المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بيروت سنة 1937وعملية الزائدة في دمشق - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌بيروت سنة 1937وعملية الزائدة في دمشق

-105 -

‌بيروت سنة 1937

وعملية الزائدة في دمشق

تعليقان: الأول: ما نُشر في «الشرق الأوسط» بإمضاء محمد فاتح توفيق من الدار البيضاء، وقد سبقه تعليق مثله.

البلد مغربي، والحديث عراقي، والكاتب الفاضل (كما يبدو من كلامه) كان طالباً لمّا كنت مدرّساً في العراق. وقد سرّني التعليق وشكرته عليه، وأرجو أن يُكثِر الله من أمثاله. وأنا إن لم أذكره وقد ذكرني فلأني ما درّسته، أو لأنه أفضل مني، أو لأن الطلاّب يرون وجهاً واحداً وعينين هما وجه المدرّس وعيناه، والمدرّس يرى سبعين عيناً تنصبّ نظراتها كلها عليه تصوّر حركاته وسكناته، وسبعين أذناً تسجّل كلماته وسكتاته، من هنا كانوا يحفظون ويُضيع ويذكرون وينسى.

والثاني: رسالة إمضاؤها «أخ في الله» يقول فيها: إن الذي ذكرت أنه زار مدرسة المقاصد والكلّية الشرعية هو العشماوي كما قلت، ولكنه كان برتبة بيك لم يكن قد صار باشا، وكان وكيل وزارة المعارف. وقد جاء في البريد الأدبي لعدد 13 شعبان

ص: 69

1356 من مجلّة «الرسالة» أنه حضر درساً في الأدب العربي في الكلّية لعلي الطنطاوي ودرساً للأستاذ الشيخ محمد الداعوق، فكان إعجابه بهما شديداً، وأعلن أن وزارة المعارف في مصر على استعداد لقبول اثنين من طلاّب الكلّية في دار العلوم العليا في مصر بلا امتحان.

والثالث: أن جماعة من إخواني هتفوا بي يسألونني (بالهاتف): مَن هو مدير الكلّية الذي أثنيت عليه ذلك الثناء؟ ولماذا لم تُسمِّه، فهل نسيت اسمه؟

قلت: أنا أنسى اسم محمد عمر منيمنة؟ إن أنسَ الأسماء كلها لا أنسَ أسماء نُقشت على شغاف قلبي، في موضع تقديري وحبي لقوم كانوا هم عوني على ولوج دربي وأسوتي في كربي، وكانوا إخوتي وكانوا صحبي. لا أستطيع الآن أن أحصيهم ولكن أمثّل لهم؛ كثيرون منهم في الشام سأعاود عنهم الكلام، ومنهم الأثري في العراق والصوّاف بعده بسنين طوال، ومنهم الزيّات في مصر، ومنهم السفير السيد عبد الحميد الخطيب وولده الأستاذ فؤاد في باكستان، ومنهم عبد الوهاب عزام سفير مصر فيها وجواد المرابط وزير سوريا المفوض، ومنهم الشيخ يوسف الفوزان في الهند وعبد الله عبد العزيز البسام فيها، والشيخ أبوبكر طه السقّاف في سنغافورة، ومنهم هنا الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ والشيخ عمر توفيق والشيخ عبد الوهاب عبد الواسع، وكثير من أمثالهم.

* * *

ص: 70

كانت حدود بيروت عند المنارة، نركب إليها خطّ الترام رقم (2) فينتهي بأعلى الشارع، ثم نجد طريقين منحدرَين إلى البحر، فإذا بلغنا المنارة وهبطنا قليلاً بدا لنا الحمّام العسكري، وإلى جنبه مسابح أخرى على سِيف البحر، ثم الصخرة التي يسمّونها باسمها الفرنسي «الروشة» وما بعدها شارع ولا بنيان. وكان موضع شارع الحمراء قفرة ما فيها إلاّ الرمل الأبيض وشجر الصبّار (البرشومي). وأنا لم أرَ شارع الحمراء إلاّ مرّة واحدة في آخر زيارة لي سنة 1970، مررت به مروراً وأنا في السيارة.

