الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نصوص المبيحين:
حين يكمل عقل المرء ودينه وفقهه، يكفيه ما مضى من تأصيل لتأسيس الحكم لديه، ومعرفة ماذا شرع الله تعالى في العلاقة بين الجنسين.
فإذا ما عرض له شيء ظاهره يخالف ما تقرر وتأصل وتأسس، فإنه يلجأ إلى تخريجه والجواب عنه بما يحفظ الأصل ويقره، فهذا حال الراسخين في العلم والمؤمنين، أما حال غيرهم ممن قصر فقهه أو ممن زاغ وابتغى الفتنة، فَيَدَعون الأصل؛ ليعتنوا بالعارض الطارئ، فيجعلوه هو الأصل، على شذوذه وضعفه، فيستنبطوا منه حكمًا أصليًّا ثابتًا، ينقُضون به الثابت المستقر الصادر بالأمر الإلهي.
فحالهم كحال الذي بلغه أن الحاكم أصدر مرسومًا بمنع البيع والشراء بعد الثانية عشرة ليلا، وأعلن ذلك على الجميع، وتأكد بمراسيم أخرى، ثم مر يومًا فرأى صيدلية تفتح أبوابها في الواحدة صباحًا، ثم تكرر منه رؤية ذلك، ومر فوجد دكانًا كبيرًا يبيع في الثالثة صباحًا، إلى جانبه آخر صغير كذلك.
وفي الأثناء أخذ كتابًا قديمًا، فقرأ فيه أن الناس في هذه البلدة يتبايعون ليلًا ونهارًا.
فاستنبط من ذلك أن المرسوم قد ألغي. والدليل: هذه المحَاَلّ المفتوحة، وما في الكتاب القديم من خبر. بل زاد على ذلك: عجبه من إحجام البقية عن استغلال هذا الإذن، والعودة لمنافع البيع والشراء.
وما درى هذا: أن تلك المحال مستثناة من المرسوم، لحاجة الناس الدائمة، والمرسوم على حاله من المنع. أما الدكان الصغير، فهو مخالف يستحق العقوبة، وما في الكتاب القديم، كان قبل الأمر.
والقصد: أنه ما من أمر سواءً كان إلهيًا، أو بشريًّا. وإلا ويعتريه استثناءات للحاجة والضرورة، وهناك من يخرقه ويخالفه قصدًا، ومن يخالفه سهوًا ونسيانًا.
فلو كانت هذه الأحوال المخالفة بعذر أو بدون عذر، سببًا كافيًا لإلغاء الأمر، لألغيت الأوامر كلها، وما ثبت أمر ألبتة.
وهكذا أحكام الشريعة، فيها أمر عام، يتأسس بالنصوص الصحيحة والصريحة في المعنى، كنصوص منع الاختلاط، ثم يطرأ عليها أحوال استثنائية، أو يوجد من يخالفها، لكنها لا ترقى أن تبطلها.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نَهْيٌ عن استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط. ثم إن ابن عمر مرة ارتقى جدارا، فرأى النبي عليه السلام يقضي حاجته مستقبلا أو مستدبرا القبلة. فذهب العلماء إلى قولين في المسألة:
الأول: أن هذا الفعل تخصيص لعموم النهي. فإذا كان في فضاء منع، وإذا كان دون القبلة حاجز جاز.
الثاني: أن القول مقدم على الفعل؛ لأن القول مقصود لذاته، ونحن مأمورون بطاعة قوله، وأما الفعل فقد يكون سهوًا، وقد يكون عمدًا، فلما احتمل، وتعذر الترجيح، بقي النهي على عمومه.
وهكذا لم نجد بينهم من عارض وضرب قوله بفعله، فعطل الأمر بالفعل، فأجاز بين البنيان مطلقًا.
لكن الذين أباحوا الاختلاط خالفوا سبيل العلماء الراسخين، فضربوا قوله بفعله.
