المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عقد الزواج في محكمة دمشق - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌عقد الزواج في محكمة دمشق

-126 -

‌عقد الزواج في محكمة دمشق

كان عندنا يومان كل أسبوع، إذا جاءا جاء معهما الزحام وجاءت الفوضى وأصوات الرجال وخليط من أحاديث النساء (والنساء في العادة يتكلّمن جميعاً معاً وتسمع كل واحدة ما تقول الأخرى) وضجيج الأولاد وصراخ الصغار وبكاء الأطفال! وانقلب صحن المحكمة المفروش بالرخام اللمّاع المزدان بالورد والزهر إلى ما لا يسرّ العين ولا يُرضي النفس؛ ذلك هو يوم عقود الزواج.

نُجري فيه نحواً من ثلاثين عقداً أو أكثر من ذلك أحياناً، ويأتي مع كلّ عقد اثنان: الخاطب والمخطوبة، وأهله وأهلها، وأكثرهم معهم أولادهم، وربما جاء مع المرأة قريبتها أو جارتها ومع الرجل أبوه أو صديقه، ليروا المحكمة ويتخذوا من رؤية صحنها وجمال بنائها فرجة ينفّسون بها عن قلوبهم، وموضوعاً يتحدّثون به إلى أهليهم.

ولم يكن عندنا نظام المأذون الشرعي المعروف في مصر وفي المملكة وغيرهما، وإنما يَعقد العقدَ القاضي أو مَن يأذن له

ص: 375

به. فكان الذي يتولاّه فعلاً واحداً من اثنين: أحد كُتّاب المحكمة (وربما كان جاهلاً بشروط العقد وأحكامه) أو بعض المشايخ ممّن يختارهم القاضي، فيخطب خطبة طويلة تخرج من فمه ميتة يقرؤها قراءة تنوّم المستيقظ. والأصل في الخطبة أن توقظ النائم وتقيم القاعد وتثير الهمم وتبعث العزائم، وهذه الخطب التي تكون في العقد دواء الأرق، تأتي بالنوم لمن جفا عيونَه المنام!

والخطبة سنّة ولكنها ليست شرطاً في صِحّة العقد، فكنا بين أمرين كلاهما أقرب إلى الشرّ: بين استعجال الكاتب الذي يضيع بعض شرائط العقد وتطويل الشيخ الذي يُذهِب بهاءه ويضيع فرحته. وكان الناس ينتظرون حتّى يأتي دور الواحد منهم، فيملّ الانتظار ويزيد الازدحام.

فلما جئت رتّبت أولاً السبق إلى العقد بالسبق إلى المجيء إلى المحكمة، وأعطيت أصحاب المعاملات أرقاماً وربطت بالمعاملة أرقاماً مثلها (كما سبق بيان ذلك من حلقتين)، ثم عمدت إلى العقد الشرعي الأصلي الذي ليس فيه تطويل ولا تعقيد وليس فيه «طقوس» كالتي توجد عند الأمم الأخرى، وليس فيه ما نراه في مصر أحياناً من أخذ العاقد منديلاً أبيض وأمره المتعاقدَين بأن يتماسكا باليدين ويغطّي يديهما بالمنديل، حتّى صار الناس يظنّون وضع هذا المنديل الأبيض من شروط العقد، وما هو من شروطه ولا أصل له في الشرع أبداً.

عقد الزواج في الإسلام أسهل عقد عرفه الناس من القديم إلى الآن، فإذا قال وليّ البنت بحضورها ورضاها للخاطب:

ص: 376

زوّجتُك بنتي (أو موكِّلتي) على مهر مقداره كذا (معجَّلاً أو مؤجَّلاً)، وقال له الخاطب: قبلت، وشهد على ذلك شاهدان

فقد صارت امرأته.

هذا هو العقد في الإسلام؛ لا يُشترَط فيه إذن القاضي ولا حضور مندوب عنه، ولكن ذلك من الأمور التنظيمية التي تركها الشرع للحاكم المسلم، فهي من باب «المصالح المُرسَلة» التي لم يأمر الشرع بها ولم ينهَ عنها، فإن وجدنا المصلحة فيها وأمر الحاكم المسلم بها صار أمره واجب الاتّباع.

