الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-121 -
أشتات من الذكريات عن موسم الحج
«كل من تلقاه يشكو دهره» ، هكذا قال الشاعر الذي نسيت اسمه. ولكن الذي تبيّن لي أيام العيد أن في الجملة خطأ مطبعياً، هو أن هذه الواو محرّفة عن الراء؛ فما قابلت أحداً من الحُجّاج إلاّ وجدته يشكر ولا يشكو، يثني على سهولة الوصول وأن الطرق سالكة وأن السيارات تنساب فيها كالماء في الجدول، فلا زحام ولا صدام ولا اختناق ولا وقوف. مشت السيارات من عرفات إلى مزدلفة كما تمشي سائر أيام السنة، فالسير منظّم والشرطة ساهرة ناظرة لا تجعل للسان مكاناً للشكوى، والماء البارد المثلّج ميسور موفور في كل مكان بالمجّان، هدية من الملك إلى حُجّاج بيت الله الحرام، وأن الحمّامات والمراحيض النظيفة في كل موضع تسدّ الحاجة وتضمن النظافة.
وما كنت أريد أن أقطع سلسلة ذكرياتي لأتكلّم عن الحجّ، ولكن ما سمعته ذكّرني بضدّه (وكذلك يكون تداعي الأفكار)، ذكّرني بحِجّتنا أول سنة أقمت فيها في مكّة هذه الإقامة الأخيرة، سنة 1384هـ. ولم تكن حِجّتي الأولى في عمري، ولكنها الأولى
منذ أكرمني الله فجاورت في مكّة من إحدى وعشرين سنة. خرجنا من عرفات بعد غروب الشمس فما بلغنا مكّة إلاّ ضحى الغد، لأننا لم نستطع الوقوف في مِنى. ما قطعناه في أربع عشرة ساعة قطعه حُجّاج هذا الموسم في ثلاث ساعات أو ساعتين، وبعضهم قطعه في أقلّ من ساعة.
ولكن لماذا أحدّث بهذا الآن؟ وما الذي يستفيده القُرّاء من هذا الحديث؟ أمّا الذي يستفيده القرّاء فهو إذكاء الشعور بما يعيشون فيه من نعيم لِما بلغوه من تقدّم وارتقاء. إنه لا يعرف قيمة الرخاء إلاّ من عاش في الشدّة، ولا لذّة الوجدان إلاّ من قاسى وجع القلب بالحرمان.
من كان يظنّ قبل خمسين سنة لمّا جئت مكّة أول مرّة، بل من كان يتوهّم قبل عشر سنين أننا سنخرق الجبال بالأنفاق، وأننا نساير السحب في الفضاء بالطيارات الحوّامات، ونشرب الماء عذباً مطهّراً بارداً بلا ثمن؟
من عرف (كما عرفتُ) شظف الماضي، حتّى القريب منه، أدرك -كما أدركت- عظيم نعمة الله علينا بلين الحاضر ونعومته ورخائه. إنكم هنا دون بلاد الله جميعاً في نعمة من الأمان ومن السعة ومن الغنى: غِنى اليد بالمال، وغِنى القلب بالإيمان، لمن أراد هذا الغِنى لقلبه ولم تُطغِه الحياة الدنيا. إنكم هنا في نعمة لا نظير لها، فسيحوا في الأرض كلها فلن تجدوا مثلها، فاستديموها واستزيدوا منها بشكر الله عليها: شكر اللسان، وشكر العمل، وشكر القلب الراضي عن الله.
أمّا جواب سؤالي: لماذا أحدّث بهذا الآن؟ فلأن ذكر الماضي حلو في الأفواه ولو كان هذا الماضي مرّ المذاق. إنّ فقده غلّفه بغلاف برّاق، يلمع من خلال الذكريات فيستهوي لمعانُه القلوبَ الشواعر، لذلك كان من أعظم فنون الشعر العربي القديم الوقوف على الأطلال وبكاء الديار. لا يبكي الشاعر حجراً ميّتاً كما زعم أبو نواس ساخراً، بل يبكي زماناً كان حياً، يبكي قطعة من عمره كانت فبانت.
