الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنبيهات:
التنبيه الأول:
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: «لا تجد مبتدعًا ممن ينتسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي، فيُنْزِله على ما وافق عقله وشهوته» (1).
ومن الأمور المستقرة عند العلماء أنه ما من إنسان يأتي بقول مخالف للكتاب والسنة إلا وتجد التناقضات في قوله ذاك، فهذه سنة مطردة في كل من خالف الحق. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هؤلاء: «ولستَ تجدُ أحدًا من هؤلاء إلا متناقضًا
…
بخلاف ما جاء من عند الله فإنه متفق مؤتلف، فيه صلاح أحوال العباد في المعاش والمعاد؛ قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)(النساء: 82)» (3).
ومن الأمثلة المتعلقة بموضوعنا أن أحد دعاة الاختلاط قرر بأن الاختلاط
(1) الاعتصام (1/ 134).
(2)
الموافقات (3/ 77) باختصار.
(3)
درء تعارض العقل والنقل (5/ 318).
(المشروع!)، وكثرة لقاء المرأة بالرجل يزيل الحرج عنهما ويجعل الأمر عاديًا لا فتنة فيه.
ثم تجده يعلق على قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» (1) الذي أحرجه به علماء الأمة ممن ينكر الاختلاط، علق بقوله:«ابتعاد النساء عن الرجال مما يعين على خلوص القلب للعبادة والذكر» !!
فيقال: كيف يكون الاختلاط في خارج العبادة مرغبًا فيه ولا يثير شيئًا، وأما في العبادة فإنه يشغل الإنسان بالوساوس والخطرات؟! كان العكس أولى، ولكنه التناقض (2).
التنبيه الثاني:
إن كثيرًا من الأدلة الشرعية التي يتعلق بها دعاة الاختلاط إنما كانت قبل نزول آيات الحجاب، وقبل الأمر باحتجاب النساء عن الرجال، وإن المستدل بتلك على جواز الاختلاط كمن يستدل على جواز شرب الخمر وأكل الربا بأدلة وردت قبل تحريمهما.
ولو أوردتُ نصوص شُرب الخمر قبل تحريمه، والمتعة قبل تحريمها، والربا قبل وضعه، والسفور قبل منعه، والصلاة قبل تمامها، والجهاد قبل فرضه، والاختلاط قبل حظره لجاءت شريعة جاهلية والنصوص محمدية (3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ الْحِجَابِ كَانَ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ
(1) رواه مسلم.
(2)
نقد كتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة) لمؤلفه عبد الحليم أبو شقة، إعداد سليمان بن صالح الخراشي.
(3)
الاختلاط وأهل الخلط، للشيخ عبد العزيز بن مرزوق الطريفي.
بِلَا جِلْبَابٍ، يَرَى الرَّجُلُ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا، وَكَانَ إذْ ذَاكَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُظْهِرَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَكَانَ حِينَئِذٍ يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا إظْهَارُهُ ثُمَّ لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ عز وجل آيَةَ الْحِجَابِ بِقَوْلِهِ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (الأحزاب: 59)، حَجَبَ النِّسَاءَ عَنْ الرِّجَالِ» (1).
وعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ، جَاءَ يَسْتَأَذِنُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ، قَالَتْ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ الله، أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عليّ» (رواه البخاري ومسلم).
قال الإمام ابن عبد البَرّ: «في هذا الحديث دليل على أن احتجاب النساء من الرجال لم يكن في أول الإسلام، وأنهم كانوا يرون النساء، ولا يستتر نساؤهم عن رجالهم، إلا بمثل ما كان يستتر رجالهم عن رجالهم، حتى نزلت آيات الحجاب» (2).
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَعَهُ» ، قَالَتْ عَائِشَةُ: «فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بَعْدَمَا نَزَلَ الْحِجَابُ
…
» (رواه البخاري).
(1) مجموع الفتاوى (22/ 110 - 111).
(2)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (6/ 235).
(3)
عمدة القاري (13/ 202).
قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث من صحيح البخاري: «قَوْله: (بَعْدَمَا نَزَلَ الْحِجَابُ) أَيْ بَعْدَمَا نَزَلَ الْأَمْر بِالْحِجَابِ، وَالْمُرَاد حِجَاب النِّسَاء عَنْ رُؤْيَة الرِّجَال لَهُنَّ، وَكُنَّ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُمْنَعْنَ» (1).
قال الشيخ ابن عثيمين: «
…
الحجاب إنما شُرِعَ بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحو خمس سنين أو ست سنين، وما ورد من الأحاديث مما ظاهره عدم الحجاب، فإنه يحمل على أن ذلك كان قبل نزول آيات الحجاب» (2).
