الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-116 -
من ذكريات الحرب العالمية الثانية
كنّا نذكر الحرب الأولى التي مضت وما حملت إلينا من الجوع والخوف والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، وكيف كان الشعب يموت جوعاً ثم لا يجد أمواته قبراً، لأن الحرب لم تُبقِ من الرجال من يقدر على حفر قبر! نذكر هذا كله ثم ننظر إلى هذه الحرب الثانية فنراها سلاماً علينا وأمناً، لم نَجُعْ فيها ولم نَعْرَ ولم تَنَلْ منّا منالاً، اللهمّ إلاّ ما نالت بأظافر بعض التجّار وأنيابهم إذ جعلوا الواحد من ثمن الأشياء عشراً، وربما بلغوا ببعض الأثمان مئة ضعف! وما قلّت السلع ولا تبدّلت، ولكنه الطمع والجشع ورِقّة الدين وضعف الخلق.
واستمرّ مرير الحرب وانتشرت نارها ونحن لا نعرف مكانها إلاّ على السماع، وجعلت تطيف بلهبها بنا وتدنو أحياناً منّا: امتدّ لسانها إلى مصر فجزعنا وأشفقنا وكنّا مع المصريين بقلوبنا وألسنتنا، وما نملك -لعمري- إلاّ الألسنة والقلوب. ثم دنت منّا فبلغ لهيبها العراق، فأقبلنا على العراق بقلوبنا، وما جانبت مصر ولا تولّت عنها تلك القلوب.
ثم أصبحنا ذات يوم (يوم الجمعة 20 حزيران 1941) على صوت الرادّ (الراديو) يقول: إن الحرب في «الكِسْوة» على أبواب دمشق، فنظرنا إليها فلم نجد إلاّ جبل «المانع» وما فيه أثر لحرب، فكذّبنا وأنكرنا. فقال العارفون إن المعركة وراء هذه الجبال وأكدوا ذلك، ولكنا لبثنا مكذّبين. فلم تكن إلاّ ليال حتّى بدت في الأفق القِبْلي (1) من دمشق ومضات المدافع، نراها من حيّنا حيّ المهاجرين على سفح جبل قاسيون، وسمعنا أصواتها، فصدقنا ما قال الرادّ وأيقنّا أنْ قد بلغَتنا هذه الحرب. ولكنّا لم نُكبرها ولم يُصِبْنا الذعر منها، إذ لم تمسسنا نارها ولا وصل إلينا أُوارها.
ثم دنَت منّا النار، وانطلقت المدافع الثقال من قلاع المزة وقاسيون فاهتزّت لها دمشق، ولكن أفئدة أهلها لم تهتزّ، بل راحوا يؤمّون السفح يُشرفون منه على المعركة وهي دانية منهم، أصواتها في آذانهم وشظاياها عن أيمانهم وشمائلهم. وإنهم لفي إشرافهم هذا واجتماعهم في المهاجرين عشيّة ذلك اليوم، يتحدّثون في أمر الجيش المهاجم من الفرنسيين الديغوليين الذي عرض على الجيش الفرنسي في دمشق (من أتباع الماريشال بيتان) أن تكون دمشق مدينة مكشوفة كيلا تعبث بمحاسنها أيدي الحرب فتجعل عامرها يباباً وقصورها تلالاً، فأبى المقاتلون من الفرنسيين في الشام فعرّضوا بإبائهم دمشق للأذى. وما يعنيهم أذاها، ولا تُهدَم لهم إذا هي تخرّبت دارٌ ولا يُفجَعون في زوج ولا ولد، لأنهم غرباء عنها واغلون عليها أعداء لها.
(1) أي الجنوبي؛ لأن القبلة في دمشق إلى الجنوب (مجاهد).
