الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-117 -
في القضاء في دوما
تركت النبك وقد حملت منها طاقة من أجمل ذكرياتي، وقضيت فيها أياماً من أحلى أيام حياتي، وأخذت منها دروساً نفعتني في عملي.
نُقلت إلى دوما خلَفاً للشيخ أنيس الملوحي الذي درّبني على القضاء، وكان قبله فيها الشيخ عبد الفتاح الأسطواني، وقبلهما الشيخ الفقيه الحنبلي الشيخ حسن الشطي رحم الله الجميع. والموظف الذي يُنقَل إلى دوما إنما يُنقل إلى دمشق لأن دوما حيّ من أحياء دمشق، وإن كنّا نراها يومئذ بعيدة عنها ونرى ذهابنا إليها سفراً. والمسافة بين دمشق ودوما أقلّ من المسافة بين دارَي ابنتَيّ في جدة في حيّ الجامعة ودار ابنتي الثالثة في حيّ الحمراء! اتسعت المدن وتدانى البعيدان وسَهُلت المواصلات، فصرنا نرى قريباً ما كنّا نعدّه من قبل بعيداً.
كنت أنام في بيتي في دمشق، أغدو على المحكمة صباحاً وأروح منها ظهراً، ولكنني أقضي على الطريق إليها مثل الذي تُمضيه الطيارة اليوم ما بين جدّة والقاهرة أو جدّة وعمان؛ ذلك أننا كنّا في أيام الحرب في شدّتها وفي عضّتها، المواصلات صعبة
ووسائلها قليلة، فكنت أنزل من داري في الجادة السادسة إلى حيث يمشي الترام في الجادة الأولى فأنتظره حتّى يجيء، وأزاحم أو أطلب أول الخطّ قبل أن يمتلئ لأجد لي مكاناً، فإذا وصلت إلى ساحة المرجة أكون قد أضعت أكثر من نصف ساعة، ثم أنتظر نحواً من نصف ساعة حتّى يصل ترام دوما، فأشقّ الزحام أو أجد بعض الإخوة الكرام فيفتحوا لي الطريق حتّى آخذ مكاني فيه، فأصل دوما بعد ساعتين كاملتين من خروجي من داري!
يخترق دوما من وسطها شارعٌ طويل عريض يصل ما بين مشرقها ومغربها، تتفرع عنه شوارع قليلة وحارات ضيّقة كثيرة. وقد بنوا في غربيها قصراً للحكومة جديداً واسعاً من طبقتين، في زاويتَيه ركنان بارزان. وكانت المحكمة الشرعية في أحد الركنَين، تتألّف من بهو كبير وأمامه غرفة صغيرة، ففي البهو قوس المحاكمة الذي يقعد في وسطه القاضي، وعن يساره كاتب الضبط، وأمامه مكتبان وكرسيان للمدّعي والمدّعى عليه. ووجدت أن من كان قبلي يبقى قاعداً على القوس نهاره كله، فإذا جاء المراجعون صعدوا إليه أو وقفوا تحته فكلّمهم من فوق. والقوس إنما بُني ليقعد عليه القاضي وقت المحاكمة فقط، فإن انتهت ذهب إلى غرفته.
ولم تكن لي غرفة أذهب إليها فحِرت ماذا أصنع، ورجعت إلى وزارة العدل فلم أجد عندها استعداداً لعمل شيء. فخطر لي خاطر غريب لعلّ القرّاء الآن بعد ثلاث وأربعين سنة (1) يَعجَبون
(1) كُتب هذا الفصل سنة 1404هـ.
منه كما عَجِب الناس منه لمّا نفذته. هذا الخاطر هو أن أقتطع من الرحبة الكبيرة التي تفصل بين الغرف وتمتدّ من طرف قصر الحكومة إلى طرفه الآخر، أقتطع قطعة أقيم فيها جداراً يصل بين غرفتَي المحكمة ويحجزهما عن باقي الردهة، وأنقل قوس المحاكمة إليه، وأجعل الغرفة الكبيرة لي والصغيرة المقابلة للكاتبين.