التنبيه الثالث:
إن الشبهات التي يتمسك بها بعضهم لا تخرج عن كونها اختلاط مع التحرز لضرورة أو حاجة ملحة، أو ليس فيها مستمسك أصلًا، بل بعضها أدلة هي عند العقلاء حجة على مُورِدِها.
ولو أمعن القارئ الكريم النظر في الشبه التي يسوغ بها البعض أنواعًا من الاختلاط، لَوَجَدَ أن الإشكال يكمن في التمسك بأمور مجملة، حُمِلَتْ على معنى فاسد، ساق إليه ارتباط الذهن بواقع الناس اليوم، والواجب حمل المجمل على وجه صحيح دل عليه الشرع، ما أمكن ذلك، وبخاصة إذا جاء المجمل من صاحب الشريعة، أو من الجيل الذي عرف بالتزامه للشريعة.
ومن هذا القبيل ما يُستدل به على جواز الاختلاط من نحو شهود المسلمات في
(1) فتح الباري لابن حجر (8/ 457).
(2)
فتاوى النظر والخلوة والاختلاط جمع وترتيب محمد عبد العزيز المسند (ص 38 - 39).
العصر الأول للجمع والجماعات والأعياد، وكذلك حجهن واعتمارهن وجهادهن، ونحو ذلك، بعيدًا عن واقع الناس اليوم.
وأدلة تحريم الاختلاط كثيرة متضافرة، وليس لها ناقض أو معارض من النصوص، وغاية ما يتعلق به دعاة الاختلاط ظواهر نصوص من السنة لو ضموها إلى ما يقابلها من النصوص الأخرى لاتضح لهم تحريم الاختلاط.
وقد تعامى هؤلاء المفتونون عن نصوص عظيمة صريحة في المسألة ولجؤوا إلى مشتبهات إما من المنسوخات، وإما مما لا دليل لهم فيه من الأساس.
وهؤلاء يتمسكون بالمتشابه ويتركون المحكم، فمثلهم كمثل من يستدل على جواز شرب الخمر بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النساء: 43)، مع أن ذلك كان قبل تحريم الخمر.
ومعظم ما يستدل به دعاة الاختلاط لرد النصوص المحكمة في المنع منه إنما هي وقائع أحوال لا يصح الاستدلال بها أصلًا لمخالفتها لنصوص مُحْكَمَة، ويَرِدُ عليها كثير من الاحتمالات.
قَالِ الإمَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: «وَقَائِعُ الْأَحْوَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ كَسَاهَا ثَوْبَ
(1) السنة في مواجهة أعدائها (ص205).
الْإِجْمَالِ وَسَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال» (1).
والأدلة المحتملة لها حالتان:
الحالة الأولى: انفراد الدلالة دون معارض، كأن تكون عندنا مسألة منفردة حيث يأتي نص يحتمل الاستدلال لتلك المسألة، فيمكن الاستدلال به ولكن بشرط أن تكون تلك الفائدة لا معارض لها من الشريعة، على سبيل المثال حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَال:«إِنْ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لأَخٍ لِى صَغِيرٍ «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» (رواه البخاري ومسلم، والنُّغَيْر تَصْغِير النُّغَر، وَهُوَ طَائِر صَغِير).
فهَذَا الْحَدِيث فِيه فَوَائِد كَثِيرَة جَدًّا ـ ذكرها النووي وابن حجر في شرحهما لهذا الحديث من صحيحي البخاري ومسلم ـ مِنْهَا جَوَاز تَكْنِيَة الطِّفْل، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَذِبًا، وليس هناك دليل يعارض تكنية الصغير، فعندئذ نأخذ بتلك الدلالة علميًّا وعمليًّا.
وَهَذَا الْحَدِيث فِيه أَنَّ مُمَازَحَة الصَّبِيّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّز جَائِزَة، وَفِيهِ جَوَاز تَكْنِيَة مَنْ لَمْ يُولَد لَهُ، وَجَوَاز لَعِبِ الصَّغِير بِالطَّيْرِ، وَجَوَاز تَرْك الْأَبَوَيْنِ وَلَدهمَا الصَّغِير يَلْعَب بِمَا
(1) حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (3/ 365).
(2)
الاعتصام (1/ 320).
أُبِيحَ اللَّعِب بِهِ، وَجَوَاز إِنْفَاق الْمَال فِيمَا يَتَلَهَّى بِهِ الصَّغِير مِنْ الْمُبَاحَات، وَجَوَاز إِمْسَاك الطَّيْر فِي الْقَفَص وَنَحْوِهِ.
وكل هذه الاستنباطات من الحديث يؤخذ بها لأنه لا توجد أدلة أخرى تعارضها.
