الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع في حكمه
(1)
ش: الضمير في حكمه، يعود على البيان؛ وذلك أن المؤلف ذكر في هذا الفصل أربع مسائل، ثلاثة (2) في البيان، وواحدة في المجمل، وهي التي بدأ بها، فأعاد المؤلف الضمير على البيان، تغليبًا للكثير على القليل ..
قوله: ([و] (3) يجوز ورود المجمل في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه (4) عليه السلام، خلافًا لقوم.
لنا أن آية الجمعة وآية الزكاة مجملتان، وهما في كتاب الله عز وجل.
ش: هذه هي المسألة الأولى (5).
حجة القول بورود المجمل (6) في القرآن: نحو آية الجمعة، وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
(1) بدأت نسخة ز بسرد المتن.
(2)
هكذا في النسختين: الأصل، وز، والأولى: ثلاث؛ لأن العدد يذكر مع المؤنث ويؤنث مع المذكر.
(3)
ساقط من ش.
(4)
"النبي" في ز.
(5)
انظر هذه المسألة في: المحصول 1/ 3/ 237، وجمع الجوامع 2/ 63، وشرح القرافي ص 280، وشرح المسطاسي ص 33، وشرح حلولو ص 237، وشرح الكوكب المنير 3/ 415.
(6)
"وقوعه" زيادة في ز.
ذِكْرِ اللَّهِ} (1)، فهي مجملة بالنسبة إلى صفة أدائها (2).
وكذلك آية الزكاة، وهي قوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (3) فهي مجملة بالنسبة إلى مقادير الحق الواجب.
ومثال وروده في السنة: قوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم (4) وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"(5)، فقوله:"إلا بحقها" مجمل.
وغير ذلك من الآيات (6) والأحاديث، فدل وقوعه على جوازه؛ لأن الوقوع من لوازم الجواز؛ إذ لو كان ممتنعًا (7) لما وقع (8).
حجة القول بالمنع: (9) أن الوارد من ذلك في الكتاب والسنة، إما أن
(1) سورة الجمعة آية رقم 9.
(2)
"آدابها" في ز.
(3)
سورة الأنعام آية رقم 141.
(4)
"دماؤهم" في ز.
(5)
حديث مشهور من حديث أبي هريرة وابن عمرو وجابر وغيرهم، رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ كثيرة.
فانظره في: البخاري في كتاب الإيمان برقم 25، وكتاب الصلاة برقم 392، واستتابة المرتدين برقم 6924.
وانظره في مسلم في كتاب الإيمان برقم 20، 21، 22، 23 واللفظ الذي أورده الشوشاوي هنا رواه مسلم في الإيمان برقم 21 إلا أن فيه:"يشهدوا" بدل: "يقولوا".
(6)
"الآية" في ز.
(7)
"ممنوعًا" في ز.
(8)
انظر: شرح المسطاسي ص 33.
(9)
انظر: الدليل في: المحصول 1/ 3/ 238، وشرح الكوكب المنير 3/ 415، وشرح القرافي ص 280، وشرح المسطاسي ص 33.
يكون المراد به البيان، أو لا، والثاني عبث وهو غير جائز على الله تعالى.
وإن أريد به البيان، فإما أن يقترن بالمجمل ما يبينه أو لا، فإن اقترن به بيانه فذلك تطويل من غير فائدة؛ لأن (1) التنصيص عليه بالبيان أفصح من ذكره باللفظ المجمل ثم يبين (2) ذلك المجمل بلفظ آخر.
وإن لم يقترن به ما يبينه فهو باطل، لأنه إذا أريد به البيان مع عدم بيانه في اللفظ فهو ممتنع؛ لأنه تكليف بما لا يطاق.
والجواب: (3) أنا لا نسلم عدم الفائدة في ورود المجمل، بل فيه فوائد ومصالح:
أحدها: (4) امتحان العبد حتى يظهر تثبته وفحصه (5) عن البيان فيعظم أجره، أو يظهر إعراضه فيظهر عصيانه (6).
وثانيها: أنه إذا ورد المجمل ثم ورد البيان بعده، ازداد شرف العبد بكثرة مخاطبة سيده له.
وثالثها: أن الحروف إذا كثرت كثرت الأجور، لقوله عليه السلام: "من
(1)"كما أن" في ز.
(2)
"بين" في ز.
(3)
انظر بعض هذا الجواب في: المحصول 1/ 3/ 239، وشرح الكوكب المنير 3/ 415، وانظره كاملًا في شرح القرافي ص 280، وشرح المسطاسي ص 33.
