المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌9 - باب بدء الخلق، وذكر الأنبياء عليهم السلام - شرح المصابيح لابن الملك - جـ ٦

[ابن الملك]

فهرس الكتاب

- ‌6 - باب نزول عيسى عليه السلام

- ‌7 - باب قُرْبِ السَّاعَة وأنَّ مَنْ ماتَ فقد قامَتْ قيامَتُه

- ‌8 - باب لا تقومُ السَّاعةُ إلا على الشِّرارِ

- ‌1 - باب النَّفْخِ في الصورِ

- ‌2 - باب الحَشْرِ

- ‌3 - باب الحِسَابِ والقِصَاصِ والمِيْزانِ

- ‌4 - باب الحَوْضِ والشفاعة

- ‌5 - باب صِفَةِ الجَنَّةِ وأَهْلِهَا

- ‌6 - باب رُؤْيَةِ الله تَعالى

- ‌7 - باب صِفَةِ النَّار وأهلِها

- ‌8 - باب خَلْقِ الجَنَّةِ والنَّارِ

- ‌9 - باب بدءِ الخَلقِ، وذكرِ الأَنبياءِ عليهم السلام

- ‌1 - باب فَضَائِلِ سيدِ المُرسَلِينَ صلَوَاتُ الله عَلَيْهِ

- ‌2 - باب أَسْمَاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتُهُ

- ‌3 - باب في أَخْلاقِهِ وشَمَائِلِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌4 - باب المَبْعَثِ وَبدْءِ الوَحْيِ

- ‌5 - باب علامات النبوة

- ‌فصل في المِعْرَاجِ

- ‌فصل في المُعْجِزَاتِ

- ‌6 - باب الكَرَامَاتِ

- ‌7 - باب(باب في بيان هجرة أصحابه من مكة)

- ‌8 - باب

- ‌1 - باب في مَناقبِ قريشٍ وَذِكرِ القَبَائِلِ

- ‌2 - باب مناقب الصحابة رضي الله عنهم

- ‌3 - باب مَناقِبِ أَبي بَكرٍ الصِّديقِ رضي الله عنه

- ‌4 - باب مَناقِبِ عُمَرَ بن الخَطابِ رضي الله عنه

- ‌5 - باب مَنَاقِبِ أَبي بَكْرِ وَعُمَرَ رضي الله عنهما

- ‌6 - باب مَنَاقِبِ عُثمانَ في عَفَّانَ رضي الله عنه

- ‌7 - باب مَنَاقِبِ هؤلاءِ الثَّلاثة رضي الله عنهم

- ‌8 - باب مَنَاقِبِ عَلِيِّ في أَبي طالب رضي الله عنه

- ‌9 - باب مَنَاقِبِ العَشرَةِ رضي الله عنهم

- ‌10 - باب مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

- ‌11 - باب مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌12 - باب جَامِعِ المَنَاقِبِ

- ‌13 - باب ذِكْرِ اليَمَنِ وَالشَّامِ، وَذِكْرِ أُوَيْسِ القَرَنِيِّ رضي الله عنه

- ‌14 - باب ثوَابِ هذِهِ الأُمَّةِ

الفصل: ‌9 - باب بدء الخلق، وذكر الأنبياء عليهم السلام

‌9 - باب بدءِ الخَلقِ، وذكرِ الأَنبياءِ عليهم السلام

(باب بدء الخلق وذكر الأنبياء)

مِنَ الصِّحَاحِ:

4422 -

عن عِمرانَ بن حُصَينٍ رضي الله عنه: أنَّه قال: إنِّي كُنْتُ عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ جاءَهُ قَوْمٌ منْ بني تَميمٍ، فقالَ:" اقبَلُوا البُشْرَى يَا بني تميمٍ ". قالوا: بَشَّرتَنا فأَعِطِنا، فَدَخَلَ ناسٌ منْ أهلِ اليَمَنِ، فقالَ:" اقبَلُوا البُشْرَى يا أَهْلَ اليمنِ إذْ لم يَقْبَلْها بنو تميمٍ ". قالوا: قبلْنا، جِئْناك لنَتَفَقَّهَ في الدِّينِ، ولنَسْأَلكَ عنْ أَوَّلِ هذا الأَمْرِ ما كان؟ قالَ: كانَ الله ولَمْ يكنْ شَيْءٌ قبلَهُ، وكانَ عَرْشُهُ علَى الماءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ، وكَتَبَ في الذِّكْرِ كلَّ شيءٍ ". ثُمَّ أتاني رَجُلٌ فقالَ: يا عِمرانُ! أدْرِكْ ناقَتَكَ فقدْ ذَهَبَتْ، فانطلَقْتُ أَطلُبُها، وايْمُ الله لودِدْتُ أنَّها قد ذَهبَتْ ولمْ أقُمْ ".

"من الصحاح":

" عن عِمْرَان بن حصين رضي الله عنه أنه قال: إني كنْتُ عند النبي صلى الله عليه وسلم إِذْ جاءهُ قومٌ مِنْ بني تميم "؛ أي: وقت مجيئهم.

" فقال: اقبلوا البُشْرَى يا بني تميم، قالوا: بَشَّرْتَنَا "؛ أي: قَبْلَ هذا بالرحمة والجنة.

" فأَعْطِنا "؛ أي: الآن حاجتنا من الدنيا، وإنما قالوا هذا؛ لعدم وثوقهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم وارتهان هممهم بالحظوظ الدنيوية.

" فدخل ناس من أهل اليمن، فقال: اقبلوا البُشْرَى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قَبِلْنَا جِئْنَاك لنتفقَّه في الدِّين "؛ أي: لنتعلَّم الفقه وأحكام الشرع.

ص: 146

" ولنسألك عن أوَّل هذا الأمر "؛ أي: هذا الخلق.

" ما كان "؛ يعني: ما خُلِقَ أولًا قبل خلق السماوات والأرض.

" قال: كان الله، ولم يكن قبله شيء "؛ يعني: أنه الأول قبل كل شيء، ولا شيء قبله.

" وكان عرشه على الماء "؛ يعني: أنهما كانا مخلوقَيْن قبل السماوات والأرض، ولم يكن تحت العرش قبل خَلْقِهِمَا إلا الماء، فالعرش على الماء، والماء على متن الريح، والريح قائمة بقدرة الله القديمة.

" ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذِّكْرِ "؛ أي: أثبت في اللوح المحفوظ.

" كلَّ شيء " مما هو كائن.

" ثم أتاني رجل فقال: يا عِمْرَان أدرِكْ ناقَتَكَ، فقد ذهبَتْ، فانطلقْتُ "؛ أي: فذهبْتُ " أطلبها "؛ أي: الناقة.

" وايم الله ": قال الكوفيون: هو محذوف عن أَيْمُن، جمع يمين، والهمزة للقطع، وعند سيبويه: كلمة بنفسها وُضِعَتْ للقسم، وليسَتْ جمعًا، والهمزة للوصل.

" لَوَدِدْتُ "؛ أي: تمنَّيت واشتهيت.

" أنها قد ذهبَتْ ولم أَقُمْ ".

* * *

4423 -

عن عُمَرَ رضي الله عنه قالَ: قامَ فينا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَقامًا، فأَخْبَرَنا عنْ بِدْءِ الخَلْقِ حتَّى دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ منازِلَهُمْ، وأهلُ النَّارِ منازِلَهُمْ، حَفِظَ ذلكَ مَنْ حَفِظَهُ، ونسَيَهُ مَنْ نَسِيَه ".

ص: 147

" عن عمر رضي الله عنه قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم "؛ أي: خطبنا.

" مَقَامًا "؛ أي: قيامًا.

" فأخبرنا عن بِدْءَ الخلق حتى دخلَ أهلُ الجنَّةِ منازِلَهُمْ وأهلُ النَّار منازِلَهُمْ "؛ يعني: أخبرنا عن أحوال جميع الأمم، وعن أحوال أُمَّته مما يجري عليهم من الخير والشر إلى أن يدخل أهل الجنةِ الجنةَ منهم وأهل النار النار.

" حفظ ذلك "؛ أي: الأخبار.

" مَنْ حَفِظَه، ونَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ ".

* * *

4424 -

وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: " إنَّ الله تعالى كتبَ كِتابًا قبلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضبَي، فهو مَكْتوبٌ عِندَهُ فَوْقَ العَرْشِ ".