الحالة الثانية: اقتران الدلالة بوجود معارض في دليل آخر؛ فيقترن فيها دليلان ظاهرهما التعارض، فأحدهما ينص على المسألة نصا جازمًا) المحكم (، والآخر من المتشابهات مما يجعل الاحتمال يتطرق إليه فوجب إسقاط الاستدلال بذلك الدليل الثاني ليبقى العمل بالمحكم الأول فقط.
ومن ذلك الشبهات التي يتعلق بها دعاة الاختلاط.
فلو ساغ أن يُسْتَدَلَّ بفعل مجمل على ظاهره دون الرجوع إلى المحكم لاسْتَحَلَّ الناس الحرام القطعي بالظنون، ففي بعض النصوص قد تجد ذِكْرَ رجل مع امرأة، فهل يُسْتَدل بذلك على جواز الخلوة والاختلاط والعلاقات المحرمة لأنه لم يَرِدْ في النَصِّ ذكر الرحم بينهما؟!!!
إن الأصل في الشرع أن الرجل إذا وُجد مع امرأة تُحْمَل على أنه من محارمه إلا لظِنَّة أو شبهة، هذا الأصل في المسلمين فكيف بالصحابة والتابعين (1).
«إن ترك الدليل الواضح، والاستدلال بلفظ متشابه، هو طريق أهل الزيغ، كالرافضة، والخوارج، قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (آل عمران: 7)؛ والواجبُ عَلَى المسلم: اتباع المحكم، فإنْ عَرَفَ معنى المتشابه، وجده لا يخالف المحكم بل يوافقه، وإلا فالواجب عليه اتباع الراسخين
(1) الاختلاط، تحرير، وتقرير، وتعقيب، للشيخ عبد العزيز بن مرزوق الطريفي، (ص 22).
في العلم في قولهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (آل عمران:7).
ووفق اللهُ أهلَ العلم والإيمان للفهم السليم الذي به تأتلف نصوص الكتاب والسنة وتتسق، على منهجٍ علمي منضبط، مبني على التسليمِ لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، مستفيدين من فهوم العلماء الربانيين من سلفنا الصالح» (1).
التنبيه الرابع:
قَالَ الإمام الشاطبي: «من يأخذ الأدلة من أطراف العبارة الشرعية ولا ينظر بعضها ببعض، فيوشك أن يَزِلّ، وليس هذا من شأن الراسخين وإنما هو من شأن من استعجل طلبا للمخرج في دعواه» (2).
وَقَالَ أيضًا: «ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد: وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامّها المرتب على خاصّها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر بِبَيّنها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها،
…
ـ إلى أن قَالَ ـ فشأن الراسخين: تصور الشريعة صورة واحدة، يخدم بعضها بعضًا كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة، وشأنُ متبعي المتشابهات أخذ دليلٍ مَا أيّ دليل كان عفوًا وأخذًا أوليًا وإنْ كان ثم ما يعارضه من كلى أو جزئي، فكأن العضو الواحد لا يعطى في مفهوم أحكام الشريعة حكمًا حقيقيًّا، فمتبعه متبع متشابه، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ،
(1) انظر: إشكال وجوابه في حديث أم حرام بنت ملحان، لعلي بن عبد الله بن شديد الصياح المطيري (ص 22).
(2)
الاعتصام (1/ 223).
ما شهد الله به ومن أصدق من الله قيلا» (1).
وقال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية: «إذَا مَيَّزَ الْعَالِمُ بَيْنَ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وآله وسلم وَمَا لَمْ يَقُلْهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَفْهَمَ مُرَادَهُ وَيَفْقَهَ مَا قَالَهُ وَيَجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَيَضُمَّ كُلَّ شَكْلٍ إلَى شَكْلِهِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُ وَرَسُولُهُ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللهُ بَيْنَهُ وَرَسُولُهُ.
فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَجِبُ تَلَقِّيهِ وَقَبُولُهُ وَبِهِ سَادَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ» (2).
أما اختطاف الحكم مِنْ حَدِيثٍ عَابر، وقراءةٍ عَجلى مِنْ غير مراعاة لما وَرَدَ في الموضوع مِنْ آثار أخرى، ومن دون تصفية وتنقية فليسَ من عمل العلماء الصادقين.
فكثيرٌ ممن يتكلم على هذه المسائل لا يراعي هذه المقدمة مما يوقعهُ في أخطاء علمية، وعيوب منهجية، منها أن يتجاهل الباحث الأدلة المخالِفة لرأيه سواءً أكان ذلك بسبب إهماله أم تحيزه أم لأي سبب آخر.
