المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في «الكلية الشرعية» في بيروت - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌في «الكلية الشرعية» في بيروت

-104 -

‌في «الكلّية الشرعية» في بيروت

من أفضل مَن عرفت من الناس قوّةَ إيمان وإخلاصاً في الدعوة إلى الله ودأباً عليها، رجل كان من أساتذتي في السلوك لا في العلم؛ حاولت أن أقلّده وأن أكون مثله فما استطعت. رضيّ الخلق، بعيد عن الكبر، قد أمات في نفسه حظّ نفسه وجرّدها للعمل لما يُرضي الله عنها لا لما يسرّها هي ويُرضيها، هو الشيخ صلاح الدين الزعيم. ولقد سبق ذكر أبيه المجاهد الشيخ رضا الزعيم، وسيأتي ذكر أخيه الأصغر حسني الزعيم صاحب الانقلاب في الشام. وإذا كان الذي غرس هذه الشجرة الملعونة السامّة في حياتنا (شجرة الانقلابات) بكر صدقي الذي حدثتُكم حديثه، فإنّ الذي سقاها وغذّاها وكبّرها ونمّاها هو حسني الزعيم.

كان الشيخ صلاح يعمل مراقباً للطلاّب في الكلّية الشرعية التي أُنشئت حديثاً في بيروت لتخرج للمسلمين قُضاة ومُفتين ووُعّاظاً ومدرّسين. فلما جئت دمشق للإجازة بعد انتهاء العام الدراسي (1936 - 1937) سألني عن أحوالي في العراق بعد أن

ص: 55

نُقلت إلى البصرة، فما شكرت ولا شكوتُ ولا كنت حامداً ولا ذامّاً، فعرض عليّ أن أكون مدرّساً في الكلّية، وقال إنه مفوض بذلك من سماحة المفتي الشيخ توفيق خالد. فما تردّدت أن قبلتُ؛ لا كُرهاً بالعراق، فقد أحببتها وما زلت أحبّها وأذكر بالخير أيامها، وأستحلي سماع مقاماتها والإصغاء للهجة أهلها الذين لم ألقَ منهم إلاّ النبل والكرم.

ولكن لمّا رأيت أنه ما يزال في بغداد من يكيد لي ويتربص بي الدوائر، وأنهم استطاعوا نقلي إلى البصرة بغير طلب مني (وإن لم يَسُؤْني هذا النقل)، فلربّما استطاعوا إذا انتهت مُدّة عقدي ألاّ يُجدِّدوه لي. فقلت في نفس مقالة الزبّاء:«بيدي لا بيد عمرو» .

لذلك قبلت ما عُرض عليّ.

* * *

كان الذي يعمل في بيروت كالعامل في الشام، لأن السفر بينهما كان يومئذ كالسفر من مكّة إلى جدّة؛ متى خطر على بالي خرجت فركبت السيارة من أمام الدار في دمشق فلم أنزل إلاّ أمام الدار التي أقصدها في بيروت.

كانت السيارات في «المَرجة» في دمشق تنادي النهار كله وطرفَي الليل: بيروت، بيروت

وكان أكثرها من سيارات فورد الصغيرة تحمل أربعة ركّاب: واحداً إلى جنب السائق وثلاثة في الصدر، والأجرة ليرة. والليرة في البلدين واحدة، ما كان للبنان ليرات غير ليرات الشام.

ص: 56

ولا تبعد بيروت عن دمشق أكثر من بُعد جدة عن مكّة، ولكننا ما كنّا نصل قبل ساعتين، فإن أسرعنا كثيراً نقصنا منهما قليلاً. ذلك لأن طريق جدة سهل تسير فيه على أرض منبسطة في طرق واسعة، وذلك طريق ضيّق، يصعد جبلاً ويهبط وادياً، ولا يزال يلفّ ويدور حتّى يدور رأس الراكب ويحسّ من لفّاته أن حبلاً التفّ على عنقه فكاد يُغشى عليه. كان عند مَيْسلون أكثر من أربعين منعطَفاً، وعند الصعود من شتُورة إلى جدَيْدة مثلها، وسبب ذلك (أقول الحقّ فلا تضحكوا) أن الذي رسم ذلك الطريق حمار!