كانت بيروت دار الأمان وكان الجبل من ورائها جنّة من الجِنان، وإن كان شوقي قد قرر أنه الطريق إلى الجنة وليس هو إياها، لأن الجنة هي دمشق:

خَلّفتُ لبنانَ جنّاتِ النعيمِ وما

نُبّئتُ أن طريق الخُلدِ لبنانُ

إذا خرجت من بيروت وجدت حيثما توجّهت أودية مسحورة، وجبالاً تلبس الثياب الخضراء من الأشجار، وقُرى مفتَّحة الأبواب لمن يفتح كيسه لتأدية الحساب.

اسلك طريق الشام إلى الوادي الوادع، الذي لم تكن ترتاده يومئذ أقدام المصطافين فكان أقرب إلى صفاء الحياة الشرقية، تمرّ على عجلتون وتلك القرى إلى فاريا حيث نبع العسل ونبع اللبن يلتقيان فيها، فتشرب لبناً بالعسل، وبعده جسر من صخرة واحدة، عريض الجنبات عالي الظهر، ما دخلَت في بنائه يد إنسان بل برأه الخالق الرحمن.

ص: 71

تدخل الوادي من قَبيل جونيه. ومن بيروت إلى جونيه تمرّ بأنطلياس بلد البرتقال والليمون والموز، تمشي في ظلال أشجار دانية الثمار ولكن لا ترى في هذا كله منارة مسجد، حتّى تبلغ جسر نهر الكلب. ونحن نقول في دمشق إننا أبناء بردى، فماذا لعمري يقولون؟!

كان هذا النهر يُسمّى قديماً «ليكوس» . وإلى يمينك وإلى يسارك وأنت تقبل على الجسر جدار من صخر الجبل فيه سجلّ تاريخي، فكلّما مرّت على البلاد أمة أو حكمتها دولة نقشت عليه ذكراها؛ فمن الفراعنة إلى ملوك ما بين الرافدَين، إلى اليونان والرومان والبيزنطيين، ثم الفرنسيين والإنكليز. ويقرب عدد هذه اللوحات (بمقدار علمي) من عشرين لوحة، آخرها التي وضعها الرئيس بشارة الخوري في أول سنة 1947، أي بعد تاريخ هذه الحلقة من الذكريات بعشر سنين. بعضها بحروف مسمارية، وأخرى باللغة البابلية القديمة، والبابلية الجديدة، وثالثة باليونانية ورابعة باللاتينية، وبين ذلك لوحات عربية.

ومن هناك بعد عدة أكيال تدخل مغارة «جعَيْتا» ، وهي ثلاث مغارات من عجائب ما في الطبيعة يحتاج وصفها إلى حلقة كاملة. ثم تصل إلى خليج جونيه الذي كان من أجمل الخلجان الآمنة المطمئنة.

أمّا من أراد صخب الحياة وضجيجها ورؤية الحضارة بجمالها وقبحها فعليه بطريق عاليه، ينعطف إلى اليسار إلى بحمدون وصوفر، أو يمضي إلى اليمين إلى سوق الغرب ثم إلى

ص: 72

عبيّه. ومن شاء ارتياد المصايف التي هي أقرب إلى راحة الأسرة المسلمة قصد مصايف طرابلس الشام، وأشهرها سير، ومن أراد تابع سيره إلى الأرْز عن طريق بشرّي، بلد جبران خليل جبران، الذي أعطى العرب أدباً كثيراً جميلاً دفعَت ثمنه من عبقرية لسانها العربي الأصيل ومن خلقها الشريف النبيل. خذوا مثالاً قصّته «الأجنحة المتكسرة» ، إنها توضع في رفّ بول وفرجيني، وأتالا، ورافائيل، وروميو وجولييت، على اختلاف الأساليب. بل إنها من أشدّ القصص العاطفية إثارة للمشاعر، ولكنها تهدم الروابط الزوجية وتنال من شرف الأسرة، وهي التي ردّ عليها المنفلوطي في نظرة من نظراته.