وهذا العيب يلاحظُ في كتابات عدد ممن تطرق لبحث المسائل المتعلقة بالمرأة، فتجد أنَّ هناك حجبًا أو تجاهلًا للنصوص التي تخالف تَوَجُّه الكاتب كالنصوص التي تحرم الخلوة، أو تحرم مس المرأة الأجنبية، أو تحرم الاختلاط وتأمر المرأة بالمباعدة عن الرجال والقرار في البيوت ـ إلاّ ما لا بدَّ منه ـ، أو النصوص التي تأمر بلزوم الحجاب وغير ذلك (3).
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: «وقد يتعلق بعض دعاة الاختلاط ببعض ظواهر النصوص
(1) الاعتصام (1/ 245).
(2)
مجموع الفتاوى (27/ 316).
(3)
انظر: إشكال وجوابه في حديث أم حرام بنت ملحان، لعلي بن عبد الله المطيري (ص 24 - 25).
الشرعية التي لا يدرك مغزاها ومرماها إلا من نوّر الله قلبه، وتفقه في دين الله وضم الأدلة الشرعية بعضها إلى بعض، وكانت في تصوره وحدة لا يتجزأ بعضها عن بعض» (1).
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: «يجب على المسلم إذا بحث عن حكم مسألة إسلامية أن ينظر فيما يتصل بهذه المسألة من نصوص الكتاب والسنة، وما يتبع ذلك من الأدلة الشرعية، فهذا أقوم سبيلًا، وأهدى إلى إصابة الحق، ولا يقتصر في بحثها على جانب من أدلتها دون آخر، وإلا كان نظره ناقصًا، وكان شبيهًا بأهل الزيغ والهوى، الذين يتبعون ما تشابه من النصوص ابتغاء الفتنة، ورغبة في تأويلها على مقتضى الهوى.
ففي مثل هذا الموضوع يجب أن ينظر إلى نصوص الكتاب والسنة، في وجوب ستر المرأة عورتها، وفي تحريم النظرة الخائنة، وفي مقصد الشريعة من وجوب المحافظة على الأعراض والأنساب، وتحريم انتهاكها، والاعتداء عليها، وتحريم الوسائل المفضية إلى ذلك من خلوة امرأة بغير زوجها ومحارمها، وكشف عورتها وسفرها بلا محرم، واختلاط مريب، وإفضاء الرجل إلى الرجل والمرأة إلى المرأة في ثوب واحد، وإلى أمثال ذلك مما قد ينتهي إلى ارتكاب جريمة الفاحشة» (2).
التنبيه الخامس:
ما يستدل به دعاة الاختلاط إنما هو لقاء عارض وعابر ومحدود لغرض الحاجة أو السؤال، وينتهي مباشرة بعد انقضائها، وتلتزم فيه المرأة المسلمة بالحجاب الشرعي والحياء ولا تخضع بالقول؛ فكيف نستدل بهذا اللقاء العارض على جواز الاختلاط في العمل والتعليم حيث تمكث النساء مع الرجال الساعات الطوال ودوام شبه يومي؟؟!
(1) مجموع فتاوى ابن باز (1/ 423).
(2)
باختصار من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (17/ 84 - 85).
وليت أن الأمر يقف عند حد الاختلاط فقط وإنما التبرج والسفور، والخضوع بالقول مظاهر لا تكاد تخفى على أروقة الأماكن المختلطة.
التنبيه السادس:
بعض الأحاديث التي يستدل بها دعاة الاختلاط إنما حصلت مع كبيرات في السن ومعلوم أن الفتنة مأمونة مع العجائز، وكيف لنا أن نستدل بحادثة حصلت مع كبيرة في السن على جواز الاختلاط مع الشواب والفتيات؟؟!
التنبيه السابع:
عند النظر في هذه الأحاديث الصحيحة المُشْكلة التي قد يستدل به دعاة الاختلاط لابدَّ من ملاحظة أمرين:
الأوَّل: التصور السليم للحياة في عهد النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم كما هي من الطهر والعفاف والصدق والمحبة والإيثار والتضحية، والمبادرة إلى طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فما إنْ يَرِد الأمر والنهي إلاّ ويبادروا إليه دون تلكأ وتأخير رجالًا ونساء، ومن ثمّ يعوّدون صبيانهم على هذه الكمالات والفضائل، فلم تمرّ على الأمة الإسلامية أيام وسنين كتلك
(1) بتصرف من (الاختلاط، تحرير، وتقرير، وتعقيب)، للشيخ عبد العزيز بن مرزوق الطريفي، (ص 8).
التي مرت في عهد النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: التنبه لمدلول الألفاظ وما وقع فيها من تغاير بين زمان النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأزمنة المتأخرة فربما يقع اشتراك في لفظ معين بين هذا الزمان وزمان النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الكيفية والصفة والطريقة تختلف اختلافًا كبيرًا، يؤدي بالتالي إلى اختلاف الحكم؛ قَالَ ابنُ القيم:«فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، والعوائد والاحوال، وذلك كلُّه مِنْ دينِ الله» (1).
