المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بغداد تغضب لأختها دمشق - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٤

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌بغداد تغضب لأختها دمشق

-108 -

‌بغداد تغضب لأختها دمشق

الذي يجري الآن في فلسطين كبِّروه ثلاثين مرّة، والذي جرى في مصر سنة 1919 كرِّروه ثلاثين مرّة، تروا أمامكم صورة لما كان في سوريا وفي دمشق خاصّة من سنة 1936 إلى إعلان الحرب العالمية الثانية.

كان الشعب في غليان، وكانت شوارع دمشق وسُوحها ساحات حرب، وكان الشبّان وكان الناس كالجيش في حال الاستنفار:

لا يسألونَ أخاهمْ حينَ يندُبهمْ

في النّائباتِ على ما قالَ بُرهانا

كان الناس يجتمعون في الجامع الأموي (مركز القيادة الشعبية)، ففيه تُلقى الخطب ومنه تخرج المظاهرات، فتصطدم بالشرطة والدرَك ثم بالجنود والدبّابات، وكان أول هدف لهم إذا خرجوا من الجامع مخفر سوق الحميدية، وطالما احتلّوه ودمّروا ما فيه. والهدف الثاني الترام الذي تملكه شركة بلجيكية وتحميه الحكومة المنتدبة الفرنسية، وطالما رأيت عرباته يَصُبّ عليها المتظاهرون النفط ويشعلون فيها النار حتّى لا يبقى منها إلاّ

ص: 115

الهيكل الحديدي.

وقد تركت ما كنت فيه من قيادة الطلاّب من سنة 1929 إلى سنة 1931 وصرت موظفاً كما عرفتم. ولكن من تركتهم لم يتركوني، والوظيفة ما كانت يوماً غُلاًّ في عنقي ولا قيداً من يدي، فإذا دُعيت إلى امتطاء منبر أو امتشاق قلم أسرعت فأجبت. ولي مواقف كانت في حينها حديث البلد وشغل الناس، مات من عرفها ونسيها من لم يمُت من عارفيها، أو شغلَته عن ذكرها هموم الحياة وأحداث الدهر، فمَن كان يعمل للناس فما يلقى إلاّ مثل هذا من الناس، ومن كان يعمل لله فذاك الذي يجد المكافأة عند الله.

تركت العمل في لجنة الشباب ولكن بقيَت معي نخبة متخيَّرة منهم، أعدّد اليوم بعض أسمائهم وربما عدت غداً إلى سرد بعض أنبائهم: منهم محمود الرفاعي الذي صار من بعدُ ضابطاً كبيراً وخاض مستنقع السياسة فأوغل فيه، وكان له دور في إسقاط الزعيم، ثم مات رحمه الله في ألمانيا في حادث. ومنهم سعيد الجزائري الذي عرفَته صحف دمشق محرّراً قديماً فيها وعرفه الأدباء مخالطاً لهم ناقداً أو مشجّعاً، وقد تُوفّي رحمه الله. ومنهم إسماعيل قولي الذي صار قاضياً كبيراً وصاهر أسرة شيخنا المفتي الطبيب أبي اليسر عابدين، ثم توفّي هو وتوفّي الشيخ رحم الله الجميع.

وممّن بقي منهم صبحي النبهان، التاجر الكبير الذي تؤلّف حياته قصّة واقعية رائعة، فيها الهبوط إلى الحضيض ثم الصعود

ص: 116

مرّة ثانية إلى الذروة، فيها الشدّة التي لا تعرف اليأس والطموح الذي لا يدنو من الطمع، والذي كانت نهاية نكباته تدمير معرض له في بيروت قرب المرفأ خسر فيه عشرة ملايين ليرة لبنانية (1).

ومنهم أنور العش، وهو رجل عالم عامل دائب، واجه معركة الحياة قبل أن يستكمل عدّة مواجهتها وقبل أن يتقلّد السلاح لها. وقد أصدر أنور هذا وهو طالب -بإشراف مني- مجلّة «رسالة الطالب» ، وأصدر كتاباً سجّل فيه ما نشرَته الصحف سنة 1936، من بداية المجالدة والمجاهدة إلى الوصول إلى المعاهدة، وسَمّيته له «طريق الحرّية» . وقد كان عندي فضاع، وسألته عنه فلم أجد عنده نسخة منه! وكذلك تُنسى مواقف نضالنا وتواريخ فعالنا، ولو أنها دُوّنت لكان منها كتاب من كتب الأمجاد عظيم.