فكّرت في ذلك طويلاً: هل أُقدِم عليه (وفيه مخالفة صريحة للقانون) لِما فيه من النفع الظاهر أم أمتنع عنه وأدع كلّ شيء على حاله؟ وكنت امرءاً يحب المغامرات، فآثرت الأولى. وكان عندي آذن (فرّاش) من أهل البلد، كبير السنّ كثير المعارف والأصحاب أمين على المال وعلى الأسرار، فدعوت به وقلت له: يا أبا محمد، أريد أن تذهب إلى السوق حيث تُباع أنقاض البيوت فتشتري لي باباً قديماً ومقداراً من اللبِن يكفي لبناء جدار، وأن تأتيني ببَنّاء ماهر ونجّار حاذق في مهنته أمين في عمله. قال: أفعل، ولكن اسمح لي أن أسأل: ماذا تريد أن تصنع؟ قلت: إذا انصرف الموظفون يوم الخميس أجيء بهذا اللبن فأجعل منه جداراً من الأرض إلى السقف، يصل بين الغرفتين ويفصل المحكمة عن سائر غرف القصر وأبهائه، وينقل النجار هذا القوس كله إلى الغرفة التي تقوم في هذا الفراغ بعد إنشاء الجدار، وتأتيني بمن يطلي هذا الجدار الذي أقمته من اللبِن بمثل طلاء جدران القصر، فلا يجيء يوم السبت حتّى يكون قد جفّ أو بدأ يجفّ.
فتعجّب ولكنه وعد بأن يفعل. ونفّذ ذلك، فخرج الموظفون ظهر الخميس والغرفتان منفصلتان، وعادوا صباح السبت وهما
متصلتان بينهما غرفة المحاكمة، وقد استقلّت المحكمة الشرعية وصار لها باب. وسكتُّ على ذلك مدّة ولم يسألني أحد ماذا فعلت؛ قائم المقام ظنّ أن هذا العمل قد عملته وزارة العدل، والمراجعون حسبوا أن قائم المقام هو الذي أجرى هذا التعديل، واستقام الأمر ولكن بقيَت غرفتي بلا أثاث.
وكان محاسب وزارة العدل شيخاً من بقايا العهد العثماني أبقوه لخبرته وأمانته، كبير السنّ طيّب القلب بطيء الكلام كثير التفكير، اسمه زيوار بك الجابي، رحمة الله عليه. ذهبت إليه فقلت: يا زيوار بك، غرفتي في المحكمة في دوما ما فيها أثاث، فهل تحبّ أن أشتري بساطاً فأقعد على الأرض؟ فرفع حاجبَيه متعجّباً وقال: أين الأثاث؟ فقلت: هل تذهب معي فترى؟ قال: لا أستطيع، ولكن أرسلُ معك موظفاً من قِبَلي تُطْلِعُه على ما تريد.
وجاء الموظف فرأى ما صنعتُ واستحسنه، وأبصر الغرفة خالية فرجع إليه فأخبره، فسألني: من أين أنفقت على بناء الجدار ونقل القوس؟ قلت: قبل أن أخبرك عن النفقات أسألك: هل استحسنت هذا العمل؟ قال: "والله طيّب. عملت طيّب". قلت: أرسل من يقدّر تكاليفه. قال: نعم. وأرسل من قدّر التكاليف بعشرة أضعاف ما أنفقتُه أنا فيها، فلما لقيته قال: نُعِدّ سنداً بالمبلغ لندفعه لك. فضحكت وقلت: ولكني صرفت عُشر هذا المبلغ الذي قدّرتموه. قال: كيف؟ فخبّرتُه بما صنعت، فعجب منه وأُعجِب به وقال: يا ليت جميع القُضاة يصنعون مثل هذا، ينجزون الأعمال ويوفّرون الأموال. قلت: ولكن يا زيوار بك، الفرش! قال:"تكرم عينك"، وكتب لي رسالة رسمية إلى تاجر
في سوق الأروام (وهو جزء من سوق الحميدية المشهور) اسمه كوكش يُعَدّ من أكبر تُجّار الأثاث، فأخذت منه مكتباً وفرشاً كاملاً للغرفة بقي يُستعمل بعدي أكثر من عشرين سنة.
إني لأفكّر الآن، فأتساءل: هل ما عملته صواب؟ ولو سُئلت عن مثله هل أُفتي به وأنصح السائل بأن يعمل مثل ما عملتُ؟ أظنّ بأن الجواب: لا. لأننا لو تركنا لكل موظف أن يجتهد رأيه وأن ينفّذ ما يراه من غير أن يرجع إلى رئيس يملك حقّ البَتّ في الموضوع، لصارت الأمور فوضى ولفسدت حياة الناس.
فالذي عملته كان بالمصادفة خيراً، ولكن عمل مثله وجعل ذلك قاعدة يكون منه شرّ مستطير.