نعم، الحمار الحقيقي لا مَن هو على المجاز مثل الحمار: كان الدليل يركب حماره ويدَعه يمشي على هواه. والحمار (كما تعلمون، أو لا تعلمون) مهندس بالفطرة، فهو يختار من المصاعد أسهلها فيسلكها، وإذا رأيته يمشي في الجبل على حَرْفه حتّى لتظنّه سيسقط في الوادي فلا تحسب أنه يفعل ذلك جهلاً، بل يفعله مفاخرة لإثبات القدرة على التوازن!

والحمار مظلوم، فمن سبّ منّا آخر قال له: يا حمار، فيغضب، مع أن الحمار أحقّ بالغضب إن قيل له: يا إنسان! نعم، إن جنس الإنسان أفضل والله كرّم بني آدم وقدّرهم، ولكن مِن بني آدم مَن ينزل بنفسه عن مكان استحقاق التقدير فيصير أضلّ سبيلاً من الحمير.

وهل يجترح الحمار من السيئات ما يجترح مثلَه الإنسان؟ من رأى منكم حماراً يجحد ربه، أو يغش زميله، أو يخون قومه،

ص: 57

أو يرتكب الفواحش، أو ينظم فيها الأشعار (1)؟ ثم إن من يموت على الكفر يكون يوم القيامة دون الحمار.

* * *

من سافر اليوم من دمشق إلى بيروت لم يجد هذه المنعطفات، فقد أُزيلَت وسُوّي الطريق، ولكن جاء ما هو شرٌ منها: منعطف قد يعطف طريق المسافر إلى القبر!

ما كنّا نحتاج في السفر إلى إذن ولا رخصة ولا نقف على الطريق لتفتيش متاع وختم أوراق، فصار هذا كله. ويا ليت هذا الذي صار يعود إلى ما كان عليه فهو أهون ممّا انتهينا إليه: أهون من أن نقف وقفة لا نمشي بعدها أبداً، أو أن تختم حياة الواحد منّا بدلاً من أن تختم أوراقه.

كان السفر من دمشق إلى بيروت سنة 1937 لولا هذه «الأكواع» ، أي المنعطفات، كان لولاها نزهة ومتعة: أوله وادٍ أنيق دقيق، عرفتُ الدنيا فما عرفت أجمل منه، هو وادي الرَّبْوة إلى الشاذِرْوان. عرض الوادي كعرض الطريق وبردى وسكة القطار، لا يزيد عليها. وآخره وادٍ من أعظم الأودية وأوسعها وأجملها، هو وادي صُوفَرْ-حَمّانة الذي لا يدرك بصرُك قراره، وقد نُثرت القرى على جانبَيه كما نُثرت على العروس الدنانير، ترى أضواءها في الليل كأنها النجوم في سماء صافية الأديم.

(1) فيُعَدّ بذلك من كبار الشعراء ويصير له أتباع مقلّدون، وتُكتَب فيه مباحث ودراسات كما كتب هو «قصّته مع الشعر» .

ص: 58

تخرج من دمشق فتمشي إلى جنب بردى وأبنائه بين الرياض والبساتين، حتّى تعلو جانباً من لبنان الشرقي، وتهبط منه فتبلغ سهل البقاع. السهل الذي صيّرناه بعد الأمن والدعة والجمال دارَ خوف ومسرحَ قتال. حتّى إذا تجاوزت شتورا بدأت تصعد حتّى تمشي وسط السحاب أو تعلو فوقه (وهذا منظر حقيقي لا تعبير خياليّ) إلى ظَهْر البَيْدَر، ثم تنعطف يميناً فتدخل الجنّة التي أحالها البشر اليوم ناراً، فإذا عن يمينك الطريق الفرعي إلى حَمّانا ففَالوغة، ثم ينزل إلى بيروت من هناك. وأمامك الشارع الأصلي الذي يجوز بصوفر وبْحَمْدون وعَاليه، وتلك المرابع التي كانت للحبّ فصارت للحرب، وكانت للشعر فغدت للذعر (1).