" قال أبو هريرة رضي الله عنه قال: [سمعت] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله كتب "؛ أي: أثْبَتَ " كتابًا قبل أن يخلُقَ الخَلْقَ: إن رحمتي سَبَقَتْ غضبي "، معنى سبقها: أن قِسْطَ الخَلْقِ منها أكثر مِنْ قِسْطِهِمْ من الغضب؛ لنيلهم إيَّاها بلا استحقاق، والغضب بالاستحقاق، فهو يرحم البر والفاجر في الدنيا والآخرة، ولا يغضب إلا على الفاجر.

وقيل: رحمة الله: إرادة الخير لعباده، وغضبه: إرادة عقوبتهم، فمعنى سبقها: أنه لا يعجِّل عقوبة الكفار والعصاة، بل يرزقهم الله ويعافيهم ويحفظهم عن الآفات، ويَقْبَلُ توبتهم إذا تابوا.

" فهو مكتوبٌ عنده "؛ أي: ذلك الكتاب مثبت في علمه الأزلي.

" فوق العرش ": معنى كونه فوقه: ثبوته مستورًا عن جميع الخَلْقِ مرفوعًا

ص: 148

عن حَيِّزِ الإدراك، لا أن فوقه مكانًا.

* * *

4425 -

وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: " خُلِقَتِ المَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وخُلِقَ الجَانُّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ، وخُلِقَ آدمُ مِمَّا وُصِفَ لكُم ".

" عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: خُلِقَتِ الملائكة من نور، وخُلِقَ الجانُّ ": أبو الجنِّ.

" من مَارِج من نار "؛ أي: من لهب مختلط بسواد النار.

" وخُلِقَ آدم مما وُصِفَ لكم "؛ أي: من الطِّين، أو هو إشارة إلى قوله تعالى:{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14].

* * *

4426 -

وعن أنسٍ رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " لمَّا صَوَّرَ الله آدمَ في الجَنَّةِ تَرَكَهُ ما شاءَ الله أنْ يترُكَهُ، فجَعَلَ إبْليسُ يُطيفُ بهِ يَنظُرُ ما هوَ، فلَمَّا رآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمالَكُ ".

" وعن أنس رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما صَوَّرَ الله آدمَ في الجنة تركَهُ ما شاء الله أن يترُكَه ": ظاهر الحديث على أنه خُلِقَ في الجنة، والأخبار دالة على أن الله تعالى خَلَقَ آدم من تُرَابٍ قبضه من وجه الأرض، وخَمَّرَهُ حتى صار طينًا، ثم تركه حتى صار صلصالًا، وكان ملقًى بين مكة والطائف ببطن نُعْمان، وهو من أودية عرفات.

وقيل: ذلك لا ينافي تصويره في الجنة؛ فإنه من الجائز أن تكون طينته لما خُمِّرَتْ في الأرض وتُرِكَتْ فيها حتى مَضَتْ عليها الأطوار واستعدَّتْ لقَبُول

ص: 149

الصُّورة الإنسانية، حُمِلَتْ إلى الجنة، فصوَّرَتْ ونُفِخَ فيها الروح.

ولعله لما كان مادة آدم - عليه الصلوات والسلام - التي هي البدن من العالم السفلي أضاف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تكوُّن مادته إلى الأرض؛ لأنها نشأَتْ فيها، ولما كانت صورته التي بها يضاهي المَلَك، وبها يتميز عن سائر الحيوانات من العالم العلوي أضاف صورته إلى الجنة.

" فجعل ": الفاء للعطف على قوله: (تركه)؛ أي: شرع.

" إبليس يُطِيْفُ به يَنْظُرُ ما هو "؛ أي: يتفكَّر في عاقبة أمره، وماذا يظهر منه.

" فلما رآه أجوف ": وهو الذي له جوف.

" عرف أنه خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمَالك "؛ أي: لا يقدر أن يملك نفسه عن المنع من الشَّهوات، وقيل: أي: لا يتماسك، وقيل: لا يملك بعضه بعضًا، بل يكون فيه أبعاض مختلفة، فيصدر منه ما يوجب تغير الأحوال عليه، وعدم الاستمرار على الطاعة، ويكون محتاجًا إلى الطعام والشَّراب والنِّكاح.

* * *

4427 -

عن أنسٍ رضي الله عنه: قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا خَيْرَ البرِيَّةِ، فقالَ:" ذاكَ إَبْراهِيْمُ ".

" وعنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا خَيْرَ البَرِيَّة ": فعيلة مِنْ برأ، بمعنى خَلَقَ؛ أي: المخلوق.

" فقال: ذاك "؛ أي: خَيْرُ البَرِيَّة " إبراهيم "، إنما قاله صلى الله عليه وسلم تواضعًا مع أسلافه الأكرمين، وإلا فنبيُّنا عليه الصلاة والسلام سيِّد الأولين والآخرين، أو لأن هذه الصفة مختصَّة به، وله أن يُنْعِمَ بها على غيره كالصَّلاة عليه المخْصُوصَةِ به،

ص: 150

وقد كان يصلِّي على معطي الزكاة.

* * *

4428 -

وعن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " اِخْتَتَنَ إِبْراهيمُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وهوَ ابن ثَمانينَ سَنَةً بالقَدُومِ ".

" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اختتَنَ إبراهيم النبي عليه الصلاة والسلام وهو ابن ثمانين سنةً بالقَدُوِمِ " بفتح القاف وتخفيف الدَّال: اسم موضع، وقيل: قرية بالشام، فالباء بمعنى (في)، وقيل: أراد به قَدُوم النَّجار، وهذا وهم، وقيل: بالتشديد وهو غلط.

* * *

4429 -

وعن أَبِي هُريرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لمْ يَكْذِبْ إبْراهيمُ إلَّا ثلاثَ كَذَباتٍ: ثِنتَيْنِ مِنْهُنَّ في كتابِ الله تعالَى: قولهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} ، وقولهُ:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} .

وقالَ: بَينا هُوَ ذاتَ يومٍ وسارَةُ إذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبابرَةِ، فقيلَ لهُ: إنَّ ها هُنا رَجُلًا مَعَهُ امرأةٌ منْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فأَرْسَلَ إليهِ فَسَألَهُ عنها: مَنْ هذِهِ؟ قال: أُخْتي. فأتَى سارَةَ فقالَ لها: إنَّ هذا الجَبَّارَ إنْ يَعْلَمْ أنَّكِ امرأتي يغلِبني عليكِ، فإنْ سَأَلكِ فأخبريهِ أنَّكِ أُخْتي، فإنَّك أُخْتِي في الإِسلامِ، ليسَ علَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْري وغَيْرُكِ. فأَرْسَلَ إليها فأُتِيَ بها، وقامَ إِبْراهيمُ يُصَلَّي، فلَمَّا دخَلَتْ عليهِ ذَهَبَ يتناوَلُها بيدِهِ فأُخِذَ - ويُروَى فغُطَّ حتَّى رَكضَ برِجْلِه - فقالَ: ادعِي الله لي ولا أَضُرُّكِ، فدعَتِ الله فأُطلِقَ، ثُمَّ تناوَلَها الثَّانِيَةَ فأُخِذَ مِثْلَها أو أَشَدَّ، فقال: ادعِي الله لي ولا أَضُرُّكِ، فدعَتِ الله فأُطلِقَ، فدَعا بعضَ حجَبتِهِ فقالَ: إنَّكَ لَمْ تأتِني بإنسانٍ إنَّما أَتَيتَني بشَيْطانٍ، فأَخْدَمَها هاجَرَ، فأتَتْهُ

ص: 151

وهو قائِمٌ يُصَلِّي، فأَوْمَأَ بيدِهِ مَهْيَمْ؟ قالت: رَدَّ الله كَيْدَ الكافرِ في نَحْرِهِ وأَخْدَمَ هاجَر ".

قال أبو هُريرَةَ رضي الله عنه: تِلْكَ أُمُّكُم يا بني ماءِ السَّماءِ.

" وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يكذِبْ إبراهيم إلا ثلاث كَذَبَات، ثنتين منهنَّ "؛ أي: من الكذبات الثلاث.

" في ذات الله "؛ أي: لأجل الله، وقيل: أي: في أمر الله، وفيما يتعلق بتنزيه ذات الله عن الشَّريك، ويجوز أن يُرَاد به: القرآن؛ أي: في كلام الله، عَبَّرَ به عنه لما لم ينفك الكلام عن المتكلِّم، كما هو رأي الأشعري.

" قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} ": حين طلبوا منه عليه السلام أن يخرج معهم إلى عيدهم، فأراد أن يتخلف عن الأمر الذي هم به، فنظر نظرةً في علم النجوم، فقال:{إِنِّي سَقِيمٌ} ؛ أي: خارج مزاجي عن حَدِّ الاعتدال.

" وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ": حين كسر عليه السلام أصنامهم إلا كبيرها، وعَلَّقَ الفأس في عنقه، نَسَبَ ذلك إلى كبيرهم؛ إثباتًا للحُجَّة عليهم؛ لأنهم إذا نظروا النَّظر الصحيح علموا عَجْزَ كبيرهم.

" وقال: بينا هو ذاتَ يوم وسَارة ": بنت عم إبراهيم وزوجته، وكانت هي أحسن النساء وَجْهَا شِبْهَ حواء في حُسْنِها، تزوَّجها إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعدما أهلك الله عدوه نمرود، فعزم على الخروج بها نحو الشام.

" إذ أتى على جَبَّارٍ من الجبابرة، فقيل له: إن هاهنا رجلًا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها مَنْ هذه؛ قال: أختي "؛ يعني: أختي في الدين، قيل: إنما عدل عن الإخبار بالزوجيَّة إلى الأختيَّة؛ لأن في دين ذلك الملك الجبار لا يحل له التَّزوج، ولا التَّمتع بقرابات الأنبياء، وقيل: كان من عادته أن لا يتعرض إلا لذوات الأزواج.

ص: 152

وإنما سمى ذلك كذبًا، وإن كان من المعارض؛ لعلوِّ شأن الأنبياء عن الكناية بالحق، فيقع ذلك منهم موقع الكذب من غيرهم؛ لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقيل: لتصورها بصورة الكذب.

" فأتى "؛ أي: إبراهيم.

" سارة، فقال لها: إنَّ هذا الجبار إنْ يعلَمْ أنَّك امرأتي يَغْلِبني عليك، فإن سأَلَكِ فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك فأرسل "؛ أي: الجبَّار " إليها، فأُتِيَ بها، فقام إبراهيم يصلِّي، فلمَّا دخلَتْ عليه ذهب يَتَنَاوَلُها "؛ أي: أراد تناولها.

" بيده فَأُخِذَ ": على صيغة المجهول؛ أي: حُبِسَ عن إمساكها، وقيل: أي: عوقب بذنبه، وقيل: أي: أغمي عليه.

" ويروى: فَغُطَّ " بالغين المعجمة والطاء المهملة المشددة، على صيغة المجهول؛ أي: حصرًا شديدًا، أو قيل: الغَطُّ هنا: بمعنى الخَنْق؛ أي: أخذ [بمجامع] مجاري نفسه حتى يُسْمَع له غطيط؛ أي: نخير، وهو صوتٌ بالأنف.

" حتى ركض برجله "؛ أي: ضرب بها الأرض من شِدَّة الغَطِّ.

" فقال: ادْعِي الله لي ولا أَضُرُّكِ فَدَعَتِ الله فَأُطْلِقَ، ثم تناولها الثانية فأُخِذَ مثلها، أو أَشَدَّ فقال: ادْعِي الله لي ولا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ الله فَأُطْلِقَ فدعا "؛ أي: طلبَ الجبَّار " بعض حَجَبَتِهِ ": جمع حاجب.

" فقال: إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان "؛ أي: متمرِّد من الجنِّ، قاله لأنهم كانوا يهابون الجنَّ ويعظِّمون أمرهم.

" فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ "؛ أي: فجعل ذلك الجبَّار سارة تخدمها هَاجَرَ، وهي أم إسماعيل عليه السلام، وأرسلها طاهرةً لما رأى من كرامتها عند الله، قيل: إنما سميت هاجر؛ لأنها هاجَرَتْ من الشَّام إلى مكة.

ص: 153

" فأتته وهو قائم يصلِّي فأَوْمأ "؛ أي: أشار إبراهيم " بيده ": إلى سارة، وهو في الصلاة.

" مَهْيَمْ "؛ أي: ما شأنك، وهي كلمة استخبار بلغة اليمن، وقد جعلت لفظة (مَهْيَمْ) هنا مفسرة للإيماء، وليست بترجمة لقوله عليه السلام، وإلا لكان من حقِّه أن يقال: فأومأ بيده وقال: مهيم.

" قالت: رَدَّ الله كَيْدَ الكافر في نَحْرِه "؛ أي: في صدره.

" وأَخْدَمَ هَاجَرَ ": قيل: كان لا يولد له من سارة، فوهبَتْ هَاجَرَ له، وقالت: عسى الله أن يرزقَكَ منها ولدًا، وكان إبراهيم يومئذ ابن مئة سنة.

" قال أبو هريرة رضي الله عنه: تلك "؛ أي: هَاجَر.

" أمُّكم يا بني ماء السماء ": يريد به العرب؛ لأنهم يعيشون بماء المطر، وقيل: أي: يا بني إبراهيم الطاهر كماء السماء، خاطبهم به تنبيهًا على طهارة نسبهم.

وقيل: أراد بهم الأنصار؛ لأنهم أولاد عامر بن حارثة الأزدي جد نعمان بن المنذر، وكان ملقبًا بماء السماء؛ لأنه كان يُسْتَمطر به.

وقيل: أشار بذلك إلى كونهم مِنْ وَلَدِ هَاجَرَ؛ لأن إسماعيل عليه الصلاة والسلام أنبع الله له ماء زمزم، وهي ماء السماء.

* * *

4430 -

وعن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قالَ: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قال: " أكرَمُهُمْ عِنْدَ الله أتقاهُمْ " قالوا: لَيْسَ عنْ هذا نَسْألُكَ، قالَ:" فأَكْرَمُ النَّاسِ يوسُفُ نبَيُّ الله ابن نبَيِّ الله ابن نبيِّ الله ابن خليلِ الله ". قالوا: ليسَ عنْ هذا نَسْألُكَ، قال:" فعَنْ معادِنِ العَرَبِ تسألُونني؟ " قالوا: نَعَم، قالَ:

ص: 154

" فخِيارُكُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيارُكُمْ في الإِسلامِ إذا فَقِهُوا ".

" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ الناس أَكْرَمُ؟ قال: أكرمُهُمْ عند الله أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألُكَ، قال: فأكرم الناس ": الفاء: جواب شرط مقدَّر؛ أي: إذا لم تسألوني عن هذا فأكرم الناس؛ أي: في زمانه.

" يوسُفُ ": وهو مبتدأ قُدِّمَ خبره للعناية به.

" نبي الله ": صفة.

" ابن نبيِّ الله "؛ يعني: يعقوب عليه السلام.

" ابن نبيِّ الله "؛ يعني: إسحاق عليه السلام.

" ابن خليل الله "؛ أي: إبراهيم عليه السلام.

" قالوا: ليس عن هذا نسألُكَ، قال: فَعَنْ معادن العرب "؛ أي: عن أصولهم.

" تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخيارُكُمْ في الجاهلية "؛ أي: بالمآثر.

" خيارُكُمْ في الإسلام إذا فَقِهُوا "؛ أي: إذا صاروا عالمين في أحكام الشريعة.

* * *

4431 -

وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:" الكَرِيمُ ابن الكَريمِ ابن الكَريمِ ابن الكَريمِ: يوسُفُ بن يعقوبَ بن إِسْحاقَ بن إبْراهيَم ".

" وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ": اسم جامع لكلِّ ما يُحْمَد به.

ص: 155

فيوسُفُ بن يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيم ": اجتمع في يوسف مع كونه ابن ثلاثة أنبياء متراسلين: شرف النبوة، وحسن الصورة، وعلم الرؤيا، ورئاسة الدنيا، وحياطة الرعايا في القَحْط والبلايا، وأنَّى رجل أكرم مِنْ هذا؛! * * *

4432 -

وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " نَحْنُ أَحَقُّ بالشَّكِّ مِنْ إبراهيمَ إذْ قالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}، وَيرْحَمُ الله لُوْطًا لقدْ كانَ يأْوِي إلى رُكْنٍ شَديدٍ، ولوْ لبثْتُ في السِّجنِ طُولَ ما لَبثَ يوسُفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِي ".

" وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: نحن أحقُّ بالشَّكِّ مِنْ إبراهيم إذْ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} ": قيل: لما نزلت هذه الآية قالوا: شَكَّ إبراهيم، ولم يشك نبينا فقال صلى الله عليه وسلم تواضعًا:(نحن أحقُّ بالشكِّ من إبراهيم).

والقصد: نفي الشكِّ عن إبراهيم عليه السلام لا إثبات الشكِّ لنفسه، يعني: نحن لا نشكُّ فكيف يشكُّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام بسؤاله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} ، مع علوِّ درجته؛ لأنه أري ملكوت السموات والأرض، وإنما سأل عن ذلك لزيادة العلم بالمشاهدة؛ فإنها تفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال، أراد بذلك: تعظيم شأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكمال فكرته وعلوِّ همته الطالبة لحصول الاطمئنان بالوصول إلى درجة العَيَان.

