الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
العسكرية الإسلامية والواقعية
ومن الواقعية التي رفعها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المستوى الأخلاقي أنه قبل من الجنود في المعارك أن يقارنوا بين المثالية في الإقدام، والواقعية التي تُحتِّم الانسحاب عند الضرورة. فالمسألة توزن بميزان الحكمة، وليس بميزان الشجاعة فقط. فالقائد العبقري خالد بن الوليد - سيف الله - رأى أن استمرار المعركة في غزوة مؤتة أمام جيوش الروم وهو ثلاثة آلاف مسلم أمام مائة وخمسين ألفا من الروم، استمرار المعركة لون من المغامرة الخاسرة، فاحتال للانسحاب.
وفي المدينة لقيهم (المثاليون) من الشباب المتحمسين للشجاعة، مهما كان الثمن، التقوا معهم يرمونهم بالحصى، ويصفونهم بالفُرَّار.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم دافع عنهم، واعتبر عملهم حنكة حربية وقال "بل هم الكُرَّار - إن شاء الله -".
يقول أستاذي الدكتور يوسف القرضاوي:
إن القرآن يجيز للمقاتل أن يفرَّ من الزحف، إذا كان "مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ". ويُرخّص له في حالة الضعف أن ينسحب من المعركة، إذا كان جيش العدو أكثر من ضعف المسلمين {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (سورة الأنفال 66)
كانت الآيات التي قبلها تطلب ثبات الواحد من المسلمين أمام عشرة من المشركين {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (سورة الأنفال 65)
والمسافة الزمنية بين الآيتين كبيرة - كما قال الكشَّاف.
وفي الآية تخفيف واضح من الله - سبحانه - والآية الثانية تصورُّ (الواقعية) في الطاقات الإيمانية الصابرة بل إن صاحب الظلال يذهب إلى أن آية الواحد أمام اثنين لا يُقصد بها التشريع، ولكن يُقصد بها أن تطمئن قلوبهم، وتثبت أقدامهم.
وأشعر أن الحق مع صاحب الظلال، خصوصاً بعد تطور السلاح، فقد يكون الواحد بسلاحه أخطر من عشرة، بل مائة. وللقائد المسلم الصابر أن يقدر الأمر إقداماً وإدباراً، كرًّا وفرًّا.
* * *
وكانت التربية العسكرية، والاختبارات العسكرية، تنبني على الصعاب دائماً. حتى جاء الإسلام يشهد لهذا التحول العسكري الكبير من المثالية إلى الواقعية، ما حكاه القرآن من قصة "طالوت" في سورة البقرة {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} (سورة البقرة 249)
{مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} تربية مثالية عنيفة، فالقوم في ظمأ عظيم،
يأتي نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ويحكم بسقوط الصوم المفروض شرعاً عندما يكون الصائم مسافراً "يعني أيام السفر يُفطر وتلزمه أيام أخر".
وعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم زحاما، ورأى رجلاً قد ظلل الناس عليه، قال: من هذا؟
فقالوا: صائم.
فقال: "ليس من البر الصوم في السفر" متفق عليه عن جابر، ومعلوم أن الإسلام يكره صوم المسافر إذا أوصله الصوم إلى المشقَّة.
كما في الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم والناس حوله.
أفطر نبي الرحمة عندما كان مسافراً لفتح مكة. أفطر أمام كل أصحابه، ليشاهدوه فيفطروا.
وفي الحديث الشريف "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء، فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام فقال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة".
(رواه مسلم)
وفي حديث آخر قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه إنكم دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة فمنا من صام، ومنا من أفطر.
ثم نزلنا منزلاً آخر، فقال: إنّكم مُصبِّحون عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا، وكانت عزيمة. (صحيح مسلم)
بل إن الإمام ابن تيمية أفتى الجنود بالإفطار، داخل مدينة دمشق، في حربهم، من غير سفر. وذلك لأن الفطر أقوى لهم.
ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم إنّكم مُصبِّحون عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا. (مسلم)
إن النبي صلى الله عليه وسلم تمم مكارم الأخلاق عندما جعل الحدَّ الأعلى للأخلاق هو الواقعية المثالية، وليس المثالية الخيالية، فهو لا يقول لأتباعه:{فمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} كما قال المَلِكُ في سورة البقرة: ولكن يقول عن الذين أوجبوا الصوم عليهم، ولم يقبلوا رخصة النبي صلى الله عليه وسلم:"أولئك العصاة" ويكرِّرُها.
سلامٌ عليك يا نبيَّ الرحمةِ، وسلامٌ على الذين معك.
*******************