الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل فرَّقَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الاختلاط العارض واختلاط المكث
؟ (1)
حين نتدبر صور الاختلاط في عهد النبوة التي من جنس واحد يتبين لنا فعلًا كيف ميّز النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحكامها طبقًا لعامل الزمن، أو بشكل أدق طبقًا لقوة الإفضاء إلى الفتنة، قارن مثلًا بين (الصلاة والطواف) ففي الطواف لأنه يأخذ زمنًا يسيرًا عابرًا رخص لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الطواف في وقت واحد مع كون النساء حَجْرَة، أو من وراء الرجال، أو متنكرات في الليل فإذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال.
ففي صحيح البخاري أن ابن جريج قال لعطاء: «كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ؟» ، قال:«لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ، كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تَطُوفُ حَجْرَةً مِنْ الرِّجَالِ لَا تُخَالِطُهُمْ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: «انْطَلِقِي نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ» .قَالَتْ «انْطَلِقِي عَنْكِ» ، وَأَبَتْ» (2).
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنِّي أَشْتَكِي (3)، فَقَالَ: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِـ {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)} (الطور: 1 - 2). (رواه البخاري ومسلم).
ولكن في (الصلاة) ـ لأنها تأخذ زمنًا دوريًا متكررًا، وليست أمرًا عابرًا ـ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرخص لهم في الاختلاط، بل وضع للرجال مصلى، وللنساء مصلى مستقل عنهم، وكان ينتظر هو وأصحابه حتى ينصرف النساء؛ فعن الزُّهْرِيُّ عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي
(1) انظر: أقيسة الاختلاطيين لإبراهيم السكران (ص 9 - 13).
(2)
(حَجْرَة) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْجِيم بَعْدهَا رَاءٍ، أَيْ نَاحِيَة، قَالَ الْقَزَّاز: هُوَ مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ: نَزَلَ فُلَان حَجْرَة مِنْ النَّاس أَيْ مُعْتَزِلًا. (اِنْطَلِقِي عَنْك) أَيْ عَنْ جِهَةِ نَفْسك (فتح الباري 3/ 480).
(3)
(أَنِّي أَشْتَكِي) أَيْ أَنَّهَا كَانَتْ ضَعِيفَة لَا تَقْدِر عَلَى الطَّوَاف مَاشِيَة.
تَسْلِيمَهُ وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ»، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:«فَأُرَى وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنْ انْصَرَفَ مِنْ الْقَوْمِ» (رواه البخاري).
ولم يكتف بذلك، بل جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» (رواه مسلم).
«وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» ؛ لأنها أقرب إلى الرجال، برغم أن المصليات مستقلة!
فمن تأمل تصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التفريق والتمييز بين (اختلاط المطاف واختلاط المصلى) وكيف تسامح في أحدهما وتحفظ في الآخر، علم علمًا قطعيًا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاصد إلى التمييز بين هذه الصور، وعدم وضعها موضعًا واحدًا، وبالتالي فالاختلاط الذي يأخذ زمنًا دوريًا متكررًا لايجوز أن يقاس على الاختلاط العابر الذي يأخذ زمنًا يسيرًا عارضًا.
ومن صور الاختلاط التي ميز النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينها (الفتيا ومجلس العلم)، ففي الفتيا ـ لأنها مسألة واحدة في زمن يسير عابر ـ كانت المرأة تأتي وتسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى لو كان حوله رجال، لأنه اختلاط عارض في زمن يسير عابر، ومن ذلك أن تميمة بنت وهب امرأة رفاعة القرظي جاءت تستفتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر طلاقها وفي المجلس أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأبي بكر وخالد بن سعيد بن العاص، والقصة بتفصيلها رواها البخاري ومسلم.
ولكن في مجلس العلم ـ بسبب أنه اختلاط مُكْث ومجالسة ويأخذ زمنًا يحصل به رفع الكلفة وإلف كل من الطرفين للآخر ـ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأذن للنساء أن يختلطن بالرجال، بل فصل بينهم، ووضع لكل منهم مجلسًا مستقلًا، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:«قَالَتْ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: «غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ؛ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ» ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ» (رواه البخاري).