ولو لم يُصِبْ لبنانَ هذا الزلزالُ الذي لا تزال تتعاقب خضّاته وتتوالى هزّاته وتمتلئ الصحف بأخبار فواجعه: من رصاص يئزّ ومدافع تدوّي ونيران تندلع، وأرواح خلال ذلك تُزهَق، لو لم يكن من ذلك شيء لبقي بلداً آمناً مطمئنّاً يأتيه رزقه رَغَداً من كل مكان.

وجئت سنة 1984 لأصف بيروت سنة 1937، ليقرأ الشباب في ذلك تاريخاً لما كان لا وصفاً لما هو كائن. لا أتكلم عن بيروت الماضي السحيق التي كان فيها إحدى حكومات الفينيقيين، لأن كل بلد كانت لها عندهم حكومة، وإن كانت الكبرى صيدا. لبثَت على ذلك أكثر من أربعمئة سنة، ثم انتقلَت

(1) كانت الحرب الأهلية في لبنان على أشدّها يوم نُشرت هذه المقالات أول مرة في جريدة «الشرق الأوسط» (مجاهد).

ص: 59

إلى صور فامتدّ سلطانها إلى أكثر سواحل البحر الأبيض المتوسط وأقامت مستعمرة لها في قرطاجَنّة، ناطحَتْ روما لما كانت روما في عزّ مجدها وظهر منها أحد أبطال التاريخ القديم «هاني بعل» (هانيبال) الذي صنع ما لم يصنعه أحد قبله ولم يصنعه بعده إلاّ نابليون تقليداً له، هو أنه صعد بجيشه الثقيل جبال الألب ثم انقضّ على روما من فوق.

* * *

كان لُبّ بيروت لمّا جئتها في ساحة البرج: في أعلاها بِرْكة جميلة كبيرة بعدها حدائق في وسط الشارع، وفي أسفلها السراي الصغير، تمرّ منها خطوط الترام كلها. وكان في بيروت ثلاثة خطوط للترام مُدَّت سنة 1906، تمشي فيها من أولها إلى آخرها ثم تجتمع كلها مارّة من ساحة البرج. الخطّ الأول يصل إلى «الدّورة» عند نهر بيروت، والخطّ الثاني، وهو أطولها، يمتدّ من «فرن الشبّاك» (الذي يستقبل القادم من الشام) إلى المنارة في رأس بيروت، والخطّ الثالث هو الذي يجتاز البَسطة أدناها وأعلاها (ويسمّونها البسطة التَّحْتا والبسطة الفَوْقا) إلى الحرج.

فإذا بلغتَ أسفل ساحة البرج وسرت إلى اليسار وجدت المسجد الكبير المسمّى بالمسجد العمريّ، الذي كان كنيسة فصار مسجداً:

كنيسةٌ صارَتْ إلى مسجِدِ

هديةُ السيّدِ للسيّدِ

يعني شوقي بالسيد الأول المسيح، وبالسيد الثاني سيّد ولد آدم محمد، عليهما من الله الصلاة والسلام. وأمام المسجد شارع

ص: 60

يمتدّ إلى البحر وفي آخره على اليمين مسجد جديد، يقابله فندق الأهرام الذي ينزله «الشوام» ، صاحبه الحاجّ أحمد المغربي الذي يعرفه كلّ شامي كان يزور بيروت: ينام عنده ويأكل من طبخه، وهو أحسن رجل يجيد الطبخ الشامي هناك. كنّا نحس في فندقه كأننا في بيوتنا، وإن نسينا ذكّرنا قرعُ القَباقيب على بلاطه وخَبط الأباريق في حَمّاماته! وكنّا نجد فيه جوّ المسجد، فإذا دخل وقت الصلاة أذّن مؤذّن فيه ومُدَّت البُسُط وأقيمَت الصلاة جماعة.