وقد أسقط الشوشاوي جوابًا حسنًا وهو: أن هذا مبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، ونحن نمنعها؛ لأن الله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
(4)
"أحدهما" في ز.
(5)
"وفحمه" في ز.
(6)
"عميانه" في ز.
قرأ القرآن وأعربه كان له بكل حرف عشر (1) حسنات" (2).
فهذه مصالح تترتب على الإجمال وهي: امتحان العبد، وزيادة شرفه، وكثرة ثوابه، وقوله عليه السلام:"من قرأ القرآن وأعربه"، أي: بينه؛ لأن الإعراب يراد (3) به البيان، كقوله عليه السلام:"الثيب (4) تعرب عن نفسها"(5) ومعنى أعربه (6): أي بينه بالترتيل؛ لأن الترتيل وسيلة إلى الفهم معناه (7)، وفهم معناه (8) الذي هو وسيلة إلى العمل الذي هو ثمرة التلاوة.
(1)"عشرة" في الأصل.
(2)
رواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعربوا القرآن، فإن من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، وكفارة عشر سيئات ورفع عشر درجات" كذا أورده الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: وفيه نهشل وهو متروك. انظر: مجمع الزوائد 7/ 163.
وله شواهد كثيرة ذكر بعضها صاحب الكنز، فانظر: كنز العمال 1/ 533، 534، وقد روى الترمذي وغيره حديث ابن مسعود الصحيح:"من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف"، فانظره في الترمذي برقم 2910.
(3)
"يزاد" في ز.
(4)
بعد هذا الموضع يوجد في نسخة (ز) خرم يمتد إلى أواخر الفصل الثالث من باب النسخ.
(5)
رواه ابن ماجه في النكاح برقم 1872، وأحمد في المسند 4/ 192 من حديث عدي ابن عدي بن عميرة الكندي عن أبيه، وقد أعله بعضهم بالانقطاع؛ لأن عديًا لم يسمع من أبيه عدي بن عميرة، روي هذا عن أبي حاتم، وشواهده الكثيرة تفيد صحته.
(6)
الإعراب: الإبانة والإفصاح، والتعريب: تهذيب المنطق من اللحن.
انظر: القاموس والصحاح مادة: عرب.
(7)
التعبير ركيك ولو قال: إلى فهم معناه، بحذف الألف واللام لكان أولى.
(8)
جاء في الهامش من مخطوط الأصل ما يلي: "انظر شرط الفهم في قراءة القرآن".
ومن ظن أن المقصود من القرآن تلاوته فقط فهو مغرور، ولهذا قال عليه السلام:"القرآن حجة لك أو عليك"(1)، وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: "ليس في القرآن أشد عليّ من هذه الآية؛ قوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (2)(3).
قوله: (ويجوز البيان بالفعل خلافًا لقوم (4).
ش: حجة المشهور القائل بالجواز: دليل النقل، ودليل (5)، فأما دليل النقل، فهو الأفعال الصادرة من النبي عليه السلام على وجه البيان؛ لأنه عليه السلام لما بين الصلاة بفعله، فقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولما بين الحج بفعله فقال:"خذوا عني مناسككم"، فدل (6) ذلك على أن فعله بيان
(1) جاء هذا الحديث في مخطوطة الأصل: "وعليك" بالواو، والروايات التي وجدتها للحديث كلها بأو وهذا الذي يقتضيه السياق أيضًا.
وهذا الحديث مشهور من رواية أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
أخرجه مسلم في الطهارة برقم 223، والترمذي في الدعوات برقم 3517، والنسائي في الزكاة 5/ 8، وابن ماجه في الطهارة برقم 280.
(2)
سورة المائدة آية رقم 68.
(3)
انظر الأثر عن سفيان، والتوجيه بفهم القرآن في: شرح المسطاسي ص 33، ولم أجد من خرجه.
(4)
انظر المسألة في: المحصول 1/ 3/ 269، والعدة لأبي يعلى 1/ 118، والإحكام للآمدي 3/ 27، والتبصرة ص 247، والمعتمد 1/ 338، والمستصفى 1/ 366، واللمع للشيرازي ص 156، وشرح العضد 2/ 162، والفصول للباجي 1/ 255، وشرح الكوكب المنير 3/ 442، وشرح القرافي ص 281، وشرح المسطاسي ص 33، وشرح حلولو ص 237.
