المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بعض ما صنعت في محكمة دمشق - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌بعض ما صنعت في محكمة دمشق

-125 -

‌بعض ما صنعت في محكمة دمشق

كنت قبل أن ألي القضاء وبعد أن أنهيت عهد الطلب وأيام الدراسة، كنت عاكفاً على كتب الأدب والتاريخ، قلّما أنظر في كتاب فقه أو أصول إلاّ إن احتجت إلى مراجعة مسألة أو تحقيقها. ولكني كنت على ذلك أقرأ في اليوم عشرين أو ثلاثين صفحة من مثل كتاب «الخراج» لأبي يوسف أو كتاب «الأم» للشافعي أو «المبسوط» للسَّرَخْسي، لا لاستيعاب ما فيه ولكن إعجاباً بأسلوبه واستئناساً ببلاغة عبارته وسلامة لغته. كذلك كانت كتبنا الأولى، ثم فسد الأسلوب وغلبَت عليه العُجمة وبَعُدَ عن السليقة العربية، وتفرّع عن ذلك الأسلوب قراراتُ المحاكم ووثائقُها فمالت إلى التطويل الذي لا داعي له والتكرار المملّ، على ما فيها من الركاكة والضعف، حتّى صار يُضرَب المثل بها، فمَن رأى رسالة طويلة زادت عن حدّها قال: إنها ليست رسالة ولكنها حُجّة شرعية!

وكانت الحُجَج تُكتب على ورق سميك وتُلَفّ لفاً تبدو معه كأنها قنبلة أو عصاً غليظة تهشّم رأس قارئها! ثم تهذّبَت حواشيها قليلاً قبل استلامي محكمة دمشق ولكنْ بقيَت مليئة بالحشو

ص: 363

والتطويل، فكان أول ما صنعت أن استحدثت صِيَغاً جديدة في الوثائق، مختصَرة واضحة جامعة للشرائط على اختصارها، صحيحة اللغة على وضوحها، لا تكاد تزيد عن عشرة أسطر إلى عشرين سطراً.

واتّبع ذلك مَن جاء بعدي واستمرّ أكثرُه حتّى الآن، ولا يكاد يدري أحدٌ مَن وضع هذا الأسلوب الجديد إلاّ مَن فتح الدفاتر القديمة وقابل أسلوب الوثائق الذي كان فيها قبلي بالأسلوب الذي استُحدث على عهدي واستمرّ بعدي.

وبمناسبة الكلام عن الوثائق أعود إلى ذكر شيء طالما أبدأت فيه وأعدت وكتبت وخطبت، أنبّه إلى ثروة عظيمة أخاف عليها أن تضيع، وأحسب أنها قد ضاعت الآن؛ تلك هي «الوقفيّات» . عندنا في المحكمة الشرعية وقفيات من مئتين أو من مئة وخمسين سنة أو من مئة سنة، فيها من تاريخ البلد العمراني وخُطَطه، ومن وصف دمشق وحاراتها وأحيائها، وذكر وُلاتها وحكّامها، ووصف دورها ومساجدها، وذكر القُرى التابعة لها

فيها من ذلك شيء كثير لم يَعُد يعرفه منّا إلاّ القليل، تُستخرَج منه عشرون رسالة جامعية تُنال بكل واحدة منها أعلى الشهادات؛ فهي كنز لا يُقدَّر بثمن ولا تُغني عنه التواريخ المطبوعة، لأن فيها ما لا تحتويه هذه التواريخ.

كانت هذه الوقفيات أدلّة شرعية لأصحاب الحقوق، فلما ألغى حسني الزعيم الأوقاف الذرية (التي تُسمّى في مصر بالأوقاف الأهلية) وصفّاها ووزّعها على مستحقّيها من غير دليل

ص: 364

شرعي يستند إليه ويعتمد عليه، لم تبقَ لها قيمة مادّية وصَفَتْ للتاريخ والعلم. لذلك خفتُ أن تضيع وبذلت ما أستطيع من جهد، بلساني وبقلمي، فكتبت إلى وزارة المعارف وإلى الجامعة وإلى المَجْمع العلمي، وندبت الناس إلى الاحتفاظ بها خوف ضياعها، فلم يُصغِ إليّ أحد، وأخشى أن تكون الآن قد ضاعت، وحينئذ لا تكفي موازنة الدولة لخمس سنين لتعويضها لأنها كنز لا يُعوَّض.