* * *
أنا أدوّن الآن ذكريات سنة 1361هـ، وقد كان عمري أربعاً وثلاثين سنة، تنقّلت في البلاد ورأيت أصنافاً من العباد ولكني لم أخالطهم ولم أداخلهم، كنت ألقاهم من فوق أعواد المنابر أو من خلال أوراق الصحف والمجلاّت أو من فوق منبر التدريس. والذين لقيتهم إنما كان لقائي بهم عارضاً، أُلامسهم ولا أداخلهم، فلما وليت القضاء رأيت ما لم أكن أعرف من قبل، رأيت في كلّ قرية من القرى رجلاً له مطامع وله نفوذ وله سلطان، ولكن أكثر هؤلاء ليس له مع هذا النفوذ عدالة ولا إيمان، فكانوا يظلمون الناس ويستحلّون أموالهم ويعبثون بحقوقهم، ويُلبِسون «طاقية» زيد عَمْراً، هَمّهم من ذلك كله أن يدخل المال جيوبهم وأن يزيد بين الناس جاههم وأن ترتفع منازلهم. وكان أكثر ما يعتمدون
عليه الصلة بالحُكّام، أو إيهام العوامّ أن لهم صلة بالحُكّام. ولقد رأيت مَن يأتي فيسلّم عليّ كما يسلّم الناس على القاضي الجديد، ثم يستغلّ هذا السلام في ظلم الأنام وفي سلب أموالهم وفي إضاعة حقوقهم. ولقد كنت أسمع الناس هنا يَعجبون حين يرون أمثال هذه القصص في المسلسلات التي تصوّر حال الأرياف في مصر ويحسبونها مبالغة، فكنت أقول لهم إنني رأيت كثيراً من أمثالها. لذلك نشأت لديّ عُقدة نفسية: خوف من أن يستغلّني واحد من هؤلاء، فكنت أهرب منهم وأبتعد عنهم وأغلق بابي في وجوههم.
كانوا يقولون قديماً:
إنّ نصفَ الناسِ أعداءٌ لمنْ
…
وَلِيَ الأحكامَ، هذا إنْ عَدَلْ
فرأيت أنّ مَن عدل كان أكثرَ الناس أصدقاء، ولكن هؤلاء الأصدقاء من الضعاف الفقراء الذين لا ترتفع أصواتهم ولا يمتدّ نفوذهم إلى أبعد من أسرهم وذويهم، ووجدت أن أصحاب النفوذ وأهل الوجاهة وزعماء الأحياء والقرى، وهم قِلّة، لا يرضون إلاّ عن القاضي الذي يماشيهم ويسايرهم، ويسهّل لهم أعمالهم ويكون معهم، ولو كان ذلك على حساب العدل والحقّ.
فلما وصلت دوما ساءلت نفسي: هل أؤثر دنياي فأجامل هؤلاء وأعاملهم بالحسنى لأدفع شرهم عني، أم أقيم العدل على ساقَيه ولا أبالي بأحد في سبيله؟ فآثرت الثانية، ولم أنسَ ما كنت كتبته عن الشيخ سليمان الجوخدار الذي ولي إفتاء دمشق قبل ثمانين سنة فعادى جماعة من الوجهاء أيام العثمانيين، فما زالوا به حتّى أخرجوه من وظيفته وأبعدوه عن منصبه.
فكرت: ما الذي يمكن أن يصنعوه معي؟ أمّا المنصب فلا والله ما باليته، ولقد عشت من عمري دهراً قبل أن أصل إليه وسأعيش إن امتدّ بي الأجل بعد أن أخرج منه (1)، ليست حياتي متوقّفة عليه ولا مربوطة به. وليس لي مال ولا عقار أخاف أن يسلبوه مني، وليس لي جاه أحرص عليه من طريق الوظيفة، إذا كان لي شيء من الجاه فإنما جاءني بلا طلب مني، عن طريق قلمي وعن طريق لساني وعن طريق مواقفي، فلا يؤثّر فيه كوني موظفاً أو كوني بعيداً عن الوظيفة.
فقررت أمراً واعتزمتُه، ما أظنّ أن أحداً سبقني إليه؛ هو أن أسدّ بابي وأشدّد حجابي في وجه المسلّمين عليّ من هؤلاء الوجهاء والزعماء من أصحاب المطامع، ففعلت ذلك فلم ألقَ واحداً منهم، وكتبت على بابي:"إن المحكمة للمعاملات لا للمجاملات، فمن جاء يسلّم عليّ فأنا أشكره وأرجو ألاّ يعود، ومن جاء لمعاملة قانونية له في المحكمة فأهلاً به وسهلاً".