(5)
"هكذا" في الأصل، والأصوب زيادة:"العقل" ليستقيم الكلام.
(6)
الأولى حذف الفاء من هنا، حتى يستقيم الأسلوب.
لتفاصيل الصلاة والحج، هذا دليل النقل (1).
وأما دليل العقل: فلأن مشاهدة فعل الصلاة والحج مثلًا، أدل على معرفة تفاصيلها من الإخبار عنهما بالقول؛ إذ ليس الخبر كالمعاينة (2).
حجة القول بالمنع: أن البيان بالفعل فيه تطويل، وتأخير البيان مع إمكانه بما هو أقصر من الفعل وهو القول عبث، والعبث على الله تعالى محال؛ وذلك أن زمان البيان بالقول أقل من زمان البيان بالفعل (3).
أجيب عنه: بأن البيان بالقول قد يكون أطول من البيان بالفعل، وذلك في الأشياء الغامضة التي تحتاج إلى ألفاظ كثيرة، وأما الفعل فقد يظهر بالمرة الواحدة ضروريًا عند من شاهد ذلك الفعل، وأيضًا سلمنا أن الفعل أطول، ولكن ذلك لفائدة، وهي كون الفعل أقوى وأثبت في النفس، ولذلك كانت الصنائع تنضبط بالمشاهدة دون الأقوال المجردة كالتجارة/ 229/ والحياكة والصياغة وغيرها (4).
قوله: (وإِذا تطابق القول والفعل، فالبيان القول، والفعل مؤكد له).
ش: هذه هي المسألة الثالثة (5): يعني إذا ورد القول والفعل بعد
(1) انظر: شرح المسطاسي ص 33.
(2)
انظر: المحصول 1/ 3/ 270، وشرح الكوكب المنير 3/ 443.
(3)
انظر: المحصول 1/ 3/ 272، وشرح القرافي ص 281، وشرح المسطاسي ص 34، وشرح حلولو ص 238.
(4)
انظر: المحصول 1/ 3/ 272، وشرح القرافي ص 281، وشرح المسطاسي ص 34.
(5)
انظر: للمسألة: المعتمد 1/ 339، والإحكام للآمدي 3/ 28، والمحصول 1/ 3/ 272، وجمع الجوامع 2/ 68، وشرح العضد 2/ 163، وتيسير التحرير 3/ 176، وشرح القرافي ص 281.
المجمل، وكل واحد منهما صالح للبيان واتفقا في البيان، فإن القول هو البيان، وأما الفعل فهو مؤكد له.
وهذا الذي ذكره المؤلف هو أحد الأقوال الثلاثة:
قيل: البيان: القول، والفعل مؤكد له، كما قاله المؤلف.
وقيل: البيان: الفعل، وأما القول فهو مؤكد للفعل.
وقيل: هما سيان (1)(2)(3).
حجة الأول: أن القول يدل بنفسه بأصل الوضع، وأما الفعل فلا يدل إلا بواسطة القول الدال على كونه دليلًا، كقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4)، وما يدل بنفسه أولى مما يدل بغيره (5).
(1) فات الشوشاوي هنا الاستدراك على المؤلف بأن هذه المسألة فيما إذا جهل المتقدم، وأما إذا علم المتقدم فالذي عليه كثير من الأصوليين تقديم المتقدم قولًا كان أو فعلًا؛ حيث يكون هو البيان والثاني مؤكد له، واشترط بعضهم ألا يكون الثاني دون الأول في الدلالة، لاستحالة تأكيد الشيء بما هو دونه في الدلالة.
ورد هذا بأن الجمل تؤكد الثانية منهما الأولى، وإن كانت الثانية أضعف.
انظر: المحصول 1/ 3/ 272، والإحكام للآمدي 3/ 28، وتيسير التحرير 3/ 176، والمعتمد 1/ 339، وشرح الكوكب المنير 3/ 447 - 449، وشرح العضد 2/ 163، وشرح حلولو ص 238.
(2)
الذي عليه كثير من الأصوليين في هذه المسألة أنه يحكم عليهما بإطلاق بأن الأول في نفس الأمر بيان، والثاني في نفس الأمر مؤكد له، دون تعيين. انظر: المحصول 1/ 3/ 273، والمعتمد 1/ 339، وشرح الكوكب المنير 3/ 448.
(3)
انظر: شرح المسطاسي ص 34، وشرح حلولو ص 238.
(4)
سورة الحشر آية رقم 7.
(5)
انظر: شرح القرافي ص 281، وشرح المسطاسي ص 34.