" ويرحَمُ الله لوطًا لقَدْ كان يأْوِي إلى رُكْنٍ شديدٍ ": حين قصد قومه أضْيَافه بسوء ظانيِّن أنهم غلمان، وهم الملائكة نزلوا على صُورة المرد الحِسَان، كان يناظرهم من وراء الباب مغلقًا فقال:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]؛

ص: 156

يعني: لو أن لي بدفعكم قوة البدن، أو انضم إليَّ عشيرة منيعة لدفعناكم ما صدر عنه عليه السلام هذا القول إلا حين صعب عليه الأمر، وضاق الصدر، فدعا له النبي صلى تعالى عليه وسلم بالمغفرة؛ لأنه استغرب هذا القول وَعَدَّه نادرةً، إذ لا رُكْنَ أشدُّ من ضمان الله وكلامه له، فلما رأى المَلَكُ ما به من الاحتراق قالوا له: يا لوط إن ركنك لشديد إنا رسل ربك.

" ولو لبثْتُ في السِّجن طول ما لبث يوسف لأجبْتُ الدَّاعي "؛ أي: داعي المَلِكِ، ولم أقلْ لرسول المَلِكِ:{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]، مدحه عليه السلام على شدَّة صبره، وترك استعجاله للخروج من السجن مع امتداده.

قيل: إن يوسف عليه الصلاة والسلام أشْفَقَ أَنْ يراه الملِكُ بعين مَشْكُوْكٍ في أمره مُتَّهَمٍ بفاحشة، فأحبَّ أن يراه بعد أن يزول عن قلبه ما كان فيه مُتَّهم.

* * *

4433 -

وقالَ: " إنَّ مُوْسى صلواتُ الله عليه كانَ رَجُلًا حَييًّا سِتِّيرًا لا يُرَى منْ جِلْدِهِ شَيءٌ استِحْياءً، فآذاهُ مَنْ آذاهُ منْ بني إِسْرائيِلَ فقالوا: ما يَتَسَتَّرُ هذا التَّستُّرَ إلا مِنْ عَيْبٍ بجِلدِهِ: أمَّا بَرَصٍ أو أُدْرَةٍ، وإنَّ الله أرادَ أنْ يُبَرِّئهُ، فَخَلا يَوْمًا وَحْدَهُ لِيَغْتَسِلَ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ على حَجَرٍ، فَفَرَّ الحَجَرُ بثَوْبهِ، فجَمَحَ مُوْسى في إثْرِهِ يقولُ: ثَوْبي يا حَجَرُ، ثَوْبي يا حجرُ، حتَّى انتهَى إلى مَلإٍ منْ بني إِسْرائيلَ فرأَوْهُ عُرْيانا أَحْسَنَ ما خَلَقَ الله، وقالوا: والله ما بِمُوسى منْ بَأْسٍ، وأَخَذَ ثوبَهُ وطَفَقِ بالحَجَرِ ضَرْبًا، فوالله إنَّ بالحَجَرِ لَنَدَبًا منْ أثرِ ضربهِ " ثلاثًا أو أَرْبَعًا أو خَمْسًا.

ص: 157

" وقال: إنَّ موسى عليه السلام كان رجلًا حَيِيًّا "؛ أي: مُسْتَحْيِيًا.

" سِتِّيرًا "؛ أي: مستورًا، يعني: كان من شأنه أن يَسْتُرَ جميع بدنه عند اغتساله.

" لا يُرَى من جِلْدِهِ شيءٌ استحياءً، فآذاه مَنْ آذاه من بني إسرائيل " بأن نسبوا إليه العيوب.

" فقالوا: ما تستَّر هذا التَّسَتُّرَ إلا من عَيْبٍ بجلده: إمَّا بَرَصٌ أو أُدْرَةٌ " بالضم ثم السكون: نفخةً في الخصية.

" وإن الله أراد أَنْ يُبَرِّئَهُ": مما قالوا.

" فخلا يومًا وحدَهُ ليغتَسِلَ فوضَعَ ثَوْبَهُ على حجر، ففرَّ الحجر بثوبه فَجَمَحَ موسى "؛ أي: عَدَا وأَسْرَعَ إسراعًا.

" في إِثْرِهِ "؛ أي: عقيب الحجر.

" يقول: ثوبي "؛ أي: دع ثوبي.

" يا حجر، ثوبي يا حجر، حتى انتهى إلى ملأ "؛ أي: وصل إلى جماعة الأشراف.

" من بني إسرائيل، فرأوه عُرْيَانًا أَحْسَنَ ما خلق الله، وقالوا: والله ما بموسى من بأس "؛ أي: عيب.

" وأخذ ثوبه فطَفِقَ "؛ أي: شرع موسى " بالحجر ضَرْبًا ": تمييز، ضَرْبُهُ الحجر لا يعد سَفَهًا عند ثوران الغضب؛ شفاء للغيظ، مع العلم بأن الحجر لا يتأثر بالضرب، أو يقال: حسب أنه شيطان أرسل إليه في صورة حجر.

" فوالله، إنَّ بالحجر لَنَدَبًا ": بالتحريك؛ أي: أثر الجرح.

" من أثَرِ ضَرْبِهِ ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا ": (أو) هذه للشكِّ من الراوي

ص: 158

يتعلق بالضَّرب، أو بالنَّدَبِ.

* * *

4434 -

وقالَ: " بَيْنا أيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرادٌ منْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أيُّوبُ يَحْتَثِي في ثَوبهِ، فناداه ربُّه: يا أيُّوبُ أَلَمْ أكُنْ أغنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وعِزَّتِكَ، ولَكنْ لا غِنى بِيْ عَنْ بَرَكَتِك ".

" وقال: بينما أيوب عليه الصلاة والسلام يغتسل عُرْيَانًا فَخَرَّ عليه "؛ أي: سقط من عُلُوٍ.

" جَرَادٌ من ذَهَبٍ فَجَعَلَ "؛ أي: أراد أيوب أن " يَحْتَثِي "؛ أي: يجمع " في ثوبه، فناداه ربه: يا أيُّوبُ، ألم أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ "؛ أي: جعلتك ذا غنًى.

" عمَّا ترى؛ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غِنَاءَ بي عن بَرَكَتِكَ " وإنْعَامِكَ عليَّ.

* * *

4435 -

عَنْ أَبِي هُريْرَةَ رضي الله عنه أنَّهُ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ المُسلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ اليَهودِ، فَقَالَ المُسلمُ: والَّذي اصطَفَى مُحمَّدًا على العَالَمِيْنَ، فقالَ اليَهُودِيُّ: والذي اصْطَفَى مُوسَى علَى العَالَمِينَ، فَرَفعَ المُسْلمُ يدَهُ عندَ ذلكَ فلطَمَ وَجْهَ اليَهُوديِّ، فَذَهبَ اليَهُودِيُّ إِلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فأخبَرَهُ بِمَا كَانَ منْ أَمْرِهِ وأَمْرِ المُسلِم، فدَعا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم المُسلِمَ فَسَألَهُ عَنْ ذلكَ، فأخبَرَه، فَقَالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:" لا تُخيِّروني على موسَى، فإنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يومَ القِيامَةِ فَأَصْعَقُ مَعَهُم فأكون أوَّلَ من يُفيقُ، فإذَا موسَى باطِشٌ بجانِبِ العَرشِ، فلا أَدْرِي كَانَ فيمَنْ صَعِقَ فأفاقَ قَبْلِي، أوْ كَانَ مِمَّنْ استَثْنَى الله ".

وفي رِوَايَةٍ: " فَلَا أَدْرِي أحُوسِبَ بصَعقةِ يَومِ الطُّورِ أَوْ بُعِثَ قَبْلِي،

ص: 159

ولا أَقُولُ إنَّ أَحَدًا أَفضَلُ مِنْ يونسُ بن مَتَّى ".

وفي رِوَايَةٍ: " لا تُخيِّروا بينَ الأَنبياءِ ".

وفي رواية: " لا تُفضلُوا بَيْنَ أَنْبياءِ الله ".

" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: استَبَّ رجلٌ من المسلمين ورجلٌ من اليهود "؛ أي: جرى بينهما السَّبُّ؛ أي: الشَّتم.

" فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين، فقال اليهود: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك، فلطَمَ وَجْهَ اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان مِنْ أمره وأمر المسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك، فأخبره، فقال النبي: عليه الصلاة والسلام: لا تُخَيِّرُوني "؛ أي: لا تُفَضِّلُوني " على موسى ".