وعلّقت إعلاناً على باب المحكمة بالخطّ الكبير كتبت فيه:
(1)
لا تُقبَل المراجعات والمعاملات إلاّ من صاحب العلاقة أو وكيله القانوني.
(2)
لا تُقبل المراجعات من الأئمة والمختارين (المختار هو العمدة) وملاحقي الأوراق إلاّ إن كانت لهم شخصياً أو كان بأيديهم وكالة قانونية.
(1) تركت القضاء (أو تركني هو) سنة 1966، وها أنذا الآن في آخر سنة 1985 وأنا أحسن حالاً وأكثر بحمد الله مالاً.
(3)
لا يُستوفى في المحكمة إلاّ الخرج القانوني عن المعاملات والعقود التي تجري خارجها. (وكان هذا الخرج لا يزيد على خمس ليرات سورية، تعدل عند الصرّاف اليوم ريالين).
(4)
لا تجري العقود والمعاملات خارج المحكمة إلاّ بإذن من القاضي.
(5)
من تجَرّأ على دفع أيّ مبلغ من المال ولو كان هدية أو إكرامية لآذن (لفرّاش) أو لموظف من موظفي المحكمة، يُنظّم بشأنه الضبط اللازم ويُساق إلى النيابة فوراً.
(6)
تُقبل المراجعات كل يوم إلى الساعة الثانية عشرة، عدا اليومين المخصّصَين للعقود.
(7)
مَن تأخّرَت له معاملة عند موظف في المحكمة بلا سبب مشروع فليراجع القاضي.
منعت المهنّئين جميعاً من الدخول عليّ لأني وجدت أنني لا أستطيع أن أجمع بين رضا الله بالدفاع عن الضعاف المظلومين ورضا هؤلاء الوجهاء الذين يريدون إضاعة مصالح الضعاف وهدر حقوقهم وصولاً إلى مطامعهم.
وجاءني المفتي، وهو أقرب الموظفين إلى القاضي عُرفاً وقانوناً. وكان مفتي دوما في ذلك الوقت (قبل ثلاث وأربعين سنة) رجلاً شبه جاهل، وكان ممالئاً للفرنسيين غارقاً في العصبيات المحلّية، وكان يخطب في الجامع الكبير، فكرهه الناس حتّى اضطروا إدارة الأوقاف (ولم تكن قد صارت وزارة)
إلى ربط الخطبة بغيره. وأذكر أنه دخل مرّة فصعد المنبر، فلما رآه المصلون حملوا أحذيتهم وخرجوا يبتدرون المساجد يفتشون عن مسجد آخر يصلون فيه، ولم يبقَ منهم أحد.
كانت في الناس يقظة وكانوا يعرفون كيف يُظهِرون الرضا عن الصالح والنقمة على الطالح، وهذا من أسباب صلاح الحال.
دخل عليّ فلم أستطع أن أردّه واستقبلته متحفّظاً، وسمعت منه الكثير ولم أقُل له إلاّ القليل، وعرض عليّ «خدماته» وأنه لا يريد إلاّ راحتي وما عليّ إلاّ أن آمر بما أتمنّى فيُطاع أمري. ولمست من كلامه صحّة قالة السوء عنه ورأيت في مظهره صدق ما يقول الناس عن مخبره، فقلت في نفسي: أقطع الخيط من أول يوم. وأبعدت عن قلبي فكرة الاستفادة منه أو مجاملته، وقلت له: إن راحتي بأن تكون صلتي بك -مع احترامي إياك- في حدود الرسميات، ولا آمر بل أرجو ألاّ يكون بيننا زيارات ولا صلات إلاّ ما تقتضيه الوظيفة. فتجهّم، وقال: ولكن لماذا؟ فقلت: ليس عليّ أن أخبرك وليس لك أن تسألني لماذا؛ أنا حرّ في أن أصادق من أشاء وأبتعد عمّن أشاء، ولك مثل الذي لي من هذه الحرية.
فكسبت بذلك أول عدوّ لي. وكان عدواً قوياً مُؤيَّداً من جماعة قليلة جداً من الناس ولكنها قوية، ومن جمهور الحُكّام، ومن المستعمرين الفرنسيين الذين يتزلّف إليهم ويتقرب منهم.