لذلك قال دانته شاعر الطليان الأكبر: "إن ذكرى اللذّات الماضية تؤلمنا". ولعل مفهوم مخالفة كلامه صحيح أيضاً؛ فذكرى الآلام الماضية تسرّنا. تؤلمنا ذكرى اللذّات لأنها مقرونة بفَقْدها، وتسرنا الآلام لأنها مرتبطة بخلاصنا منها.
* * *
كيف أمضينا من عرفات إلى مكّة سنة 1384 أربع عشرة ساعة؟ لم نكن قد عرفنا مكّة ولا أساليب الراحة في الحجّ مع استكمال فرائضه وواجباته. كنّا غرباء ولم نستعِن بأهل البلاد، بأهل مكّة الذين هم أدرى بشعابها، فاجتمعنا معشر المدرّسين من السوريين نحن وأسرنا، فبلغ عددنا أكثر من خمسين بين رجل وامرأة وكبير وصغير، ثم استأجرنا سيارة كبيرة من سيارات المطوّفين، فكان عملنا كعمل الروم (البيزنطيين) في معركة اليرموك لمّا ارتبطوا بالسلاسل عند الواقعة، فلما كانت الهزيمة وسقط واحد من المرتبطين جرهم معه جميعاً فوقعوا فيها!
اخترنا أولاً سائقاً بدا لنا أنه نشيط وأنه قوي متحمّس يفيض
فتوّة وشباباً، فلما كان الازدحام عند الإفاضة من عرفات وقفَت السيارات تسدّ الطريق صفوفاً أربعاً، تتحرّك الواحدة منها عشرة أذرع في ربع دقيقة لتقف بعد ذلك نصف ساعة تنتظر فسحة تمرّ منها. وكان يرى في الصف الذي هو على أيماننا أو الصف الذي على شمائلنا فرجة لسيارته فيخرج من صفه ليدخل فيها، فربما ضاع منه المكان الذي كان فيه ولم يصل إلى المكان الذي طلبه فوقفنا بين الصفّين! وكان إلى جنبه هراوة ضخمة ما عرفت المُراد من وضعها هنا، حتّى وجدته كُلّما كانت هَيعة أو كان نزاع، لا شأن له به ولا هو من أطرافه أو من مثيريه، ترك سيارته وأخذ هراوته واقتحم الخلاف ليقاتل فيه ينصر طائفة على طائفة، فيسير من هو أمامنا من السيارات فيخلو الطريق لنا، وصاحبنا السائق مشغول بمعركة لا ناقة له فيها ولا جَمَل ولا شاة ولا حَمَل! أي أنه كالذي يدعونه في الشام «غوّار الطّوشة» . وهذا ليس اسماً للممثّل الهزلي المعروف، ولكنه لقب عندنا للذي يُدخِل نفسه في كل «طوشة» ، أي في كل معركة، يغير فيجعل نفسه من أصحابها وما هو منها ولا أرب له فيها.
وطال ذلك من السائق حتّى ضاقت به صدورنا فقمنا عليه. والكثرة تغلب الشجاعة، وهو إن كان قوياً وكان معه عصاه فإنه لا يقوى على خمسين، ولو كان ثلثاهم من النساء والأطفال. فطردناه وجاؤونا بسائق آخر هادئ وساكن، ليس معه عصا وما به حركة، فانتقلنا من حرارة الصيف الملتهب إلى برودة الشتاء، ومن النار المُحرِقة إلى الصقيع المجمّد. كان هذا السائق الجديد نعسان كأنه لم ينَم من ليلتين، بل احذفوا كلمة «كأن» فهو لم ينَم
من ليلتين فعلاً، لذلك كان كلّما أبطأ السير (وهو بطيء على طول الطريق) ألقى برأسه على مِقوَد سيارته فذهب في غفوة، فكنا نوقظه بالألسنة وبالصراخ وبالأيدي، فيكون تعرّضنا للهلاك بسبب نومه كما كدنا نتعرض للموت والاصطدام بسبب حماسة وطيش السائق الأول الأهوج.