وهذا التنظيم في الشام يقتضي أن يزوّج القاضي البنت إذا أكملَت السابعة عشرة من عمرها والشابّ إذا أكمل الثامنة عشرة من عمره. وليس معنى هذا أنّ زواج مَن كان دون هذه السنّ باطل شرعاً، ولكن الحاكم رأى في ذلك مصلحة فأمر الناس به فوجب اتّباعه، فمن خالف أمره لم يبطل زواجه ولكن أوقعنا عليه عقوبة مناسبة لمخالفته أمر الحاكم.

فإذا ادّعى المراهق البلوغ بعد إكماله الخامسة عشرة أو المراهِقة بعد إكمالها الثالثة عشرة وطلبَت زواجها يأذن به القاضي إذا تبيّن له بمشاهدتهما صدق دعواهما واحتمال جسمَيهما، وإن كان الوليّ هو الأب أو الجدّ اشتُرِطت موافقته على ذلك.

فكنّا نشاهد البنت الصغيرة بعد التثبّت من شخصها، تكشف عن وجهها. وكشف المرأة عن وجهها للشهادة لها أو عليها جائز شرعاً، على أن تتخَذ الاحتياطات التي تمنع وقوع الفتنة بهذا الكشف. وكنت في أحوال كثيرة أكتفي برؤيتها بحجابها إذا كانت

ص: 377

متحجّبة من غير أن آمرها بأن تكشف عن وجهها، وإن كان الوجه في الأصل ليس عورة متفَقاً عليها ويجوز كشفه في بعض المذاهب، مع غضّ البصر، فإذا نشأ عن كشفه فتنة للمرأة أو عليها وجب ستره عند عامّة العلماء.

وقد وقعت لي في هذا الباب حوادث طريفة. منها أنها جاءت مرّة معاملةٌ البنت فيها في الثالثة عشرة من عمرها، فبينت لمن قدّم الأوراق أنه لا بد من حضورها مع وليّها لمشاهدتها قبل الإذن بعقد زواجها. فلما كان اليوم التالي جاءني رجل طويل عظيم الخَلق عريض كأنه من بقايا قوم عاد أو من سلالة العماليق، قدّم نفسه إليّ على أنه أبو البنت، ثم جاء برجُل مثله كأنه صورة عنه فقال: هذا عمّ البنت، ثم جاء ثالث كأنه نسخة منهما لا يقلّ في طوله وعرضه عنهما وقال: هذا خال البنت، ثم جاءت امرأة متحجّبة، لولا أنها في حجابها وأنها امرأة وهُم رجال لقلت إنها صورة عنهم ونسخة منهم.

قال: هذه أمها. ثم جاءت بنت في مثل جثّة الأم متحجّبة كأمها، قال: هذه البنت. فقلت بعد أن رأيت أباها وأمها وخالها وعمّها، وتيقنت أن الله أعطاهم بسطة في الجسم أو أنهم أسرة من الفِيَلة، قلت لهم: قد وافقت على إجراء العقد وهذا توقيعي على الأوراق.

بنت ثلاث عشرة سنة أطول مني وأعرض! ورُبّ بنتِ ثلاث عشرة غيرها إذا وقفَت إلى جنبها لم يصل رأسها إلى كتفها، فليسَت العبرة إذن بالسنّ وحده؛ لذلك يُخطئ الذين يُسرِعون

ص: 378

فيتكلّمون بلا علم ولا فهم عن زواج رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أفضل البشر وهو سيد مَن أنصف وعدل، عن زواجه بالسيدة عائشة وهي بنت تسع سنين!

هل رأوها؟ هل شاهدوا جسدها؟ ألا يمكن أن تكون مثل هذه البنت التي أحدّثكم الآن حديثها؟ ولو لم يكن أبوها (أبوبكر رضي الله عنه ولا أمها مثل والدَي هذه البنت التي أتكلم عنها.

* * *

أرجعت العقد إلى وضعه الأصلي في الشرع، فبدلاً من أن يزدحم الناس في صحن المحكمة لينتظروا دَورهم في عقد الزواج جعلت العقد يتمّ في عشر دقائق: أتحقّق أولاً من رِضا البنت، فإن لمحت ما يدل على أنها مُكرَهة على الزواج أو رأيت فارقاً كبيراً في السنّ بينها وبين خاطبها، أو لمست من أبيها قسوة عليها في ملامحه أو في نظراته فهمت منها أنه يُجبِرها على ما لا تريد