وإنما نهى عليه الصلاة والسلام عن تفضيله عليه مِنْ تلقاء أنفسهم؛ تواضعًا منه صلى الله عليه وسلم، وزَجْرًا للأمة عن تفضيل بعض الأنبياء على بعض من عند أنفسهم؛ لأداء ذلك إلى العَصَبِيَّة وإلى الإفراط في محبةِ نبي، والتفريط في محبة آخر، أو الإزراء به، وهو كفر.

" فإن الناس يَصْعَقُون "؛ أي: يصيرون مغشيًّا عليهم.

" يوم القيامة، فَأَصْعَقُ معهم ": قيل: هذه الصَّعْقَة بعد البعث عند نفخة الفزع.

" فأكون أول مَنْ يفيق، فإذا موسى بَاطِشٌ بجانب العَرْشِ "؛ أي: متعلِّق به بقوة.

" فلا أدري، كان فيمن صَعِقَ فأفاق قَبْلي، أو كان مِمَّنِ استثنى الله " في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68].

ص: 160

" وفي رواية: فلا أدري أحوسب "؛ أي: عوفي.

" بصعقة يوم الطور، أو بُعِثَ قبلي، ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يُونُسَ ابن مَتَّى "؛ أي: لا أقول ذلك مِنْ تلقاء نفسي، ولا أفضِّل أحدًا عليه من حيث النبوة والرسالة، فإن الأنبياء كلهم متساوون فيها؛ لأن النبوة شيء واحد لا تفاضل فيها، وإنما التفاضل باعتبار الدرجات كما قال تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]، وإنما خصَّه بالذّكر لما قصَّ الله تعالى عليه في كتابه العزيز من أمر يونس عليه الصلاة والسلام بقلَّة احتماله عن قومه وإعراضه عنهم، قال تعالى:{وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] وقال: {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] فلم يأمن عليه السلام أن يعتقد الضعفاء من أمته نقصانًا في شأنه، فنبَّههم أنَّ ذلك ليس بقادح فيما آتاه الله من فضله.

" وفي رواية أبي سعيد الخدري: لا تخيروا بين الأنبياء، وفي رواية: لا تفضلوا بين أنبياء الله "؛ معناه: ترك التفضيل على وجه الإزراء ببعض؛ فإن ذلك يكون سببًا لفساد الاعتقاد في بعضهم، وذلك كفر.

* * *

4436 -

وقَالَ: " مَا ينبَغي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إنِّي خَيرٌ مِنْ يونُسَ بن مَتَّى ".

" وقال: ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خيرٌ من يونس بن متَّى ": قيل: (مَتَّى): اسم أمِّ يونس.

* * *

4437 -

وقَالَ: " مَنْ قَالَ أَنا خَيرٌ مِنْ يونُسَ بن مَتَّى فقدْ كَذَبَ ".

ص: 161

" وقال: مَنْ قال: أنا خيرٌ من يونس بن مَتَّى ": يحتمل أن يكون لفظ (أنا) واقعًا موقع هو، ويكون راجعًا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ يعني: مَنْ فضَّلني على يونس في النبوة.

" فقد كَذَبَ "؛ أي: كفر، كنَّى به عن الكفر؛ لأن هذا الكذب مساوٍ للكفر.

* * *

4438 -

وعَنْ أُبَيِّ بن كعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الغُلامَ الذي قَتَلَهُ الخَضرُ طُبعَ كَافِرًا، ولوْ عَاشَ لأَرهَقَ أبوَيْهِ طُغيانًا وكُفرًا ".

" وعن أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الغلام الذي قتلَهُ الخَضِر " بفتح الخاء وكسر الضاد " طُبِعَ "؛ أي: خُلِقَ " كافرًا ".

والتوفيق بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: " كلُّ مولود يُوْلَدُ على الفِطْرَة " أن المراد بالفطرة: استعداده قبول الإسلام، وذلك لا ينافي كونه شقيًا في جِبِلَّته.

" ولو عَاشَ لأَرْهَقَ أبوَيْه "؛ أي: غَشِيَهما " طغيانًا " عليهما، " وكفرًا " لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، أو معناه: حملهما حُبُّهُ على أن يَتَّبِعَاه فيطغيا.

* * *

4439 -

وعَنْ أَبِي هُريرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إنَّما سُمِّيَ الخَضرَ لأنَّهُ جَلَسَ على فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فإذَا هِيَ تَهْتزُّ منْ خَلْفِهِ خَضراءَ ".

" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما سُمِّيَ الخَضِرُ ": بالرفع قائم مقام الفاعل، ومفعوله الثاني محذوف؛ أي: خَضِرًا.

" لأنه جلس على فَرْوَةٍ "؛ أي: قطعة أرضٍ يابسةٍ.

ص: 162

" بيضاء "؛ يعني: خالية من النبات.

" فإذا هي تهتزُّ "؛ أي: تتحرَّك.

" من تحته خضراء ": حال من الضمير العائد إلى (الفروة)، قيل: اسم الخضر: بليا، والخضر لقبٌ له، وهو كان من بني إسرائيل، وقيل: كان من أبناء الملوك الذين تزهدوا في الدنيا، وكان في أيام أفريدون، قبل موسى عليه الصلاة والسلام، وكان مقدمة جيش ذي القرنين، وبقي إلى أيام موسى عليه الصلاة والسلام.

* * *

4440 -

وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ مَلَكُ المَوْتِ إلى مُوسَى فَقَالَ لهُ: أَجِبْ رَبَّكَ، قَالَ: فَلَطَمَ موسَى عينَ مَلَكِ الموتِ فَفَقأَهَا، قال: فرَجَعَ المَلَكُ إلَى الله تَعَالَى فَقَالَ: إنَّكَ أَرْسَلْتَني إلى عَبدٍ لكَ لا يُريدُ المَوتَ وقَدْ فقأَ عَيْني، قَالَ: فردَّ الله إلَيْهِ عَيْنَهُ وقَالَ: ارجِعْ إلَى عَبدِي فَقُل: الحَيَاةَ تَريدُ؟ فإنْ كُنْتَ تُريْدُ الحَياةَ، فضَعْ يدَكَ علَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا وارَتْ يدُكَ منْ شَعْرةٍ فإنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنةً، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ، قَالَ: فالآنَ مِنْ قَرِيب، رَبِّ! أَدْنِني مِنَ الأَرْضِ المُقدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجرٍ. قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:" والله لوْ أنِّي عِندهُ، لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إلى جَنْبِ الطَّريقِ عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ ".

" وعنه أنه قال: جاء مَلَكُ الموت إلى موسى بن عِمْرَان، فقال له: أجِبْ رَبَّكَ، قال: فَلَطَمَ موسى "؛ أي: ضرب بباطن كَفِّه.

" عَيْنَ مَلَكِ الموت فَفَقَأَها "؛ أي: قلع عينه وأعماها، واللَّطْمَة: أَثَّرَتْ في العين الصُّورية لا في العين الملكية، فإنها غير متأثرة بها.

قيل: إن الله تعالى لإكرامه إيَّاه ولطفه به لم يأمر الملك بِأَخْذِ روحه قَهْرًا،

ص: 163

بل أرسَلَهُ في صورة بشر مُنْذِرًا بالموت، وأمره بالتَّعرض على سبيل الامتحان، وكان في طبعه حدة حتى روي: أنه كان إذا غضب اشتعلَتْ قلنسوته نارًا؛ لحدَّة طبعه، وقد جَرَتِ السُّنَّة بدفع القاصد بسوء، فلما نظر إلى شخص يقصد إهلاكه وهو لا يعرفه، دَفَعَ عن نفسه، وكان في دَفْعِهِ ذهاب عينه الصُّورية.

وقيل: إنما لطمها موسى عليه السلام؛ لأن الأنبياء - عليهم الصلاة والمسلام - كانوا مخيَّرين من عند الله آخر الأمر بأحد الشيئين؛ إما الحياة، وإما الوفاة، فأقدم ملك الموت على قَبْضِ روحه قبل التَّخيير.

" قال: فرجع الملك إلى الله تعالى، فقال: إنك أرسلتني إلى عَبْدٍ لك لا يريد الموت، وقَدْ فَقَأَ عيني قالْ فَرَدَّ الله إليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي ": وإنما ردَّ إليه رسوله ليعلم إذا رأى صحَّة عينه المفقوءة أنه رسول الله بعثه لقبض روحه، فيستسلم لأمره ويطيب نفسًا بقضائه.