ومصيبة النوم على السائقين أشدّ المصائب، لا بل عليهم وعلى الركّاب. ولقد كنّا نحب أوائل عهدنا بمكّة لمّا قدمت للإقامة فيها أن تجتمع الأسر، الرجال مع الرجال والنساء مع النساء، فنذهب إلى مكان لنقضي فيه ساعات بلا تكشّف ولا اختلاط. فذهبنا مرّة إلى بستان الكعكي في المَسْفَلة، وهو قطعة من غوطة دمشق انتقلت إلى هذا المكان
…
كما زعم العرب قديماً أن الطائف كانت قطعة من الشام، انفصلت عن مكانها ثم طافت ما طافت حتّى استقرّت هنا، فمن ذلك سُمّيت -كما زعموا- الطائف.
كان يسوق بنا سيارة دون سيارات النقل الجماعي وأكبر من السيارات العادية، فوقف بنا أمام البستان. وكان صاحب البستان (جزاه الله خيراً) يأذن لنا أن ندخل بستانه وأن نُقيل فيه ساعات، وكنّا نمنع الصغار أن يسبّبوا له أذى ويُحدِثوا في بستانه حدثاً. فلما خرجنا وجدنا السائق نائماً، فأيقظناه فلم يستيقظ، فشددناه وضربه ناس منّا وقام ناس فصبّوا في عنقه الماء المثلَّج من القوارير التي نحملها معنا فما أفاق!
ولم تنجح معه حيلة، فقال لنا الصبي الذي يرافقه: لا تُتعِبوا
أنفسكم فإنه أمضى ليلتين ونصف الثالثة لم يغمض له جفن، فلو أنكم قرعتموه بالمقارع ولذعتموه بالجمر لَما أفاق.
فحملنا أمتعتنا وسرنا من بستان الكعكي إلى حيث نجد سيارة في المسفلة، فكان موكباً عجباً؛ رجال يحملون أحمالاً بأيديهم وعلى أكتافهم، ونساء يسحبن أطفالاً وربما كان لبعضهنّ أطفال في بطونهنّ، ونحن نمشي نتمايل ذات اليمين وذات الشمال حتّى بلغنا مكّة!
* * *
أعود إلى ما كنت فيه: لقد قرأتم فيما مضى من هذه الذكريات الكلام عن مكّة لما جئتها أول مرّة سنة 1353هـ من إحدى وخمسين سنة، وكيف كان الحرم وكيف كانت الطرق وكيف كانت أماكن المشاعر.
يا أيها الإخوان، إن الذي نراه اليوم كان حلماً من الأحلام فتحقّق الحلم. لو خطَطْنا خَطاً بيانياً لِما كنّا فيه وما انتهينا إليه لرأيناه صاعداً كما يصعد المرء الجبل، يعلو ثم يعلو، حتّى إذا كانت هذه السنون الأواخر وجاء هذا الموسم الذي نحن فيه بلغ هذا الخطّ ذروة الكمال، لو كان في طاقة البشر في الدنيا الكمال. فلله الحمد، ثم الشكر لمن كرّمه الله فجعل تحقيق هذه الأمنية على يديه.
أنا لا أريد أن أذكر كل ما صنعوه ولا أقدر أن أذكره، ولكن الله يذكره لأصحابه يجزل لهم ويزيدهم من ثوابه، ويسخّر أقلام المؤرّخين لتدوينه وكتابته. وثواب الله خير من ثناء الناس وذِكر
المؤرّخين. أنا لا أريد هنا أن أؤرّخ لكل ما صنعوه في المشاعر لخدمة الحُجّاج، ولا أن أكتب استطلاعاً (أي ريبورتاج) أبيّن فيه بعض ذلك، ولكنه قطعة من سلسلة ذكرياتي، في هذه القطعة من الذكريات عن الحجّ حبّات إن باعد بينها الزمان فلقد قرّب بينها الموضوع.