أي أنني كنت أستعين بفراسة المؤمن، فإذا ارتبت في الأمر أخذتها جنباً وسألتها بعد أن طَمْأنتها أن ما تقوله لي يبقى سراً بيني وبينها: هل هي راضية عن هذا الزواج أو أنها قد أُكرهت عليه إكراهاً؟

فإذا فهمت أنها غير راضية رِضاً قلبياً لم آذن بإجراء الزواج واعتللت لذلك بعلّة لا تُدني الشبهة من البنت فيغضب منها أبوها أو أمّها، وإن علمت رضاها رضاً حقيقياً ودلّت القرائن والظواهر على هذا الرِّضا أجريت العقد في دقائق، فسمّيت الله وحمدته من غير إطالة ولا إسهاب، وقلت للوالد: قُل للخاطب: زوجتك بنتي على مهر معجّله كذا ومؤجّله كذا، فيقول. وقلت للخاطب: قل:

ص: 379

قبلت. فيقول قبلت، ويسمع ذلك الشاهدان، ويوقّع الجميع في صحيفة العقد من سجلّ العقود وينصرفون.

فلا تكاد تمضي ثلاث ساعات أو أقلّ من النهار حتّى ننجز العقود جميعاً، وينصرف الناس راضين مسرورين. ولم أُحدِث في ذلك حدثاً ولا جئت بشيء جديد، ولكن رددت الأمر إلى نصابه وأعدته إلى وضعه الشرعي البعيد عن التكلّف وعن الرسميات وعن الإطالة التي لا معنى لها.

* * *

ولي مع الآباء حوادث منها ما هو طريف؛ ذلك أنني كنت خلال ولايتي القضاء أُلقي محاضرات في الثانويات أسدّ بها خلل الراتب وأُكمِل نقصه، وكُلِّفت أحياناً بالتدريس في بعض ثانويات البنات. ولست أوافق على هذا المبدأ ولا أسوّغ أن يدرّس شابّ بنات شابّات، فضلاً عن أن تدرّس امرأةٌ (كما حدث أخيراً في العراق أولاً، ثم في الشام ومصر) أن تدرّس فتاة طُلاّباً شباباً. كِلا الأمرين ممنوع شرعاً وعقلاً، ولكني مع ذلك درّست مدّة قصيرة في دار المعلّمات.

ولم يكن في هيئة التدريس من الرجال غيري وغير شيخنا الشيخ بهجة البيطار، فكنا نعتزل النساء ونقعد على حدة، وكانت الطالبات من غير ضغط منّا ولا إلزام يتغطّين في درسي ودرس الشيخ، يسترن شعورهن بالخمار (بالإيشارب). فجاءت مرّة إحدى المدرّسات تسألني وتسأل شيخنا الشيخ بهجة -رحمة الله عليه- عن مسألة شرعية، وكانت كاشفة الوجه، وأظنّ أن كشفها لا

ص: 380

يؤدّي إلى فتنة بها ولا عليها! ولستم تعرفونها ليكون كلامي عنها غيبة لها أو تشهيراً بها، امرأة لم يؤتِها الله أيسر حظّ من الجمال، والله يخلق ما يشاء ويختار.

ذكرت هذه القصّة لأن هذه المدرّسة جاءتني في المحكمة ومعها شابّ أصغر منها، جميل الصورة مكتمل الشباب، يريد أن يعقد عليها عقداً شرعياً. فكلّفتها أن تأتي بأبيها، قالت: إنه ممتنع عن الموافقة على هذا الزواج.

وهذا الامتناع من الوليّ إذا لم يكن له سبب مشروع كان عَضْلاً، والعضل ممنوع شرعاً. وفي مثل هذه الحال يدعو القاضي الوليّ فيسأله عن سبب امتناعه عن الموافقة، فدعوت به فلم يُبدِ سبباً مشروعاً، وقال خلال كلامه إن البنت لا تسكن معه ولا تعطيه شيئاً من مرتّبها.

فقلت: هل أنت محتاج لهذا الراتب؟ قال: لا، بحمد الله، ولكن يجب عليها أن تعطيني شيئاً لأنني أبوها. قلت: إذا كانت لا تسكن عندك فأين تسكن؟ قال: غضب الله عليها، إنها تسكن مع هذا الشابّ في دار استأجرَتها لها وله! قلت: وكيف سكتّ عن سكناه معها وليس زوجاً لها ولا قريباً تربطه قرابة تُحِلّ له مساكنتها؟ قال: لقد عصَت أمري ولم أقدر عليها. قلت: فلماذا إذن لا توافق على زواجها به؟ إذا كنت قد رضيت مرغَماً على أن تقيم معه بالحرام أفلا ترضى أن تقيم معه بالحلال؟ قال: لا.