" فَقُل: الحياةَ تريدُ؟ فإنْ كُنْتَ تريدُ الحياةَ فَضَعْ يَدَكَ على مَتْنِ ثَوْرٍ، فما تَوَارَتْ يَدُكَ من شَعْرَةٍ فإنك تعيش بها "؛ أي: بكل شعرة من تلك الشعور " سنة، قال "؛ أي: موسى عليه السلام: " ثم مَهْ؛ ": استفهام؛ أي: ثُمَّ ما يكون بعد ذلك؟

" قال "؛ أي: ملك الموت: " ثم تموت، قال "؛ أي: موسى عليه السلام: " فالآن من قَرِيبٍ، ربِّ أَدْنِني "؛ أي: قرِّبني " من الأرض المقدَّسة رَمْيَة بِحَجَر "؛ أي: إدْنَاءً مثل رمية بحجر.

" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لو أني عنده لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إلى جَنْبِ الطَّريق عند الكَثِيْبِ "؛ أي: المجتمع من الرمل " الأحمر ".

* * *

ص: 164

4441 -

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَرَرْتُ على مُوسَى لَيْلةَ اُسرِيَ بي عِندَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ، وهُوَ قائِمٌ يُصلِّي في قبرِهِ ".

" عن أنس رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مررْتُ على موسى ليلةَ ": نصب على الظرف.

" أُسري بي ": الباء للتعدية.

" عند الكَثِيبِ الأحمر، وهو قائم ": الواو للحال.

" يُصَلِّي ": في موضع الحال من ضمير (قائم)، يعني: قائمًا مصليًا.

" في قبره ": صلاة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم عبارة عن زيادة درجاتهم بعد الموت، فإن الصلاة والسَّجدة فيها خاصية قُرْب من الله تعالى قال الله تعالى:{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].

* * *

4442 -

وعَنْ جَابرٍ رضي الله عنه: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: " عُرِضَ عليَّ الأنبياءُ، فإذا مُوسَى ضَرْبٌ من الرِّجَالِ كأنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَة، ورَأَيتُ عِيْسَى بن مَرْيمَ فإذَا أَقْربُ مَنْ رَأَيتُ بهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بن مَسْعُودٍ، ورَأيتُ إِبْراهيْمَ فإذا أَقْربُ مَنْ رَأَيتُ بهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي: نَفسَهُ -، ورَأَيْتُ جِبْرِيْلَ فإذا أَقْربُ مَنْ رَأَيتُ بهِ شَبَهًا دِحْيَةُ بن خَليفةَ ".

" عن جابر رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: عُرِضَ عليَّ الأنبياء "؛ أي: أرواحهم متشكِّلين بالصُّوَر التي كانوا عليها في الدنيا مع الأجساد.

" فإذا موسى ضَرْبٌ من الرجال ": الضَّرْبُ: الرجل الخفيف اللحم.

" كأنه من رجال شَنُوءَة ": قبيلة من اليمن، يقال لهم: أَزْد شَنُوءَة، وهي لغة: التَّباعد عن الأدناس، لعلهم لُقِّبوا بذلك لطهارة نسبهم وحسن سيرتهم.

ص: 165

" ورأيت عيسى بن مريم، فإذا أَقْرَبُ من رأيت به شَبَهًا عُرْوَةُ بن مسعود ": (إذا) للمفاجأة، و (أقرب) مبتدأ، خبره (عروة)، الجار والمجرور متعلق بقوله:(شبهًا) وهو تمييز، أو مفعول (رأيت).

" ورأيْتُ إبراهيم فإذا أَقْرَبُ مَنْ رأيْتُ به شَبَهًا صاحِبُكُم؛ يعني "؛ أي: يريد النبي عليه الصلاة والسلام " نفسه، ورأيت جبريل، فإذا أقرَبُ مَنْ رأيْتُ به شَبَهًا دَحْيَةُ " بفتح الدال وكسرها " ابن خَلِيْفَة ".

* * *

4443 -

عَنِ ابن عبَّاسٍ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" رَأَيتُ لَيْلةَ أُسرِيَ بي موسَى رَجُلًا آدمَ طُوَالًا جَعْدًا كانَّهُ منْ رِجَالِ شَنوءَةَ، ورَأَيتُ عيسَى رَجُلًا مَربوعَ الخَلْقِ إلى الحُمرَةِ والبَيَاضِ سَبطَ الرَّأسِ، ورَأَيتُ مالِكًا خَازِنَ النَّارِ، والدَّجالَ في آياتٍ أَرَاهُنَّ الله إيَّاهُ {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} ".

" وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيتُ ليلَةَ أُسْرِيَ بي موسى رَجُلًا آدَمَ "؛ أي: أسمر.

" طُوَالًا "، وهو - بضم الطاء وتخفيف الواو -: الطويل جدًا.

" جَعْدًا "، وهو - بفتح الجيم وسكون العين -: ضد السَّبْط وهو مسترسل الشعر.

" كأنه من رجال شَنُوءَة، ورأيت عيسى رَجُلًا مَرْبُوع الخَلْقِ "؛ يعني: ليس بالطويل ولا بالقصير.

" إلى الحُمْرَةِ والبَيَاض "؛ أي: لونه بينهما.

" سَبِطَ الرأس "؛ أي: شعر رأسه.

" ورأيت مالِكًا خازِنَ النار، والدَّجَّال في آياتٍ ": جمع آية، وهي العلامة.

ص: 166

"أَرَاهُنَّ الله إيَّاه": الجملة صفة (آيات)، قيل: هو من كلام الرَّاوي ألحقه بالحديث؛ دفعاً لاستبعاد السَّامعين، وإماطة ما عسى يختلج في صدورهم يدل عليه قوله:(إياه)، ولو كان من كلامه عليه السلام لقال: إياي.

{فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ} ؛ أي: في شك.

{مِنْ لِقَائِهِ} "؛ أي: مِنْ رُؤْية محمدٍ هذه الأشياء، ووصوله إلى مشاهدتها، وقيل: معناه وتقديره: رأى عليه السلام الدَّجَّال مع آيات أُخَر ما حكاها، فإذا كان خروجه موعوداً فلا تكن في مِرْيَة من لقائه؛ أي: من لقاء الدَّجَّال.

4444 -

عَنْ أَبي هُريْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْلَةَ أُسرِيَ بِي لَقِيتُ موسَى - فَنَعَتَهُ -، فإذا رَجلُ مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الشَّعرِ، كأنَّه منْ رِجالِ شَنُوءَةَ، ولَقيْتُ عيسَى رَبْعَة أَحمَرُ، كأنَّما خرجَ منْ دِيْمَاسٍ - يعني: الحَمَّام - ورأيتُ إبْراهِيمَ صلَواتُ الله عَلَيْهِ، وأنا أشبَهُ ولدِهِ بهِ، قَالَ: وأُتِيتُ بإنَاءَيْنِ أحدُهُما لَبن والآخَرُ فيهِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لي: خُذْ أيهُمَا شئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبن فشرِبْتُهُ، فَقِيْلَ لي: هُدِيتَ الفِطْرةَ، أَمَا إنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الخَمرَ غوَتْ أُمَّتُكَ".

"عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليلةَ أُسْرِيَ بي لَقِيْتُ موسى - فَنَعَتَهُ - فإذا هو رَجل مُضْطَرِبٌ"؛ أي: [كان] مستقيم القَدِّ حادًا، فإن موسى كان فيه حِدَّة، والرجل الحاد يكون قلقاً متحركاً، فكان فيه اضطراباً، وقيل: معناه: كان مضطربا من خشية الله، وهو من صفة الأنبياء.

"رَجِل الشَّعر" بفتح الراء وكسر الجيم؛ أي: غير شديد الجعودة والسُّبُوطة، بل بينهما.

ص: 167

"كأنه من رجال شَنُوْءَة، ورأيت عيسى عليه السلام رَبْعَة"؛ أي: مَرْبُوْعَ القامة لا طويل ولا قصير، وأنَّث على تأويل النفس.

"أحمر، كأنما خرج من ديماس" بفتح الدال وكسرها؛ "يعني: الحَمَّام، ورأيت إبراهيم، وأنا أَشْبَهُ وَلَدِه به، قال: وأُوْبيْتُ لإناءَيْنِ أحدهما لَبن، والآخر فيه خَمرٌ": فيه إشعارٌ بأن اللَّبن كان أكْثر من الخمر.