وكانت المعركة مشتدّة هذه العشيّة وكان الناس مزدحمين ينظرون، وإذا بجهنّم قد فُتحت أبوابها، وإذا القنابل قد ضلّت طريقها فإذا هي تكاد تساقط على المهاجرين، أجمل أحياء دمشق وأبهاها! فطار الفزع بألباب الناس، وكانت مثل ساعة الهول التي يُستعاذ بالله منها، وصار الناس كحالهم يوم القيامة
…
وإن كان هول يوم القيامة لا تُقاس به أهوال الدنيا، يوم يجد المرء ما يشغله عن أخيه وصاحبته وبنيه وأمه وأبيه. فخلّفوا دورهم مفتّحة الأبواب واستلموا منافذ الطرق التي توصلهم إلى الشام (وإذا قلنا «الشام» فإنما نعني المدينة القديمة منها)، يريدون أن يعتصموا بالأموي ويقيموا في جواره، ظناً منهم أن القنابل التي تحمل الموت والدمار لا تعرف الطريق إلى بيوت الله. فلم تكن ترى على الطرق إلاّ الناس مسرعين بوجوه شاحبة وأعضاء من الخوف مضطربة، وربما خرجَت المسلمة المخدَّرة مكشوفة الوجه من الفزع بادية المحاسن، والمدافع تنطلق والقنابل تتوالى وتتعاقب كالغيث إذا انهمر، وكان أمرٌ لا يوصف.
وكنّا نسكن في دار على الشارع العامّ، وقد استعدّ نساؤنا ولبسن ثياب الخروج ولكننا لم نبارح دارنا. وكانت لي عمّة عجوز صالحة لا عمل لها إلاّ قراءة القرآن والدعاء، فقلت لها: هلمّي نخرج. قالت: إلى أين؟ قلت: إلى حيث يذهب الناس، إلى جوار الأموي. قالت:{قُلْ لنْ يُصيبَنا إلاّ ما كتَبَ اللهُ لنا} ؛ إن كان مقدَّراً علينا أن نموت مِتنا هنا كما نموت هناك. ولبثَت قاعدة مكانها فقعدنا معها.
* * *
ثم انسحب جيش هو جيش الفرنسيين الموالين للألمان، ودخل جيش هو جيش ديغول المناوئ للألمان، وكلهم عدو لنا وكلهم طامع فينا مستعمر لبلادنا.
فأعلنوا استقلال سورية وانتهاء الحرب، ونصّبوا (كما قلت لكم في الحلقة الماضية) الشيخ تاج الدين الحسني رئيساً للجمهورية التي أعلنوا تشكيلها. فتنفّس الناس الصعداء، لا لأنهم خُدعوا بهذا الاستقلال الموهوم، فالاستقلال يؤخَذ ولا يُعطى والاستقلال الذي يأتي منحة من الغاصب ليس إلاّ احتلالاً بلون آخر. ولكنهم تذوّقوا لذّة الأمن بعد الخوف، وعاد مَن كان لجأ إلى البلد من سكان القُرى المرزأة المروَّعة الذين أكلت الحرب دورَهم وغلاّتهم: سكان الكسوة والباردة والأشرفية وصَحْنايا وسبينة وسبينات والقَدم، وتلك القرى التي تطيف بدمشق تحفّ بها من جهة الغوطة (الغوطة التي كانت تنعم بالأنس والدعة في ظلال الأشجار، فجعل المتمدّنون المستعمرون بقاعاً كثيرة منها صحراء قاحلة لا شجرة فيها ولا دار) ودارَيّا قرية العنب الديراني الذي تباهي دمشقُ المدنَ بلونه وطعمه ونبل حبته وجلال عناقيده واتساع كرومه، وجارتها المِزّة «جيزة دمشق» وأجمل ضواحيها
…
عادوا إلى دورهم ومساكنهم يحسبون أنها لا تزال لهم مساكن، ما دروا أن من هذه القرى ما لم يُبقِ المتمدّنون المتحضرون منه إلاّ أطلالاً ورسوماً.
وانطلق الدمشقيون الذين واسوهم في مصيبتهم وآووهم في منازلهم يودّعونهم بالحفلات والولائم؛ فاشتعلت الأحياء
التي تحف بالأموي نوراً وابتسمت سروراً: القيمرية والكلاّسة وباب السلامة وباب البريد وسيدي عامود
…
حتّى ليحسبها الرائي ترقص طرباً، وما بها -لو حقّقتَ- من طرب. وفيمَ الطرب؟ ولكنْ مواساةً للمنكوبين وتطيِيباً لقلوبهم وإظهاراً للرضا بانطفاء نار الحرب، وحمداً لله على ما لطف وسلّم.