وإن كان في لبنان (والحق يقال) من بؤر الفساد مثل ما فيها أو أضعاف ما فيها من المدارس والكلّيات، وحسبكم أنه كان وراء الصف المطلّ على ساحة البرج من العمارات عمارات أخرى على شوارع فرعية واسعة، على كل عمارة لوحات فيها أسماء أنثيات. غلطت مرّة فدخلت في تلك الشوارع مع أهلي وبناتي (بعد أن تزوجت ورُزقت البنات) فسألتني إحداهن: ما هذه اللوحات؟ فتنبّهت وارتبكت، ثم قلت لها: إنها أسماء خياطات وبيّاعات

واستدرت راجعاً!

ولقد دخلت -من بعد- أكثرَ من عشرين مدينة من مدن أوربّا، فما كنت أرى في الشوارع ما كنت أراه وأنا أمشي في شوارع بيروت؛ أماكن البغاء في وسط البلد! أما ما وراء الجدران فلا شأن لمثلي به ولا وصول لي إليه، لا في أوربّا ولا في لبنان.

ص: 73

وما في الدنيا بلد يخلو ولا بلد خلا تماماً من الفواحش، ولكن في الخفاء، لا يُكشَف عنه الغطاء ولا يخلع أهلُه قناعَ الحياء.

وهذا قديم في بيروت، ومن رجع إلى عدد «الرسالة» الذي صدر يوم السادس من شعبان سنة 1356هـ (11 أكتوبر سنة 1937) قرأ فيها مقالة لي عن رحلتنا إلى صوفر لاستقبال أمير البيان، الأمير شكيب أرسلان، لمّا عاد إلى الشام بعد نفيه الطويل في أوربّا. عاد لمّا كانت المعاهدة، وسيأتي حديثها. إنه يجد في آخر المقالة هذه الفقرة:

ولمّا دخلنا الفندق (أي في صوفر): عمامتان عاليتان على رأس البهجتين، بهجة العراق وبهجة الشام (أي الأثري والبيطار) وعقال نجدي على هامة سيد من سادة نجد هو الشيخ ياسين الروّاف، ونحن اثنان مُطَرْبَشان (أي اللّذان يلبسان الطربوش) الأستاذ عز الدين التنوخي وأنا.

لمّا دخلنا تعلّقَت بنا الأنظار ودارت حولنا الأبصار، وخفّ بنا شباب يسلّمون علينا فقلنا: وعليكم السلام يا إخواننا. فما راعنا إلاّ أنهم ضحكوا وضحك الحاضرون، فقلت لأحدهم: قُل لي، لماذا تضحك؟ هل تجد في هيئتي ما يضحك؟ فازداد الخبيث ضحكاً. فهممت به، فوثب الحاضرون وقالوا: ياللعجب، أتضرب فتاة؟

وإذا الذين حسبناهم شباناً فتيات بسراويل (بنطلونات) وحلل (بذلات)! فسرنا ونحن مستحيون نحاول ألاّ نعيدها كرّة أخرى. ولمّا خرجت في الليل لمحت في طريقي واحدة من هؤلاء

ص: 74

النسوة فحيّتنا، فقلت لها: مساء الخير مدموزيل. قالت: مدموزيل إيه يا وقح؟ فقلت في نفسي: إنها متزوجة وقد ساءها أني دعوتها بالمدموزيل (الآنسة)، وأسرعت فتداركت الخطأ وقلت: بردون مدام. قالت: مدام في عينك يا قليل الأدب، بأي حقّ تمزح معي؟ أنا فلان المحامي!

فقلت: عفواً بردون. وولّيت هارباً، وذهبت إلى صاحب الفندق فرجوته أن يعمل لنا طريقة للتفريق بين الرجل والمرأة، فدهش مني ووجم لحظة، ثم قدّر أني أمزح فانطلق ضاحكاً. قلت: إنني لا أمزح ولكني أقول الجدّ

وقصصت عليه القصّة.

قال: وماذا نعمل؟ قلت: لوحات صغيرة مثلاً من النحاس أو من الفضّة، توضع على الصدر يكتب عليها «رجل» أو «امرأة» ، تُعلَّق تحت الثدي الأيسر في مكان القلب. أو تُتخَذ حلية من الذهب أو الفضّة عليها صورة ديك مثلاً أو دجاجة، أو شاة أو خروف، أو شيء من علامات التذكير والتأنيث

وراقه اقتراحي وقبله على أنه نكتة، ولم يفكّر بالعمل به لأنه لم يجد حاجة إلى هذا التفريق ما دام المذهب الجديد يقول بمساواة الجنسَين (1).