ومن ذلك تصور الناس اليوم لمعنى الدخول حيث يتصورون جلوس الرجال مع النساء في مكان واحد أمام بعضهم البعض والنساء كاشفات عن وجوههن وبعض أجسامهن ينظر بعضهم إلى بعض كما هو الحال اليوم؟
إن هذا مخالف لما كان عليه الصحابة والتابعين إذا احتاجوا إلى مخاطبة النساء الأجنبيات، قال الحافظ ابن حجر في معنى الدخول:«لَا يَلْزَم مِنْ الدُّخُول رَفْع الْحِجَاب فَقَدْ يَدْخُلَ مِنْ الْبَاب وَتُخَاطِبهُ مِنْ وَرَاء الْحِجَاب» (2).
عن مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: «سَمِعْتُ عَائِشَةَ وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ
…
». (رواه البخاري ومسلم). وحديث يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ: «
…
فَقَالَتْ عَائِشَةُ ـ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ ـ: «مَا أَنْزَلَ اللهُ فِينَا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ عُذْرِي» (رواه البخاري)، وقال الإمام البخاري في ترجمة عبد الله أبي الصهباء الباهلي:«ورأى سِتْرَ عائشة رضي الله عنها في المسجد الجامع، تُكَلِّم الناس من وراء السِّتر، وتُسأل من ورائه» (3).
ومما يوضح الفرق بين المحارم وغيرهم في معنى الدخول حديث سَعْدٍ بْنِ أَبِى
(1) إعلام الموقعين (4/ 205).
(2)
فتح الباري (9/ 286).
(3)
التاريخ الكبير (ترجمة رقم 359).
قَالَ: «عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَاّتِى كُنَّ عِنْدِى، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ» .
قَالَ عُمَرُ: «فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ يَهَبْنَ» . ثُمَّ قَالَ: «أَىْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ، أَتَهَبْنَنِى وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم؟» ، قُلْنَ:«نَعَمْ، أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم» .
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَاّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» . (رواه البخاري ومسلم).
فعمر رضي الله عنه استأذن في الدخول ثم دخل ولم يجلس معهن بل خاطبهن من وراء حجاب بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الحديث دلالة على وجوب الاحتجاب وتحريم الاختلاط، فبمجرد سماعهن لصوت عمر رضي الله عنه وهو يستأذن قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ، وهذا يدل على وجوب الاحتجاب من الرجل الأجنبي عند دخوله بيت صاحبه، وعدم مشروعية الاختلاط.
وفيه دلالة على التفريق بين مطلق الدخول ودخول الحجاب.
وأيضًا مما يوضح الفرق بين المحارم وغيرهم في معنى الدخول حديث الزُّهْرِىِّ قَالَ: حَدَّثَنِى عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الطُّفَيْلِ ـ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ وَهْوَ ابْنُ أَخِى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم لأُمِّهَا أَنَّ عَائِشَةَ حُدِّثَتْ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِى بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: «وَاللهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ، أَوْ لأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا» .
فَقَالَتْ: «أَهُوَ قَالَ هَذَا؟» ، قَالُوا:«نَعَمْ» .
قَالَتْ: «هُوَ لِلهِ عَلَىَّ نَذْرٌ، أَنْ لَا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا» . فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا، حِينَ طَالَتِ الْهِجْرَةُ فَقَالَتْ:«لَا وَاللهِ لَا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا، وَلَا أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِى» .
فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وَهُمَا مِنْ بَنِى زُهْرَةَ، وَقَالَ لَهُمَا:«أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِى عَلَى عَائِشَةَ، فَإِنَّهَا لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذُرَ قَطِيعَتِى» .
فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَا: «السَّلَامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، أَنَدْخُلُ؟» ، قَالَتْ عَائِشَةُ:«ادْخُلُوا» .
قَالُوا: «كُلُّنَا؟» . قَالَتْ: «نَعَمِ، ادْخُلُوا كُلُّكُمْ» ـ وَلَا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ ـ فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ، فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِى، وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إِلَاّ مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ، وَيَقُولَانِ إِنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ.
فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنَ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا وَتَبْكِى وَتَقُولُ: «إِنِّى نَذَرْتُ، وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ» . فَلَمْ يَزَالَا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتِ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَعْتَقَتْ فِى نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً. وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِى، حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا». (رواه البخاري).
فالمسور وعبد الرحمن دخلوا بيت عائشة ولم يدخلوا الحجاب، والذي دخل هو عبد الله بن الزبير لأنه عائشة رضي الله عنها خالته.