فكلّمته ووعظته فلم يستمع مني. وكان عندي في المحكمة جماعة من العلماء ومن طلبة العلم يلازمونني في المحكمة،

ص: 381

أكلّفهم بأعمال ينتفعون منها، كالتحكيم بين الزوجين إذا لم يكن في أهلهما من يصلح للتحكيم، وتقدير النفقات، والبحث والتحقيق عن بعض الأمور التي تحتاج إلى تحقيق. ولم يكونوا يَرزؤون المراجعين شيئاً من أموالهم إلاّ ما أقرّره أنا لهؤلاء المشايخ وطلبة العلم ضمن حدود الشرع والقانون.

فوكّلتهم به ليحاولوا إقناعه، فأصرّ على موقفه ولم يتزحزح عنه. وتبيّن لي ولهم أن مقصده كلّه أن يمنع زواج البنت ليستأثر هو براتبها أو ليضع يده على قسط منه، فهو يخاف أن يأتي الزوج فينازعه فيما يأمله ويطمع فيه. عند ذلك استعملت حقّي فزوجتُهما بالولاية العامّة بعد أن تبيّن أن الوليّ الخاصّ عاضل لها. وإن كانت القاعدة الشرعية أنّ «الولاية الخاصّة أقوى من الولاية العامّة» .

وكنت أحرص دائماً على أن يصل المهر كاملاً إلى يد الزوجة فلا يغلبها عليه أبوها كما يفعل كثير من الآباء، يحسبون أن البنت نعجة يبيعونها ويقبضون ثمنها، ومنهم من يقول:"بنتي وأنا حرّ فيها"! لا يا أخانا، لست حراً فيها ولست مالكاً أمرها وليست بضاعة تبيعها وتشتريها، ولكن الشرع جعل لها شخصية حقوقية كاملة، وجعل لها إذا كانت بالغة راشدة أن تتصرف هي بمهرها. فالمهر لها وحدها لا لأبيها وأمها ولا لخالها ولا لعمّها.

* * *

وكان النظام الإداري للزواج في سورية أن تُقدَّم أوراق معيّنة، هي شهادة من المختار (أي العمدة) وعرفاء المحلّة بأنه لا يمنع مانع شرعي من هذا الزواج. وهذه الشهادة للتثبّت

ص: 382

وللاطمئنان وليست شرطاً في صحّة الزواج، فإن تمّ الزواج من غيرها كان شرعياً لا شكّ فيه. ومن الأوراق التي تُربَط عندنا بمعاملة الزواج صورة مصدَّقة من قيد نفوس الطرفين وأحوالهما المدنية، لأن سجلّ الأحوال المدنية في الشام لكل رجل ولكل امرأة صفحة فيه، يدوَّن فيها تاريخ الولادة وتاريخ الزواج والطلاق والأولاد، ويتبيّن منها إن كان للزوج أربع زوجات وجاء يخطب الخامسة مثلاً.

ومن هذه الأوراق شهادة من طبيب يختاره الطرفان بخلوّهما من الأمراض التي تسري من أحدهما إلى الآخر أو تنتقل بالوراثة إلى الأولاد، وللقاضي التثبّت من هذه الشهادة إذا شكّ فيها بمعرفة طبيب يختاره.

وقد وجدت بالاستقراء والتتبّع خلال عملي الطويل في القضاء أن الأطبّاء، حتّى أصحاب الضمائر منهم، لا يتورعون من أن يعطوا شهادة بخلوّ الزوجين من الأمراض من غير فحص لهما. فكنت إذا شككت أسأل المخطوبة: هل راجعتِ الطبيب؟ فتقول: نعم. فأسألها عن اسمه فأجدها تحفظه أحياناً وتنساه أو لا تعرفه حيناً. فإن عرفَته قلت لها: أين عيادته؟ ومن أخذك إليها؟ وما صفته؟

أسأل عن هذا كله لأكشف كذب التقرير الطبّي إذا أعطاه الطبيب زوراً. ولقد أحلت جماعة من الأطبّاء ثبت أنهم أعطوا تقريراً بسلامة الخاطب والمخطوبة من الأمراض من غير فحص لهما أو نظر إليهما، أحلتُهم إلى النيابة العامّة ونالوا الجزاء