* * *

كان أعرض باب يدخل منه المفسدون والطامعون بأموال الناس هو قضايا الأيتام الذين ليست لهم أهليّة الدفاع عن أنفسهم ولا يملكون التصرّف بأموالهم. وليس عندنا إلاّ قانون عثماني قديم مستمَدّ في الأصل من المذهب الحنفي.

والمسائل الفرعية في الشرع التي تشتمل عليها كتب الفقه منها ما هو مبدأ ثابت بالنص لا يؤثّر فيه تحوّل الأحوال وتبدّل الأوضاع، وهذا الذي تنطبق عليه القاعدة الشرعية المعروفة:«لا مجال للاجتهاد مع ورود النصّ» ، وقسم هو تطبيق لهذا المبدأ، يتبدّل بتبدّل الأزمنة والأمكنة، وهذا الذي تنطبق عليه القاعدة الأخرى:«لا يُنكَر تبدّل الأحكام بتبدّل الأزمان» .

مرّ على قانون الأيتام دهر طويل تغيرَت فيه أوضاع الناس وهو باقٍ على حاله، كأنه ثوبٌ خِيطَ للولد الصغير على مقاسه، كان مناسباً له، ثم كبر الولد فضاق عنه الثوب! كان هذا القانون يقضي ببيع التركة كلها إن كان في الورثة قاصر وتقسيم الثمن

ص: 365

وحفظ حصّة القاصر في صندوق الأيتام.

وقد وردَت عليّ معاملة أول عهدي بالمحكمة لقاصر مات أبوه وكانت له دُكّان بقالة، أي أنه كان سَمّاناً في القصاع (في حارة النصارى). فقوّمنا الدكّانَ وما كان فيها فبلغ ألفاً وأربعمئة ليرة، وهي بحساب تلك الأيام مبلغ كبير. ولكن المورد الشهري للدكّان كان نحو أربعمئة ليرة، كسباً خاصاً. ففكّرت: كيف أبيع الدكّان بموردها في ثلاثة أشهر؟ بقرة تحلب لي كل يوم، هل أبيعها بثمن لبنها في ثلاثة أيام أو أربعة؟!

وعرضت القضية على مجلس الأيتام الذي كانت لي (أي للقاضي) رياسته وسألتهم رأيهم، فأبدوا آراءهم ثم قالوا (كما هي العادة): الرأي ما تراه. قلت: أنا عليّ أن أنفّذ حُكم القانون ولو خالفت طريق الحقّ الظاهر وآذيت القاصر، ولو عملت ما لا يعمله عاقل في ماله لو كان هذا المال ماله. قالوا: فكيف نصنع إذن؟ قلت: هذا القانون لم ينزله الله وحياً من عنده ولم يأمر به رسوله الذي لا ينطق عن الهوى، ولكنْ وضعه أناسٌ أرادوا الخير فحققوه في أيامهم، ثم ظهر أنه يُضيع ما أرادوا من الحق لمّا تغيرَت الأيام، وعلينا نحن أن نُرضي الله وأن نحقّق العدل، ولو خالفنا هذا القانون البشري، فما رأيكم؟ قالوا: نحن معك.

فجئت بالرجل الذي أقامه الميت في حياته مديراً لهذا المحل، فتعاقدت معه -بوصفي وليّ القاصر القانوني- على أن يستمرّ في إدارة المحلّ، وأن يكون الربح مناصفةً بينه وبين القاصر، بشرط ألاّ يقلّ الربح عن الحدّ الذي هو عليه الآن

ص: 366

وأن يتعهد بدفع الفرق من ماله إذا قلّ الربح بغير إرادته، أو أن يراجعني لفسخ هذا العقد الذي بيننا وبينه.

ولم يكن قرار القاضي في المعاملات الإدارية خاضعاً لاستئناف ولا لتمييز (أي لنقض)، إلاّ أن يشتكي أصحاب العلاقة فتنظر الوزارة في شكواهم. ولم يتفق -بحمد الله- أن رُفعَت عليّ شكوى في مثل هذه المعاملات.

هذا الذي عملتُه وحملتُ تَبِعتَه مخالفاً به نص القانون صار هو السنّة المتبَعة في مثل هذه الحال، ومشَت عليه المحكمة حتّى بعد أن تركتها وخرجت منها، ولم يعُد يشكّ أحدٌ بأنه إجراء قانوني، مع أنه في الأصل مخالف لهذا القانون!