والثاني: مأمور الأوقاف. وهو شاب يتّخذ زيّ العلماء، الجبّة والعمامة، وله بعض الاطّلاع على مبادئ المذهب الحنبلي (لأن أهل دوما حنابلة). وقد سلك الطرق الملتوية حتّى صار
مفتي الحنابلة في دمشق، وهو خطيب طلق اللسان يُحسن الكلام وإن كان أكثر كلامه خالياً من العلم، وهو نموذج لطبقة عندنا من المشايخ، إذا وقفَت أمام الجمهور تخطب في المساجد يكاد يذوب أفرادها من الخشوع لله ويتفجّرون تارة من الغضب لله، فإذا صاروا أمام الحُكّام كانوا مرآة لهم، لا يرى الحُكّام فيها إلاّ ما تهوى أنفسهم وآلة مسجّلة لا يسمعون منها إلاّ كلامهم، يكرّره هؤلاء ويعيدونه ويشرحونه ويضعون له الحواشي؛ يقولون ما يرضي الحُكّام ويعظّمهم ويُطربهم، وربما كان منهم (وقد تحقّقت من ذلك) من هو عين لهم علينا، يدلّهم على عوراتنا ويرشدهم إلى مواطن ضعفنا ويُفشي لهم أسرارنا. فإن جاءت فرصة لاح فيها شبح منفعة لأحدهم (من مال يناله أو وظيفة يأخذها) وثب عليها، لم ينظر إلاّ إليها ولم يفكّر إلاّ فيها، ونسي ما كان يعظ به ويدعو إليه.
ولي مع هذا المأمور قصّة طويلة (ربما جاء ذكرها)، وما زلت به أتابعه في التقارير وفي الرسائل إلى مديرية الأوقاف حتّى وُفِّقتُ إلى إزالته ووضع رجل صالح مكانه. وكان المدير العامّ للأوقاف هو جميل بك الدهان، الرجل التقيّ الحازم.
ومن الغريب أن هذا المأمور (الذي كان شاباً في تلك الأيام وصار الآن كهلاً أو شيخاً) مقيم هنا، كما يُقيم رفيق له أكبر منه سناً وأقدم في هذه الصناعة الخبيثة قدماً، قد استحوذ هذا المأمور على ثقة كبير من رجال المال والأعمال، فهو يرتع اليوم في ماله ولا يساعده في شيء من أعماله.
وكسبت عدواً ثالثاً، رجل له نفوذ عند الحكومة وله مقام عند رئيس الجمهورية، وكان عضواً في المجلس النيابي. جاءني مرّة فدخل عليّ بلا استئذان، فاحتملت ذلك منه وسكتّ عنه، وقررت ألاّ أجعل له سبيلاً إلى إعادة مثلها. فقعد منتفخاً ورفع رجلاً على رجل، وبدأ يَمُنّ على القُضاة بأنه اقترح في المجلس زيادة رواتبهم وأنه يدخل على رئيس الجمهورية متى شاء، فقلت له: اسمع يا أخانا، إن رئيس الجمهورية يملك من السلطان ما يُدخِل به مجلسَه مَن شاء ويمنع منه من شاء، أما أنا فلست إلاّ قاضياً من القُضاة مقيّداً بقوانين لا أستطيع أن أخرج عنها ومكلّفاً بأعمال لا أقدر أن أقصِّرَ فيها، وإذا فتحت بابي لمن شاء أن يتسلّى عندي أو يمنّ عليّ بكلام لا يمكن أن أقبله منه عطّلت لذلك مصالح العباد وقضايا المراجعين وخنت أمانتي، لذلك أرجو منك بصراحة ألاّ تدخل عليّ إلاّ إذا كانت لك قضية أنت المدّعي فيها أو الوكيل عن المدّعي، أو أنت المدّعى عليه أو الوكيل عنه، أو كانت لك معاملة هي من خصائص المحكمة. وفي غير هذه الأحوال تسمح لي أن أمتنع عن استقبالك.
فحاول أن يهدّد بأن يشكوني إلى الرئيس فقلت له: اسمع، هذا الأسلوب لا مكان له عندي. أنا أقدم منك صلة بالرئيس (شكري بك)، أنا عملت معه يوم كنت قائد الشباب في النضال للاستقلال يوم كنت أنت وأمثالك تفتّشون عن مصالحكم، وهي ضالّتكم، فحيثما وجدتموها وقفتم عندها ولو كانت عند المستعمرين أعداء المسلمين. لذلك وفّر عليك تهديدك أو اذهب إلى فخامة الرئيس فقل له إن فلاناً (الطنطاوي) قال كذا وكذا.
وبلغني أنه ذهب إليه فردّه رداً سدّ عليه طريق الرجوع إلى مثل ما صنع.