وكانت ليلة الأربعاء (25 حزيران 1941) كأنها من ليالي الأعياد، وكان أسبق الأحياء في هذا المضمار الكلاّسة، هذا الحيّ الصغير الرابض إلى جنب مسجد بني أُميّة عند مدفن البطل صلاح الدين، فظهرت على أيدي أهله مُدهِشات الشهامة والكرم، حتّى لقد آوى رجلٌ منهم واحدٌ سبعَ أسر في داره، وأولاهم من بشاشة وجهه وفضل ماله ومسكنه ما لا يمتدّ إلى أكثر منه جهد مثله.
* * *
نام الناس هذه الليلة التي حسبوها من ليالي الأعياد مطمئنّين، لا يخافون الحرب وقد انطفأت نارها، ينتظرون بآمالهم الغد القريب ليحمل إليهم السلام والرخاء. فلما كانت الساعة الرابعة إلاّ ربعاً، ومآذن دمشق الثلاثمئة والسبعون تصدح بالتراحيم الأخيرة (وهي بدعة حلوة لو كان في البدع الدينية ما هو حلو، ولكن البدعة مُرّة مهما كان شكلها وكان لونها)، وكان الليل ساكناً سكون السحَر الفاتن العميق، وإذا بِرَجّة لا توصف، قلقلت البيوت فذهبَت بها وجاءت كأنها الزلزال العظيم، لولا أنها اقترنَت بصوت أفاق منه الناس وإن أحدهم ليضطرب في فراشه اضطراب السمكة خرجت من الماء! ثم أعقبَتها رجّتان، ثم جاءت رجّة أنْسَت الناس الثلاثَ الأُولَيات. فذهبَت المفاجأة بألباب ذوي
اللبّ منهم، وخرجوا من بيوتهم يتراكضون وما لأحدهم وجهة ولا مقصد.
ثم انجلَت الحال، فإذا هي طيارة لا يدري أحد موردها ولا مصدرها، ألقت قنبلتها الأولى على أكواخ في مزرعة عند جسر تورا فيها ثلاث أسر، في كل أسرة منها أكثر من عشرة أشخاص، فأبادت الجميع. وما ثمة مطار ولا ثكنة ولا شيء ممّا يصحّ أن يكون لقنابل الطائرات هدفاً عسكرياً. وألقت الثانية نارها على باب السلامة، من أسفل الجزيرة، فهدمت أربع عشرة داراً (لا شقّة) من تلك الدور العربية المتداخلة المبنيّة باللبِن والطين التي يسكنها الضعفاء الفقراء. والثالثة وقعت على الكلاّسة فأبادت الحيّ كله، ولو زاحت عن موقعها عشرة أمتار إلى الجنوب لطارت بمئذنة العروس، ولو انحرفت عشرة أمتار إلى الشمال لذهبَت بقبر صلاح الدين. ورُميت الأخيرة في الحيّ الجديد في «سيدي عامود» ، الذي لم يكَد يُبنى بعد أن خرّبه الفرنسيون أيام الثورة الكبرى حتّى حمل إليه الدمارَ في الثانية مَن حمله إليه في الأولى.
وما في كل ما دمّرَت الطائرة ولا في جواره ولا قريباً منه شيء من المصانع أو المواقع العسكرية البتّة.
وقع ذلك كله في أقلّ من خمسين ثانية، لم يمتدّ إلاّ ريثما اجتازت الطيارة من أول المدينة القديمة إلى آخرها، ثم توارت في الظلام كما خرجَت من الظلام، كما يفعل اللصوص في كل آن وكلّ مكان.