وكان بينه وبين الشارع سلّم فيه مئة درجة، ولم يكن فيه مصعد. وما كنّا قد عرفنا المصاعد في دمشق إلى ذلك اليوم وإن كان في بيروت قليل منها، وأول مصعد رُكّب في دمشق هو الذي في عمارة كَسْم وقَبّاني وراء المجلس النيابي.

والغريب أن المشايخ الكبار كانوا يصعدون إليه لا يجدون من ذلك بداً. وكنت إن جئت بيروت بأهلي (ولم أكن سنة 1937 قد تزوّجتُ؛ ما كان معي ما أتزوّج به وأنا على أبواب الثلاثين من العمر!) كنت أُنزِلهم في شبه دار على سطح الفندق: غرفتان هَرِمتان قديمتان أمامهما السطح كله، يلعب فيه مَن معنا من الصغار وتتكشّف فيه النساء فلا يراهن أحد، لأن مِن حولنا سوراً يحيط بنا فيحجبنا إلاّ من جهة نطلّ منها إذا أردنا، ولأن له باباً كنّا نغلقه علينا.

ومن العجائب أني جئت بيروت مرّة فوجدت السطح مؤجَّراً، فأخذنا غرفتين في «فندق ريجنس» ، وهو أغلى أجرة وأعلى مرتبة. فما استرحت فيهما، فجئت ففاوضت مستأجر

ص: 61

السطح ليبادلني بهما عليه. وقبل متعجّباً مني، وجعل ينظر إليّ كما ينظر ابن المدينة إلى الفلاّح الذي فكر أن يبيعه ميدان العتبة الخضراء! إذ كيف أدع غرفتين في فندق كان يُعَدّ من الفنادق الكبار لآخذ غرفتين عتيقتين على سطح عمارة قديمة؟ ما علم أنني آخذ حرّيتي التي افتقدتها في الفندق وكنت أجدها على السطح.

كان فندق الأهرام وقهوة الحاجّ داود ملتقى الشاميين في بيروت؛ إن ضاع منك واحد منهم وجدتَه في أحدهما. وكانت القهوة على أعمدة من الصخر في طرف البحر، فكان يحسّ مَن فيها كأنه في مركب قديم، تضربه الأمواج فتتكسّر عليه. ولم يكن في الفندق خمر ولا شيء ممّا حرّم الله، ولم يكن من ذلك شيء في قهوة الحاجّ داود. وكان يقابل القهوةَ أخرى مثلها اسمها قهوة البحرين، ثم ينكشف البحر للماشي في الشارع حتّى يصل إلى الفندق الكبير الوحيد في تلك الأيام، فندق سان جورج، وبعده ملاهٍ نمرّ عليها في النهار وهي مغلَقة الأبواب ولا نعرف ماذا يكون فيها في الليل. هذه هي الزيتونة المشهورة.

* * *

بتنا في الفندق، ولمّا أصبحنا صحبني الشيخ صلاح إلى الكلّية، فركبنا الخط الأول إلى آخره لمقابلة المفتي الشيخ توفيق خالد رحمه الله، وكان هو رئيس الكلّية وكان الرئيس الأعلى (رسمياً) للمسلمين. وكان القاضي هو الشيخ مصطفى الغلاييني صاحب الكتب المشهورة في النحو والصرف، وكان أمين الفتوى أستاذنا القديم الشيخ عبد الرحمن سلام.

ص: 62

أمّا مدير الكلّية فهو الرجل الفاضل الذي طوّق عنقي بمكارمه وأثقل ظهري بأياديه عليّ، والذي كان لي أخاً كبيراً وكان يوليني من العطف والحبّ أكثر ممّا يولي امرؤ أخاه. ولقد كنت أتمنّى أن أجدد العهد برؤيته، ولكن أبلغني الأستاذ القباني مدير الأوقاف، وقد زارني في مكّة، أنه تُوفّي من قريب. رحمة الله عليه وجزاه الله عني خيراً (1).

