العقد هي خمس ليرات سورية فقط والسيارة تنقله إلى دار المتعاقدين وتعيده منها. وأعلنت للناس أن من دفع أكثر من ذلك يكون قد خالف القانون ويُعتبر عمله رشوة يُعاقَب فاعله عقوبة الراشي، وكنت أبعث من قِبَلي ناساً يحضرون العقد ويتشمّمون الأخبار ويعرفون كم دُفع للكاتب.
وكان أكثر الناس يُجزِلون العطاء لمن يعقد العقد في هذه
(1) يقال قَدِمَ يَقْدَمُ (على وزن عَلِمَ) إن جاء، وقَدَمَ يَقْدُم (على وزن أَكَلَ) إذا تقدّم القومَ ومشى أمامهم.
المناسبات، حتّى إن أحد قُضاة قصر العدل طلب كاتباً بموافقة مني ليعقد عقد ابنته فدفع له مئة ليرة! وبلغني الخبر فدعوت الكاتب وأنذرته بأن يأخذ خمساً منها وأن يردّ له الباقي، وهددت من يعود إلى مثل ذلك برفع أمره إلى وزارة العدل، فصار الكُتّاب إذا أُكرِهوا على أخذ شيء يزيد عن الحدّ المقرَّر جاؤوني به في اليوم الثاني خوفاً من العقوبة.
وجعلت لأصحاب المعاملات أرقاماً كالتي تكون في المصارف (البنوك)، فمن قدّم معاملته أولاً أعطيه رقم واحد، يأخذ الرقم بيده مطبوعاً على ورق مقوّى عليه ختم المحكمة ويُربط مثيله بالمعاملة، وأنذرت الديوان بأن تسير المعاملات وفق هذه الأرقام، فإذا كان رقم أربعة -مثلاً- لواحد من عامّة الناس ورقم خمسة لوكيل وزارة العدل أو لقاضٍ من كبار القُضاة فقدّمه الكاتب (الديوان) على الرقم الذي قبله أوقعت عليه الجزاء القانوني. وكنت أنزل في النهار فأدخل بين الناس، أدع العمامة في غرفتي فأعود بثياب كالتي يلبسها جمهور الناس فلا ينتبه أحدٌ إليّ ولا يتعرف عليّ، وأرى، فإن لمست مخالفة عملت على عقوبة المخالف.
فانتظم أمر المحكمة، وسيق الناسُ جميعاً بعصا واحدة لا تفرّق بين الغنيّ والفقير ولا الكبير والصغير، بل لا يستطيع الموظف إذا جاء صديقه أو قريبه أو جاء أخوه أن يراعيه على حساب الناس.
ثم رأيت أن هذا كله علاج مؤقّت لا يكاد يأتي منه الإصلاح المنشود، فعملت على إبدال مَن في الديوان واحداً بعد واحد.
وأعانني الله أولاً بإخلاصي، وبأنني لا أبتغي من ذلك جرّ منفعة لنفسي ولا درء مضرّة عنها، والله يعلم ذلك مني. بل إن منفعتي الدنيوية كانت في إرضاء الناس والاستكثار من الأصدقاء وإسكات الألسنة المعترضة، لو أنني أردت مصلحة نفسي. وأعانني الله فجعل مَن في الوزارة يثقون بي ويستمعون مني، لا لأنني قاضٍ، فالقُضاة كثيرون والمنازل بين الموظفين مراعاة ومعتبَرة، لكن لصلات شخصية كالتي كانت بين أبي وخالي وبين الرجلين القائمَين على وزارة العدل، وهما سامي العظم ورشدي الحكيم، ومساعده الموظف القديم الرجل الطيب زيوار الجابي، رحم الله الثلاثة. ولأن كل من كان ينشد الحقّ ويبتغي الإصلاح في الوزارة وخارج الوزارة وعلم بما صنعت كان مؤيّداً لي ومعاوناً على ما أريد.