فهناك فرق بين قولهم: «دخلنا على عائشة» ، وقولهم:«دخلنا الحجاب» فمطلق الدخول لا يعني دخول الحجاب أو الجلوس وجهًا لوجه (1).
ومخاطبة الرجال الأجانب من وراء حجاب لم يكن مختصًا بأمهات المؤمنين بل
(1) انظر: الاختلاط بين الجنسين أحكامه وآثاره، د محمد بن عبد الله المسيميري، د محمد بن عبد الله الهبدان (ص197، 217).
كانت النساء إذا تعلّمن أو عَلّمن يكون ذلك من وراء حجاب، ففي مسند الإمام أحمد:«حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: جَاءَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَاسْتَأْذَنُوا عَلَى أَبِي الْأَشْهَبِ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَقَالُوا: «حَدِّثْنَا» ، قَالَ:«سَلُوا» ، فَقَالُوا:«مَا مَعَنَا شَيْءٌ نَسْأَلُكَ عَنْهُ» ، فَقَالَتْ ابْنَتُهُ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ:«سَلُوهُ عَنْ حَدِيثِ عَرْفَجَةَ بْنِ أَسْعَدَ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ» .
والشواهد كثيرة على أن مجالس سلف هذه الأمة وخيارها لم تكن مفتوحة على بعض بل كان بينها السّتور، كما أن نساء هذه الأمة لم يَكنّ يُعلّمن أو يَتعلّمن إلا من وراء حجاب وسِتر.
ومِنْ الألفاظ التي وقع فيها من تغاير بين زمان النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأزمنة المتأخرة (الغناء، والدّف) فقد تغيرتْ الكيفية والصفة في هذه الأزمنة وقبلها عن الغناء والدّف الذي كان على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بين ذلك الإمام ابنُ رَجَب بكلامٍ نفيسٍ قَالَ فيه ـ تعليقًا على حديث عَائِشَةَ رضي الله عنه في الصحيحين، قَالَتْ:«دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا» .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
«ولا ريب أنّ العرب كانَ لهم غناء يتغنون به، وكان لهم دفوف يضربون بها، وكان غناؤهم بأشعار أهل الجاهلية من ذكر الحروب وندب من قتل فيها، وكانت دفوفهم مثل الغرابيل، ليس فيها جلاجل،
…
فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما
كان أهل فارس والروم قد اعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة، على طريقة الموسيقى بالأشعار التي توصف فيها المحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس، المجبول محبته فيها، بآلات اللهو المطربة، المخرج سماعها عن الاعتدال، فحينئذ أنكر الصحابة الغناء واستماعه، ونهوا عنه وغلظوا فيه حتى قَالَ ابنُ مسعود:«الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل» .
وهذا يدل على أنهم فهموا أنَّ الغناءَ الذي رَخص فيه النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه لم يكن هذا الغناء، ولا آلاته هي هذه الآلات، وأنه إنما رخص فيما كان في عهده، مما يتعارفه العرب بآلاتهم.
فأما غناء الأعاجم بآلاتهم فلم تتناوله الرخصة، وإن سمي غناءً، وسميت آلاته دفوفا، لكن بينهما من التباين ما لا يخفى على عاقل، فإن غناء الأعاجم بآلاتها يثير الهوى، ويغير الطباع، ويدعو إلى المعاصي، فهو رقية الزنا.
وغناء الأعراب المرخص به، ليس فيه شيء من هذه المفاسد بالكلية البتة، فلا يدخل غناء الأعاجم في الرخصة لفظًا ولا معنىً، فإنه ليس هنالك نص عن الشارع بإباحة ما يسمى غناء ولا دفًّا، وإنما هي قضايا أعيان، وقع الإقرار عليها، وليس لها من عموم.
وليس الغناء والدف المرخص فيهما في معنى ما في غناء الأعاجم ودفوفها المصلصلة، لأنَّ غنائهم ودفوفهم تحرك الطباع وتهيجها إلى المحرمات، بخلاف غناء الأعراب، فمن قاس أحدهما على الآخر فقد أخطأ أقبح الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل، فقياسه من أفسد القياس وأبعده عن الصواب» (1).
وَقَالَ ابن القيم: «وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ
(1) فتح الباري (8/ 425 - 437).
- صلى الله عليه وآله وسلم وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ عليه السلام فَقَالَ: «دَعْهُمَا» ، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا».
فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي بكر تسمية الغناء مزمار الشيطان، وأقرهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل في يوم حرب بعاث من الشجاعة والحرب، وكان اليوم يوم عيد.