* * *

تلك بيروت الأمس، أما بيروت اليوم وأمّا الجبل

فأنا أسأل الله له الفرج؛ فلقد ورد أن بني إسرائيل لمّا رأوا انحراف ناس منهم وضلالهم وعظوهم ونصحوهم، ثم تركوهم وأقرّوهم

(1) هذا جزء من المقالة، ومن أحبّ قراءتها كاملة فهي في آخر كتاب «مع الناس» ، مقالة «إلى لبنان» (مجاهد).

ص: 75

وآكلوهم وشارَبوهم، فلما جاء العذاب عمّهم جميعاً.

وما أشمت بما حلّ ببيروت وبلبنان. أيمكن أن أشمت ببلدي وبإخوتي؟ ولكنه قانون الله. إنه شديد العقاب، ولكنه واسع المغفرة. فتَح باب التوبة فما يغلقه حتّى تقوم القيامة، القيامة العامّة، أو القيامة الفردية حين يحضر الواحدَ الموتُ.

فإن أردتم كشف هذه الغُمّة عنكم فاطلبوه (اطلبوا الكشف) من ربكم، لا من أميركا ولا من روسيا. إنهم بشر مثلكم لا يقدرون على نفع ولا ضرر إلاّ بإذن الله. وهذا كلام حقّ ولكنهم لا يقبلونه؛ إنهم يستثقلونه ويصدّون عنه، فماذا نصنع إذا كان كلامنا لا يُسمَع؟

* * *

أمضيت أكثر العام (عام 1937) في بيروت في أهنأ عيش، أدرّس لطلاّب أذكياء يحبّون الأدب ويُقبِلون عليه. وكنت ساكناً معهم أُمضي أكثر وقتي في صحبتهم، وإن خرجت خرجت غالباً معهم، وكنت سعيداً بصحبة الأساتذة الزملاء، وكنّا نُمضي عشيّات عند الشيخ العزوزي العربي في داره نأكل «الكسكسي» ، وهو من أشهى الأطعمة التي عرفها الناس، ونشرب بعده الشاي الأخضر، راح المسلمين.

كنّا نختلف ولكن لا نتعادى، ونتناقش حتّى تعلو الأصوات وتتقارع الحُجَج، فمَن سمعنا ظنّ أنه ما بعد هذا إلاّ سل السكاكين، ثم نخرج متصافين متحابّين.

ص: 76

وكنت من قديم أحمل حصاة في حوض الكُلْية اليمنى، تثور بي حيناً بعد حين كما تثور البراكين، فأحسّ منها ما تحسّ المرأة عند الطلق من الآلام. وما جرّبت الحمل والولادة وما ذقت آلامها، ولكن عرفتها من السمع وشبّهت ما أجد بها على الوصف. وهل يُشترَط في المشبَّه به أن يكون محسوساً ملموساً؟ من رأى رؤوس الشياطين التي شبّه الله بها طلع الجحيم؟

جاءتني النوبة ليلاً، فاستيقظ الشيخ صلاح جزاه الله خيراً وأيقظ بعض الطلاّب، فجاؤوني بطبيب قريب، فأمرهم أن يملؤوا لي قربة بالماء الحارّ. فلما وضعتها على جنبي ازداد الألم، وعلمت من الغد أني كنت كمن يصبّ البنزين ليطفئ به النار وأن المطلوب كيس فيه الثلج لا الماء الحارّ، لأن الالتهاب في الزائدة لا في الكُلْية كما ظنّ الطبيب. ولا أظلمه، فأنا بمشاركتي في التشخيص شاركتُه الذنب؛ فيا إخوتي المرضى، صفوا للطبيب ما يوجعكم ودعوا له وحده تحديد الداء ووصف الدواء.