ما مرّ وقت طويل حتّى تبدّل موظفو الديوان جميعاً، ذهب من كان منهم على أيام عزيز أفندي رحمة الله عليه وحلّ محلهم غيرهم، منهم من سَهُل عليّ أمر نقله ومنهم من تبيّن أن له جذوراً ممتدّة في الأرض يصعب اقتلاعها. والغريب أن أطول هذه الجذور وأكثرها امتداداً وتشعّباً كان لرئيس الديوان الذي كان إليه أمر المحكمة كله، ولأصغر عامل فيها وهو الآذن (الفرّاش) الذي كان على باب القاضي الممتاز!
كان هذا الفراش (واسمه أبو محجوب) يرفع ويضع ويقدّم ويؤخّر، ويستطيع أن يصنع في المحكمة ما لا يقدر على صنعه مساعد من المساعدين، حتّى إنه كان يستعمل غرفة القاضي
الممتاز للبيع والشراء، فوراء أرائكها المصنّفات (الملفّات الفارغة) يبيعها بضعف ثمنها في السوق والطوابع يبيعها بأكثر من قيمتها، ويعلّق ثيابه في المكان المخصّص لتعليق جبّة القاضي، أي أن هذا الفراش الصغير كان حاكماً بأمره في المحكمة! ولقد وجدت في اقتلاعه مشقّة أكثر من المشقّة التي وجدتها في نقل الموظفين جميعاً.
* * *
وضح الآن سبيل الإصلاح لأن العاملين في المحكمة تبدّلوا، جاء جماعة يستمعون كلمة الحقّ ويطيعونها ويمشون عليها.
ووقعتُ في أزمة أكبر حين منعت مختاري الأحياء (المختار هو العمدة باصطلاح مصر والسعودية) من دخول المحكمة إلاّ إذا كانت لهم قضية شخصية أو كانوا وكلاء بوكالة رسمية من أصحاب القضية، ومنعت معقّبي الأوراق. وعندنا في الشام مهنة كأنها معترَف بها وهي مهنة المعقّب، لهم مكاتب وعندهم عُمّال يسخّرونهم ويسيّرونهم إلى المحاكم. وأنا أعلم أن في هذا تسهيلاً على الناس لأن من الناس من لا يتّسع وقته ولا جهده لمتابعة المعاملات بنفسه في الدوائر، ولكن هؤلاء يأتي منهم شرّ أكبر؛ فهم يأخذون من الناس أكثر ممّا يستحقون، وربما اتفق الواحد منهم مع الموظف المنحرف على صاحب المعاملة أو مع خصمه الذي يشكوه
…
وكل شيء في الدنيا يغلب ضرره على نفعه يُصار إلى منعه، فالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما
أكبر من نفعهما، ولذلك حُرِّما.
وهؤلاء المختارون والمعقّبون ليسوا فئة قليلة ولا كانوا ضعاف الحيلة، وإن لهم لأصدقاء ومعارف وأعواناً، فجمعوا جموعهم واستعانوا بأصدقائهم ومعارفهم وحزّبوا عليّ الأحزاب، حتّى إنهم رفعوا شكوى إلى رئيس الجمهورية! فأحالها على وزير العدل ووصلت إليّ لإعطاء الجواب، ثم لم يطالبني أحدٌ بجواب ولم أرسل أنا هذا الجواب وبقيَت عندي إلى الآن، وهي أمامي وعليها أختام الأئمة والمختارين (أي العُمَد) في أحياء دمشق كلها.
وغاية ما في الأمر أن الوزارة سألَتني سؤالاً غير رسمي عن حقيقة هذه الشكوى، فشرحت لهم ما عندي وبيّنت حُجّتي، فسكتوا وسكتّ. ما أدري هل سكتوا اقتناعاً بها أم لغير ذلك. الله أعلم.
* * *
كان في المحكمة قُضاة ثلاثة، فلما بقيتُ فيها وحدي عملت على نقل أخي الشيخ مرشد عابدين إليها. والشيخ مرشد هو أخو شيخنا الطبيب الفقيه المفتي الشيخ أبي اليسر عابدين، وأبوهما مفتي الشام الشيخ أبو الخير عابدين، الذي كان عمّه صاحب الحاشية المشهورة. وقد خلَفني الشيخ مرشد في النبك ثم في دوما، ثم جاء معي إلى دمشق، فاتفقنا على أن نقوم وحدنا (أنا والشيخ مرشد) بالأعمال الإدارية (أي الديوانية) وبالقضاء؛ فأخذت أنا قاعة الشيخ صبحي الصبّاغ وأخذ هو قاعة الشيخ عادل
العلواني، واقتسمنا الأعمال الإدارية بعد أن اتفقنا على منهج العمل وعلى خُطّة السير.