وسأبيّن لكم أنني لمّا وضعت مشروع قانون الأحوال الشخصية (وأُوفِدت بسببه سنة كاملة إلى وزارة العدل في مصر، شاركت فيها في جلسات اللجان التي تضع القوانين المستمَدّة من الشرع للمحكمة الشرعية) عدّلت كثيراً من أحكام هذا القانون.

* * *

ومن غرائب قضايا الأيتام التي عُرضت عليّ أوائل عهدي في المحكمة أنّ شيخاً جليلاً من علماء الشام تُوفّي، وكان له ورثةٌ كبيرُهم طالب علم ظاهره ظاهر أهل الصلاح، وهو مدرّس من مدرّسي وزارة المعارف. وكان ممّا ترك عمارة فيها قبو نصفه تحت الأرض فوقه دور أرضي، فوقهما دوران، الأول والثاني.

جاءني هذا المعلّم فقدّم مقدمة طويلة ألقاها بكلا شدقَيه

ص: 367

متفاصحاً بها. وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يكره المتشدّقين المتفيقهين، أي الذين يملؤون بالكلام أفواههم ويدفعونه من شدقَيهم ولا يتكلّمون كما يتكلّم الناس. قال بعد هذه المقدّمة إنه يخاف أن يأكل حقّ الأيتام ويريد أن يخرج بأوكس النصيبين في الدنيا، يظلم نفسه لئلاّ يحمل إثم ظلم القاصرين، ولذلك قسم العمارة قسمَين متساويَين أعطى القُصَّر أفضلَهما (وهو القبو والدور الأرضي) وأخذ هو الدورَين العُلويّين.

وأنا -كما قلت لكم- أجهلُ الناس بأمثال هذه الأمور، ولكن الله لمّا استهديتُه ورجعت إليه مُقِراً بضعفي ألهمني وجهَ الصواب وبصّرني، فقلت له: اكتب ما تقول ووقّعْ على أن الاثنين متعادلان، وأنّ خيرهما ما اخترتَه للقاصرين. فكتب ذلك بخطّه ووقّعه. فلما صارت الورقة بيدي قلت له: أنا وكيل الأيتام، لذلك أدَعُ لك القسم الأغلى الذي هو القبو والدور الأرضي وآخذ القسم الأقلّ للقاصرين، وهو الدوران العُلويّان.

لا أزال أتذكّر بعد خمس وثلاثين سنة من هذا الحادث، لا أزال أتصور وجهه لمّا قلت له ذلك. لقد رأى أن الله قد كشف كيده وأنه أراد بالأيتام ضراً فوقع الضرر عليه، ولم يستطع أن يقول شيئاً. وخرج وقد كان هو الخاسر وكان الأيتام الرابحين.

وكان أحد إخواننا القُضاة الأذكياء الأقوياء قد أُحيلَ إلى التقاعد (على المعاش) فاختار مهنة المحاماة، وجاءني يوماً في قضية لأيتام كان أبوهم يعمل مخلّصاً جمركياً في محطّة الحجاز، وهي التي يبدأ منها الخطّ الحجازي في دمشق، وكان مقرّ كبار المخلّصين فيها.

ص: 368

كان في الورثة أيتام، فجاءني يعرض عليّ أن أقوّم التركة وأن آخذها كلها للأيتام ولا أدع لموكّله شيئاً. فعجبت من ذلك وتنبّهت إلى ذكاء هذا المحامي والقاضي القديم وإلى مقدرته وسعة حيلته، ففكّرت في الأمر فقلت له: يا أستاذ، إن التركة كلها هي هذه الطاولة والكراسي والخزانة الخشبية والمكان المستأجَر الذي كان يعمل فيه المورّث، وأنا الوكيل عن الأيتام أدع هذا كله لموكِّلك وآخذ اللوحة فقط التي فيها الاسم وأكتفي بها.

فعرف أني كشفت سرّه. وراح يداورني وأنا ثابت مكاني حتّى اضطُرّ إلى القبول.

