المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رفضت الدعوة إلى القوميةفنقلوني إلى كركوك - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌رفضت الدعوة إلى القوميةفنقلوني إلى كركوك

-111 -

‌رفضت الدعوة إلى القومية

فنقلوني إلى كركوك

كانت سنة 1939 في بغداد سنة نهضة عجيبة؛ روح جديدة صُبّت في قلوب الشباب، إقبال على الجندية وأن ينتظمهم سلك الجيش، حتّى إنني لمّا سألت الطلاّب هذا السؤال الذي لا يملّ المدرّسون من إلقائه على توالي السنين: ماذا تحبّ أن تكون في مقبل أيامك؟ كان جواب الأكثر منهم أنهم يريدون أن يغدوا جنوداً.

وأعانهم على ذلك أن وزارة المعارف بدأت بتحويل المدارس إلى شبه ثكنات والطلاّب إلى جنود، حتّى إنها وضعت نظاماً سمّته نظام «الفتوّة» ، ألبسَت فيه الطلاّب لباس الجنود ودرّبتهم على ما يتدرّب عليه الجنود، حتّى يكونوا مستعدّين للنزال إذا أذّن مؤذّن القتال وحانت ساعة النضال.

بدأ ذلك بتدريب مجموعات صغيرة ثم عمّ المدارس كلها، حتّى إذا كان يوم الجمعة السابع والعشرون من الشهر الأول من سنة 1939 كان التدريب على الجندية باسم الفتوّة قد عمّ مدارس

ص: 159

بغداد كلها، وفي هذا اليوم خرج موكب الطلاّب، الموكب العظيم الذي كان حديث الناس وكان عجباً من العجب.

انتقلَت (1) فيه بغداد كلها فاستقرّت في شارع الرشيد (الذي لم يكن في بغداد شارع غيره) وشارع غازي الذي افتُتح يومئذ حديثاً، لترى موكب الفتوّة الذي يصل بين غازي والرشيد، فينشئ المجد الجديد على أساس المجد التليد.

وقد أتى الناس من كلّ فجّ عميق ليشهدوا بأعينهم كيف غدا أبناؤهم أسوداً صغاراً، أشبالاً يدافعون عن الحمى ويحمون العرين، ويبصرون ببصائرهم المستقبل المجيد والآتي الزاهر، وقد أشرق فجره من عيون أولئك الفتيان التي تبرق بريقَ الحماسة والإخلاص، وقلوبهم التي تنطوي على التضحية والثبات، وألسنتهم وهي تنشد النشيد الذي يوقظ الأموات ويصبّ الحياة في الصخر الصلد، وأيديهم التي تهزّ البنادق، تقول بلسان حالها: إننا نحقق ما نقول.

أقبل الناس على شارع الرشيد قبل أن تقبل الشمس بوجهها على بغداد، فملؤوا جوانبه، واستأجروا مداخل المخازن وشرفات المنازل والفنادق، حتّى بلغت أجرة المقعد الواحد ربع دينار. وربع دينار في تلك الأيام يعدل أربعة دنانير في أيامنا. ولا ترى مع هذا في شرفة مقعداً ولا على رصيف مكاناً. وتعلّق

(1) من هنا إلى قوله "ما النصر إلاّ من عند الله"(في وسط الصفحة 167) هو نص المقالة التي نُشرت في «الرسالة» في تلك السنة، وهي مقالة «يوم الفتوّة في بغداد» المنشورة في كتاب «بغداد» (مجاهد).

ص: 160

الناس بالأعمدة وأشرفوا من الأسطحة، وكانت الوجوه في بشر وانطلاق، كما كان الكون متهلّلاً باسماً في ذلك اليوم المشهود، والشمس بازغة ساطعة والأُنس في الأرض وفي السماء. وانتظر الناس ساعات، لا يملّون ولا يضجرون.

وكنت في داري في الأعظمية، أهمّ بالنزول إلى بغداد ثم يردعني خوف الزحام وكراهية الاختلاط، وخشية أن يبتلعني هذا اللجّ البشري الهائل. وكنت أنظر في ركام الدفاتر التي تبلغ المئات، والتي جمع فيها كلّ تلميذ ما يستطيع من الأخطاء والهنات، دفاتر الامتحانات، لأقوم بتصحيحها وتقدير درجاتها، فلا أمسّها ولا أدنو منها وإنما أنصرف عنها أفكّر في بلدي وأهلي. كنت بجسدي في بغداد ولكن قلبي في الشام.