كنت كما كان الملأ من أصحابي وإخواني: منير العجلاني وصبري القباني ومدحة البيطار ومسلم البارودي وشفيق سليمان ومحمود البيروتي، كنّا جميعاً نشتغل مع «الكتلة الوطنية» التي كانت هي قائدة النضال للاستقلال. فلما كانت المعاهدة ودخل رجال منها الحكم بدّلَت الكراسيُّ بعضَ هؤلاء الرجال، فخابوا في الحكم بمقدار ما نجحوا في النضال.

(1) سبقت الإشارة إليه في الحلقة الرابعة والتسعين من هذه الذكريات. وأحسب أنه هو الذي بنى جدّي على قصته مقالة «بين الوظيفة والتجارة» المنشورة في كتاب «فصول اجتماعية» ، فمن شاء أن يقرأها مفصَّلة وجدها هناك (مجاهد).

ص: 117

لا، ليسوا سواء؛ منهم جماعة كانت ضمائرهم أغلى من أن ترخصها الأقذاء تعلق بها، ونفوسهم أعلى من أن تصل إليها المطامع تهبط بها. جميل مردم بك لمّا صار وزير المالية، فجئته ليُمضي لي على السند الذي أقبض به أول راتب في الوظيفة، نسي أني كنت أعمل معه وأني كنت أكلّمه كما أكلّم إخوانه الذين كانوا مثله، بل كانوا خيراً منه، بلا حاجب ولا بوّاب، فاحتجب دوني وأبقاني واقفاً على بابه. لا على باب داره، فالمرء حُرٌّ في داره يردّ عنها من يريد ويستقبل فيها من يريد، بل على باب غرفته في قصر الحكومة، التي أملك منها مثل الذي يملك ودفعت من ثمنها مثل الذي دفع، لأنها ملك للشعب كله لا لآله وذويه. حتّى فار الدم في عروقي (وما أسرع وأشدّ ما كان يفور) فرميته بمقالة قام منها ولم يستطع أن يقعد هادئاً إلاّ بعد حين.

مع أنني كنت أدخل على شكري بك القوّتلي متى شئت، أفتح الباب وألِج أو أقرعه وأنتظر هنيهة ثم أدخل. أمّا هاشم الأتاسي فقد كان خيراً منهم، بقي بابه مفتوحاً للجميع وبقي أباً للجميع، لم تختلف حياته وهو رئيس عمّا كانت عليه قبل أن يكون هو الرئيس. حتّى الشرطي الذي وقفوه على باب داره قال له يوماً (وأنا أسمع) عشيّة ليلة باردة: يا ابني رُح إلى أهلك وأولادك فاسهر معهم ونَم عندهم، فإنها ليلة باردة وأنا لا أحتاج إليك، فالحامي هو الله. فلما تردّد أكّد عليه الكلام وشدّد الأمر حتّى انصرف، فما كاد يبتعد حتّى ناداه ومشى إليه خطوات، فأعطاه بعض المال ليأخذ به شيئاً معه إلى عياله.

كان هاشم بك يجول كلّ عشيّة جولة في أطراف البلد

ص: 118

بسيارته، ليس أمامه حرس ولا وراءه جند. وكان يصلّي في مسجد المُرابِط القريب من القصر الجمهوري بالمُهاجرين. والقصر كان في دار الوالي ناظم باشا الذي أنشأ حيّ المهاجرين. فكانوا يبعثون له من القصر قبل صلاة الجمعة من يمدّ له سجادة صغيرة يحفظ له مكانه في الصف الأول، فيجيء حسن آغا المهايني (الذي ترك حيّ الميدان وسكن في طرف المقهى في ساحة آخر الخطّ، أي آخر خطّ المهاجرين)، فيترك المسجد كلّه ليصلّي على هذه السجادة ولا يقوم عنها. فلما كثر ذلك منه جاءه الشرطي يسأله أن يقعد في مكان آخر، سأله بلطف ولين، فصرخ الآغا بأعلى صوته: يا ابني هذا بيت الله وكلّنا عباد الله، فليس لأحد من العبيد أن يفضّل نفسه على غيره في بيت سيده إلاّ بإذنه. إن المسجد يا ولدي لا يُحجَز فيه مكان لأحد، مَن سبق كان هو الأحقّ بالمكان.