وكان من شروط العقد بيني وبين الكلّية أن عليهم إسكاني وإطعامي ومداواتي. وكان الدكتور محمد خالد، ابن المفتي الشيخ توفيق خالد رئيس الكلّية، من أكبر جرّاحي بيروت، وكان صاحب مستشفى في البسطة، فصحبني أحد الطلاّب إليه. وكنت أصرخ من الوجع، ففحص عن مرضي وأعطاني مسكّناً قوياً وقال لي: لا بد من عملية جراحية عاجلة. وقال للممرضة: اذهبي وأعدّي له الغرفة حالاً.

قلت وقد خفت من العملية: وهل يُشَقّ بطني؟ قال: وهل

ص: 77

تريد عملية بلا شقّ بطن؟ فشعرت من ألمي أنه يسخر مني، أو توهّمت ذلك من كلامه. وأحسست أنه يكلمني باستخفاف، فلم يُنسِني ما أنا فيه أن أغضب لكرامتي التي تخيّلت أنها مُسَّت. فقلت للممرضة لأصرفها: أحضري لي كأساً من الماء

وصرفت الطالب بحُجّة اخترعتها، وهبطت السلّم هارباً.

وكنت بالمنامة (البيجامة) فسقطت النعل من رجلي فوصلت الشارع حافياً، ورأيت سيارة أجرة فقلت لسائقها: أوصلني إلى شارع المعرض. وكانت تقف فيه سيارات الشام، وهممت بالركوب فإذا أنا بالشيخ صلاح. وكان رحمه الله قد سمع النبأ فلحق بي، فحاول أن يقنعني بأن أعود إلى المستشفى فالدكتور بارع والعملية على حساب الكلّية، فأبيت. فقال: انتظر حتّى أذهب معك. قلت: لا. وأصررت على الذهاب إلى الشام، فما كان منه -جزاه الله خيراً ورحمه- إلاّ أن ركب إلى جنبي وأسندني إليه، لأني كنت أوشك بتأثير الحقنة المسكّنة أن أنام، حتّى أوصلني إلى بيتي في الشام.

* * *

كان في دمشق ثلاثة مستشفيات: مستشفى كلية الطبّ (وكان اسمه يومئذ المعهد الطبي، ويدعوه الناس مستشفى الغرباء)، والمستشفى الفرنسي والمستشفى الإنكليزي، وكلاهما تبشيري (أي تنصيري تكفيري).

وكان عندنا من أساتذة المعهد الطبي جرّاحون كبار أبرزهم نظمي القباني، ابن الأستاذ مصطفى القباني رئيس المحاسبة

ص: 78

في وزارة المعارف، ومرشد خاطر، وهو نصراني عالِم أديب. فلم أجد القباني فذهبت إليه، فتلقّاني ببشاشة الرجل المهذّب وكلمني كلام الأديب للأديب، وأشعرني بالثقة به والاطمئنان إليه. والطبيب يداوي بشخصه وأسلوبه قبل أن يداوي بعلمه وطِبّه. وأعطاني حقنة في الجلد أظنّ أن اسمها كان «بروبيدون» وقال إنها تسكّن ولا تشفي.

واسترحتُ، ولكنني اضطُررت بعد حين إلى إجراء العملية الجراحية بيد الدكتور شارل في المستشفى الفرنسي في القصّاع؛ إذ كنت أسكن في آخر الحيّ الإسلامي، مسجد القصب، الذي يجاور هذا الحيّ المسيحي، القصّاع. وأخذت أوسع غرفة مشرقة، واشترطت عليهم أن يزورني من شاء متى يشاء، وكان في هذه الغرفة مدخل شبه خاصّ يفضي إلى الشارع. وكانت الممرضة بنتاً لطيفة حلوة، ما كان لي من حلاوتها وجمالها إلاّ ما كان يغنّي به محمد عبد الوهاب عن القمر قديماً:«حظّنا منّه النظرْ، والنظرْ راحْ يِرْضي مينْ؟» .

أرضاني أنا، لا لأن نفسي تقتنع به بل لأنها لا تستطيع الوصول إلى أكثر منه. ولولا نشأتي الإسلامية القوية ولولا حفظ الله لي (وله الحمد عليه) لكان لي معها أكثر من النظر ومن الحديث، فقد كانت جميلة لطيفة وكنت شاباً قوياً، وإن لم أكن جميلاً فلست قبيحاً، وأحسب أني لو فتحت لها الطريق لالتقينا على ما لا يرضي الله. فيا ليت القائمين على المستشفيات يضعون في أقسام الرجال ممرّضين بدلاً من الممرّضات.