أأهجع آمناً في بغداد وآنس مطمئنّاً، وأهلي في الشام يمشون على النار، لا يدرون أإلى موت أو حياة؟ أأستمتع بالجمال وأنفق الأماسي الهادئة في مسارب الأعظمية أساير الشط وأتفيّأ ظلال النخيل، والشام قد ثار من تحته البركان وزُلزلَت منه الأركان، وهبّ أهله هبّة المستميت يريدون الحياة كاملة أو الشهادة في سبيل الله؟ فكّرت في ذلك فامتلأت نفسي كآبة وحسرة، فقمت على غير شعور مني وانطلقت إلى بغداد. وما أدراك -ذلك اليومَ- ما بغداد؟

بلغت باب المعظم، وعهدي بالمكان أن فيه شوارع وميداناً فإذا هو بحر من الخلائق يموج بعضها ببعض، وقد غرق في هذا البحر الشارعُ واختفى فيه الميدان. فوقفت حائراً لا أتقدم ولا

ص: 161

أتأخر، ثم لمّا طال بي الوقوف شددت من عزيمتي وشمّرت عن ساعدي، وأقبلت أدفع هذا وأزيح ذاك. وكلّما دفعت عني واحداً حلّ مكانه عشرة، فخارت قواي وأيِست من النجاة، واعترفت لنفسي بأني لم أبلغ مبلغ عنترة (أعني عنتر القصّة) الذي يقبض على الرجل فيرفعه بيده فيضرب به الأخر فيقتل الاثنين. وما كنت -عَلِم الله- أحبّ أن أقتل أحداً، وما جئت لأقاتل ولكن جئت لأشارك في هذه البهجة وهذه الفرحة.

وقفت فاشتدّ عليّ الضغط من كل جانب حتّى أحسست كأن أحشائي ستخرج، وضاق نَفَسي، ولكن كل ضيق إلى فرج، فلم يكن إلاّ أن فرّج الله عني فبعث رجلاً من ضباط الشرطة أعرفه، فحملني بسيارته إلى الفندق الذي أريد. وكان في شرفة الفندق إخوان لنا ينظرون فقعدت معهم. ولبثنا نرقب الموكب ونتحدث عن الفتوّة في العراق، ونستمع إلى أحاديث الإخوان وهي للأديب كنز لا ينفد.

لقد رأيت في ذلك اليوم من مظاهر الفتوّة والقوّة ما جعلني أبكي من فرط التأثر؛ رأيت حارة (دربونة) مجاورة للفندق، دخلتُ فيها فوجدت طفلاً يدرج على باب منزله لم يتعلّم المشي ولا النطق، وهو يحاول أن يخطو خطو الجند ويوعز إيعاز القائد: يس يم (أي يسرى يمنى). رأيت أطفال المدارس الابتدائية يسيرون سير الجنود، يقودهم مدرّس بلباس ضابط يدرّبهم من الصغر على أن يكونوا أبطالاً.

وكنّا قد ذهبنا قبل ذلك بشهر مع الطلاّب إلى معسكر

ص: 162

الإنكليز في «سن الذبان» لمباراة رياضية، فرأيتهم قد قلبوا المدينة الإنكليزية إلى حيّ من أحياء العرب وأفاضوا عليها روحهم وشبابهم وفتوّتهم، فقلت: إذا كان جيش صغير من لاعبي الكرة لا يتجاوز الخمسين ومعهم من إخوانهم مثلهم، إذا كانوا قد فعلوا هذا كله، فكيف لو جاء الجيش العربي، جيش المستقبل؟

رأيت أثر الروح العسكرية واضحاً في الطلاّب، فالطاعة من غير استخذاء والحرّية من غير تمرّد والنظام من غير جمود، تلك هي صفات الطلاّب في العراق في تلك الأيام.

لبثنا ننتظر إلى الضحوة الكبرى والناس لا يزدادون إلاّ تدفّقاً، فكأنهم سيول تصبّ في هذا الخضمّ العظيم، والشارع يموج بالناس موجاً ويزخر بالخلائق، وكلهم يتطلع وينتظر وكلهم يسأل: متى يأتي الموكب؟ وعمال الشركة الأمريكية للسينما ماثلون بآلاتهم في الشرفات والزوايا ليصوّروا معالم الحياة في بغداد في ذلك اليوم المشهود.