* * *

وقد تركت بيروت (كما سيأتي الخبر) وعُدت إلى بغداد في آخر سنة 1938 وأوائل السنة التي بعدها، ولكني عدت بجسمي وفكري وحدهما، أما قلبي فبقي في الشام. لم أنسَ الشام يوماً، وهل ينسى أحدٌ بلدَه إلاّ إن نسي أمه وأباه ونسي ما مضى من أيام حياته؟

وكان الفرنسيون قد أخلّوا بشروط المعاهدة وعادوا إلى ما كانوا عليه من الاستبداد، وكانت تَرِدُ علينا الأخبار بأن الأذى قد زاد وأن الشكوى قد عمّت. والبعد يجسّم الأحداث وينفخ فيها، حتّى صرت (صدّقوني) لا أهنأ بطعام ولا أستريح إلى منام. أفكّر

ص: 119

حيناً أن أدع عملي وأسرع إلى الشام، أو أن أجد لبلدي المعين الذي أستصرخه والأخ القوي الذي أستنصره. ولم يكن إلى جوارنا، بل لم يكن يومئذ في بلاد العرب كلها إلاّ دولة واحدة مستقلّة حقاً، ما فيها أجنبي يحكم ولا قانون أجنبي ينفَّذ، وهي المملكة، وقريب منها في استقلالها اليمن.

أمّا اليمن فبعيدة عني لم أزُرها ولا أعرفها. ولقد كنت من قريب (أي قبل أربع سنين) أجالس الملك العظيم الذي كان شيخ الجزيرة، بل كان ملجأ العرب كلهم، إليه يلجؤون وإلى حماه يسرعون، والذي إذا دُعي أجاب، الملك عبد العزيز. ولكن أين السبيل إليه والشدّة قد استحكمت في الشام حلقاتُها والوقت أضيَق من أن أضيّعه؟ وكانت في العرب دولتان مستقلّتان أخريان، استقلالاً ناقصاً غير كامل؛ ليس للأجنبي فيهما حكم ظاهر ولكن في كلّ فعل في البلدين «ضمير مستتر» يعود إليه، هما مصر والعراق. أما مصر فبعيدة، ولم يبقَ إلاّ العراق.

وكان الملك غازي شاباً، لا أعرفه. وكنت -على عادتي دائماً- منزوياً معتزلاً بعيداً عن أبواب الحُكّام، بل عمّن لم تستحكم بيني وبينه الألفة وترتفع تماماً الكلفة. ولكن ظهر لي ولغيري من الناس من بوادر حماسة غازي وعروبته في الأيام الأخيرة ما وجّه الأنظار إليه وجعل الأصابع تدلّ عليه، من يوم موقفه من الأشوريين في شمالي العراق. وكانت جريدة «البلاد» هي الجريدة الأولى في بغداد وكان لي معرفة بمحررها روفائيل بطي، فذهبت إليه أحدّثه فيما يملأ ذهني ويشغل فكري، فقال:

ص: 120

تفضل هذا الورق وهذا القلم، فاكتب ما شئت لأبعث به رأساً إلى المطبعة فأفتح به عدد الغد من الجريدة. وأخذت القلم فكتبت:«رسالة مفتوحة إلى الملك غازي» :

يا غازي، يا غازي، يا غازي!

سوريا المروَّعة المظلومة، الغارقة في دماء بَنيها، العابقة برائحة البارود، الرازحة تحت أثقال المدافع، تدعوك وتهتف باسمك -يا غازي، يا ملك العراق- لتنصرها وتسعدها، فلم يعد لها اليوم مُسعِدٌ ولا نصير.