ص: 383

القانوني. ثم اتفقت مع طبيب كبير من أصحاب الوجدان، كان أستاذاً لنا في مكتب عنبر، هو الدكتور جودة الكيال الذي مرّ ذكره في هذه الذكريات لمّا ذهب يكمل دراسته في لوزان مع أستاذنا الآخر الدكتور يحيى الشمّاع ومع شيخ الأطبّاء الدكتور حسني سبح رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق الآن

اتفقت مع الدكتور الكيال أن يفحص مَن أحيلُه إليه من الخُطّاب أو المخطوبات من غير أن يأخذ منهم شيئاً، تبرّع بذلك رحمة الله عليه تبرّعاً، ابتغاء لثواب الله ولكشف الكذب الذي ذمّه الله ولعن فاعليه.

فاستقام بذلك الأمر، وصار الأطبّاء يتردّدون قبل أن يمنحوا التقرير الطبي بسلامة الخاطب والمخطوبة من الأمراض، وتحقّق بذلك غرض مَن وضع هذا القانون.

وقد يقول قائل: هذه بدعة لم يعرفها السلف ولم يشترطها الفقهاء. وجوابنا عليها هو أن الوقاية خير من العلاج، وأن الاحتياط من الوقوع في الشرّ خير من دفعه بعد الوقوع فيه، وأن من الأمراض ما يسوّغ للمرأة أن تطلب الطلاق بعد إتمام العقد وبعد اللقاء الزوجي، فتنهدم بذلك أسرة ويتشرّد أعضاؤها. أفليس خيراً من هذا أن نتدارك الأمر قبل وقوعه؟

ثم إن هذا من باب المصالح المرسَلة؛ أي أن هذا الفحص الطبّي لم يأمر به الشرع ولم ينهَ عنه، فإذا تحقّقَت المصلحة فيه وأمر الحاكم المسلم به صار أمره واجباً شرعياً. وفرق ما بينه وبين الواجب الشرعي الأصلي أن ما أوجبه الله يبقى واجباً في كل زمان ومكان، وهذا الذي يأمر به الحاكم من المصالح المرسَلة يكون

ص: 384

واجباً مؤقّتاً، ودليله قوله تعالى:{وأطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمرِ منكم} .

جملة أطيعوا الله جملة مستقلّة، وجملة أطيعوا الرسول جملة مستقلّة، وشبه جملة أولي الأمر منكم معطوفة عليهما لا تُفهم إلاّ بذكرهما؛ فدلّ ذلك على أن وليّ الأمر إذا لم يكن منّا (كأن يكون كافراً غالباً على بلدنا أو يكون في الأصل منّا ولكنه اعتقد عقيدة أو فعل فعلاً يجعله مرتداً عن ديننا خارجاً من جماعتنا) فلا طاعة له ولا للكافر علينا. وإن كان وليّ الأمر منّا ولكنه يأمرنا بما يخالف كتاب ربنا وسنّة نبيّنا فلا نطيعه فيما خالفهما، لأن القاعدة العامّة عندنا أنه «لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق» .

* * *

كانت عقود الزواج تجري في المحكمة أو في دار أحد المتعاقدَين، والاختيار لهما، فمن أراد إجراء العقد في المحكمة لم يكلّفه شيئاً، وكان يستنفد منه وقتاً طويلاً ويحمّله عناء شديداً بالانتظار وبالزحام (فوفّق الله -وله الحمد- فقضيت على هذا كله وجعلت العقد سريعاً سهلاً)، ومن شاء عقْد عقدِه في الدار أوفَدْنا معه أحد الكُتّاب الذين يعرفون طرفاً من أحكام الفقه ويحيطون بشروط الزواج وأركانه، ويكونون من أهل اللطف والذوق فلا يُثقِلون على أصحاب العقد.

