المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌إلى دير الزور

-113 -

‌إلى دير الزّور

من هون لأرض الدير

......................

والسرّ اللّي بينّا

إيش وصّلو للغير؟

وانْ كان ما في وَرَقْ

لاكتُبْ عَ جْنَاحِ الطيرْ

وانْ كان ما في حبر

بِدْموع عينَيّا

هذا مقطع من الأغنية الشعبية التي كانت تمشي على كل لسان وتستريح إليها الآذان: «هيهات يا بو الزلوف

». إنها من الفن الشعبي (الفلكلور)، أغنيات لا يملكها أحد ولا يحرم منها أحد. إنها كالشوارع والساحات، كالغابات والأنهار

مَن يعرف بداية جريان الأنهار؟ من يعرف كيف نبتت في الغابات الأشجار؟ غابات الأرْز التي لم يدرك التاريخ بدايتها، الأشجار العمالقة في كليفورنيا التي سبقت إلى الوجود بني الإنسان (1)، هذه الثروة

(1) تعيش في كليفورنيا شجرة السّيكويا العملاقة، وهي أضخم الكائنات الحية على الأرض ويزيد وزنها على ألفَي طن، ويبلغ عمر بعض هذه الأشجار آلاف السنين ويصل ارتفاعها إلى أكثر من مئة متر (مجاهد).

ص: 191

الفنية العامة: العتابا، والميجنة، والأبوذية، والنخلتين في العلالي اللتين صار بلحمها دوا، والعطاش الذين ينادي المنادي دائماً يدعو إلى سقياهم «اسق العطاش تكرما»

أغانينا في الشام التي انبثقت من كل نبع يتفجّر من وراء الصخرة في لحف الجبل، ثم ينحدر متقلباً في أحضانه، ثم يسبح في بركة على سفحه، ثم يهيم مع السواقي الضائعة في الأودية المسحورة، يغسل أرجل الدوح في الغاب، سهوله وسوحه، لا يعرف أحد مبتداها ولا يمكن أن يعرف أحد منتهاها.

وقد تَذيع أغانٍ حتى يُظَنّ أنها من هذا الفن الشعبي (الفلكلور) وما هي منه، كأغنية «يا مال الشام» ، فشرط الفلكلور أن لا يُعرَف مؤلفه ولا ملحنه وهذه أغنية ألّفها ولحنها أبو خليل القباني.

* * *

وأنا ما جئت اليوم أتكلم عن هذا الدير الذي أُلِّفت فيه وفي الأحبة من ساكنيه الأغنية التي افتتحت بها المقال، ولا عن الأديِرَة التي تحدث عنها ياقوت وأورد بعض ما قيل فيها من بارع الأشعار، يوم كان الدير مهوى أفئدة الشعراء الفسّاق والفتية العشّاق، لا يؤمّونه لعبادة وتبتّل، بل يؤمّونه للهو البريء منه والمتهَم.

الدير الذي أقصده هو دير الزور؛ المحافظة السادسة في سورية بعد محافظات دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية، المحافظة التي كانت أيام الفرنسيين منفى لكل مغضوب عليه من

ص: 192

الموظفين؛ المدينة العراقية التي وُضعت في الجمهورية السورية كما أن الموصل بلدة شامية سكنت جمهورية العراق (وما في الإسلام عراق غريب عن الشام، كلهن أخوات شقيقات في الأسرة الواحدة التي هي أسرة أهل القرآن)، يشهد بذلك أبنيتها ومسالكها، وعادات أهلها وثيابهم ولهجاتهم. اذهب إلى الموصل ثم إلى حلب، هل تحس أنك قد انتقلت من بلد إلى بلد؟ وزر الدير وأخواتها المنثورات على شط الفرات، راوة وعانة إلى البوكَمال، هل بينها من فرق؟

قلت لكم إني نُقلت عقوبةً إلى الدير إثر ما كان بيني وبين نظيم الموصلي وعفلق، والمسافة على الأرض بين دمشق ودير الزور لا تقل عن المسافة بين دمشق وبغداد، ولكن السفر إلى بغداد (كما عرفتم) كان بسيارات كبيرة أُعدت لهذه الرحلة الطويلة، وكان فيها الماء البارد وفيها بعض وسائل الراحة، أما السفر من دمشق إلى الدير فكان بسيارات كالسيارات التي تنقل الناس إلى ضواحي دمشق وإلى الأقضية القريبة منها، لا استعداد فيها ولا راحة ولا سعة في المكان.