من أين اهتديت إلى ما قلت؟ لمّا ذهبت إلى مصر أول مرّة للدراسة سنة 1928 (وقد مرّ بكم خبر ذلك) سمعت أن «أورزديباك» قد اشترى اسم التاجر المصري المشهور «عمر أفندي» . ولم نكن نعرف من قبل أن الأسماء تُباع وتُشترى، فقرنت هذه بتلك، ورأيت أن هذا المخلّص إنما كان يعمل باسمه التجاري، وزبائنه مرتبطون بهذا الاسم لا بالمكتب الذي كان يقعد إليه ولا بالكراسي ولا بالخزانة ولا بالغرفة التي كان يسكنها، فرأس ماله إذن وثروته كلها في هذا الاسم، لذلك أصررت على أن يكون الاسم للقُصَّر. ثم انتهينا إلى نوع من الشركة في الاسم بين موكّل الأستاذ البالغ الراشد وبين القُصَّر، كان لهم فيها بحمد الله نصيب الأسد.

وأنا لست من أهل الخبرة بشؤون الحياة، ولكنني كنت -والحمد لله- إذا سمعت خبراً أو رأيت حادثة استخلصت منها

ص: 369

العِبرة فاحتفظت بها في ذاكرتي. ولقد كنت ذهبت من قديم مع شيخنا الشيخ بهجة البيطار رحمه الله إلى عمارة كان أكثرها لأيتام هو الوصيّ عليهم، وقد تعاقد مع مقاول على أن يُنهي بناء هذه العمارة، أي على أن يكسوها بعد أن أقام هيكلها، فوجدت رجلاً من أدْعياء الصلاح والدين، ليّن اللسان قاسي القلب، حلو الكلام ولكنه مُرّ المعاملة، يقصّر في العمل ولكنه إذا رأى الشيخ أسرع فقبّل يده، وكلّما لامه قال له بلهجته المعسولة ولكن عسلها مشوب بالسمّ: يا سيدي أنت شيخنا، تأمرنا أمراً، هل نستطيع أن نخالف أمرك؟ أنا تلميذك وخادمك وربي سيؤاخذني إن قصّرت في حقّ الأيتام، لذلك أبذل طاقتي كلها في خدمتهم والعمل لهم

وأمثال هذا الكلام الذي لا يأتي من بعده عمل.

تذكّرت ذلك لمّا عرضَت عليّ قضية لأيتام أبوهم مقاول يشتغل بالبناء، فلما أحصيت التركة كان للأيتام عمارة صغيرة لم يتمّ بناؤها، فعرض إخوتهم الكبار أن نقدّر نحن نفقات إتمام البناء وأن يتمّوه على حسابهم ثم يسلّموه إلينا. هنا ذكرت قصّة مقاول الشيخ بهجة رحمه الله، فقلت لهم: بل نقوّم البناء ونأخذه بحالته الحاضرة ونأخذ الباقي نقداً، ونحن (أي دائرة الأيتام) نقوم بإنجازه وإتمامه.

وكان ذلك، واستعنت بإخواننا الذين يعرفون هذه الأمور ويراقبون الله ولا يأخذون على ذلك أجراً، كالشيخ عبد القادر العاني رحمة الله عليه، الذي أفاد القُصَّر في هذه وفي عشرات غيرها فوائد أسأل الله له الآن -وقد ذهب للقائه- أن يجزل له

ص: 370

ثوابها. وكان ذلك، فوفّرنا على القاصرين مالاً كثيراً وأبعدناهم عن الغشّ الذي كان يمكن أن يقعوا فيه.

* * *

ولو ذهبت أحصي حوادث الأيتام التي عرضت عليّ في المحكمة لطال الكلام وملّ منه القُرّاء، على أنني قد نسيت أكثرها لبُعد العهد وضاعت مني تفاصيلها، وأسأل الله ألاّ يضيع عليّ ثوابها. ولا أزكّي نفسي، ولكن أقول إنني عملت ذلك احتساباً ورجاءَ ثواب الله، ما نالني منه إلاّ خصومات وعداوات مع الذين أصابهم الضرر أو ضاعت منهم منفعة كانوا يرجونها من هذه القضايا.

وجدت قضايا الأيتام من أثقل تَبِعات القضاء، لأن الله شدّد الوعيد على آكلي أموال الأيتام وعلى مُؤكليها مَن لا يستحقّها، وبيّن أن هؤلاء لا يأكلونها وإنما يأكلون في بطونهم ناراً.