وإن البحر ليموج ويزخر، وإن أمواجه لتصخب وتضطرب، وإذا بالمعجزة قد وقعت فانشقّ كما انشقّ البحر لموسى، وإن كانت تلك معجزة لا يقع مثلها إلاّ لرسول. وانفتح الطريق فنظر الناس ونظرنا، فإذا الأعلام العربية تلوح بألوانها الأربعة التي تجمع شعار دول الإسلام: الأموية والهاشمية والعباسية، وترمز لفضائل العرب كلها:

بِيضٌ صحائفُنا سودٌ وقائعُنا

خُضْرٌ مرابعُنا حُمْرٌ مَواضينا

وإذا الموكب قد لاح من بعيد كما يلوح الهلال الهادي،

ص: 163

ويسطع كما يسطع نجم الأمل، وإذا موسيقاه القوية تدوّي في الآذان فيكون لها أثر في النفوس أحلى من نداء الحبيبة في نفس المحبّ المَشوق.

فحبس الناس الكلمات ووقفوا الأنفاس، يتطلّعون ويترقّبون، والموسيقى تعلو والفتيان يتقدّمون حتّى وصلَت طليعتهم. فما استطاع ذو شعور إمساك دموع الفرحة والرقّة والتأثر أن تسيل، وارتجّت الأرض بالتصفيق والهتاف كما ارتجّت من قبل بهذه الموسيقى القوية المحبوبة وهذا النشيد، الذي يُسمَع من خلاله صوت المستقبل البارع وتلوح في أثنائه خيالات الماضي العظيم.

وكان الفتيان أطهاراً مثل الزهر اليانع لدناً كأغصان الروض، ولكنهم كانوا أقوياء كدَوْح الغاب أشدّاء كأسود العرين، وكانوا يسيرون صفوفاً متعاقبة على عرض الشارع، مرفوعة رؤوسهم منتصبة قاماتهم موزونة خُطاهم، على أكتافهم بنادقهم وعدّة قتالهم.

ما أحسست بالعجز مرّة عن الوصف كما أحسست بالعجز عن وصف ما رأيت ذلك اليوم. ومَنذا الذي يقدر على وصف هذا الشيخ الكبير العجوز ذي الشيبة السائلة على صدره، وهو يلحظ حفيده الصغير يحمل البندقية ويمشي مختالاً مزهوّاً يحلم بأمجاد المستقبل ويذكر ما درس من أمجاد الماضي، فلا يطيق هذا الشيخ منع الدموع أن تسيل من عينيه وتنحدر على لحيته البيضاء؟ إني لأسمعه يحمد الله على أن صار لبلاده جيش من أبنائها، ولم يكن يرى إلاّ جيشاً واغلاً دخيلاً من غير أبناء البلد.

ص: 164

ومن ذا الذي يقدر على وصف هذه الأم التي أمسكت بيد طفلَيها الصغيرين وهما يتوثّبان ليلحقا بالموكب ليبصرا أخاهما الذي يمشي فيه، وطفقَت تدعو الله دعاء هامساً مخلصاً يتصعّد من خلال الزفرات أن يحفظ لها ابنها وأن يحفظ للبلد بنيه كلهم:"يا رب سلّم، ما شاء الله كان، يا ربّ سلّم"

وتبكي؟

من ذا الذي يقدر أن يصف شارع الرشيد في ذلك اليوم؟

يا أيها الرشيد: قُم ترَ المجد الذي بنيته لا يزال قائماً، قُم ترَ الأحفاد قد نهضوا يسلكون طريق الأجداد، قم ترَنا لم نُضِع الأمانة ولم نُهلِك التراث، قُم ترَ مجد غازي يتّصل بمجدك كما اتصل الشارع بالشارع (أعني شارع الرشيد بشارع غازي فعادا مَهْيَعاً واحداً، وكان هذا الموكب قبل مقتل غازي).