ولقد كتبت مقالات نشرتها عن هذه الرحلة فلا أُعيد ما فيها، ولو أردت إعادتها لما وصلت إليها لأنني أُملي هذه الحلقة وما عندي شيء من كتب ولا أوراق. كتبت تلك المقالات بقلم الأديب وابتغيت فيها مسايرة الفن، أما الذي أكتبه اليوم عنها فإنه وصفٌ لما وقع لا أريد منه إلا أن أذكر ما كان. وهل أستطيع ذلك؟ وأنّى لي به وأنا لا أعتمد إلا على ذاكرة لم تُبقِ منها الأيام إلا ما يبقى من الدار العامرة التي عصف بها الدهر ومشت عليها

ص: 193

السنون، فلم يبقَ من منازلها ودورها إلا أنقاض وأطلال!

كانت السفرة إلى الدير سنة 1940، وأذكر أن موعد السفر كان بعد صلاة الفجر. تواعدنا على أن نصليها في جامع يَلبُغا في ساحة المرجة التي كانت أكبر ساحات دمشق، هذا المسجد الكبير الذي سرق العثمانيون نصفه الشمالي فجعلوه مدرسة دَرَستُ فيها سنة 1918، وجاؤوا الآن يريدون أن يسرقوا ما بقي منه سرقة مبطنة فيبنوا بناءً عالياً، يجعلون بعضه للمسجد والباقي لما لا يأتلف مع رسالة المسجد وربما أسخط من تُبنى له المساجد. وهذا مشروع قديم عارضته مرات لمّا كنت في الشام وكان لي لسان وكان صوتي مسموعاً وكان كلامي مؤثراً، ولست أدري الآن مَن يحول بينهم وبين هذا العدوان.

صلينا الفجر في المسجد وذهبنا إلى السيارة (1) لتمشي بنا، ولكنها مواعيدنا! وأين منها مواعيد عرقوب التي ضُرب المثل بها؟ هل عندنا موعد نفي به؟ هل تُنصَب المائدة في الوليمة في الساعة المحددة لها؟ هل يبدأ الحفل في موعده؟ هل نعمل شيئاً في وقته؟ هذه سيرتنا في أمورنا الخاصة بنا والعامة بيننا، في دورنا وفي أسواقنا وفي سلمنا وحربنا، لولا هذا التسويف والتأجيل ولولا إخلاف المواعيد ما ضاعت منا فلسطين!

لم تتحرك بنا السيارة إلا بعد ثلاث ساعات. دخلناها فإذا

(1) هي الحافلة. وغالباً ما استعمل جدي في كتاباته مفردة «السيارة» دلالة على «الحافلة» ، فحيناً يفهم القارئ من السياق أنها حافلة ليست سيارة، وأحياناً يختلط عليه الأمر فيظنها سيارة صغيرة (مجاهد).

ص: 194

هي ضيقة مقاعدها صغيرة، لا يستطيع المرء أن يمشي بينها، وقد ملؤوها على ضيقها بالأكياس وبالسلال والحقائب حتى لم يبقَ فيها مكان لإنسان.

سارت بنا إلى دوما فمررنا على الجانب الشمالي من الغوطة، يوم كان في الدنيا غوطة، يوم لم تأكلها العمارات ولم ندفنها حية تحت أساس هذا البنيان. ثم على الكروم التي كانت تمتدّ أكيالاً (كيلومترات)، فيها العنب الدوماني الذي لا نظير له في الدنيا والذي يُصنع منه «الدبس» ، وهو أخو العسل ليس له ميزاته ولكن له طعمه ولذته وفيه بعض غذائه، فذهبت الآن هذه الكروم، ما أدري أي آفة أصابتها حتى أحرقتها وأماتتها.

وكنا حين نذهب إلى بغداد ننعطف يميناً إلى أبي الشامات، فذهبنا الآن قُدُماً إلى الثنايا، وفيها «ثنيّة العقاب» التي نزل منها خالد في رحلته العظيمة التي تؤلّف وحدها باباً في التاريخ العسكري في سرعة الانتقال وبراعة القيادة (1). ثم أخذنا طريق حمص ثم انعطفنا إلى تدمر والقريتين، وكان هذا الطريق هو الذي نسلكه إلى دير الزور.