فتوسع حزب الشيطان في ذلك إلى صوتِ امرأةٍ جميلة أجنبيةٍ، أو صبي أمرد صوته فتنة، وصورته فتنة، يغَنّي بما يدعو إلى الزنى والفجور وشرب الخمور مع آلات اللهو التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عدة أحاديث، مع التصفيق والرقص وتلك الهيئة المنكرة التي لا يستحلها أحد من أهل الأديان فضلًا عن أهل العلم والإيمان.
ويحتجون بغناء جويريتين غير مكلفتين، بنشيد الأعراب ونحوه، في الشجاعة ونحوها، في يوم عيد، بغير شبابة ولا دف ولا رقص ولا تصفيق، ويَدَعون المُحْكَم الصريح لهذا المتشابه، وهذا شأن كل مُبْطِل، نعم نحن لا نحرم ولا نكره مثل ما كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك الوجه، وإنما نحرم ـ نحن وسائر أهل العلم والإيمان ـ السماع المخالف لذلك، وبالله التوفيق» (1).
رَحِمَ الله ابنَ القيّم كيفَ لو رأى ما حَدَثَ في هذه الأزمان المتأخرة من التجارة في أجساد النساء!!، والتفنن في ذلك، بأساليب عجيبة وطرائق مختلفة، عن طريق وسائل الأعلام المتنوعة التي يشاهدها ملايين البشر، والمفاسد العظيمة العامة التي ترتبت
(1) إغاثة اللهفان (1/ 257).
عليها، فالمسألة الآن أكبر من حكم الغناء والدف، فليتفطن لذلك من يتكلم على هذه المسائل، والله المستعان (1).
التنبيه الثامن:
الأصل في أفعال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأقواله وأحكامه عدم الخصوصية حتى تثبت بدليل؛ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (الأحزاب: 21)، فدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم قدوة الأمة في كل شيء، ولأنّ الصحابة كانوا يرجعون فيما أشكل عليهم إلى أفعاله فيقتدون به فيها.
واتفق العلماء على أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد خُصَّ في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد في باب الفرض والتحريم والتحليل مزيةً على الأمة، وهيبة له، ومرتبة خص بها ففرضت عليه أشياء لم تفرض على غيره، وحرمت عليه أشياء وأفعال لم تحرم عليهم، وحُللت له أشياء لم تحلل لهم، منها متفق عليه، ومنها مختلف فيه، وهذه الخصائص منها ما ثبت بالقرآن، ومنها ما ثبت بالسنة، ومنها ما يفهم من منطوق النصوص، ومنها ما يفهم من خلال الجمع والموازنة بين النصوص.
(1) إشكال وجوابه في حديث أم حرام بنت ملحان لعلي بن عبد الله المطيري (ص 27 - 32).
(2)
زاد المعاد (2/ 192).
وَقَدْ أَلَّفَ النَّاسُ فِي الْخَصَائِصِ كُتُبًا مُتَعَدِّدَةً وممن ألف في الخصائص القاضي عياض، وابن الملقن، والسيوطي وغيرهم.
وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْخَصَائِصِ لِئَلا يُعْتَقَدَ فِيمَا يُخَصُّ بِه صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَنَا.
فمن المجمع عليه: جواز نكاحه صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أربع نسوة. والتَّزَوُّجُ بِلا مَهْرٍ لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (الأحزاب:50).وتحريم نكاح أزوجه من بعده لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)} (الأحزاب:53)، وغير ذلك مما يطول ذكره مما ليس هذا محل بيانه وبسطه.
والسبب في ذكر هذه القاعدة التنبيه على أنَّ ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ مما قد يُفهم منه جواز الاختلاط أو الخلوة ـ قد قال بعض العلماء أنه كَانَ من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم، مع ما ثبت له صلى الله عليه وآله وسلم من العصمة (1).
ومما استدلوا به على الخصوصية قوله تعالى عن لوط وهو يعرض نساء قومه: {يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} (هود:78)، وبقول مجاهد في تفسيرها:«لم تكُنَّ بناتَه ولكن كنّ مِن أمَّتِه، وكل نبيّ أبو أمته» (2).
واستدلوا بقوله تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (الأحزاب: 6).
والاختلاط حُرِّمَ درءًا للمفسدة وهي منتفية منه صلى الله عليه وآله وسلم.
التنبيه التاسع:
قد يستدل دعاة الاختلاط بآثار عن الصحابة يظنون بفهمهم السقيم أنها تؤيد دعوتهم للاختلاط، ولكن هيهات، فبعض تلك الآثار لا تصح أصلًا، وبعضها ليس
(1) بتصرف من (إشكال وجوابه في حديث أم حرام بنت ملحان، (ص 33 - 35).
(2)
تفسير الطبري (15/ 414).