أسرعتُ مع مَن أسرع إلى مطرح القنابل، وبدأت من
«سيدي عامود» فإذا القنبلة قد سقطت في وسط الطريق، في ميدان صغير يتقاطع فيه شارعان، فاحتفرت حفرة هائلة وتطايرت قطعها وشظاياها فأصابت أربع عمارات جديدة مترَعة بالسلع التجارية، فضعضعَتها وهزّت أركانها وأدخلَت بعضها في بعض، وأبادت كل ما كان فيها من سلعة ومتاع، وأفقرت أسراً الله أعلم بعددها، كما حطّمَت كلّ زجاج الحيّ وقتلت رجلاً وامرأتين.
وذهبت بعد ذلك إلى الكَلاّسة، فإذا هذا الحي الآمن بأمان المسجد، المجاور لقبر صلاح الدين، قد غدا تلاًّ واحداً كالقبر العظيم، كأنه لم يكن منذ ساعات يبسم للحياة ويبسم له المجد، وكأنه لم يكن منزل الكرام الصيد المحسنين.
وكان الناس مزدحمين يعملون مَسَاحيهم ومعاولهم في هذه الأنقاض فيكشفون عما تنفطر لهوله القلوب، ويلقون من غرائب الحياة ومآسيها ما يُخجل أكبرَ القُصّاص ويدفعه إلى حَطْم القلم وهجر الكتابة، لأن الواقع الذي وقع يومئذ أبلغ من كل ما تخيّل الأدباء والقصّاصون.
وكان النساء يولولن ويصِحن يسألن عن زوج ضائع أو ولد مفقود، ويقعن على أرجل الكشّافة والفَعَلة وأصحاب المساحي يسألنهم الإسراع بالكشف عمّن افتقدن من أقربائهن، ومنهم امرأة رأيتها تُقبِل على التراب تنبشه بيديها، تبلّله بدموعها، تعدّ الدقائق والثواني، تتصور الموت جاثماً على صدر من تحبّ تحت هذا الثرى، فإذا رأت أنها لم تصل إلى شيء وهالها الأمر جُنّ جنونها، فأقبلت تلطم وجهها وتشدّ شعرها.
والرجال
…
لم يكن الرجال يومئذ بأجلد من النساء. وكيف يتجلّد الرجل ويصبر وحبيبه تحت الأنقاض، وكلّما مرّت لحظة دنا منه الموت شهراً؟ كيف يصبر وهو يظنّ أن في يده حياة حبيبه المدفون حياً تحت الثرى، ويتصوّر كيف يعيش من بعده إذا توهّم أنه هو الذي قتله بتقاعسه عن إسعافه؟
إن الذي رأيت في الكلاسة يومئذ من الفواجع والمآسي لا يقدر على وصفه لسان ولا قلم. والحفّارون خلال ذلك يُخرِجون جثّة من هنا وجثّة من هناك، فينادون عليها ليعرفها أهلوها. ولقد وجدوا جثثاً مشوَّهة لم يُعرف أصحابها، ووجدوا ساعداً مبتوراً لم يُدرَ من صاحبه. وهذه امرأة حديثها عجب من العجب: فقد كانت تنام بين ولدَيها، فلما سمعت الرجفة نهضت وكل عِرق منها يرتجف كأنما مسّته الكهرباء، فوجدت الظلام من حولها دامساً طامساً، فمدّت يدها تتلمّس ولدَيها فوقعت على الرضيع ولم تقع على الآخر، فتحسّست مكانه فإذا يدها على جذع من الخشب سقط من السقف وسط تراب منهار، فنهضت كالمجنونة فاصطدم رأسها بشيء قريب حسبته السقف، فازداد جنونها ولم تدر أهي في يقظة أم في حلم، فأخذت بيد ابنتها التي ما ينقطع بكاؤها وقبعت في فراغ وجدَته. وكان ينتهي إلى سمعها صدى طرقات بعيدة كأنها آتية من قرارة سبع آبار، ثم رأت حين ألِفت عيناها الظلمة كأنما هي في مغارة لا باب لها ولا كوّة، ثم إنها من ضيقها كالقفص، فأقبلَت تضرب بيديها ورأسها والتراب يتساقط عليها حتّى وجدت بصيصاً من النور، وازداد صوت الطّرْق وضوحاً في أذنيها وتسرّب إليها الهواء بعد أن كادت تختنق، فأُغمي عليها
ولم تُفِق إلا في المستشفى ورضيعها إلى جنبها، أمّا ولدها الآخر وزوجها فبقيا تحت الأنقاض
…
لقد ماتا.