يا غازي، تدعوك الأيامى الثاكلات. يا غازي، يناديك اليتامى المظلومون. يا غازي، يستنصرك الضعاف العزّل والعجائز الركّع والأطفال الرضّع. يا غازي، يهتف باسمك الشباب الذي يواجه بجسمه المصفحات وبصدره الدبّابات ويحارب الدولة الطاغية الغاشمة، لا سلاح له إلاّ إيمانه وأمله بالله، ثم بالمسلمين وبالعرب وبك أنت يا غازي.

يا غازي، دعوة غريق ينادي منقذَه القوي. يا غازي، هتاف مريض يدعو طبيبَه الآسي. يا غازي، إهابة مشرف على اليأس بالسيد المأمول. يا غازي، صرخة الدين والدم واللغة والمجد والجوار. يا غازي، المدد المدد!

يا غازي، لقد نادت امرأة واحدة في سالف الدهر «وامعتصماه» فاهتزّ لها هذا العرش، عرشك، عرش بغداد، وماج لها هذا الشعب، شعب بغداد، وخرجت الجيوش من بغداد فلم ترجع إلاّ وفي ركابها المجد والنصر. فَمَن الآن لهذه الأمّة التي

ص: 121

حملت في الشام البلاء ورأت الشدائد وشاهدت ألوان الموت، وخانها الحليف ونقض عهدَه لها القويُّ، وجرّد دبّاباته الضخمة ومدافعه وعتاده ليحارب بها النساء والأطفال والشيوخ؟

فقُم يا أيها «المعتصم» لَبِّها على «الخيول البُلْق» ، فإن كُتّاب التاريخ أعدّوا صحفهم وأمسكوا بأقلامهم ليكتبوا المفخرة مرّة ثانية لجيش العراق، جيش العرب، جيش المسلمين

(والمقالة طويلة، إلى أن قلت فيها): إن القصر الذي كان يسكنه أبوك ملكاً والذي كنت تلهو في حدائقه طفلاً، والذي كان في حيّنا وكان مجاوراً لبيت عمّي، وكنت أراك فيه طفلاً وأرى عمّك الشابّ، الأمير زيداً

صار اليوم مقرّ عدوّ العرب، منه يصدر الأمر بتقتيل رجالهم ونسائهم وأطفالهم، يسكنه اليوم مَن بغى على فيصل (ابن الحسين) وسرق منه عرشه. فأنقذ -يا ابن فيصل- البلدَ الذي أوى إليه فيصل.

يا غازي، الشباب الذين سقطوا في شوارع دمشق شهداءَ البغي ماتوا وهم يهتفون باسم المنقذ المرتقب، العجائز يتلقّين أبناءهن المصرَّعين على أرض الوطن وهنّ يذكرن الله ويهتفن باسم المنقذ المرتقَب. يا غازي، كم من طفل وطفلة عدا عليهم الظالمون فتلفّتوا حولهم يفتّشون عن المنقذ المرتقب؛ رفعوا رؤوساً يسيل من جراحها الدم، وأشاروا بأصابعهم الصغيرة المخضَّبة بالدم يردّدون اسمه.

فيا غازي، يا غازي: أتدَعُ هذا الشعبَ بين براثن وحوش يعبثون بكرامته وأمجاده وحياته، وكرامتُه كرامةُ العرب، وأمجادُه

ص: 122

أمجادُ المسلمين، وحياتُه حياةُ هذه الأمة الواحدة؟ أتتركهم يموتون وبغداد تستروِح رائحة الربيع المعطّر، وتستمع إلى جَرْس النشيد الحلو، وتنام على فُرُش النعيم؟

هذا يوم من أيام التاريخ له ما بعده؛ فلا يقولَنّ التاريخ غداً: يا ليتهم نصروا الشام وقت محنته، يا ليتهم لم يدَعوه رهن الحديد والنار، يا ليتهم لم يتخلّوا عن إخوانهم فيه! يا غازي، الشام في كرب شديد، الشام في ضيق (إلى آخر المقال فالمقال طويل)(1).