"فقيل في: خُذْ أيهما شِئْتَ، فأخذْتُ اللبن فشربته، فقيل لي: هُدِيْتَ الفِطْرَةَ"؛ أي: التي فُطِرَ الناس عليها، وفي هذا القول له عند أخذ اللبن لطف ومناسبة، فإن اللبن لما كان في العالم الحسِّي ذا خلوص وبياض، وأول ما يحصل به تربية المولود صيغ في عالم القدسي مثال الهداية والفطرة التي يتمُّ بها تربية القوة الروحانية؛ لأن العالم القدسي قد تُصاغ فيه الصور من العالم الحسي لإدراك المعاني.

"أَمَا": كلمة تنبيه.

"إنَّك" بكسر الهمزة "لو أخذت الخمر": بدل اللبن.

"غَوَتْ"؛ أي: ضَلَّتْ.

"أمتك": فإن الخمر لكونه ذات تَلَفٍ (1) ومفسدة صيغ منها مثال الغواية، وما يفسد القوة الروحانية.

4445 -

عَنِ ابن عبَّاسِ قَالَ: سِرْنا معَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بينَ مكَّةَ والمَدِينَةِ، فَمَرَزنا بِوادٍ فَقَالَ:"أيُّ وادٍ هذَا؟ " فَقَالوا وَادِي الأَزْرَقِ، قَالَ: "كأنّي أنظُرُ إلى موسَى، فذكرَ منْ لونهِ وشَعره شَيْئاً، واضعًا أُصبُعَيْهِ في أُذُنيهِ، لَهُ جُؤارٌ إلى الله

(1) في "غ": "كلف".

ص: 168

بالتَّلبيَةِ مارًّا بهذا الوَادِي"، قَالَ: ثُمَّ سِرْنا حتَّى أتيْنا عَلَى ثَنِيَّةٍ فَقَال: "أيُّ ثَنِيةٍ هذهِ؟ " قالوا: هرشَى أو: لِفْتٌ، فَقَال: "كَأنِّي أنظُرُ إِلَى يُونسُ عَلَى ناقَةٍ حَمراء، عليهِ جُبَّةُ صُوفٍ، خِطامُ ناقَتِهِ خُلْبَةٌ مَارًّا بِهذا الوَادِي مُلبياً".

"عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سِرْنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين مكَّة والمدينة فمررنا بِوَادٍ، فقال: أيُّ وَادٍ هذا؟ فقالوا: وادي الأزرق": سمي به؛ لزرقة مائه، وقيل: منسوب إلى رجل بعينه.

"قال: كأني أنظر إلى موسى"؛ والمراد به: الحقيقة، وإنما عَبَّرَ بلفظ كأني لئلا يلزموه الإراءة.

"فذكر من لونه وشَعَره شيئًا، وَاضِعًا": حال من موسى؛ أي: حال كونه واضعاً.

"إصْبَعَيْهِ في أُذُنيهِ، له جُؤَار"؛ أي: صِيَاح وتضرُّع.

"إلى الله تعالى بالتَّلبية، مارًّا بهذا الوادي قال: ثم سِرْنَا حتى أتينا على ثَنِيَّةِ": اسم موضع.

"فقال: أيُّ ثَنِيَّةٍ هذه؛ قالوا: هرشَى": - بالشين المعجمة - على مثال شكرى، ثنيَّة بين مكة والمدينة، وقيل: جبل بقرب الجحفة.

"أو لفت" بسكون الفاء وكسرها، وفتحها وفتح اللام، ويروى بكسر اللام مع سكون الفاء: ثنيَّةٌ أيضاً، [شلَّ] بينهما.

"فقال صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى يونس على نَاقَةٍ حمرَاءَ عليه جُبَّةُ صُوفٍ خِطَام ناقته"؛ أي: زمامها.

"خُلْبَة" بضم الخاء المعجمة وسكون اللام، قيل: وضمها أيضاً: واحد خُلْب، وهو الليف، وقد يسمى الحبل نفسه خُلْبةً.

ص: 169

"ماراً بهذا الوادي ملبِّياً".

4446 -

عَنْ أَبي هُريْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"خُفِّفَ عَلَى داودَ القُرآنُ، فكَانَ يأمرُ بدوابهِ فتُسرَجُ، فَيقْرَأُ القُرآنَ قبلَ أنْ تُسرجُ دَوابُّهُ، ولا يأكُلُ إِلَاّ مِنْ عَمِلِ يدهِ".

"عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي على الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: خُفِّفَ على داود القرآن"؛ أي: القرآءة، ويحتمل المقروء.

"فكان يأمر بدوابِّه": جمع الدابة، وهي التي تُركَب، والمراد هنا: الفرس.

"فتُسْرَجُ، فيقرأ القرآن"؛ أي: المقروء، والمراد به: الزَّبور؛ يعني: خفف عليه قراءة الزبور بحيث لو أمر بِسرْج دابته مبتدئاً في قراءته لفرغ من قراءته.

"قبل أن تُسْرَجَ دابته": وهذا من جُملة معجزاته عليه السلام، وهذا الحديث يدل على جواز على الزَّمان.

"ولا يأكل إلا من عمل يديه".

4447 -

وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كَانتْ اِمرأتانِ مَعَهُما ابناهُما، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهبَ بابن إحدَاهُما، فَقَالتْ صَاحِبَتُها: إنَّما ذَهبَ بِابنكِ، وقَالَتِ: الأُخرى: إنَّما ذَهبَ بابنكِ، فتَحَاكمَتا إِلى داوْدَ، فَقَضَى بهِ لِلْكُبرى، فخَرجَتَا عَلَى سُلَيْمانَ بن داودَ، فَاَخْبَرتَاهُ فَقَال: ائتوني بالسِّكِّينِ أشقُّهُ بَيْنَكُما، فَقَالتْ الصُّغرَى، لَا تَفعَلْ، يَرحَمُكَ الله، هُوَ ابنها، فَقَضَى بهِ للصُّغرَى".

ص: 170

"عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذِّئْبُ، فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكما"؛ أي: ترافعا الأمر.

"إلى داود": للحُكْم.

"فقضى به"؛ أي: حَكَم بالابن.

"للكُبْرَى، فخرجتا" من عند داود، ودخلتا "على سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام فأخبرتاه" ما حكم داود بذلك، فألهمه الله تعالى بما كان محرِّكا للرحمة والمحبة البعضية.

"فقال: ائتوني بالسِّكين أشقُّه بينكما، فقالَتْ الصغرى" خوفاً على ذهاب روح الابن: "لا تفعل": يا نبيَّ الله. "يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به"؛ أي: حَكَمَ سليمان بالابن "للصغرى": لوجود هذه القرينة المعيِّنة لها، وهي الرِّقة والشفقة.

اعلم أن قضاءهما كان حقًّا بالاجتهاد، وكان مُسْتَنَدُ حكمهما في هذه القضية نفس القرينة، لكنَّ قرينة سليمان أقوى من حيث الظاهر.

قيل: يحتمل أن قرائن الأحوال كانت في شرعهم بمثابة البيِّنة فلذا حكموا بها.

4448 -

عَنْ أَبي هُريرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "قالَ سُلَيْمانُ صلَواتُ الله عليهِ: لأَطوفَنَّ اللَّيلةَ عَلَى تِسعِيْنَ اَمرأةً - وفي رِوَايَةٍ: على مِئَةِ امرأةٍ - كُلُّهنَّ تأتِي بِفارِسٍ يُجاهِدُ في سَبيلِ الله، فَقَالَ لهُ المَلَكُ: قُلْ: إنْ شاءَ الله، فلم يقُلْ ونَسِيَ، فَطَافَ عليهِنَّ، فلم تحمِلْ منهُنَّ إلَّا امرأة واحِدةٌ جَاءَتْ بشِقِّ رَجُلٍ،

ص: 171

وايْمُ الَّذي نَفْسُ محمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ الله، لَجَاهدُوا في سَبيْلِ الله فُرسَاناً أَجْمَعُونَ".

"وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال سليمان" عليه الصلاة والسلام: "لأطوفَنَّ": اللام فيه جواب قسم مُقَدَّر تقديره: والله لأطوفَنَّ.

"الليلةَ على تسعين امرأة": والطواف هنا: كناية عن الجماع.

"وفي رواية: بمئة امرأة كلُّهنَّ": مبتدأ، وخبره "تأتي"؛ أي: تلد.

"بفارسٍ يُجَاهد": صفة لـ (فارسٍ).

"في سبيل الله، فقال له الملَكُ: قُلْ: إن شاء الله، فلم يقل فنسي، فطاف عليهن"؛ أي: جامع كلهنَّ.

"فلم تحمِلْ منهنَّ إلا امرأة واحدة جاءَتْ بشقِّ رجل"؛ أي: بنصفه، ونصفه الآخر أَشَل.