حجة المنع (1): أن الفعل أقوى وأثبت في النفس من القول فيقدم (2).
حجة القول بالتسوية: تعارض الأدلة، وعدم الأولية، واستقلال كل واحد منهما بالدلالة على انفراده (3).
قوله: (وإِن تنافيا، نحو قوله عليه السلام: "من قرن الحج إلى العمرة فليطف لهما طوافًا واحدًا" (4)، وطاف عليه السلام لهما طوافين (5)، فالقول مقدم؛ لأنه (6) يدل بنفسه).
ش: هذا من تمام ما قبله، وهو مقابلة؛ لأن ما تقدم إنما هو فيما إذا اتفق القول والفعل في البيان، وهذا فيما تنافيا (7) في البيان، أي: تخالفا في البيان، وذلك أن قوله عليه السلام:"فليطف لهما طوافًا واحدًا" هو بيان لآية الحج، وكذلك كونه عليه السلام طاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين
(1) لو قال: حجة القول الآخر، لكان أولى؛ إذ لا مجال للمنع ها هنا إلا أن يريد منع ما ادعاه الأولون.
(2)
انظر: شرح المسطاسي ص 34.
(3)
انظر: شرح المسطاسي ص 34.
(4)
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف الواحد والسعي الواحد أحاديث كثيرة، فعلية وقولية، فالفعلية: من حديث ابن عمر وابن عباس وجابر، وأبي قتادة وأبي سعيد وعائشة، فانظر هذه الأحاديث في: صحيح البخاري برقم 4395، وسنن الترمذي برقم 947، وسنن أبي داود برقم 1895، 1896، 1897، وسنن النسائي 6/ 226، 244، وابن ماجه برقم 972 - 974. وأما القولية، فمنها: حديث ابن عمر الذي رواه ابن ماجة برقم 975، والدارقطني 2/ 257.
(5)
حديث طواف النبي صلى الله عليه وسلم طوافين، رواه الدارقطني عن ابن عمر 2/ 258، وعن علي 2/ 263، وعن ابن مسعود 2/ 264.
(6)
"لكونه" في نسخ المتن.
(7)
هكذا في الأصل، ولو قال: فيما إذا تنافيا، لكان أولى ولعله من الناسخ.
هو أيضًا بيان لآية الحج، ولكن بيانهما مختلف (1)، وهذا الحديث الذي مثل به المؤلف هو أيضًا تمثيل الإمام فخر الدين في المحصول (2)، وهذا الحديث إنما قاله عليه السلام في حجة الوداع (3)، وهذا المثال إنما جاء على القول بأنه عليه السلام في حجة الوداع قارن (4) وهو مذهب أبي حنيفة، وقيل: بأنه متمتع وهو مذهب الشافعي، وقيل بأنه مفرد وهو مذهب مالك رضي الله عنهم جميعًا (5).
(1) لو قال: بيانيهما مختلفان، لكان أولى.
(2)
انظر: المحصول 1/ 3/ 273، وانظر: شرح القرافي ص 281، وشرح المسطاسي ص 34.
(3)
انظر: صحيح البخاري الحديث رقم 4395.
(4)
قال القرافي في شرحه ص 281: هو مبني على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا.
(5)
وردت الأنساك الثلاثة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فروى الإفراد عنه: عائشة وعبد الله بن عمر وجابر وغيرهم، وروى القرآن عنه: أنس بن مالك وعلي بن أبي طالب وجابر وابن عمر، وروى التمتع: علي بن أبي طالب وابن عباس وسعد بن أبي وقاص، وعمران ابن حصين وعبد الله بن عمر وغيرهم.
وجمع بين هذه الأحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج، فمن روى أنه مفرد أراد أنه لم يفعل إلا أفعال الحج، ومن روى أنه قارن أراد ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من قرن العمرة بالحج، ومن روى أنه متمتع أراد التمتع اللغوي، وهو التلذذ بجمع العمرة مع الحج في فعل واحد.
والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا وأمر من معه ممن لم يسق الهدي بالتمتع، وقال:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت".
روى هذا البخاري وغيره. انظره في البخاري برقم 1651، وانظر: جامع الأصول 3/ 99 - 161، والمجموع شرح المهذب للنووي 7/ 159.