أما خُطبة العقد فكان يتولاّها في الشام من القديم جماعة من علماء البلد ووجهائه. لمّا كُنّا صغاراً كان يخطب في العقود الكبيرة التي يجتمع فيها مئات من الناس جماعة معدودون،

ص: 385

أذكر منهم شيخنا الشيخ بهجة البيطار والزعيم الوطني زكي بك الخطيب والأستاذ الخطيب الشيخ جودة المارديني، فلما كبرت أنا ضمّني الناس إليهم فصرت أخطب مع هؤلاء، وإن لم تكن سِنّي من أسنانهم ولا قَدْري من أقدارهم ولا علمي مماثلاً علمهم. ثم جاء بعدي بقليل الأستاذ أحمد مظهر العظمة رحمة الله عليه، فكان يخطب في بعض الحفلات ويخطب في بعضها الأستاذ محمد بن كمال الخطيب زميله وصديقه ورفيقه في إدارة جمعية التمدّن الإسلامي وتحرير مجلتها، ثم نبغ الخطيب البليغ المصقع الأستاذ عصام العطار، ثم جاء جماعة لست أحصيهم الآن.

كانت حفلات الزواج الكبيرة كأنها نادٍ أدبي أو وطنيّ، تُلقى فيها الخطب الوطنية الاجتماعية العلمية ويعلو منبرَها أكابر القوم، ولست منهم، ولكنني خطبت في عشرات منها. أذكر منها الاجتماع الضخم يوم عَقْد أخينا في الله الخطيب البليغ المجاهد الذي احتمل مرضه في سبيل الله الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله، ويوم زواج أخي وولدي الأستاذ العالم الشيخ الدكتور محمد الصباغ، ويوم زواج أخي وصديقي الشيخ فخر الدين الحسني، وهو حفيد الشيخ بدر الدين الذي كنّا نسميه المحدّث الأكبر والذي طالما كتبت عنه في هذه الذكريات وفي غيرها.

وقعَت لي يومئذ قصّة طريفة أحدّث بها لأنها إحدى الذكريات: ذكرت جدّه شيخ الشام المحدّث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني، وقلت أنه لم يُرزَق تلاميذ يحملون علمه وينقلون هذا الكنز من المعرفة عنه، فكأنه كان جنّة حُفّت بالمكاره

وأمثال هذا الكلام. فلما انتهى الاحتفال قالوا لي: إن الشيخ رفيق

ص: 386

السباعي يترصّدك عند الباب!

والشيخ رفيق رجل فاضل ديّن من أخلص تلاميذ الشيخ بدر الدين، وكان طبيباً يحمل شهادة الطبّ من جامعة دمشق ولم يمارسه، وكان جسيماً وسيماً عرضُ كفّه كعرض كفَّيّ معاً، فقلت: إن خرجت أمسك بعنقي. فهربت واختفيت في الدار حتّى قالوا قد انصرف! مع أنه رحمه الله ما كان يؤذي أحداً، وكان يُحبّ الناس وينصح لهم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولكن خُيّل إليّ أنني لما تكلمت عن تلاميذ الشيخ وهو منهم غضب مني.

ومن حفلات الزواج الكبيرة التي أذكرها وخطبت فيها خطبة قال الناس إنها كانت موفَّقة، يوم زواج ولدنا قيس ابن أستاذنا أبي قيس عِزّ الدين التنوخي، الأديب العالم اللّغويّ العَروضي الذي جمع من المزايا ما لو وُزِّع على عدد من النابغين لخلد به ذكرهم. الأستاذ عزّ الدين كان دائماً مع الشيخ بهجة، وقد لزمتُهما مدّة طويلة واستفدت منهما. والأستاذ عزّ الدين التنوخي لم يُعطَ حقه من الكتابة عنه ومن دراسة أدبه، فقد كان سبّاقاً إلى أمور كثيرة؛ من ذلك ما ترونه الآن أو ما رأيتموه قبل قليل في الرائي (التلفزيون)، هذا البرنامج الذي يصوّر حياة الطلبة في إيطاليا (وقد نسيت عنوانه)، هو مقتبَس من كتاب ترجمه من قديم الأستاذ التنوخي، كتاب لم أرَ إلى الآن كتاباً أجود منه في وصف حياة الطلاّب ومشكلاتهم، وأفراحهم وأتراحهم وصلاتهم بأساتذتهم وبأهليهم، هو كتاب «قلب الطفل» . ترجمه الأستاذ التنوخي رحمة الله عليه من قديم وطُبع في جزأين كبيرَين، ولكن

ص: 387

لغته أعلى من أن تصل إليها أفهام التلاميذ، وكنت قد استأذنته في أن أسهّل عبارته وأن أكتب قصصه بأسلوب أقرب إليهم وأسهل عليهم، فأذن لي، ثم توفّاه الله وضعُفَت هِمّتي عن العمل. فلو أن أحد الأدباء الذين يُحسِنون الكتابة للتلاميذ يستأذنون ورثة الأستاذ التنوخي ويُعيدون كتابته بأسلوب سهل قريب، ليقدّموا بذلك للتلاميذ أكبر هدية فكرية.