وكان ممّن أذكر من الأساتذة الشيخ محمد العربي العزوزي، الذي صار أمين الفتوى بعد الشيخ سلام، وله كتاب عمّن عرف من الرجال في بيروت ذكرني فيه فأثنى عليّ ثناء لا أستطيع أن أنقله، ووصفني بصفات ونسب إليّ مزايا لا أستحقّ معشارها، لذلك أُعرِض خجلاً عن نقل ما قاله، وأسأل الله له الرحمة والغفران (2).

لمّا وصلت الكلّية وجدتها في بناءَين في آخر البسطة على يسار الصاعد من البلد، أولاهما للتدريس والثانية للطلاّب:

(1) سها الشيخ فلم يذكر اسم هذا المدير هنا، وقد عاد فذكر اسمه في أول الحلقة الآتية (مجاهد).

(2)

اسم كتابه «إتحاف ذوي العناية» ، ومما قاله فيه (صفحة 51):"ومنهم زميلي في التعليم في الكلية الشرعية في بيروت الأديب الماهر والكاتب العظيم ذو القلم السيّال والعلم الغزير والذكاء المفرط واللسان اللَّسِن، الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي. عاشرته ما يقرب من السنتين فحمدت عشرته، وذاكرته فوجدته منهلاً عذباً لوارده، ما فاوضته في علم إلا وجدته ذا اطلاع واسع. ولقد كان يزورني في بيتي ويسمر معي ويتحفني بطُرَفه وأدبه وغرائب نوادره. ما رأيت من جمع بين الأدب والشريعة مثله"(مجاهد).

ص: 63

لطعامهم ولمنامهم. وبينهما ساحة يمارسون فيها الرياضة ويلعبون فيها. وكنت قد تعاقدت معهم على أن يضمنوا لي المنام والدواء، فأعطوني غرفة في عمارة التدريس فوضعت فيها سريراً ومنضدة وصارت بيتي.

كانوا يُلزِمون الطلاّب بالعمامة البيضاء والجبّة السوداء، فكانوا يجدون حرجاً من الخروج بها في شوارع بيروت. وكان منهم طالب صغير ألبسوه الجبّة والعمامة وجعلوه شيخاً قبل سنّ البلوغ؛ كان أصغر التلاميذ سناً وجسماً ولكنه كان من أشدّهم ذكاء ونباهة، فصار اليوم من أكبرهم اسماً وفعلاً. فمِن فِعله إنشاء مجلة «الآداب» التي عاشت عمراً وتخرج فيها جماعة من الشباب، هو الأستاذ سهيل إدريس.

وقد زار المملكة وأجرت جريدة «الجزيرة» مقابلة معه نُشرت في اليوم الأول من جمادى الثانية سنة 1401، وصف فيها كيف بدأ حياته في هذه الكلّية الشرعية وقال بأنه دخلها تلبية لرغبة أبيه الذي رأى اهتمامه بحفظ الأحاديث والقرآن فحكم (كما يقول):"بأني مرصود لحياة دينية قادمة، وألحقني بالمدرسة. وكانت تهتمّ بتدريس التشريع الإسلامي والمواد الدينية الأخرى. وقد بقيتُ فيها خمس سنوات، ودرّسني فيها كاتب كبير يعيش الآن ومنذ فترة طويلة في المملكة، وهو الشيخ علي الطنطاوي. وفي الواقع فإن الشيخ الطنطاوي هو الذي بثّ فيّ حميّة الأدب، وكان له أسلوب تشويقيّ جميل، وكان كاتباً معروفاً. وقد تأثّرت به وبكتابته وانصرفت إلى المطالعة وبدأت أميل إلى الأمور الأدبية"

إلى آخر المقال.

ص: 64

لقد تبيّنت من تجرِبة إلزام الطلاّب الصغار بالعمامة والجبّة قبل الأوان أن ذلك بعيد عن الصواب، وأنّ الأولى أن نبدأ من الداخل، من القلب: فنملأه بالإيمان، ومن الرأس: فنملأه بالعلم. والدليل أن طلاّب الكلّية لم يبقَ فيهم ثابتاً على العمامة إلاّ حسن خالد وشفيق يَموت. أمّا حسن خالد فهو سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية اليوم (1)، وشفيق يموت رئيس المحكمة الشرعية العليا.