والعدوّ الرابع الذي كسبته في أيامي الأولى في دوما أحد أتباع الأمير فواز الشعلان، كان يتكلّم باسمه، يراجع الدوائر ويقابل رؤساءها، يدافع عن قضايا جماعة الأمير من عشيرة الرّوَلة. دخل عليّ في دعوى أُقيمَت عليه فكلّفت المدّعي أن يأتي بالشهود، فلم يجرؤ أحد على الشهادة عليه.
وقد خبّروني بعد الجلسة أنهم يخشون الإدلاء بها خوفاً على أنفسهم، فسألتهم: هل سبق أن شهد عليه أحد فقتله أو آذاه؟ قالوا: لا. فلما كان يوم المحاكمة تصوّرت عظمة الله وعظيم جزائه لمن يجترئ عليه وكبير ثوابه لمن يدافع عن الحقّ الذي أمر به، وتوجّهت إلى هذا الرجل (ونسيت اسمه) فحذرتُه عذاب الله ونبّهت في نفسه إيمانه، وقلت له كلاماً لا أستطيع أن أعيده الآن، لأنني لم أكن أنا الذي يتكلّم به بل كان يتكلّم به يومئذ على لساني ما اعتراني من الصلة بالله والاعتماد عليه، وما زلت في هذا حتّى اغرورقَت عيناه بالدمع وقال أمام الناس (وهم لا يكادون من دهشتهم يصدّقون ما يسمعون)، قال: نعم، والله له عندي حقّ، وأنا أستغفر الله، وحقّه مضمون. فقلت له: بارك الله فيك وأعظم ثوابك
…
وأثنيت عليه وبيّنت له عظم ما جاء به عند الناس وعند الله.
وكذلك يغلب الحقّ إذا عرفت كيف تدلّ عليه وتنبّه إليه وتوقظ الإيمان في نفس المؤمن، حتّى مَن كان مجاهراً بالمعاصي
إذا وضعت يدك على زر الإيمان في قلبه فإنه يشتعل نوراً كما يشتعل مصباح الغرفة إذا مسست بإصبعك مفتاح الكهرباء.
* * *
كثُرَت عليّ ألسنة المنتقدين من الوجهاء ومن المتزعّمين، وكان جمهور الناس يدعون لي ولا يملكون عني دفاعاً ولا يملكون لي نفعاً، ولكن الله الذي أمر بأن ندافع عن المظلوم هو القادر على حمايتي {إنّ الله يُدافعُ عن الذينَ آمنوا} . فأمضيت سنين طوالاً في دوما وأنا على هذه الوتيرة، ما لقيت يوماً من أحد سوءاً، والذين تحاملوا عليّ ونظروا النظرة السوداء إليّ عادوا فأثنوا عليّ لما رأوا بأنني لا مصلحة لي عند أحد، ولا أبتغي لنفسي نفعاً ولا أدفع عنها ضراً، ووفّق الله وخرجت من دوما ولا يزال ذكري فيها بحمد الله عَطِراً طيّباً.
ولا تلوموني إذا قلت ذلك عن نفسي، فإنما أقوله تشجيعاً لغيري في أن يسلك هذا المسلك مثلي.
* * *
وقعت لي حوادث طريفة في القضاء أعرض لبعضها:
من حسنات الفرنسيين في الشام التي حكموها خمساً وعشرين سنة كاملة، لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً (1) أنهم أنشؤوا فيها سجلّين عظيمَين لا تزال أكثر الدول العربية خالية منهما، بل إن السِجِلّ العقاري لا تزال بعض دول أوربّا بعيدة عن تطبيقه لم تعرفه.
(1) وإن تأخّر الجلاء الفعلي عن الاستقلال المعلَن.
هما: سجلّ النفوس (سجلّ الأحوال المدنية)، والثاني: السجل العقاري. أما الأحوال المدنية فقد كانت سوريا سابقة البلاد العربية إليه بفضل الله، ثم بفضل الفرنسيين. وأنا ما أحببت الفرنسيين يوماً من أيام استعمارهم لبلادنا، ولكن هذا لا يمنعني أن أذكر الفضل لذويه، والله علّمنا أن لا يجرمنّا شَنآن قوم على أن لا نعدل، أي أننا إذا أبغضنا قوماً ورأينا لهم منقبة فلنذكرها ولا يمنعنا كرهنا إياهم من ذكر مناقبهم.
لكل فرد من أفراد أهل سورية (رجالاً ونساء) صفحة في سجل النفوس، فيها تاريخ مولده بالساعة والدقيقة، وتاريخ زواجه إذا تزوّج وطلاقه إذا طلّق، وأسماء زوجاته إذا تزوّج، وأعمار أولاده إذا وُلد له أولاد، فإن مات منهم ناس سجّلوا موتهم
…
وهذا ما ليس له مثيل، ففي مصر لا تزال تُسجّل الأحوال المدنية في دائرة الصحّة.