والخطر على الأيتام ليس أكثره من المحكمة ومن موظفيها ولكن من الأوصياء ومن الوسطاء، وإن كان موظفو المحكمة -إن لم يخشوا الله- عاملاً من عوامل الإفساد. والخطر فيها ليس مالياً فقط بل هو خطر أخلاقي، رأيناه في الشام كما رأيته في مصر لما أقمت فيها سنة 1947 وطرفَي السنة التي قبلها والتي بعدها، وكان عملي فيها متصلاً بالمحكمة الشرعية وبالمجلس الحسبي.

ذلك أن المراجِعات في قضايا الأيتام هُنّ الأمهات، وهُنّ في حالات كثيرة من الصبايا الجميلات ومن اللاتي فقدن الأزواج بعد

ص: 371

أن ذُقن متعة الزواج، فمن هنا تَقوى النفسُ الأمّارة بالسوء ويُفتَح للشيطان باب يدخل منه، إن لم يقف أمام النفس وأمام الشيطان إيمان بالله قوي وعون من الصالحين على دفع كيد المفسدين.

وأنا أعلم أن المرأة ولو كانت غير صالحة لا تخطو أبداً الخطوة الأولى في طريق الإثم، ولكنها تتبع الرجل إذا مشى أمامها إليه أو قادها من ورائها وسهّل لها بلوغه. لذلك اخترت كاتباً ديّناً جدياً قوي الشكيمة مستقيم السيرة متزوجاً محصَناً، فجعلته «مدير الأيتام» .

وكانت أموال الأيتام -عملاً بالقانون القديم- تُعطَّل، والمال المعطَّل تفنيه النفقات أو تأكله على المدى الطويل الزكاة (لذلك كان من حكمة الزكاة أنها تدفع إلى تشغيل المال واستثماره). والشرع يمنع تعريض مال اليتيم لما فيه احتمال الخسارة، وعمل الوصيّ أو النائب عن اليتيم هو زيادة المال لا نقصه، فلا يجوز له أن يتاجر به فضلاً عن أن يتبرع به أو يهبه.

وكان القانون القديم يأذن بأن تُقرَض أموال الأيتام بالربا ويستند في ذلك إلى فتوى قديمة من أحد شيوخ الإسلام. ولقب «شيخ الإسلام» كان يُطلَق قديماً على كبار العلماء الموثوق بعلمهم وبدينهم فكان لقب تشريف، فصيّره العثمانيون لقب توظيف وجعلوا منصب شيخ الإسلام بمثابة وزير الشؤون الدينية في بعض البلدان في هذه الأيام، وكان يحضر مجلس الوزراء العثماني ويأتي في التشريفات بعد الصدر الأعظم (أي رئيس الوزراء) مباشرة. وقد تعاقب على هذا المنصب كثيرون جداً،

ص: 372

منهم مَن كان عالماً عاملاً متّقياً لله متثبّتاً في دينه، ومنهم من كان موظفاً كبيراً كسائر كبار الموظفين.

والإسلام لا يعترف بهذه الألقاب وليس فيه «إكليروس» كالذي عند النصارى. ولو أفتى شيخ الإسلام أو مفتي الأنام في حُكم من الأحكام من غير استناد إلى دليل شرعي وكانت فتواه خطأ ردّ عليه أحد العامة، بل استطاع غلامٌ أن يردّ على شيخ الإسلام؛ كالذي رُوي أن امرأة ردّت على عمر بن الخطاب (وما أدراكم مَن عمر؟) لمّا أراد أن يحدّد المهور، فرجع عمر إلى رأيها.

ونحن -بحمد الله- لم نعمل في الشام بهذا القانون الذي يبيح إقراض أموال الأيتام بالربا، وإن عُمل به في الأردن مدّة من الزمان.

فما العمل إذن بأموال الأيتام، وقد يجتمع فيها مبلغ كبير جداً ربما تجاوز المليون أو الملايين؟ فكّرت في هذا لمّا وليت أمر الأيتام، فاتخذنا وسائل تنفع اليتيم وأقمنا احتياطات لئلاّ يقع عليه الضرر. من ذلك أنني كنت أشتري لليتيم أسهُماً قوية يُستبعَد جداً أن تعرض لها الخسارة، كأسهم معمل الإسمنت في تلك الأيام أو الأسهم التي تكفلها الحكومة وتضمن لها حداً أدنى من الربح، أو نشتري له بها عقاراً -بعد الاستئناس بخبرة الخبراء- في مكان لا تنزل فيه أثمان العقارات، وأشباه ذلك، خوفاً من أن يتعطّل هذا المال وأن تضيع فائدته على الأيتام.

* * *

ص: 373