وعدت مرّة ثانية ففكرت في بلدي وأهلي، عدت فجأة. نحن هنا في فرحة والنارُ مشتعلة في فلسطين، والنار توشك أن تلتهب في الشام! أيّ مصيبة لم يرَها الشاميون من المستعمرين وأي خَطب لم ينزل بهم؟ أَمَا خرّب الأقوياء بلادهم ضرباً بالمدافع وقصفاً بالحديد وحرقاً باللهب، حتّى غدا ثلث دمشق خرائب وأنقاضاً من فعل المتمدّنين الذين انتدبَتهم جمعية الأمم ليمدّنونا وليعلّمونا كيف تكون الحضارة ويكون التقدم؟ أما أخذوا ذهبنا وأبدلونا به ورقاً أقفرَت به الخزائن وافتقر به ذوو الغِنى واليسار؟ أما قطّعوا البلاد حكومات وجعلوا من القرى دولات، وقسّموا الناس بَدداً ليجعلوهم طرائق قِدَداً؟ أما صبرنا على هذا كله؟ بلى، لقد صبرنا حتّى لم يبقَ في قوس الصبر منزع، واحتملنا ما لا

ص: 165

يُحتمل، حتّى إذا نفد الصبر وبان طوق المحتمل هببنا هبّة الحليم إذا غضب. ويا ما أشدّ غضب الحليم!

أنكون نحن هنا في فرحة، وقومنا في الشام في ألم؟ وكدت أشعر بالحزن في قلبي، ثم قلت: لا، إن هذا هو الجيش الذي يجب أن يفرح به قومي. إن بطولة العراق وفتوّة العراق صفحة من سِفْر المجد العربي، كما أن قضية فلسطين وجهاد دمشق ونهضة مصر صفحات منه أخرى. إن هذه كلها قوى متّحدة تتوجّه وجهة واحدة.

ثم إن الشام لا يخاف شيئاً ولا يخشى. وماذا يخاف؟ الرصاص؟ لقد بلوناه وفتحنا له صدورنا. المدافع؟ لقد أعددنا لها منازلنا التي أعدنا بناءها بعدما خرّبوها وأحرقوها. اليتم والثكل؟ لقد تعوّده أبناؤنا وتعوّدَته أمهات أبنائنا.

وكان جيش الفتوّة لا يزال يسير، والأرض ترتجّ بالموسيقى والنشيد والهتاف والتصفيق والدعاء والبكاء، فعاد الأمل إلى نفسي قوياً فقلت: ستتحقق آمال العراق بالوحدة العربية. ولمّا جاوز جيش الفتوّة شارع الرشيد واتجه إلى شارع غازي ماج البحر واضطرب وتدفّقَت وراءه الدموع، وأسرعت أنا إلى الأعظمية لأدرك صلاة الجمعة.

كان هذا الموكب مظهر قوّة وكان علامة فتوّة، وكان شيئاً بهياً، ولكنهم أفسدوا جماله وشوّهوا صورته. إن في الموكب لنقصاً ظاهراً، إن فيه لعيباً أفسد رواءه وأضاع بهجته؛ لقد تلطّخ بالوحل بياضُه وتدنّس طهره. أفما كان بالإمكان أن يُقدَّم الموكب

ص: 166

ساعة أو يؤخّر ساعة حتّى لا تضيع صلاة الجمعة على هؤلاء الفتيان كلهم؟

هذا هو النقص البيّن. فيا ليت الوزارة لم تنسَ ربها ودينها حين ذكرت وطنها وفتوّة أبنائها، يا ليتها ساقت هؤلاء الجنود كلهم إلى المساجد ليقيموا فيها الصلاة، أو لو أقاموها في الساحات وفي الشوارع؛ فإن أجدادنا ما غلبوا عدوهم إلاّ بالصلاة والالتجاء إلى الله، وهوان الدنيا وأهلها عليهم وابتغائهم إحدى الحسنيَين: الظفر بإعلاء كلمة الله أو الشهادة في سبيل الله.

أفنحسب أننا نستعيض بالحديد والنار عن الإيمان؟ هيهات والله هيهات! ما النصر بالسلاح ولا بالذخائر وحدها؛ ما النصر إلاّ من عند الله.