إنّ أقدم ذكرى في نفسي من الذكريات المرتبطة بالحجّ واحدة مدفونة في أعماقها فوقها أثقال إحدى وسبعين سنة، ولكن هذه الأثقال تبدو في نظري شفّافة، ذكرى واضحة من ورائها كأنها ما تزال أمامي. كان عمري سبع سنين، وما يُنقَش على صفحة ذاكرة ابن سبع سنين لا يمحوه كرّ السنين.
كانت دمشق (كما قلت من قبل) كطائر له جسم وله جناحان، أمّا جسده فالأموي والقلعة، وما يحيط بهما، وأما جناحه فأحياء الصالحية والمهاجرين والأكراد، والجناح الثاني حيّ الميدان. وكنّا نعيش حياة جامدة راكدة ما فيها إلاّ مشاهد متشابهة، ولكن أعظم هذه المشاهد هو سفر المحمل.
والمَحْمِل بدعة ما لها أصل في الدين، ما أدري متى وُجدت: هودج على شكل هرم مربع الأضلاع يوضع على ظهر الجمل، منقوش نقشاً مزخرَفاً فيه آيات وفيه عروق بألوان مغريات، ولا يزال محفوظاً في المتحف الوطني في الشام (1).
(1) قرأت من أيام (ونحن في آخر سنة 1985) بحثاً عن المتاحف العربية نسي كاتبه أو لم يدرِ أن أقدمها (في غير مصر) المتحف الذي أقامه محمد كرد علي في المجمع العلمي سنة 1919.
وكان يرد مكّةَ في موسم الحجّ المحملُ الشامي والمحمل المصري، ومع كل منهما قوّة من الجند تحميه ومقدار من المال يُغرُون به الأعراب الذين يُخشى عدوانهم على موكب الحجّ. كان ذلك قبل أن يوفّق الله عبد العزيز إلى جعل طريق الحَجّ آمناً، لا يخاف المسافر فيه ولو كان وحده. ولقد كتبت في الرسالة لمّا جئنا مكّة أول مرّة من طريق البَرّ سنة 1353هـ (وقد مرّ خبر ذلك) أن الصحراء في عهد عبد العزيز آمَنُ من شارع الشانزليزيه في باريس. وأزيد الآن: آمن من الشارع الخامس في نيويورك. وهذا حق واقع لا مبالغة أديب.
كانت دمشق كلها تنتقل في ذلك اليوم إلى طريق الميدان، فالباعة يعرضون بضائعهم وأصحاب الألعاب يعرضون ألعابهم والمنشدون وأهل الفنون الشعبية يُبدون فنونهم ويرفعون أصواتهم بأناشيدهم، والناس يملؤون النوافذ المطلّة على هذا الشارع ويصفّون كراسيهم على جانبَيه، كل ذلك انتظاراً لمرور الموكب الذي تسبقه جماعات الفرسان والموسيقى العسكرية، ثم يأتي البيرق، وهو عَلَم ملفوف، ثم يأتي المحمل والوالي والمشير وكبار الموظفين والأعيان في عرباتهم، إذ لم تكن السيارات قد عُرفت في دمشق.
في ذهني صورة ليست كاملة ولكنها واضحة الجوانب لهذا اليوم، ولعل هذه المرّة كانت آخر مرّة يخرج فيها المحمل من دمشق، ومن شاء أن يراه فإنه موجود في المتحف الوطني فيها. كان موكب الحجّ يُمضي على الطريق أربعين يوماً في الذهاب ومثلها في الإياب، فإذا عاد الحُجّاج حملوا معهم الهدايا من
مكّة والمدينة، وأكثر ما يحملونه معهم ماء زمزم في علب صغيرة من الصفيح محكَمة الإغلاق، وبعض تمر المدينة يأكلونه تبرّكاً به، وشيء من تراب المدينة في قطع على شكل كُمّثرى ملفوف بشرائط ضيّقة من القصب، كنّا نلعقه بألسنتنا لنتبرّك به. وكل ذلك -كما يعلم الجميع- لا أصل له في الشرع. ومن الهدايا التي كان يحملها الحجاج طاسات وكؤوس وأوانٍ من النحاس المنقوش نسمّيه في الشام «المَكّاوي» نسبة إلى مكّة، مع أنه لم يُصنَع فيها وإنما صنع كما أظن في الهند أو في غيرها، فلست أدري على التحقيق.