أمّا السجلّ العقاري فقد عمد الفرنسيون إلى رسم خرائط مفصّلة لدمشق والبلاد السورية كلها، فيها حدود كلّ بيت وكلّ غرفة من هذا البيت، طولها وعرضها وسُمْك جدرانها. وإذا كانت عمارة كبيرة سُجّلت الحقوق لأصحابها فيها، فما كان مشترَكاً كالسلالم والممرات سُجّل مشترَكاً ووُضعت له قواعد عند الاختلاف على إصلاح ما فسد منه، ومن كانت له دار مستقلّة، ووضعت لذلك خرائط مفصلة محفوظة ولها صور فإذا فقدت أُعيدَت صورتها.
وكانوا بين كلّ مدة وأخرى يعلنون عفواً على المكتومين، أي عن السوريين الذين لم يسجّلوا أنفسهم في سجلاّت النفوس،
فتقام الدعاوى في المحكمة الشرعية لتثبيت النسب والدعاوى في المحكمة الصلحية لتواريخ الولادة وتصحيح الأسماء.
وكان عفوٌ، فجاءتني مرّة امرأة أقام عليها ولدها المكتوم دعوى صورية لإثبات نسبه ليسجّل في سجلّ النفوس، فسألتُه عن اسمه وعن ولادته، فذكر بأن عمره ثلاثون سنة، فسألت أمه المُدّعى عليها عن اسمها وعمرها، فذكرَت اسمها وقالت إن عمرها خمسٌ وثلاثون سنة. فضحكتُ وقلت: يا امرأة، ولدك يقول إن عمره ثلاثون سنة، فهل ولدتِه وأنت بنت خمس سنوات؟ فقالت متضجّرة: والله ما أدري يا سيدي القاضي، اكتبها أربعين. قلت: يا امرأة، بنت عشر سنين لا يمكن أن تلد. قالت: ما هي السن التي أستطيع أن ألد فيها؟ قلت: خمس عشرة سنة على الأقلّ. قالت: طيّب، اكتب أن عمري خمس وأربعون سنة.
وصلنا إلى ذلك بعد مفاوضات بيني وبينها كالمفاوضات على تقسيم برلين بعد الحرب الأولى وعلى المفاوضات الآن لنزع السلاح بين أميركا وروسيا، وقبلت بعد لأي ومشقّة أن يكون عمرها 45 سنة، وهي -كما يبدو- لا تقلّ في عمرها عن ستّين سنة! ولكنها خلّة تكاد تكون عامّة في النساء. ومن الرجال مَن يكره أن يخبر بعمره الحقيقي مع أنه «إنما يأسى على العمرِ النساء» . حتّى إنني لقيت في دوما رئيس دائرة من الدوائر كان رفيقي في المدرسة سنة 1919، فبعد أن انصرف الناس ذُكرت الأعمار (وذلك سنة 1942) فقال بأن عمره خمس وعشرون سنة. فقلت: ولك يا أخي ما تستحي؟ أما كنّا رفاقاً في الصف الخامس الابتدائي سنة 1919؟!
لست أدري لماذا يحاول بعض الناس أن يصغّروا أنفسهم، كأنهم يخادعونها على طريقة المتنبّي الذي قال:
تصفو الحياةُ لجاهلٍ أو غافلٍ
…
عمّا مضى منها وما يُتوقّعُ
ولِمَنْ يُخادعُ في الحقائقِ نفسَهُ
…
ويَسومُها طلبَ المُحالِ فتقنَعُ
* * *
وحادثة أخرى طريفة، هي أن امرأة قروية جاءت تدّعي الطلاق على زوجها. فأنكر، فكلّفتها أن تحدّد زمان الطلاق ومكانه وشهوده، فقالت: كان الطلاق في بيت زوجي. فسألتُه: هل كان الطلاق في بيتك؟ قالت: بل في بيت زوجي الثاني.