فيه ما يؤيد دعواهم، وإن صح استدلالهم به فليس لهم فيه حجة لأن قول الصحابي لا اعتبار له إذا خالف الكتاب والسنة، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (النساء: 59).
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «تَمَتَّعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يَقُولُ عُرَيَّةُ؟ قَالَ: يَقُولُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُرَاهُمْ سَيَهْلِكُونَ، أَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، وَيَقُولُ نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. (رواه الإمام أحمد وصححه الشيخ أحمد شاكر).
قال الحافظ ابن حجر: «يَا عُرَيَّة: وَهُوَ بِالتَّصْغِيرِ، وَأَصْله عُرَيْوَة فَاجْتَمَعَ حَرْفَا عِلَّة فَأُبْدِلَتْ الْوَاو يَاء ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الْأُخْرَى» (1).
علق الخطيب البغدادي على كلام عروة بن الزبير: «قلت: قد كان أبو بكر وعمر على ما وصفهما به عروة، إلا أنه لا ينبغي أن يُقَلَّدَ أحدٌ في ترك ما ثبتت به سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» (2).
وقال الذهبي في إيجاد العذر لعروة بن الزبير: «قُلْتُ: مَا قصد عُرْوَة مُعَارَضَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بِهِمَا، بَلْ رَأَى أَنَّهُمَا مَا نهيَا عَنِ الْمُتْعَة إِلَاّ وَقَدِ اطّلَعَا عَلَى نَاسِخ» (3).
إن بعض الناس قد يستدل للحكم على مسألة معينة بقول صحابي أو فعله أو فتواه، ويكون في السنّة دليل أشمل وأقوى وأوضح من فعل الصحابي، وقول الصحابي يجوز خلافه إذا وُجِدَ دليل يُخالفه من الكتاب والسُنَّة أو خالفه صحابي آخر، أو عُرف أنه مُجرد اجتهاد بدون دليل أو أنه مأخوذ من الإسرائيليات، مع أن كثيرًا من العلماء لا
(1) فتح الباري (8/ 220).
(2)
الفقيه والمتفقه (1/ 378).
(3)
سير اعلام النبلاء (15/ 243).
يقبلونه مُطلقًا لأنه اجتهاد فردي.
ولكن الراجح هو العمل بأقوال الصحابة التي لم يُخالفهم فيها من هو مثلهم؛ لأنهم شاهدوا التنزيل وصلوا وصاموا خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعلموا منه الكثير، فلأجل ذلك ذهب كثير من الأئمة إلى الاحتجاج بأقوالهم إذا لم يُخالفها أقوى منها.
التنبيه العاشر:
الردود على هذه الشبهات وأمثالها إنّما ينتفع بها طالب الحق المنصف الذي يطلب الحق بدليله، لا من يتبع زلات العلماء، ويستدل بها على ما يوافق هواه.
قال الشيخ سلمان العودة: «ما من عالم إلا وله زلة، أبى الله أن تكون العصمة لغير نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الخطير الولوع بالغرائب والزلات والتعلق بها، باعتبارها رأي فلان أو فلان ممن يشار إليهم بالبنان، وما فتيء العلماء يحذّرون من مسقطة يجريها الشيطان على لسان فاضل عليم، فعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟» قال: قلت: «لا» ، قال:«يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين» (1).
ولو أن إنسانًا أخذ بكل شواذ الأقوال وغرائبها لربما خرج من الدين وهو لم يخرج بعدُ من أقوال العلماء! ولذلك قيل:
وَلَيْسَ كلُّ خِلافٍ جاءَ مُعتَبَرًا
…
إِلا خِلافٌ لَه حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ» (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «دين الإسلام يوجب اتباع الحق مطلقًا، روايةً وفقهًا،
(1) رواه الإمام الدارمي (1/ 71)، وصححه الشيخ الألباني في (مشكاة المصابيح).
(2)
ضوابط للدراسات الفقهية للشيخ سلمان العودة (ص 118، 119) بتصرف.
من غير تعيين شخص أو طائفة، غير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم» (1).وقال أيضًا:«عادة بعض البلاد أو أكثرها، وقول كثير من العلماء، أو العبّاد، أو أكثرهم، ونحو ذلك ليس مما يصلح أن يكون معارضًا لكلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى يعارض به» (2).
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: «الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد البتة، حتى يتثبت ويسأل عن حكمه؛ إذ لعل المعتمَدُ على عمله يعمل على خلاف السُنّة، ولذلك قيل: لا تنظر إلى عمل العالم، ولكن سَلْه يصْدُقْك، وقالوا: ضعف الرويَّة أن يكون رأى فلانًا يعمل فيعمل مثله، ولعله فعله ساهيًا» (3).
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص 8).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم (ص245).
(3)
الاعتصام (2/ 508).