* * *

الكلام الذي سردتُه هنا نشرتُه يومئذ في «الرسالة» . وكان القائمون على وزارة المعارف قد جاهروا شيئاً بعد شيء بما كانوا يُضمِرون، وخلعوا الأقنعة شيئاً بعد شيء عن وجوههم التي كانوا يسترونها بها على عهد سامي شوكت في وزارة المعارف. ثم بيّنوا حقيقتهم وهي أنهم يعملون للقومية المجردة عن الدين، وأنهم يدعون للوحدة العربية على حساب الوحدة الإسلامية، وأنهم يقرّبون العربي الكافر على المسلم غير العربي. ووقع الضغط على الإسلاميين من المدرّسين، فمنهم من ساير وجارى ولجأ إلى المعاريض، وعالج الأمر باللين من غير أن يخرج على دينه أو يبدّل سبيله، وبعضهم أبى إلاّ الإعلان عن إسلاميته والتمسّك بها

ص: 167

ومحاربة كل ما يخالفها.

وكان أظهرُ هؤلاء الإسلاميين الذين لبثوا يعلنون إسلاميتهم ويحاربون القومية المنافية للدين، التي تريد أن تبدّل قول الله:{إنّما المُؤمنونَ إخوةٌ} وتحل محلّها «إنما العرب إخوة» ، والدين نسب، فهم يريدون أن تختلط الأنساب وأن يصير الناس أمشاجاً لا تميز منهم مؤمناً من كافر.

لبث ثابتاً على إسلامه الكثير، والذين أعلنوا وجهروا وما جَمْجَموا ولا لانوا ثلاثة: أخونا الأستاذ عبد المنعم خلاّف من مصر، وهو لا يزال حياً مدّ الله في عمره وله بنت هنا في المدينة المنورة، وأخونا الأستاذ أحمد مظهر العظمة الذي ذهب إلى لقاء ربه رحمه الله وغفر له، والثالث هو كاتب هذه السطور، فكانت العاقبة أننا نُقلنا إلى الشمال.

قالوا لنا: ما دمتم لا تفرّقون بين المسلم العربي والمسلم غير العربي فإن في شمال العراق أكراداً مسلمين، فاذهبوا فعلّموهم. نُقل الأستاذ عبد المنعم خلاف إلى السليمانية، فاستقال وأنهى عقده ورجع إلى مصر، ونُقل الأستاذ أحمد مظهر العظمة إلى إربل (وتسمى اليوم أربيل)، ونُقلت أنا إلى كركوك.

* * *

وقعَت لي حوادث لمّا جئت كركوك تتصل بموضوع القومية. ذلك أن مدير الثانوية في كركوك كان رجلاً طيّباً، وأذكر أن اسمه نجم الدين جلميران، من الموصل. فوزّع الدروس على

ص: 168

المدرّسين وباشروا أعمالهم، وأنا قاعد عنده في غرفة الإدارة لا يكلّفني بعمل، وكلّما سألته: لماذا لا أقوم بعملي؟ كان يستمهلني ويجيئني بشتّى المعاذير ليصرفني عن دخول الصف.

ثم علمت السبب؛ عرفت أن كل المدرّسين الذين جاؤوا قبلي لتدريس اللغة العربية كان الطلاّب الأكراد يقومون عليهم فلا يسلمون من ضربهم وإيذائهم. والطلاّب هناك ذَوُو بسطة في الأجسام وذَوُو قوّة، ولم يكونوا يعرفون هذه العصبية القومية ولم نكن نعرفها نحن. كنّا لا نعرف إلاّ أخوّة الإسلام، فقام الترك الاتحاديون أولاً فقالوا: تُرك، فقمنا نحن رداً عليهم فقلنا: عرب، فقام الأكراد فقالوا: كُرد

ودعا كل شعب من شعوب المسلمين إلى جاهليته الأولى فصارت الأمة الواحدة مجموعة أمم.

عرفت السبب وعلمت أنه إنما يحول بيني وبين التدريس خوفاً عليّ ممّا يتصوّر أنه يمكن أن يقع لي، فاغتنمت غفلة منه ودخلت أكبر الفصول، واخترقت مقاعد الطلاّب حتّى صعدت منبر التدريس. نظرت في وجوههم فإذا عيونهم محمرّة وإذا الغضب يبدو على سماتهم، وإذا هم يُضمِرون نية لا يستطيعون أن يُخفوا مظاهرها. فقلت لهم: اسمعوا الذي أقوله لكم يا أبنائي. كان العرب في جاهلية فبعث الله لهم محمداً عليه الصلاة والسلام ليدعوهم إلى الله، ليدلّهم على طريق الجنّة، ليأخذ بأيديهم إلى صعود مدارج الفلاح والنجاح، وأنزل الله عليه قرآناً يقول له فيه:{إنّما المؤمنونَ إخوةٌ} . فأنا ما جئت من بغداد إليكم لأعلّمكم العربية من أجل أهل بغداد ولا خدمة لهذه البدعة التي سَمّوها قومية.