* * *

وممّا كنت أصنع في محكمة دمشق (وأسأل الله أن يغفر لي الخطأ في عملي إن كنت أخطأت، لسلامة نيّتي وحسن مقصدي): كنت إذا جاءتني امرأة تدّعي الزوجية وكنت أعلم أنها تقيم مع المدّعى عليه على غير زواج تساهلت مع الشهود ولم أناقشهم على عادتي في مناقشة أمثالهم، وأثبتّ زوجيتها.

وكنّا نُثبت الزواج بالتصادق بين الرجل والمرأة، فإذا جاء رجل وقال إن هذه المرأة هي زوجتي، وصادقَته على ذلك، أثبتنا الزوجية بينهما على المذهب الحنفي.

وكنت أتساهل بذلك وأشجّع عليه ليعلم كلّ مَن يجرؤ على مساكنة امرأة بالحرام أنها سترتبط به برباط لا يستطيع فكّه، لذلك كنّا نُثبت الزوجية بالشهادة على أن الرجل والمرأة كانا يسكنان معاً في دار واحدة وكان يدخل عليها كما يدخل الرجل على زوجته ويخرج من عندها كما يخرج الرجل من عند زوجته. ولم نكن نخالف الشرع في ذلك، لأن الشهادة في الأصل لا تكون إلاّ عن عيان وعن حِسّ، فلا يجوز للمرء أن يشهد على شيء ممّا يرى

ص: 388

أو يسمع إلاّ إذا رآه بعينه أو سمعه بأُذنه، إلاّ الشهادة على الزواج وعلى الوقف وعلى مسائل عدّها الفقهاء، فيجوز أن يُشهد بها على التسامع.

أنا أشهد وأنتم تشهدون أن فاطمة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام وعلى آله كانت زوجة لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وما حضرنا عقدهما ولا سمعنا الإيجاب والقبول، فالشهادة على الزواج بالتسامُع شهادة شرعية مسموعة. لم آتِ في ذلك بشيء جديد، ولكن تساهلي في إثبات هذا الزواج وترك حقّي في مناقشة الشهود كنت أريد به أن أردع الفُسّاق عن أن يساكن رجل امرأة لا تحلّ له بغير عقد شرعي.

لمّا انتشر هذا بين الناس في السنوات التي بقيت فيها قاضياً في دمشق أقلع كثير منهم عن هذا الأمر القبيح، وصاروا يخافون أن يشهد على أحدهم مَن يراه وهو داخل على المرأة وخارج من عندها، فتثبت بذلك زوجيته لها.

ومن طريف الحوادث أنها جاءتني مرّة وأنا في مجلس الحكم امرأة معها أولاد، تدّعي أنها زوجة للرجل الواقف موقف المدّعى عليه وأن هؤلاء أولاده، وهو يُنكِر ذلك. فكلفتها البيّنة فلم يكن معها أوراق تثبت الزواج ولا شهود يشهدون لها، وطلبت تحليفه اليمين، وكان الرجل -كما يبدو- قليل الدين، فحلف اليمين. فلما هممت بإعلان الحكم برفض دعواها بكت، فبكى الأولاد معها وصاح صغيرهم:"هيك يا بابا بتعمل مع ماما؟ "، وقال الأولاد الآخرون:"يابابا ليش ماما بتبكي؟ "

ص: 389

فرأيت التأثر على وجه الرجل.

فاغتنمت هذه اللحظة ووعظته وعظاً مؤثّراً خرج من قلبي فوقع في قلبه، فاعترف بأنها زوجته وأن هؤلاء أولاده، واستغفر الله من اليمين الكاذب وسألني: ماذا يفعل؟ قلت له: إن باب التوبة مفتوح، فإذا كنت قد ندمت حقاً (وقد ظهر عليك الندم) فانوِ واعزِم من الآن ألاّ تعود إلى مثلها، وأحسن معاملة امرأتك وأولادك، وأكثِر من الحسنات فإن الحسنات يُذهِبْنَ السيئات.

وخرجوا جميعاً متصافين متراضين، والحمد لله رب العالمين.

* * *

ص: 390