ص: 79

وكان يدير المستشفى راهبات. رئيسة القسم الذي كنت فيه راهبة اسمها سورماري، أي الأخت مريم، وكانت شديدة عنيفة ولا سيما على الممرّضة التي اسمها تيريز، ولعلّها في أعماقها تتأثّر لقبحها من جمال هذه الممرّضة ولغلظتها من لطفها. ويبدو أنها قد عضّت أصابع الندم على أنها قَبِلَتني في قسمها، بل لقد ندم القائمون على المستشفى على قبولي؛ ذلك لأن غرفتي صارت مثابة للزائرين، وأكثرهم من المشايخ. حوّلوا المستشفى إلى مجمع علمي أو إلى مسجد؛ فكانت المناقشات تدور النهار كله وزُلَفاً من الليل، وإذا دخل وقت الصلاة مدّوا مناديلهم وصلّوا جماعة يؤمّهم واحدٌ منهم. وكان شيخنا المبارك رحمه الله ورحم الجميع) له صوت لو جمعتَ عشرة أصوات من أقواها وأشدّها وحزمتها وجعلتها صوتاً واحداً لكانت دون صوت الشيخ. كان يتحدث مرّة، فأسرعت سورماري محتجّة تحتجّ بعبارات ثلثها عربي ونصفها فرنسي، والباقي صار من الانفعال خليطاً عجيباً لا يُفهَم له معنى. وكان يعرف كلمات من الفرنسية ففهم قصدها وقال: نعم، نعم، المستشفى يحتاج إلى الهدوء. فكان اعتذاره إليها مبعثاً جديداً لسخطها لجهارة صوته.

وكان الحقّ في هذه معها، ولكن ما لا حقّ لها فيه، والذي دلّ على نقص في عقلها وعقل العاملات معها وأنه ليس في رؤوسهن دماغ كالذي في رؤوس الناس، بل هو فارغ، أحسب أنك إن نقرت جانبه بإصبعك رنّ رنين الإناء الخالي: كنت ليلةً متألماً فقرعت الجرس أستدعي ممرضة الليل، وكانت غليظة سمجة بشعة تزيد ببشاعتها مرض المريض، وكانت فوق ذلك

ص: 80

غبيّة نادرة في الغباء. فأعطتني ما أمر به الطبيب من المسكّنات فما أفاد، فجاءت بشيء في يدها وقالت: خذ هذا فقبِّله باحترام وضَعْه على موطن الألم. قلت: ما هذا؟ قالت: إنه الصليب. فنظرت إليه فإذا عليه صورة إنسان، فتغابيت وتجاهلت وقلت: من هذا؟ قالت: هذا يسوع ابن الربّ (تعالى الله عما يقولون)! قلت: ابن ربّ يُصلَب! ومن صلبه؟ قالت: اليهود، ألم تسمع بذلك؟ قلت: لا، مع أنني أقرأ الجرائد كلّ يوم، فما نُشر خبره فيها. قالت: إن هذا شيء قديم، حتّى إن جدة أبي سمعته من الكبار ولم تعرف متى كان. قلت: وكيف صلبوه؟ وهل تعرفين المعري؟ قالت: ما أعرفه ولكن أعرف أين بيته. قلت: بيت من؟ قالت: بيت الأمعري، لأنه كان على طريقي. قلت: ويحك، المعرّي لا الأمعري! المعرّي يقول:

ليتَ شِعري وليتَني كنت أدري

ساعةَ الصلبِ: أينَ كانَ أبوهُ؟

قالت: كان مسافراً في الهند ومات على الطريق. قلت: ومن الذي كان في الهند؟ قالت: أبوه. قلت: أبو من؟ قالت: أبو الأمعري! فقلت لها: اذهبي من وجهي ولا تعودي إليّ، لقد زدتِني بغبائك مرضاً على مرضي. قالت: أنا غبيّة، أنا كنت أذكى تلميذة في المدرسة. قلت: أيّ مدرسة هذه التي كنتِ أنتِ أذكى تلميذاتها؟ قالت: مدرسة الراهبات.