ص: 169

لا؛ ولكن جئت أعلّمكم العربية لأنها لغة نبيّكم محمد، ولغة الكتاب الذي أُنزِل على نبيّكم محمد، ولتجتمعوا به فتعود الأخوّة الإسلامية فتمحو هذه العادة الجاهلية. ألا تحبّون محمداً؟

قالوا: بلى، نحبه، عليه الصلاة والسلام. قلت: ألا تريدون أن تقرؤوا كتاب الله؟ قالوا: بلى، وإننا لنقرؤه. قلت: الله أمر بتدبّر القرآن، فكيف تتدبّرون القرآن إن لم تعرفوا العربية التي أنزل الله بها القرآن؟ فيا أبنائي، أنا ما جئت إليكم باختياري ولكنهم نقلوني عقوبة لي كما زعموا. لماذا نقلوني؟ لأنني أبَيتُ أن أدعو بدعوة الجاهلية، وهذه الدعوةُ التي تفرّق المسلمين وتجعل الأمة الواحدة أمماً دعوةٌ جاهلية. هذه التي قال عنها الرسول عليه الصلاة والسلام:«دعوها فإنها منتنة» . فهل تريدون أن تتعلّموا العربية لتفهموا كتاب ربكم وأحاديث نبيّكم، أو أنكم تمشون مع هوى نفوسكم وتقابلون ضلالتهم بضلالة منكم مثلها أو أشدّ منها؟

أقسم لكم أن الطلاّب تأثّروا حتّى كادوا يبكون، ثم حملوني على أعناقهم وبدؤوا يهتفون لي. وكان المدير خائفاً عليّ، فلما رآني أدخل الصف ثم سمع التصفيق والهتاف ظنّ بأن الواقعة قد وقعت، فاستدعى الشرطة فحضروا وأحاطوا بغرفة الدرس وتهيّؤوا للدفاع عني والإمساك بالمعتدين، فرأوا بأنني خرجت محمولاً على الأعناق ولم أخرج مَدُوساً بالأقدام!

لأنني أدعو إلى كلمة الله، وكلمة الله لا تكون أبداً إلاّ العليا.

ص: 170

ووقعَت لي حوادث أخرى مشابهة لهذه دلّتني على أن المسلم يبقى مسلماً، وأن هذه الدعوات وهذه المذاهب طلاء خارجي لا يلبث أن يُمحى ولا يمكن أن يثبت وأن يقاوم العقيدة. فالعقائد لا تقاوَم أبداً.

* * *

ولمّا نُقلت من بغداد كتبت مقالة أودّع فيها بغداد قلت فيها (1):

الوداع يا بغداد.

يا بلد المنصور والرشيد، والنعمان وأحمد، والكرخي والجنيد، وأبي نواس والعبّاس، ومخارق ومطيع وحماد. يا منزل القُوّاد والخلفاء، والمحدّثين والفقهاء، والزهّاد والأتقياء، والمغنّين والشعراء، والمُجّان والظرفاء. يا مثابة العلم والتقى، واللهو والفسوق، والمجد والغنى، والفقر والخمول

يا دنيا فيها من كل شيء، يا بلداً أحببته قبل أن أراه وأحببته بعدما رأيته.

لقد عشت فيك زماناً مرّ كحلم النائم، صحوت منه على صوت الداعي يؤذّن بالفراق، فلم أجد منه في يدي إلاّ لذع الذكرى. وهل تخلف الأحلام -يا بلدُ- إلاّ الأسى والآلام؟

ودّعتها والسيارة تسرع بي إلى المحطّة، تسلك إليها شوارع ذات بهجة وجمال. وعاينت الوداع فأيقنت أني مفارق بغداد عمّا قليل، وأني سأتلفّت فلا أرى رياضها ولا أرباضها ولا أبصر

(1) انظر مقالة «وداع بغداد» في كتاب «بغداد» (مجاهد).