ومرت الأيام حتّى جاءت سنة 1353هـ، فرحلنا رحلة الحجاز الصحراوية التي سبق الحديث عنها. ولم ندرك فيها أيام الحجّ ولكن وصلنا بعد انقضائها.
حججت أول حجة سنة 1373هـ، ولهذه الحجّة حديث طويل سيأتي إن شاء الله عقب الكلام على المؤتمر الوحيد الذي حضرته في عمري وهو مؤتمر القدس، والذي انتُخبتُ رئيساً لإحدى لجانه التي هي لجنة الدعاية، ورحلنا رحلة طويلة إلى آخر المشرق نُعرّف المسلمين بقضية فلسطين ونشرحها لهم، من غير أن نقبض مالاً، لأن عندي خشية تبلغ حد الوسواس من الدخول في قضايا تتصل بجمع المال واستلامه.
وسأصف إن شاء الله كيف كانت مكّة في تلك الأيام، وكيف كان الحرم قبل توسعته هذه الأخيرة، وإن كان قد مرّ طرف من ذلك فيما سلف نشره من هذه الذكريات.
* * *
ثم حججت أنا وأهلي سنة 1381هـ، وكنت قد رجوت وأنا في دمشق أخي الأستاذ الصواف أن يحجز لي ولها غرفة في فندق مصر (فندق الكعكي الآن).
في هذه الحجّة مواقف كثيرة في ذكرها متعة وفيه منفعة، أسردها الآن سرد أجدادنا للمُتون ثم أعود إن شاء الله فأشرحها وأحشّي عليها كما كانوا يفعلون، أو إن شئتم فإنني آتي بها الآن موجزة كما يصنع المذيع في الأخبار ثم أعود إلى تفصيلها وبيان ما لها من الآثار.
من ذلك أنه صاحَبَنا في الطيارة جماعة من المعارف وبعضهم يقرب أن يُعَدّ في الأصدقاء. فلما نزلنا انشغلوا بأنفسهم عنّا، وكان معي كتاب توصية من مساعد قضائي عندي في محكمة التمييز (النقض) من كرام أهل الشام إلى وكيل للمطوفين اسمه أبوزيد. ولم أبرز له الكتاب ولكنه سبقني فسألني عن اسمي ثم دعاني إلى مكتبه أنا وأهلي، فأكرمنا إكراماً لا مزيد عليه ورحّب بنا واستنظرَنا قليلاً حتّى يعد لنا سيارات توصلنا إلى مكّة، فلما رأى ذلك أصحابُنا الذين كانوا معنا جرّتهم المنفعة إلى الالتصاق بنا، فاقتربوا منّا بعد أن كانوا قد أعرضوا عنّا، واستغلّوا كرم الرجل حتّى إنهم سألوه عن موقع السوق، فأرسل معهم من يدلّهم وأوعز إليه أن يشتري هو لهم ويدفع ثمن مشترياتهم. فتجلّى الطمع في بعض النفوس، فاشتروا ما يحتاجون إليه وما لا يحتاجون إليه لأنهم اطمأنّوا إلى أن الثمن يخرج من كيس غيرهم!
في هذه الحجّة مواقف كثيرة لا بدّ من العودة إلى توضيحها
وإلى تفصيلها، فمن ذلك أنني لمّا وصلت رأيت حارس الفندق نائماً (لأن وصولنا كان في السحَر)، وكانت غرفتي محجوزة أدفع أجرتها من يوم حجزها، ومع ذلك لم أستطع الوصول إليها فذهبت إلى الحرم.