وصدرت جريدة «البلاد» في بغداد يوم الخميس الثلاثين من آذار (مارس) سنة 1939 (التاسع من صفَر سنة 1358) وفي صدرها هذه المقالة، مطبوعة بحروف ظاهرة بعنوان كبير، فجاءت كما قال الناس، لا أقول أنا فعيب أن يُثني المرء على نفسه، ولكن الناس قالوا إنها جاءت نموذجاً لأدب الاستصراخ وأسلوب الاستنهاض وإثارة الهمم وبعث العزائم، حتّى إنها (وعفوكم إن قلت هذا) وُضعت في كتب الطلاّب وحفظوها.

وكان لغازي رحمه الله ولع بالأعمال الكهربية (الإلكترونية واللاسلكية)، حتّى إنه أنشأ في قصر الزّهور في الكرخ إذاعة أقوى من الإذاعة الرسمية. نُشرت كلمتي في الصباح يوم الخميس وأذيعت من قصر الزهور مساء ذلك اليوم، فلما انتهت إذاعتها

(1) تجدون المقالة بكاملها وخبرَها المفصَّل في مقالة «يوم من أيام بغداد» المنشورة في كتاب «بغداد» (مجاهد).

ص: 123

سمع الناس بعدها صوتاً ظاهراً، قدّروا أنه صوت غازي، يقول: لبيك لبيك.

* * *

ودُعي نفر من المدرّسين السوريين والعراقيين، وأُفهموا عن الملك غازي أنه يرغب في أن تقوم مظاهرة مؤيّدة للشعب العربي المسلم في الشام.

وأنا ابن دمشق بلد المظاهرات. وما كنّا نعرف أولاً ما هي المظاهرات حتّى دخلت علينا سنة 1919 جيوش العرب، وظنّ الناس أنه قد جاء معها الفرج وطلع الفجر الصادق بعد الليل الطويل، فانطلقَت الجماهير مثل انطلاق الجنّي الذي زعموا أنه كان محبوساً في القمقم (وكلمة القمقم فصيحة معرَّبة من القديم)، فكنّا نفيق صباحاً على ضجيج المظاهرات وهتافها وننام ليلاً على صخب المظاهرات وندائها. تلك كانت مظاهرات الفرح، فلما جاء الفرنسيون الواغلون علينا بعد ميسلون وجاءت معهم آفات الاستعمار الذي سَمّوه الانتداب، صارت مظاهرات الاحتجاج والألم.

عشت شطراً من حياتي من أواخر المدرسة الابتدائية سنة 1338 إلى هذه المظاهرة سنة 1358، فلم أرَ مثل هذه وما كنت أقدّر أني سأرى مثلها. خرجَت بغداد كلها إلى الشوارع، ولم يكن فيها إلاّ شارع الرشيد وشارع غازي (الذي شُقّ يومئذ حديثاً) وشوارع الصالحية في الكرخ، وكان عصبها الذي يحرّكها طلاّب المدارس.

ص: 124

عطّلنا الدراسة يومين، نأتي في الصباح من قبل موعد الدوام ونبقى إلى الليل نُعِدّ لهذه المظاهرة، تتسابق المدارس وتتنافس على نيل قصب السبق فيها. وراجت سوق مدرّسي العربية، يُعِدّون الخُطَب ويَنْظمون الأناشيد، حتّى إنني أنا الذي لم يكن يوماً شاعراً نظمت ثلاثة أناشيد حماسية، وأعجب من نظمي إياها أنني لحّنتها! أي أنني سرقت من مئات الألحان التي أحفظها (ولا أزال أحفظها)، مئات حقاً من التواشيح والأغاني والأدوار والقدور والأناشيد، سرقت من ألحانها أجزاء ألّفت منها لحناً جديداً.

خبّروني، أليس هذا هو التلحين عند أكثر ملحّني هذه الأيام؟ وحفّظت الطلاّبَ قصائد حماسية ليلقوها على الناس، وتسابقنا إلى اختراع الهتافات وتردادها. وأنا أعرف فنّ «العرَاضات» في الشام، إذ يحملون رجلاً على الأعناق يهتف لهم فيرددون ويرتجل من المقال ما يوافق الحال.