يقولون: "وكان متكئاً فاستوى جالساً"، فتنبّهت وصارت جوارحي كلها آذاناً تسمع، وقلت لها: هل لك زوج آخر؟ فقالت (وهي آمنة مطمئنّة، تتكلم بصوت عادي كأنني سألتها: ما هذا اليوم؟ فقالت: هو يوم الأحد أو الإثنين
…
لا ترى في جوابها بأساً): نعم يا سيدي لي زوجان. قلت: هذا واحد وأين الثاني؟ قالت: هنا بين الحاضرين. فقلت لزوجها المدّعى عليه: ماذا تقول؟ قال: نعم لها زوج آخر. قلت: أعوذ بالله، هل طلّقتها؟ قال: لا. قلت: من زوّجَ الآخر بها وهي على ذِمّتك؟ قال: يا سيدي إمام الضيعة (1). قلت: أين هو الإمام؟
فقام من بين الحاضرين شيخ قروي بلحية طويلة فقال: أنا.
(1)«الضَّيْعة» هي القرية في عامية سوريا ولبنان، وأصلها في اللغة: العقار أو الأرض التي تُنتج خيراً (مجاهد).
قلت: هل زوّجت هذه زوجاً ثانياً وهي على عصمة الأول؟ فقال: نَعام (ومدّ الألف حتّى صارت كالمدّ المتصل في التجويد). قلت: ويحك، وكيف زوّجتَها؟ قال: يا سيدي، هذا عسكري في الجيش الفرنسي، وقد خطفها وذهبَت معه وأبت أن ترجع إلى زوجها، فهل تريد أن تبقى معه في الحرام؟ قلت: لا طبعاً. قال: لذلك زوّجتها.
فأحلتُه إلى النيابة فوَقفوه مدّة، ثم صدر عفو شامل شمله وخرج إلى بيته.
* * *
ومن أغرب ما وقع لي في قضاء دوما (وكنت يومئذ أقوم مقام حاكم الصلح، وقد ذهب في إجازة): جاءني رجل فلاّح يدّعي أنّ قوماً ذبحوا أخاه. قلت: وأين الجثّة؟ قال: تفضّل يا سيدي حتّى أريك إياها. وكان الوقت بعد العصر، فاستدعيت الطبيب الشرعي لأن القانون يوجب حضوره، فكسل وتعلّل واعتذر عن المجيء، فغضبتُ وأرسلت مذكّرة إحضار فأحضرتُه جبراً (وندمت على أني فعلت، فما كان مثل هذا العمل مألوفاً). فخرجنا من دوما أنا والطبيب والكاتب والدرَك (أي شرطة القرى)، ومشينا حتّى جاوزنا بساتين الغوطة وسلكنا أطراف الجبال التي يؤدّي أيسرها إلى قرية التّل وأيمنها إلى أماكن مهجورة لا أعرف أن أحداً يمشي إليها، فليس فيها مصيف وليس فيها نبع ماء، فما زال بنا حتّى أمضينا على الطريق أكثر من ساعتين. وكان مع الدرك فرس هزيل يمشي ورأسه بين رجليه فعرض عليّ أن أركبه. وأنا -على ممارستي أنواعاً من الرياضة- لا خبرة لي
بركوب الخيل، فاعتذرت ومشيت، حتّى انتهى بنا قُبَيل الغروب إلى وادٍ مقفر ما أحسب أن الذئاب والثعالب تدنو منه.
فرأينا جثّة متعفّنة، فحصها الطبيب الشرعي وقرّر أن صاحبها مقتول. فسألت المدّعي: من الذي تشكّ فيه؟ فاتهم رجلاً من أهل بلده اتهاماً صريحاً. وأراد الدرك أن يتسلّموا الأمر فقلت: دعوني أنا. فأخذته جانباً ورسمت في ذهني خُطّة هي: مَن الذي دلّ وليّ المقتول على مكان جثّته؟ لأن الجثّة ليست على طريق مسلوك ولا في مكان ظاهر، بل هي في وادٍ لا يصل إليه إلاّ مَن وضع الجثّة بيده. فشككت في أن يكون هذا المُخْبِر (وهو أخو القتيل) هو الذي قتله، وبنيت أسئلتي على هذا الأساس وجعلت أسأله السؤال عقب السؤال، لم أضربه كما كانوا يصنعون أحياناً ولم أمسّه بسوء ولم أوجّه إليه كلمة نابية، بل حصرته حصراً منطقياً ليخبرني كيف عرف أن جثّة أخيه ملقاة هنا؟
فلم تمضِ نصف ساعة (والكاتب يدوّن الأجوبة) حتّى تهاوى واعترف بأنه هو القاتل. وكان ذلك أول تحقيق جنائي مارستُه ونجحت فيه بحمد الله وتوفيقه، ثم لأنني حكّمت العقل قبل طرح الأسئلة ومناقشة الرجال. وجاءني كتاب من النيابة العامّة فيه شكر وتقدير أحسب أنه لا يزال باقياً عندي.
* * *