وهذا هو الأستاذ المصور أكرم يفتّش عن ولده الحبيب، وقد جحظَت عيناه من الذعر وتبدّلَت حاله وشحب لون خدّيه فصار كقشرة الليمون، وهو يستحثّ الحفّارين ويضرب بيديه التراب. هنا ابنه، ولده الحبيب يا أيها الآباء
…
جاء به من المهاجرين يوم الروع ليُودِعه المكان الآمن عند جدار المسجد، عند قبر صلاح الدين. وما يفيده صلاح الدين بعد موته، ولا ينفع ميتٌ حياً ولا يضرّه. ومرّت ثلاث ساعات كانت عليه وعلى المشاهدين كأنها ثلاثة عصور، ثم انكشف الردم عن نصف غرفة وإذا الولد فيها وهو حيّ.
يا أيها القراء، أمسكوا قلوبكم لأن المشهد الذي رأيته بعيني وسأصفه لكم يمزّق القلوب: رأى الولد قد سقطت قطعة من إسمنت الجدار على يده فبقيت يده تحتها إلى قريب من الكتف، وهو يصرخ: أبي ارفعني، ارفعني يا أبي
…
فلما سمع الأب صوته هُرع إليه يعانقه وهو يبكي، وكل عين تبكي، لكن كيف يرفعه وفوق ذراعه هذا الثقل كله؟ وأقبلوا يحاولون رفع هذه القطعة، وينقلون التراب الذي سقط معها، والولد يصيح صياحاً جعل أباه يفكّر بإنقاذه ولو بقطع يده! أسمعتم؟ يفكر بإنقاذه ولو بقطع يده! وإنهم لفي ذلك وإذا بقطعة أخرى تهوي على رأس الصبي فتقتله حالاً.
وها هنا طفل رضيع يجدونه حياً، يمتصّ من ثدي أمه الميتة، حقائق لو كانت خيالاً لكانت من أغرب الخيال.
ولمّا انصرفتُ من الكلاسة أخذ بيدي صديق لي وأنا لا أبصر من الأسى والحزن طريقي فقال: إن ما رأيت ليس بشيء. إن أحببت أن تنظر إلى أفظع عدوان وأشقى ضحيّة وأروع مشهد فتعالَ معي إلى باب السلام، فلقد أُخرجَ منه إلى الآن سبعة وعشرون قتيلاً. فنَتَرْتُ يدي منه وقلت: حسبي ما رأيت! ومضيت وأنا لا أرى ما حولي من الدموع في عيني.
وانجلَت الغارة عن ثمانية وعشرين منزلاً أضحت خرائب وتلالاً، وواحد وسبعين قتيلاً ثلاثة أرباعهم من النساء والأطفال، ونحو من خمسين جريحاً لا يكاد يعيش منهم أحد. ما قُتل هؤلاء في المعركة الحمراء، ولا سالت نفوسهم على ظُبى الأسنّة وشفرات السيوف. ولو واجههم العدو في حومة الوغى لوجدهم فرسانها وسادتها، ولكنه أتاهم غدراً وعدا عليهم وهم آمنون في دورهم، فأخذ الرجلَ من جنب زوجته وولده أو قتلهم جميعاً، لم يتورّع عن قتل النساء ولا عن ذبح الذراري. لم يكسر عليهم الأبواب ويدخل دخول الغاصب القوي، ولكنه مرّ في الظلام الحالك مرور اللصّ الجبان، فراغ عن مواطن الجندية ومنازل الأبطال -لأنه ليس من أكفائهم- وتخيّر هذه البقعة الآمنة حول بيت الله، فصبّ عليها كلّ ما في النفوس الشريرة من خِسّة ودناءة (1).