كانت الغاية واحدة، ولكن كلاًّ منّا يختار الطريق الموصل إليها بما يوافق سرعة خطوه وطبيعة نفسه؛ أنا كنت أقرب إلى الصراحة والشدّة، بل إلى العنف أحياناً، وهو أقرب إلى اللين وإلى اللطف. أضرب لكم مثالاً:
جاءنا على عهد الشيشكلي رحمه الله ضابط كبير يريد أن يتزوّج امرأة من دمشق، فلما نظرت في أوراقه تبيّن لي أنه درزي، فحاولت أن أصرفه بما أقدر عليه من اللطف واللين وهو يُصِرّ، ثم رفع صوته وقال: نحن نفدي الوطن بأرواحنا وندافع عنه بحياتنا، فهل نحن مسلمون أم لا؟ فلم يبقَ مجال للمجاملة فقلت له: إذا لم تُمْحَ هذه الكلمة من أوراقك ولم يُكتَب مكانها كلمة «مسلم» فلا أستطيع أن أعتبرك مسلماً وأن أُزوّجك بها.
قذفتها في وجهه قذفة واحدة. إلى متى أصبر؟ فلم يكن منه إلاّ أن ستر غضبه بالضحك، وقديماً قالوا:«شرّ البلية ما يُضحِك» . قال: ولكن القاضي الشيخ مرشد يقول غير ذلك. فتنبّهت إلى أنها إحدى هِناته وأنه يريد أن يهرب من هذا المأزق فرماني أنا فيه، فقلت أردّ كُرَتَه إليه كما يكون في الملعب. وقلت للرجل: إن الذي قال بأن الدروز غير مسلمين هو جدّ الشيخ مرشد، وهو ابن عابدين في كتابه الذي يُرجَع في الفتوى إليه وهو الحاشية المعروفة. فاذهب إلى الشيخ مرشد وقل له أن يمحو هذه الكلمة من كتاب جدّه أو أن يدبّر هو الأمر.
قال: صحيح؟ قلت: نعم، وانتظر قليلاً. وذهبت وجئته بالحاشية وبالكلمة المدوَّنة فيها عن الدروز وأمثالهم من الفرق، فذهب إليه.
وأرجو ألاّ يغضبَ من هذا الكلام أحدٌ من الناس، فأنا لا أحكم على كل من انتسب إلى الدروز وعلى كل من وُلد في أسرة درزية، فالله لا يحاسبنا بأنسابنا ولكن يحاسبنا بما نعتقده بقلوبنا وما نعمله بجوارحنا، فمَن كان يعتقد العقائد المدوَّنة في كتب الفرق المعروفة المنسوبة إلى الدروز وأمثالهم يكون غير مسلم، ومن كان متّبعاً الإسلام معتقداً عقائده ومؤدّياً فرائضه مجتنباً محرّماته، ولكن أباه أو جدّه كان درزياً أو أنه وُلد من أسرة درزية فلا شيء عليه، وهو أخ لنا له ما لنا وعليه ما علينا. ولقد كان ابن أبي جهل من المسلمين الطيّبين وأبوه أبو جهل فرعون هذه الأمة. فلا ينفع الشقيَّ العاصي الكافر صلاحُ أبيه أو جدّه ولا يضرّ الصالحَ التقيّ المؤمن كُفرُ أبيه أو جدّه.
وأنا هنا لتسجيل ذكرياتي ولبيان حكم الله، والذكرياتُ المدارُ فيها على الصدق، فمَن أمسك عليّ كذبة متعمَّدة فلينبّهني إليها، فإن لم أعتذر منها وأرجع عنها كان الحقّ له عليّ. أمّا حُكم الله فهو حُجّة على الكبير والصغير؛ كتابُ الله وسنّة رسوله والثابتُ المُجمَع عليه من شريعته حُجّةٌ على الناس كلهم، وما في الناس كلهم أحد يكون حُجّة على الشرع.
* * *