* * *

كانت هذه السفرة في الشتاء وكان شتاء بارداً، وقد طال علينا السفر وتجمّدت أعضاؤنا من شدة البرد ومن ضيق المكان

(1) انظر كتاب «عبقرية خالد بن الوليد العسكرية» الذي نشرته دار المنارة، وفي أوله مقدمة طويلة لعلي الطنطاوي تجدون نسخة منها أيضاً في كتاب «مقدمات الشيخ علي الطنطاوي» (مجاهد).

ص: 195

ومن قلة الحركة، ومللنا وضجرنا، ولكن لا سبيل إلى الخلاص، فقد كنا كالمصفَّدين بالأغلال لا نملك حرية ولا نستطيع حراكاً.

وأذكر أننا وصلنا إلى شفير واد صغير ممتلئ بالسيل، يهدر هدير بردى في الوادي قديماً، تصطخب أمواجه ويعلوه الزبد ويضرب ماؤه الضفتين. ولم نكن نمشي على طريق (وما كان يومئذ إلى دير الزور ولا إلى بغداد طريق معبد)، فحرنا ماذا نعمل، واختلفت آراؤنا: أننتظر حتى ينقطع السيل أم نخوضه بسياراتنا حتى نبلغ الضفة الثانية فنكمل طريقنا؟ ثم غلب رأي المغامرين (وكنت واحداً منهم) فهجمنا بالسيارة نريد أن نقطع الوادي السائل، فما كادت السيارة تتوسطه حتى وقف محركها ولم يعد يملك سائقها لها شيئاً، وصرنا كأننا في جزيرة عائمة بالماء يضرب جوانب السيارة ويكاد يدخل إلينا، بل لقد دخل فغمر أرضها ولم يعلُ عنها، فلم يبق إلا أن ننزل فنغوص في الماء وندفعها دفعاً.

وكان إلى جانبي شرطيّ من أسرة كبيرة في حي الميدان ما فتئ الطريق كله يصدّع رأسي بذكر أعماله الوطنية التي نَفَوه من أجلها إلى دير الزور ويقصُّ عليّ من أنباء بطولته وإقدامه، فلما جاء الجِدّ وكان الامتحان وأقبلنا ننزل لندفع السيارة بقي في مكانه، فقلت له: ألا تقوم معنا؟

قال: إنني مريض! وبدأ يتوجّع ويتأوّه ويستميل قلبي لأن الماء يضره، فهددته بأن يقوم وإلا ألقيناه في الماء. فتأخر ولم يتقدم وأبى أن يقوم، فقصصت قصته على الركاب وأمرتهم

ص: 196

أن يحملوه ويلقوه في الماء، فحملوه وهو يحرك يديه ورجليه ويحرك لسانه بسبنا وشتمنا، فألقيناه في الماء ليشتغل معنا. وهذا جزاء من يقول ولا يفعل، ويدّعي ولا يثبت، ويزعم أنه بطل ثم يتبين أنه بطّال.

عملنا أكثر من ساعة ونصف ساعة حتى أخرجنا السيارة من الوادي، ولكن ابتلت ثيابنا، ولم يكن معنا ثياب أخرى نستبدلها بها، وخفت أن يؤذيني البرد وأنا في هذه الثياب المبتلة. وكان ذلك ليلاً، فلما أضاء النهار وطلعت الشمس قلت: نقعد في الشمس لعل الثياب تجف، ولكنها كانت شمساً ضعيفة وكان شعاعها بارداً في هذه الأيام من الشتاء، فبقيت بالثياب المبتلة فأعقبَتني رثية (روماتيزم) آذتني مدة طويلة.