والعلماء متفقون على جواز الأنساك الثلاثة إلا ما روي عن بعض الصحابة والتابعين من خصوص التمتع بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين معه في حجة الوداع. ويرد هذا عموم قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} ، وعموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإطباق الأمة =
قوله: (فالقول مقدم لكونه يدل بنفسه). يعني: وأما الفعل فلا يدل إلا بواسطة القول الدال على كونه دليلًا، وما يدل بنفسه أولى مما يدل بغيره، فيكون القول هو البيان، فيحمل الفعل على أنه ندب، أو على أنه واجب خاص به عليه السلام، وهذا هو المختار عندهم جمعًا بين الدليلين؛ دليل القول، ودليل الفعل، والجمع بين الدليلين ولو بوجه ما أولى من إلغاء أحدهما.
قوله: (ويجوز بيان المعلوم بالمظنون، خلافًا للكرخي).
ش: هذه هي المسألة الرابعة (1)، المراد بالمعلوم: هو المتواتر، والمراد بالمظنون: الآحاد. ذكر المؤلف الوجه المختلف فيه، وهو بيان المعلوم بالمظنون، وسكت عن الثلاثة الباقية لجوازها باتفاق وهي: المعلوم
= على فعله.
واختلف العلماء رحمهم الله في أفضل الأنساك الثلاثة:
فالصحيح من مذهب الشافعي ومذهب مالك والأوزاعي وأبي ثور وداود: أن الإفراد أفضل، وبه قال عمر بن الخطاب وعثمان وجماعة من الصحابة.
وذهب أبو حنيفة وسفيان الثوري وابن المنذر والمزني من أصحاب الشافعي إلى أن القران أفضل.
وقال الإمام أحمد: التمتع أفضل، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال ابن عباس وابن عمر وعائشة والحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وسالم.
وللقوم حجج وأدلة يضيق المقام بسردها.
فانظر: الهداية للمرغيناني 1/ 153، وحاشية ابن عابدين 2/ 529، وبداية المجتهد 1/ 335، والمجموع شرح المهذب 7/ 152، والمغني لابن قدامة 3/ 276، والإنصاف للمرداوي 3/ 434.
(1)
انظر: المحصول 1/ 3/ 275، والعدة 1/ 125، وروضة الناظر ص 185، والمعتمد 1/ 340.
بالمعلوم، والمظنون بالمظنون، أو (1) المظنون بالمعلوم (2).
قوله: (ويجوز بيان المعلوم بالمظنون)، مثاله: قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر" بيانًا لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (3)؛ فإن هذا الحديث خبر واحد بالنسبة إلينا، وأما من سمع ذلك من الصحابة منه عليه السلام فإنه معلوم عنده لا مظنون؛ إذ لا يكون التواتر أقوى من المباشرة (4).
قوله: (خلافًا للكرخي)، حجة أبي الحسن الكرخي: أن المظنون أضعف من المعلوم، فلا يعتمد على الأضعف في البيان (5).
الجواب عنه: أن خبر الآحاد وإن كان مظنونًا من حيث السند فإن المتواتر أيضًا مظنون من حيث الدلالة فاشتركا في الظن، وخبر الآحاد أخص فيقيد به لأنه أقوى دلالة؛ ولأن فيه الجمع بين الدليلين بخلاف العكس، وبهذا ما قدمنا إلا ما هو أقوى على ما هو أضعف (6).
وفي هذا الجواب نظر؛ لأن الدليلين إنما تعارضا بالنسبة إلى ما تناوله
(1) هكذا في الأصل والصواب بالواو.
(2)
انظر: شرح المسطاسي ص 34.
(3)
سورة الأنعام آية رقم 34. وقد ضبط الناسخ الحاء من حصاده بالكسر وهي قراءة ورش عن نافع؛ إذ قد ورد في الحاء هنا قراءتان: الفتح وبها قرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر، وهي لغة أهل نجد وتميم. وقرأ الباقون بالكسر وهي لغة أهل الحجاز.
انظر: النشر 2/ 266، وحجة القراءات ص 275.
(4)
انظر: شرح القرافي ص 282، وشرح المسطاسي ص 34.
(5)
انظر: شرح القرافي ص 282، وشرح المسطاسي ص 34.
(6)
انظر: شرح القرافي ص 282، وشرح المسطاسي ص 34.
الدليل الخاص، وأما ما عداه فلم يحصل فيه معارضة، وحينئذ يلزم من إعمال أحدهما إلغاء الآخر فلا محالة.
ولا يقال: إن ذلك الأخص أقوى.
فإذا تعارضا من كل وجه، وجب التوقف حتى يرد البيان.
***