وكان الشيخ شفيق وهو طالب يُحسن تلاوة القرآن وله صوت يشبه صوت أشهر قارئ يومئذ في مصر، الشيخ محمد رفعت، فكان المفتي يحبّه لذلك ويقرّبه لهذا. أما الشيخ حسن فكان له من الدين وإخلاصه لله، ومن العلم والاستزادة أبداً منه ومن الثبات على الحقّ، ما يجعله أهلاً للمنصب الذي وصل إليه.

إني أذكر من الطلاّب الآن، أذكر منهم (مع حفظ الألقاب): حسن خالد، وشفيق يموت، وسهيل إدريس، ومُحيي الدين خالد، ورمضان لاوند، وبهيج عثمان، وحسن صعب. ومن الطلاّب السوريين في الكلّية: عبد اللطيف حمزة، وعدنان الدوجي الصواف، وطالب من حماة من أسرة كزكز، وطالب اسمه محمد ولي. وأفضل من تخرّج فيها الشيخ حسن خالد،

(1) أي يوم كتابة هذه الحلقة في أواسط سنة 1984، ثم قُتِل غيلةً في بيروت بعد ذلك بخمس سنين، في السادس عشر من أيار (مايو) سنة 1989. وقد أكثر جدي من الترحّم عليه بعد استشهاده، وكان يحبّه ويثق بدينه ويثني عليه، وحين ذكره في الحلقة السابعة والسبعين (في ذكريات رمضان في بيروت) وصفه بالعالم المجاهد، رحم الله الاثنين (مجاهد).

ص: 65

ولقد كانت سيرته في الكلّية حسنة وهو طالب، وكذلك حسنت سيرته وهو مفتي الجمهورية.

وكان الطلاّب يحفظون بيتاً، لا أدري عمّن تلقّوه (1):

فلا تَكتُبْ بخطِّكَ غيرَ شيءٍ

يَسرُّكَ في القيامةِ أن تراهُ

وأظنّ اليوم أن كثيراً منهم لن يسرّهم يوم القيامة أكثرُ ما كتبوه بعدما صاروا عند الناس كُتّاباً وأدباء.

* * *

كنت أقضي ثلثَي الأسبوع في بيروت وثلثه في دمشق، فكنت زبوناً دائماً لسيارات الأجرة. وقد وجدت عند سماسرتها من أساليب الكذب ما يملأ -لو كتبته- صفحات كثيرات؛ منها أنهم يُقعِدون في السيارة اثنين منهم أو ثلاثة ويقولون لك: لا ينقصنا إلاّ راكب واحد لنمشي، فادخل. فإذا دخلت خرج أحد هؤلاء انسلالاً، فتقول له: إلى أين يا أخانا؟ فيقول: أشرب ماء أو أشتري أو

وما أكثر ما يأتي بعد أو! ثم يتبين أنه ليس بين الركّاب إلاّ أنت وحدك.

وكنت أصحب الطلاّب، مَن شاء منهم المشي، فنصعد الجبال ونَرِدُ العيون ونزور الآثار مشياً على الأقدام. وكان أقرب الأمكنة التي نمشي إليها الناعمة والدّامور من الجنوب، ومن الشمال إلى أنطلياس.

(1) البيت لأمين الجندي، وقبله:

وما مِن كاتبٍ إلاّ سيَفنى

ويُبقي الدهرُ ما كتبَت يداهُ

(مجاهد).

ص: 66

وقلت مرّة لمن معي: ألا يمكن أن نصل إلى أعماق هذا الوادي؟ وكان اسمه وادي شحرور. قالوا: بلى، فهل أنت مستعدّ؟ قلت: نعم، فلنهبط.