مررنا بتدمر ورأينا أعمدتها وآثارها الجليلات الباقيات. وتدمر مدينة مسحورة كأنها من مدن ألف ليلة وليلة، لو أن متتبعاً جمع تاريخها ودوّن أخبارها لكان من ذلك سِفْر عظيم من أسفار التاريخ. تدمر التي كانت فيها الزبّاء

أو زنوبيا أو زينب، فلست أدري ما اسمها على التحقيق وليس لها قيد في سجل الأحوال المدنية حتى أستخرجه وأعرف اسمها الثلاثي! تدمر هذه التي تدهش الناظر إليها بعظم أعمدتها التي تشبه أعمدة بَعْلَبك وإن كانت أصغر منها بقليل، صارت يوماً من الأيام منفى لمن يغضب عليه الحكام. كانت قصوراً زاهرة فصارت سجوناً الداخلُ إليها مفقودٌ والخارج منها (ومن يخرج منها؟) مولود!

* * *

ص: 197

وبلغنا دير الزور. وكانت يومئذ (أي قبل ست وأربعين سنة) بلدة صغيرة ما فيها إلاّ شارع واحدة، في هذا الشارع فندق صغير نزلت فيه فبتُّ ليالي. وأنا أكره حياة الفنادق، لم أحبها قط وكنت طول عمري أهرب منها، فسألت إخواننا أن يجدوا لي أسرة تؤجّرني غرفة أعيش فيها، فقالوا بأن المسلمين لا يؤجرون غرفة في دورهم لرجل أجنبي، ولكن في البلد حياً اسمه الجبيلة فيه قوم من النصارى ربما وجدت عندهم ما تريد. واستأجروا لي غرفة عند أسرة فيها زوج وزوجة وطفلان، قوم مهذبون ذوو أخلاق أقمت عندهم قليلاً، ولكن كرهت الحي فعرضت عليهم أن أستأجر أنا داراً أختارها وأدفع أنا أجرتها وأسكنهم معي فيها، وأدفع لهم نصف نفقات الطعام والشراب على أن يقدم لي الطعام مُعَدّاً.

فقبلوا، واستأجرت داراً في جزيرة بين فرعَي الفرات يسمونها «الحويقة» (لأن الماء يحيق بها من جهتيها). وكانت داراً جميلة تدخل منها إلى بستان واسع فيه أشجار عليها الثمار، وإلى يمينك غرفتان فيهما مرافقهما يقابلهما ثلاث غرف، أي أن هذه الدار تشتمل على بيتين، فسكنت أنا في الجهة اليمنى وأسكنت الأسرة التي انتقلت معي إلى الجهة الأخرى. ولم أُصادف الزوج أبداً، أما الزوجة وأطفالها فربما كنت ألقاهم، وكنت أغدو على المدرسة صباحاً بعد أن يُعَدّ لي الطعام وتوصله الطفلة إلى باب الغرفة، فإذا رجعت وجدت غدائي مُعَدّاً على مائدة صغيرة فأكلت منه ثم دخلت إلى الغرفة الداخلية فنمت فيها، فإذا انتهت القيلولة وخرجت وجدت الطعام قد رُفِع والشاي قد حل مكانه.

ص: 198

بقيت أيامي كلها في دير الزور مع هذه الأسرة، لم أشكُ منها شيئاً ولم أجد منها إلا خيراً. وكان الذي يتولى أمري ويساعدني على نيل كل ما أريد هو الشيخ حسين السراج رحمة الله عليه، كان لي في دير الزور كما كان الأستاذ الشيخ بهجة الأثري في بغداد، وكما كان قبلهما الأستاذ بكر الأرفلي في سلمية. وقد لقيت في دير الزور إخوة كراماً أجلاّء وأساتذة فضلاء، منهم القاضي الشيخ عبدالقادر مُلاّ حويش الذي صار -من بعد- صديقاً كريماً، وكان يسمر عنده جماعة من أفاضل أهل البلد يقرأ عليهم تفسيراً له اشتغل بتأليفه مدة طويلة (وأحسب أنه طبعه)، فكانوا يسمعون التفسير ويتحدثون، وربما لعبوا الشطرنج، ولأهل الدير براعة في لعبه.

وممن عرفت فيها محمد العايش، وهو نائب دير الزور في المجلس النيابي وصار في وقت من الأوقات نائب رئيس المجلس، وكانت له منزلة بين رجال الحكم والسياسيين كما كان مثلها لبعض أمثاله من نواب الأطراف، منهم حكمت الحراكي نائب المعرة (معرّة النعمان)، وآل الحراكي هم وجوه المعرة ومقدَّموها، ومنهم آل نظام الدين: عبد الباقي نظام الدين وتوفيق نظام الدين، وأحسب أنهم من القامشلي في شمال الجزيرة، ولعل رئيس تحرير هذه الجريدة (1) منهم، ومن حوران وجبل الدروز جماعة من أمثال هؤلاء.