وجئنا من المدرسة الغربية حيث التقينا بجماعة المركزية عند ميدان باب المعظم، ثم مشينا باتجاه الباب الشرقي، فلما وصلنا إلى الجسر العتيق جاء طلاّب مدرسة الكرخ فانضمّوا إلينا، وكان الطريق مزدحماً بالناس حتّى ما يُدرى مَن الواقف ومَن الماشي، بحر يموج موَجاناً.

لم يبقَ مدرّس لم يخطب، حتّى أنور العطار الشاعر الذي لم يكن من فرسان المنابر خطب مراراً. أما أنا فكلّما تقدّم الموكب مئة متر دُعيت لإلقاء خطبة، فلم نصل إلى جسر مود حتّى بُحّ صوتي وانقطع. ولم يحدث لي ذلك وأنا أخطب من أكثر من ستّين سنة إلاّ هذه المرّة، ما عرفته قبلها ولا عرفته بحمد الله بعدها.

ص: 125

وكانت مدرستنا متفوّقة بهتافها ونشيدها، حتّى جاء طلاّب مدرسة الكرخ بشيء غلبونا به: تجمّعوا دائرة يرقصون وهم يمشون ويقولون بنغمة موزونة عجيبة:

فرنسا وإنكلترا بالكُنْدَرة

سوريا ولبنان فوق الثرا

يريدون بالكندرة الحذاء وبالثرا الثريّا. ويضربون بأحذيتهم مثل ضربات أهل الدبكة في الشام ولبنان، فقلّدهم الناس فصاروا يصنعون صنيعهم ويهتفون بمثل هتافهم، فكسبوا المباراة.

* * *

لقد كان يوماً لا يُنسى، ولكني أكتب عنه بعد ستّ وأربعين سنة، بعدما نسيت تفاصيل الأحداث وأفقدتني الأيام منها أجمل ما كان فيها.

في تلك السنة نقض الفرنسيون -كما قلت- المعاهدةَ التي لم تُعطِنا شيئاً يُذكَر، ومع ذلك بخلوا بما أعطوا منها! فاضطربت الأوضاع وهُتك القناع وظهر وجه الانتداب البشع، وعمّ الخلل البلاد، ونزلت قيمة الليرة السورية مقابل الليرة الذهبية (التي كانت هي ركن الاقتصاد السوري) من 550 قرشاً سورياً (وهو السعر الذي ثبتت عليه سنين طوالاً) إلى750 قرشاً. وهذا حديث حقه أن يودع كتب التاريخ لا صحائف ذكريات شخصية.

أختتم هذه الحلقة بحادثة وقعَت لي في ذلك اليوم، ولولا أن الله ستر لكانت فضيحة! ذلك أن طلاّباً جاؤوا بنعش قالوا إنه نعش سوريا التي قتلها الاستعمار، ووضعوه على سطح سيارة

ص: 126

كبيرة (باص) وصعّدوني لأخطب. وكنّا إذا أردنا أن نخطب في المظاهرة صعدنا ظهور السيارات. فخطبت وتحمّست وقلت: إن هذا نعش الاستعمار

وركلته برجلي ركلة قوية.

فلما كان بعد أيام جاءني إلى المدرسة رجل يمشي على عكّازين ومعه جماعة له يمسكون به فقال لي: لقد كسرتَ رجلي. فتعجبت وقلت: من أنت؟ وكيف كسرت رجلك وأنا لا أعرفك؟ فتبيّن أنهم استأجروه ليضعوه في النعش لتتمّ -كما زعموا- فصول الرواية ويكمل الإخراج، فلما ضربت برجلي جاءت الضربة على ساقَيه فكُسِرت إحداهما! فأعطيته ما قدرت عليه وأرضيته واعتذرت له.

وتصورت لو أنه قام من النعش وأنا أخطب متحمّساً أظنّ النعش فارغاً، فانتصب أمامي وقال لي: لماذا تضربني؟ تصوّروا أنتم المشهد يُغنِكم تصوّرُه عن شرحي.

* * *

ص: 127