وهبطنا، وأمضينا نحواً من ساعتين ونحن ننزل، لا نمشي على طريق مزفّت ولا نسلك مسلكاً سهلاً، بل نعتسف اعتسافاً، حتّى إذا حسبنا أننا بلغنا القاع بدت لنا دونه قيعان، حتّى انتهينا إلى قرارة الوادي، إلى مكان ما فيه إلاّ نبع ماء وثلاثة أبيات أو أربعة، ودُكّان كدكاكين القرى فيه من كل شيء شيءٌ قليل. فشربنا من النبع وطلبنا ما نأكله، فلم نجد عنده إلاّ خبزاً وبيضاً مسلوقاً وبعض الفاكهة، فطلب ثمن الرغيف ما يعدل ثمن عشرين رغيفاً في بيروت وثمن البيضة ما نشتري به الدجاجة! وساومناه وجادلناه فأبى إلاّ ما أراد، فانتحينا ناحية وجمعنا كل ما في جيوبنا وأكياسنا فلم يبلغ ما طلبه. وكنّا في مثل حال المضطرّ. قالوا: ماذا نصنع؟ نكاد نهلك من الجوع. فقلت لهم: إن لمثلنا أن يأكل الميتة أو أن يغصب ما يُقيم حياته غصباً، فأفهموه أننا رضينا، فإذا أكلنا فعلنا ما يُرضي ربنا ويريح ضميرنا.

فأعطانا وأكلنا. فلما شبعنا قلنا: ندفع لك ما معنا. وكان يزيد ثلاثة أضعاف ثمن ما أكلنا، فأبى. فقلنا له: لقد أكلنا الطعام، فإمّا أن تأخذ، وإمّا أن تذهب فتأتينا بالشرطة، وإما أن تقاتلنا. فصاح فجمع علينا خمسة من أصحابه من هذه البيوت التي تقوم حول النبع، فنظروا فإذا نحن أكثر منهم عدداً، ويبدو أننا أقوى جسداً. وأدرك أن لا طاقة له بحربنا، وليس هناك حكومة يشكون إليها، فاكتفى بما جرى على لسانه من سبّنا وسبّ آبائنا ومن ولدنا. وكان

ص: 67

سفيهاً طويل اللسان عالي الصوت، ولكنا كنّا (والحقّ يقال) أشدّ سفهاً وأطول لساناً وأعلى صوتاً فغلبناه. وكيف لا، وأنا أحفظ نصف ما قال الشعراء في فنّ الهجاء؟!

* * *

كانت بيروت في تلك الأيام سابقة البلاد العربية بعد مصر في مجال الفكر والأدب، فيها الصحف والمجلاّت وفيها المدارس الكثيرة والجامعات، الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية، وهما تتباعدان في المسار ولكنهما تتّحدّان في الغاية، هذه تُدخل جهنم من الباب الجنوبي وهذه من الباب الشمالي، وما بعد البابين إلاّ النار.

وكان عملهما للتبشير وللاستعمار كما جاء في كتاب الدكتور فروخ والدكتور الخالدي. وكلمة التبشير والاستعمار تعنيان التنصير والتكفير والاستخراب والدمار، وهما من ألفاظ الأضداد، كما يُسمّى الملدوغ «السليم» والأعمى «البصير» .

وكان بين الكلّية الشرعية وبين مدرسة المقاصد شيء من المنافسة، فجاء مرّة وفد من مصر على رأسه أحد كبار رجال التعليم (أظنه العشماوي باشا) فزار المقاصد فاحتفوا به وصفّوا الطلاّب لاستقباله ودقّوا له الموسيقى ونصبوا له الموائد، ثم جاء يزورنا، فألقيت كلمة هدمت عليهم بها ما بنوا؛ قلت فيها: لا تؤاخذنا إن لم نطبّل لقدومك ولم نزمّر ولم نرفع الرايات، فما عندنا هنا إلاّ العِلم، فإن أردتَه خالصاً فمرحباً بك في دار العلم، في دارك، وإن شئت طبلاً وزمراً فإنك واجده هناك.

* * *

ص: 68