وممن عرفت في دير الزور الشيخ سعيد العرفي خطيب

(1) جريدة الشرق الأوسط، وهو الأستاذ عرفان نظام الدين.

ص: 199

الجامع الكبير، وقد كنت لقيته في مصر لما كان هارباً من الفرنسيين ومقيماً فيها، وكان صديقاً لخالي محب الدين الخطيب وذلك سنة 1928، وقد صار يوماً رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في دمشق، وكان متكلماً خطيباً جريئاً وله كتابات. ومنهم تاجر كبير في الدير من آل الهنيدي، مسكنه في الحويقة التي اتخذتُ داراً فيها على يمين السالك من الجسر الصغير على فرعَي الفرات إلى الجسر الكبير العظيم على الفرع الآخر.

* * *

أما المدرسة الثانوية التي نُقلت إليها فأذكر أنها كانت قريبة من مدخل المدينة من جهة الشام، وقد مُحيت من ذهني صورتها ولم يبقَ منها إلا بقايا، كان مديرها أستاذٌ فاضل من حلب اسمه بهجت الشهبندر، وكان معنا فيها رفيق لنا في الدراسة في مكتب عنبر كان بعدي بسنة واحدة (أي أنه كان رفيقاً للأستاذ محمود مهدي الإسطنبولي الكاتب المؤلف السلفي) هو الأستاذ أحمد عبود الفتيّح، وكان بين المدرسين رجل من دمشق مهذب كريم الخلق نسيت اسمه أحسبه صار -بعد- مفتش الرسم في المدارس الرسمية في دمشق. عرض عليّ مرة أن يصوّرني، فأخذ لوحة من الخشب وأخذ أصابع الألوان وبدأ يرسم وأنا قاعد أمامه، لم يقس طول وجهي وعرضه ولم يقدّر أبعاده ولم يرسم بقلم رصاص خطوطاً تحدد ملامحه، بل أخذ أصابع الألوان وبدأ يرسم بها رأساً، فلم تكن إلا جلستان حتى جاءت الصورة بمقاييسها وألوانها مطابقة لصورة وجهي! لا أعني أنها مثل الصورة الشمسية (الفوتوغرافية) بل أعني أنها جاءت مطابقة من غير مسوّدة ولا

ص: 200

مقياس، وأحسب أنها لا تزال موجودة عندي في الشام

ويقول أهل الخبرة إنها صورة فنية.

لا أذكر من تلاميذي في هذه المدرسة أحداً لقِصَر مدتي فيها، فما أقمتُ في دير الزور إلا أشهراً معدودة، إلا أنني كنت مرة أسجّل في جدة حديثاً للإذاعة وكان وزير الإعلام يومئذ فيها، وكان الوزير هو الشيخ جميل الحجيلان، فقابلته فرحّب بي وأكرمني وجعل يصفني بأنني أستاذه، فأخذت ذلك على أنه تواضع منه وتكرم وشكرته عليه. قال: لا، بل كنتَ أستاذنا حقيقة. قلت: أين ومتى؟ قال: في دير الزور سنة 1940، ثم ذهب يقرأ عليّ بعض ما كنت أشرحه من قصائد ومقطوعات في درس الأدب العربي!

ولست أدري متى كان معالي الشيخ جميل في دير الزور ليكون طالباً في ثانويتها، ولكن الذي أدريه أن ذكر ذلك منه وهو وزير يدل على سمو في النفس وعلى كرم في الطبع.

وجاءت عطلة نصف السنة فقلت أقضيها في الشام (1)، فأعددت عدة السفر ووضعنا أمتعتنا في السيارة وهممنا بالمسير، ثم رأينا بأنه لم يبقَ لموعد الصلاة إلا قليل، وكان اليوم يوم الجمعة، فاقترحنا أن تقف السيارة بباب المسجد فنصلي ثم نمتطيها ونتوكل على الله. ووافق على ذلك الركاب جميعاً، فلما دخلت المسجد جاءني الشيخ حسين السراج رحمه الله فقال: إن

(1) أي في دمشق، فالشام -كما علمتم- عَلَم عليها عند السوريين، وعلى وسطها القديم عند الدمشقيين (مجاهد).