ص: 171

دجلتها ولا نخيلها، فجرى لساني بقول الأول، وإن من الأقوال ما لا تبلى جدته ولا يمضي زمانه:

أقولُ لصاحبي والعِيسُ تهوي

بنا بينَ المُنيفةِ فالضِّمارِ

تمتّعْ من شَميمِ عَرارِ نجدٍ

فما بعدَ العَشيّةِ من عَرارِ

وجعلت أذكرُ كَم ودّعت من أحباب، وكم فارقت من منازل، وكم قطّعت قلبي قطعاً نثرتها في أرض الله الواسعة التي لا تحفظ ذكرى ولا ترثي لبائس. ورأيتني لا أكاد أستقرّ في بلد حتّى تطرحني النوى في آخر، كنَبْتة لا تكاد ترسخ في تربة وتمدّ فيها جذورها حتّى تُقلع وتُنقل إلى تربة أخرى.

ورأيت أني دخلت بغداد يوم لم يكن قد جاءها أحدٌ من أصحابي، فعشت فيها وحيداً مستوحشاً لا أعرف منها إلاّ المسجد (وما كان لمسلم أن يرى نفسه غريباً في بلد فيه مسجد، ولكنها العاطفة الضعيفة المتهافتة) فلما ألفتها وصارت بلدي وغدا لها في قلبي مكان نُفيت عنها:

دخلنا كارهينَ لها فلما

ألِفْناها خَرجنا مُكرَهينا

وفكّرت في أمري: متى أُلقي رحلي ومتى أحلّ حقائبي، وهل كُتب عليّ أن أطوف أبداً في البلاد وأعيش غريباً وحيداً بعيداً عن أهلي وكتبي وصحبي؟

(إلى أن قلت فيها والمقالة طويلة): بغداد يا مهد الحبّ، وُلد الحب على جسرك الذي تحرسه العيون، وينمو في زوارقك ذوات الأجنحة البيض التي تخفق كخفَقان قلوب راكبيها، ويشبّ

ص: 172

في كرخك وتحت ظلال نخيلك. فتشوا كم تحت هذا الثرى، ثرى بغداد، من بقايا القلوب التي حطّمها بسهام العيون هذا المخلوق الجبّار الذي وُلد على الجسر شاباً، ونما في الزورق، واكتهل في الكرخ والرصافة، ثم لم يَمُت لأنه من أبناء الخلود.

سلوا أرض بغداد: أعندها خبر من شهداء الغرام؟ سلوا جوّ بغداد: أين النغمات العِذاب التي عطّرت نسيمه فهزّت قلوباً وهاجت عواطف، وأضحَكت وأبكت وأماتت وأحيَت؟ هل أضعت هذه الثروة التي لا تُعوّض؟ سلوا الجسر

يا جسر بغداد، إن ما بقي من حديثك قد ملأ كتب الأدب حتّى لم يعرف الناس سوقاً للعواطف والأفكار والعِبَر أكبر من جسر بغداد، فأين سائر أخبارك؟

كم تركت حبيباً ينتظر فلا يرجع بعد الانتظار إلاّ بالخيبة والأسى؟ وكم عطفت على بائس منكوب وأعرضت عن منكود بائس، فأريت الأول من مشاهد الحياة ما هوّن عليه ما هو فيه وزدت الثاني بؤساً ونكداً! وكم وعيت من أسرار الحب والبغض، والفرح والحزن، والغِنى والفقر، والعزّة والذلّ، وكم رأيت من حصاد الأدمغة وثمرات العقول! كم اهتززت تحت أقدام خليفة كانت تُصغي له الدنيا إذا قال لأنه ينطق بلسان محمد ‘، وقائد كانت تخضع له الأمم إذا سار لأنه يلوّح بسيف محمد ‘ (إلى آخر ما قلت).

وتلفّتّ ورائي فإذا بغداد قد اختفت وراء الأفق، وغابت مسارب الأعظمية التي تحاذي النهر، تتكشف عنه تارة فتضيء ثم

ص: 173

تختفي في ظلال النخيل، كشاعر منفرد متأمل أو محب متغزّل يناجي طيف الحبيب ويسامر ليالي الوصال التي تلوح له صورها، والنهر يطلع عليها مرّة بصفحته البيضاء المشرقة التي تشبه أمنية بدت لحالم، ثم يحجبه عنها النخيل ويمحوه الظلام كما تمحو الحياة بواقعها الأحلام وتطمس صور الأماني.

وغابت بغداد، فسلام على بغداد.

* * *

ص: 174