وهذا يتبين بما يلي:
إن نصوص المبيحين لاختلاط الرجال بالنساء ضعيفة في دلالتها، وهي كذلك في غير محل النزاع.
فأما كونها ضعيفة الدلالة، فلأمور أربعة هي: أنها عملية، متشابهة، مبيحة، على البراءة الأصلية.
الأول: أنها عملية، ليست بقولية، والمعلوم عن أهل الأصول والفقهاء والمحدثين، من حيث المبدأ والأصل: أن القول مقدم على الفعل، وأن ما كان أمرًا بالقول فهو مقصود لذاته؛ لأنه موضوع للدلالة على الأمر، بلا خلاف، وهو يدل على الوجوب بنفسه من غير واسطة.
فأما الفعل فإنه قد يكون مقصودًا، وقد لا يكون مقصودًا، وقد يكون عمدًا، وقد يكون سهوًا، كما تقدم في مثال استقبال القبلة في قضاء الحاجة، فلا يأخذ منه حكم ابتداءً، لكن القول يؤخذ منه. فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعدى إلى غيره بنفسه، بخلاف فعله، فلا يتعدى إلا بدليل.
فإذا اجتمعا كان التمسك بقوله، وحمل فعله على التخصيص ونحوه هو الواجب.
الثاني: أنها متشابهة.
أي محتملة لأكثر من معنى، والنصوص المتشابهة لا يؤخذ من معانيها إلا المعنى الموافق للمُحْكَم، ويُطرح ما عداه، لكن المبيحين أخذوا المعنى المعارض للمحكم، وطرحوا الموافق له، عكس سبيل المؤمنين العلماء الراسخين في العلم.
الثالث: أنها مبيحة.
تقابلها نصوص تقتضي الحظر، والحظر مقدم على الإباحة؛ لأن المحرمات يحتاط لإثباتها ما أمكن.
ولم يذهب أحد من العلماء إلى أن الاختلاط كان حرامًا في الجاهلية ثم نُسخ، ووقع الاتفاق على أنه كان حلالًا أو مباحًا غير محرم، فهذا يعضد الأحاديث بالتحريم؛ أي يدل على نسخ الإباحة.
الرابع: أنها على أصل البراءة.
والتحريم والحظر ناقل، والناقل عن الأصل مقدم؛ لأن فيه زيادة وهو الحكم بالتحريم، أما الأصل والبراءة فليس فيه حكم، بل مسكوت
عنه، جارٍ على العادة.
فدلالة نصوص الإباحة ضعيفة لواحد من هذه الأمور منفردًا، فكيف بها مجتمعة؟.
أي لو فرض عدم معرفة تاريخ المتقدم والمتأخر والمنسوخ والناسخ، لكانت هذه الأمور الأربعة ـ منفردة أو مجتمعة ـ كافية في إبطال الإباحة وتقديم الحظر والتحريم، كيف وقد علم يقينا أن هذه النصوص لا تعارض التحريم، كونها في غير محل النزاع.
فكونها في غير محل النزاع، فلثلاثة أمور:
الأول: أنها نصوص كانت قبل الحجاب.
الثاني: أنها كانت مع محارم.
الثالث: أنها حالات استثنائية:
فمنها ما كان ضرورة وحاجة، كخروج النساء للجهاد؛ لقلة الرجال، فلما كثروا قل خروجهن، وحضورهن مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسؤال والشكوى ونحوه، وخروجهن للسوق والصلاة والطواف والحج، كل ذلك يقع فيه اختلاط، لكن لا بد منه، فتسامح فيه الشارع، ولم يؤاخذ به.
ومنها أن المختلطة كبيرة، بالغة سن اليأس.
ومنها ما كان خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا ميزانٌ لحل كل ما يورده المبيحون من أدلة، لا يزالون يختلقونها اختلاقا بأدنى صلة، وبعضها لا صلة لها بمحل النزاع أصلًا (1).
(1) كيف بُنِيَ تحريم الاختلاط؟ د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه www.saaid.net. باختصار يسير.