ومن أخبار تلك الحجّة (التي سأعود إن شاء الله إلى بيانها) أنه كان معنا في الفندق ناس من أفاضل العلماء ومن كبار القوم، منهم الشيخ محمد حسنين مخلوف أطال الله عمره وأبقى عليه صحّته، والشيخ القَلْقيلي مفتي الأردن رحمة الله عليه، فأخذاني إلى الاجتماع الذي أُنشئت فيه رابطة العالَم الإسلامي. وكان المفروض أن أُعَدّ من هيئتها التأسيسية، ولكنني لما أعرفه من نفسي من التوحّد والعمل المنفرد انسحبت منها واعتذرت عنها. وفي تلك الحجّة دُعيت في المدينة إلى أن أكون أحد أعضاء المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة الإسلامية، فحضرت جلسة تعرفت فيها إلى ناس كرام جداً، منهم العالم الفاضل الشيخ الشنقيطي رحمة الله عليه، صاحب «أضواء البيان» .
وقد حضرت -على خلاف عادتي- دعوة كان لها في نفسي أطيب الأثر عند الشيخ عبد العزيز بن صالح إمام الحرم وخطيبه وقاضي البلد، وكأنني سمعت من أحد الحاضرين أن هذه الدار هي الدار التي كان يسكنها عثمان بن عفان رضي الله عنه، والله أعلم بصحّة ما سمعت. وقد عرفت رجلاً خبيراً بالمدينة وآثارها دلّني عليها وأخذني إليها، اسمه الشيخ الحافظ، وقد كان مدرّساً ثم علمت أنه صار قاضياً في محكمة المدينة. وممّن عرفت من المطّلعين على آثار المدينة الأستاذ عبد القدوس الأنصاري رحمه الله،
والأستاذ الدفتردار. وقد كنت قرأت كتاب «آثار المدينة المنورة» الذي ألّفه الأنصاري من القديم، من الصديق الأستاذ محمود الحمصي الذي كان مدرّساً في مدارس المدينة، وهو ابن شيخنا الشيخ صالح، جاء معه بمسوَّدة الكتاب ليطبعه في دمشق فاطّلعت عليه وشاركتُه في تصحيح أخطاء الطباعة فيه.
أحداث كثيرة ربما عدت إلى بيانها إذا عرضَت مناسباتها.
* * *
لو وضعت أمامي الصورة الأولى التي عرفت فيها مكّة والمدينة ومواضع المشاعر فيها، لو ذكرت ما كانت عليه وأظهرت ما انتهت إليه لفركت عينَيّ متعجّباً كأنني لا أصدق ما أراه.
كان الحاجّ يقطع أربعين يوماً حتّى يصل من دمشق إلى مكّة، فصار يصل بالطيارة إلى مطار جدّة في ساعتين اثنتين. وكان يحمل زاده وكلّ ما يحتاج إليه ليعيش به، فصار يجد الآن الأسواق ممتلئة بكل ما أخرجَت الأرض الطيّبة وما أنتجت الأيدي الصَّناع وما أصدرت المعامل، حتّى صار الحاجّ يشتري البضاعة من هنا ويحملها معه إلى بلده. وكان يحمل معه الماء فيشربه إذا عطش فاتراً أو حاراً، فصار يجد الماء المثلّج النقي موجوداً يُقدَّم إليه بالمجّان.
أمّا الطرق وشقّها والأنفاق وفتحها في بطون الجبال، والمرور وتنظيمه، وإقامة المرافق التي تنفع الحُجّاج، وتوسعة المساجد في مكّة والمدينة وعرفات ومزدلفة ومِنى وفي غيرها،
أمّا ما بلغته هذه البلاد من الرقيّ والعمران وارتفاع البنيان فلا يكاد يُصدَّق. ولو أن كاتباً تخيّل ربعه فكتبه قبل ثلاثين سنة لعَدّوه من شطحات الخيال أو من علامات الخيال! وأهمّ من هذا كله أن ما كان يلقاه الحُجّاج من الخوف على حياتهم وعلى أموالهم قبل عهد عبد العزيز قد ذهب كله بهذا الأمن المنقطع النظير.
هذا كله لا يمكن أن يُشار إليه في فقرة من مقالة في جريدة، بل تُنظَم فيه مُعلّقات وتُكتَب فيه مجلّدات، وكل ذلك لا يساوي شيئاً أمام ما يُرجى لمن قام به من ثواب الله في الدار الآخرة. فجزى الله هؤلاء الذين قاموا بهذا كله أفضل جزاء.
* * *