* * *

كم تقدّم الطبّ الجراحي من تلك الأيام إلى الآن؛ كانت العملية عملية قطع الزائدة، فأبقوني ممدداً على ظهري نحواً من

ص: 81

أربعين يوماً، وما سُمح لي بأن أنقلب على جنبي إلاّ بعد زمن طويل! ما كان قد عُرف البنسلين، وكان التخدير خنقاً متعمَّداً، لا أزال أذكره إلى الآن. وضعوا على أنفي كمامة فيها كلوروفورم أو أثير أو أمثال ذلك ممّا كان يخدّر به في تلك الأيام، وضغطوها وأنا أحس بالاختناق. وكنت أسمعهم يقولون "خلص تخدّر"، فأشير بكفي أنْ لا، قالوا: هل يدمن المسكرات حتّى لا يؤثّر فيه البنج؟! ما علموا أني بحمد الله لم أقترب منها ولم أدخل أماكنها، فضلاً عن أن أشربها.

وكان الصحو من البنج أصعب عليّ منه، فأنا إن نمت على ظهري دخت. فلما بدأت أصحو وجدتُني مثبّتاً في السرير مربوط اليدين والرجلَين، كأني معتقَل في سجن ظالم لا يخشى الله وليس له قلب، وما له من الإنسانية إلاّ أنه يمشي على اثنتين وليس له ذَنَب. ومن شدة ضيقي شددت الرباط فقطعته، وكنت امرأً رياضياً قوياً متين الجسد مشدود العضلات.

أمضيت هذه المدّة كلها من أجل عملية الزائدة، وقد شُقّ بطني شقاً طوله ثمانية عشر معشاراً (18 سانتي). ومنعوا عني الماء، فكنت أمدّ يدي إلى كيس الثلج الموضوع على بطني فأستخرج قطعة صغيرة أمسحها حتّى أنظفها، ثم أضعها في فمي فأشرب منها ماء بارداً، لأني لم أكن مقتنعاً بقولهم إن الشرب يضرّني.

وقد صدقت الأيام قولي، فلما قامت الحرب العالمية بعد ذلك بسنتين وجعل الجنود يقطعون الزائدة لئلاّ تلتهب أثناء القتال فتؤلمهم، قرأت أن جماعة منهم كانوا مجتمعين في المستشفى

ص: 82

بعد العملية فعطش واحد منهم، فقام فشرب ونادى: من يريد أن يشرب؟ فشربوا جميعاً. فلما رأى الأطبّاء أن ذلك لم يضرّهم سمحوا بشرب الماء.

* * *

وكان في بهو المرضى (العنبر العامّ) مريض شيخ مسلم فقير، ولم يكن عالماً ولكنه كان ذكياً. فلما قَرُب خروجه وجاؤوه بقائمة الحساب وجد أن المرض الذي جاء فيها أشد من المرض الذي زال. وكان يستطيع أن يقوم ويقعد، وكان في المستشفى تمثال زعموا أنه صورة القديس الذي يحمي المستشفى، وكانوا يضعون حوله باقات الورد. فكان يقوم فيأتي بها ليلاً حيث لا يراه أحد فيضعها إلى جنب سريره، فإذا اجتمع الطبيب والراهبة والممرضة في الصباح قال لهم على مسمع من المرضى: إن القديس جاءني وبشّرني بالشفاء ووضع هذا الورد إلى جنب سريري. فأعجبهم ذلك منه أولاً لأنهم حسبوا فيه شهادة لهم وتأييداً لضلالهم، فلما كرّرها أحبوا التخلص منه وإخراجه، فطلع عليهم بحُجّة جديدة فقال إن القديس جاءه البارحة وقال له: أخبر أتباعي المخلصين أنني آمرهم بألا يأخذوا منك شيئاً. وكانوا يعرفون الحقيقة ولكنهم إن جهروا بها كذّبوا أنفسهم، فسكتوا عنه وأخرجوه من غير أن يرزؤوه شيئاً.

هذا طرف من خبري في المستشفى.

* * *

ص: 83