ص: 201

القوم يطلبون أن تلقي فيهم خطبة قبل أن تسافر.

وكانت باريس قد سقطت في أيدي الألمان وكانت الاضطرابات قد عادت إلى الشام، فقلت له: أنت تعلم -يا شيخ حسين- أنني كالقنبلة التي لا يمسكها أن تنطلق إلا مسمار صغير، وأخاف أن تطغى بي الحماسة فأقول ما لا يناسب المقام، فإلى أي مدى يسمح لي الموقف بالكلام؟ فضحك وقال: قل ما تشاء، فالمجال أمامك فسيح.

ألقيت خطبة من تلك الخطب النارية التي كان لها الأثر الكبير في نفوس الناس، غير أنها لم تكن مكتوبة فضاعت في المئات من الخطب التي ألقيتها ثم نسيتها ونسيها الناس، وأرجو أن يبقى لي شيء من ثوابها عند الله. لا أذكر من هذه الخطبة إلا جملة واحدة قلت فيها: لا تخافوا الفرنسيين فإن أفئدتهم هواء، وبطولتهم ادعاء، إن نارهم لا تحرق ورصاصهم لا يقتل، ولو كان فيهم خير ما وطئت عاصمتَهم نعالُ الألمان.

كنت أحسب الناس في الدير مثل إخوانهم في دمشق؛ يخرجون بالمظاهرات يصيحون فيها ويهتفون

ولم أكن أعلم أنهم مثل أهل بغداد، مظاهراتهم إعصار فيه نار، وزلازل تُدَمِّر وبراكين تنفجر! خرج الناس من المسجد يريدون أن يَصِلوا إلى الفرنسيين فيحطموهم، وجاءت الشرطة والجند لتمسك بي لأن المستشار (الكولونيل العسكري) أمر بالقبض عليّ، ولكن هذه الأمواج من الناس الثائرين حالوا بيني وبينهم فقنعوا من الغنيمة بالإياب، واستمرت هذه المظاهرات تمشي مع السيارة

هل قلت تمشي؟ لا، بل إنها تهبُّ هبَّ العواصف وتطغى طغيان

ص: 202

الموج العاتي، حتى بلغنا آخر البلد ومشت سياراتنا، وتركنا الناس وهم يهتفون وتصنع بهم الحماسة صنيعها.

ولما وصلنا القريتين وتدمر كان قد جاء الأمر بالهاتف لكل منهما بالقبض عليّ، ولكن ركاب السيارة -لِماَ بقي في نفوسهم من أثر الحماسة وما فيها من روح الإسلام وسلائق العرب- وقفوا بيني وبينهم حتى بلغت دمشق سالماً.

* * *

بعد أيام من وصولي إلى الشام استدعاني وزير المعارف، وكان الأستاذ محسن البرازي رحمه الله الذي عرفته في كلية الحقوق معيداً وأنا طالب فيها، ثم انتهى به الأمر أن قُتل مع حسني الزعيم. دخلت عليه فاستقبلني مرحّباً وآنسني بالكلام، ثم قال لي: كأن هواء دير الزور لم يوافقك فهل تحب أن تستريح أياماً؟

فقلت في نفسي: أتجاهل لأعرف ما الذي يريده. فقلت: لا؛ إن هواء دير الزور وافقني جداً وصحتي بحمد الله صحة حسنة. قال: أرى أن تستريح أياماً بعد هذا السفر الطويل. قلت: لا يا سيدي، لا أحتاج إلى راحة وسأرجع في نهاية العطلة النصفية. قال وقد نزع عن وجهه القناع: بلا كلام فارغ

ما بدهم إياك! (أي أن المستشار الفرنسي يرفض عودتي إلى الدير)، فكان ذلك خيراً أراده الله لي.

قلت: كيف أبقى هنا بلا عمل؟ قال: نمنحك إجازة مرضية. قلت: ولكني لست مريضاً. فضحك وقال: سنختار لك مرضاً ترضاه.

* * *

ص: 203