* * *
(1) من أول هذه الحلقة إلى هنا منقول بتصرف يسير عن مقالة «كارثة دمشق» التي نُشرت في تلك السنة، 1941، وهي في كتاب «دمشق، صور من جمالها وعِبَر من نضالها» (مجاهد).
ثم سمعنا أنه كان من بعدُ ما هو أشدّ من ذلك وأدهى، حين لبس رجال دولة الحضارة والعلم (التي جاءت اليوم تحمي الديمقراطية -كما تقول- وتدافع عن حقوق الإنسان) حين لبس رجالها جلود النمور والذئاب، بل لقد صنعوا ما لم تصنع مثله الذئاب ولا النمور. الذئاب تأكل لتعيش وتهجم على قطيع الغنم فتفتك ببضعة رؤوس منه، أمّا هؤلاء فقد قتلوا بضربة واحدة أهل مدينة كاملة، أهل هيروشيما ثم أهل ناغازاكي؛ كانت ثمرة علمهم وتفكيرهم ورقيّهم وحضارتهم هذه الجريمة التي هانت معها الجرائم.
فمَن كان معجَباً بهم فليقرن تاريخهم هذا القريب بتاريخنا نحن المسلمين. خذوا مثلاً واحداً: لمّا عدا الصليبيون على القدس ذبحوا أهلها وقتّلوهم تقتيلاً، حتّى قضوا على سبعين ألفاً منهم ظلماً وعدواناً ونذالة ووحشية، فلما استردّها صلاح الدين أخرجهم سالمين آمنين:
ملَكْنا فكانَ العدلُ منّا سجيّةً
…
فلما ملكتُم سالَ بالدَّمِ أبطَحُ
وحلّلتمو قتلَ الأُسارى وطالما
…
غَدَوْنا على الأسرى نَمُنُّ ونَصْفَحُ
فحسبُكمو هذا التفاوُتُ بيننا
…
فكلُّ إناءٍ بالذي فيهِ ينضَحُ
* * *
وأنا لا أعجب أن يكون في الناس كرام ولئام وأن يكون فيهم عادلون وظالمون، هذه سنّة الله في البشر. ولكني أعجب أن يأتي منّا من ينسى بياض تاريخنا ويتوهّم النورَ في سواد تاريخ غيرنا، أن نُهمِل فضائلنا ثم نمجّد أعمالهم التي يكاد أكثرها يُعَدّ
من الرذائل.
هذه قصّة غارة واحدة رأيناها من طائرة واحدة مَرّت بسمائنا، فكيف كان الألمان خلال الحرب الثانية تهجم عليهم ألف طيارة أكبر وأضخم وأقوى على الإبادة وعلى التقتيل من هذه التي مَرّت بنا، فإذا انقضت الغارة خرجوا فأصلحوا ما فسد وسدّوا من الجدار ما انخرق، وصبروا وعادوا إلى العمل وإلى القتال؟ فهل الألمان -مثلاً- أقوى منّا خلقاً وأقوى طبيعة، وأقرب إلى الرجولة وإلى مزايا الأبطال؟ لا، ولكن طول الدعة والخمول، والقرون التي مرّت بنا في عصور انحطاطنا هي التي أنستنا بعض فضائلنا.
ولكن لا تخافوا ولا تيأسوا من روح الله، فإن الله موجود، يناديكم أن تعودوا إليه، فإذا عدتم إليه أعاد لكم النصر وأعاد لكم الظفر. إن العزّة التي صبّها الإسلام في عروقنا لا تزال جارية فيها مع دمائنا.
يا أيها الناس، إن قطعة الذهب قد تسقط في الوحل فيصيبها الأذى ولكنها تبقى ذهباً، والصفيح ليس كالذهب، والشر ليس كالخير، والليل الأسود البهيم ليس كالضّحى المشرق المضيء. واليهودي ليس كالمسلم ولو وُضِعَت في يده أموال الدنيا، ولو جمع في مخازنه أسلحة الدنيا، ولو وقفَت وراءه أقوى دولة في الدنيا.
* * *