"وايم الذي نفس محمدٍ بيده": وهذا قسم.

"لو قال"؛ أي: سليمان عليه الصلاة والسلام: "إن شاء الله، لجاهدوا"؛ أي: لحصل مقصوده، وحملَتْ كل واحدة منهنَّ، وأتَتْ بفارس فجاهدوا.

"في سبيل الله فرساناً": نصب على الحال من ضمير (جاهدوا).

"أجمعون": تأكيد للضمير، أو حال أيضاً.

4449 -

وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ زكرِيَّا نجَّاراً".

"وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان زكريَّا نجَّاراً": ينجر

ص: 172

الخشبة؛ أي: ينحتها.

4450 -

وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى بن مَريمَ في الأولَى والآخِرةِ، الأَنْبيَاءُ إِخْوةٌ مِنْ عَلَاّت، وأُمهاتُهُمْ شَتَّى، ودينُهُم واحِدٌ، ولَيْسَ بَيْننا نبِيٌّ".

"وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أَوْلَى الناس"؛ أي: أقربهم.

"بعيسى بن مريم في الأُوْلَى"؛ أي: في الدنيا "والآخرة"، لأنه أقرب المسلمين إليه، ودينه متَّصل بدينه، ومبشر به، وداعٍ للخلق إلى دينه وتصديقه.

"الأنبياء إخوةٌ من عَلَاّت"؛ أي: من أبٍ واحد.

"وأمهاتهم شتى"؛ أي: متفرقة.

"ودينهم واحد"؛ يريد به: أن دينهم واحد في الأصل، وهو إرشاد الخَلْقِ إلى الحقِّ، فهذا كالأب المتحد، وشرائعهم مختلفة وهي كالأمهات المختلفة.

"وليس بيننا"؛ أي: ليس بيني وبينه.

"نبي": بل جئْتُ بعده كما قال الله تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].

4451 -

وعَنْ أَبي هُريرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بني آدمَ يَطْعنُ الشَّيْطانُ في جَنبَيْهِ بإصبعَيْه حِينَ يُولَدُ، غيرَ عيسَى بن مَرْيمَ، ذَهبَ يَطْعنُ فَطَعنَ فَوَقعَ في الحِجَابِ".

ص: 173

"وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ابن آدم يَطْعن الشيطان" بفتح العين وضمها، والطَّعْنُ: الضَّربُ، وهنا: المسُّ.

"في جَنْبَيْهِ بإصبعيه"؛ يعني: السبابة والوسطى.

"حين يُوْلَد": وقيل: الطَّعْنُ: كناية عن استفزازه إيَّاه إلى العصيان، وتحريكه إلى الشَّهوات الملقية في الطغيان.

"غير عيسى بن مريم ذَهبَ"؛ أي: أراد.

"يَطْعن فَطَعَنَ في الحِجَاب": وهذا كناية عن سلامته مِنْ تسويله.

وقيل: عبارة عن المَشِيمَة، يعني: ما وصل إليه من مَسِّه شيء؛ لأنه طعن بحيث ما كان متأثراً من طعنه، وإنما لم يتاثر من مَسِّه؛ لأن الله تعالى أعاذ مريم وولدها من الشيطان؛ لاستجابة دعاء أمها حنة، قال الله تعالى حكاية عنها:{وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]، وقيل: معناه: حُجِبَ عن طعنه بازدحام الملائكة.

4452 -

عَن أَبي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثيرٌ، ولَم يَكمُلْ مِنَ النِّساء إلَّا مَريمُ بنتُ عِمرَانَ وآسِيةُ امرَأه فِرعَوْنَ، وفَضْلُ عَائِشةَ عَلَى سَائِر النِّسَاءِ كفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ".

"عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كَمُلَ من الرجال كثير"؛ يعني: كثر أهل الكمال في الرجال، وهم الأنبياء (1)، فإنهم الكاملون في أنفسهم، والمكمِّلون لغيرهم على حسب مراتبهم في علمهم.

(1) في "غ" زيادة: "والأولياء".

ص: 174

"ولم يَكْمُلْ من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسِيَة امرأة فرعون": قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11].

قيل: لما علم فرعون إيمانها، أَوْتَدَ يديها ورجليها، وألقى على صدرها رحًى عظيمة واستقبل بها الشمس إذ قالت:{رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]، تريد مكاناً شريفاً، فكشف لها بيتها، فسهل عليها تعذيبها.

وقيل: رفعت إلى الجنة حية، فهي تأكل وتشرب {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11]، {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا}؛ أي: بشرائعه {وَكُتُبِهِ} ؛ أي: المنزلة {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] أي: المطيعين لربها.

"وفَضْلُ عائشة على النساء كَفَضْلِ الثَّريد على سائر الطعام": ضرب المثل بالثَّريد؛ لأنه أفضل الأطعمة عندهم؛ لكونه مركباً من الخبز وقوة اللحم، وفيه التذاذ وغذاء وسهولة المساغ، وفضل عائشة على النساء من جهة. حُسْنِ المعاشرة والخلق، وفصاحة اللهجة، وجودة القريحة، وتعقلها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يعقل من رسول الله غيرها من النساء.

مِنَ الحِسَان:

4453 -

عَنْ أَبي رَزْينٍ قَالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ الله! أَينَ كَانَ ربنا قبلَ أنْ يَخْلُقَ خَلْقَه؟ قَال: "كَانَ في عَمَاءٍ مَا تحتَهُ هوَاءٌ ومَا فَوْقَهُ هوَاءٌ، وخَلَقَ عَرْشَهُ علَى المَاء"، وقَال يَزيدُ بن هارُون: العَمَاءُ؛ أَيْ: لَيْسَ مَعَه شَيءٌ.

"من الحسان":

" عن أبي رَزِين العُقَيلي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أين كان ربنا قبل

ص: 175

أن يخلُقَ خلقه؟ قال: كان في عَمَاء": وهو السَّحاب الرقيق، وقيل: هو الكثيف المنطبق، وقيل: هو شبه الدخان يركب رؤوس الجبال.

وروي: (عمى) بالقصر قيل: هو كل أمر لا تدركه عقول بني آدم، ولا يبلُغُ كُنْهَهُ الوصف.

"ما تحته هواء وما فوقه هواء"؛ أي: ليس معه شيء، عَبَّر عليه السلام عن عدم المكان بما لا يُدْرَك ولا يُتَوهَّم، وعن عدم ما يحويه ويحيط به: بالهواء فإنه يُطْلَقُ ويراد به: الذي هو عبارة عن عدم الجسم؛ ليكون أقرب إلى فهم السامع، قيل: هنا حذف مضاف؛ أي: أين كان عرش ربنا بدليل قوله:

"وخلق عرشه على الماء": لأنه لو لم يكن السؤال عنه؛ لكان التَّعرض له من غير حاجةٍ.

"قال يزيد بن هارون: العماء: أي: ليس معه شيء".

4454 -

عَنِ العَبَّاس بن عَبْد المُطَّلِب رضي الله عنه: زَعَمَ أنَّه كانَ جَالِساً في البَطْحاءَ في عِصَابةٍ ورَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فيهِمْ، فمرَّت سَحابة فنظَرُوا إليها، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ما تُسَمُّونَ هذه؟ "، قَالُوا: السَّحَابُ، قَالَ:"والمُزنُ"، قَالُوا: والمزْنُ، قَالَ:"والعَنَانُ"، قَالُوا: والعَنَانُ، قَالَ:"هلْ تَدرَونَ مَا بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّماءَ والأَرضِ؟ "، قَالُوا: لا نَدرِي، قَالَ:"إنَّ بُعْدَ مَا بينَهُما إمَّا واحدة وإمَّا اثنَتانِ أو ثَلَاثٌ وسَبْعُونَ سَنة، والسَّماءُ الَّتي فَوْقَها كَذلِكَ، حتَّى عَدَّ سَبع سَمَاواتٍ، ثُمَّ فَوْقَ السَّماءَ السَّابعَةِ بحرٌ بَيْنَ أَعلاهُ وأَسْفلِهِ كَمَا بَيْنَ سَماءٍ إلى سَماءٍ، ثُمَّ فوقَ ذَلِكَ ثَمَانِيةُ أوْعَالٍ بَيْنَ أَظْلافِهنَّ ورُكَبهنَّ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إلى سَمَاءٍ، ثُمَّ عَلَى ظُهورِهِنَّ العرشُ بَيْنَ أَسْفلِهِ وأَعلاهُ مَا بَيْنَ سَماءٍ إلى سماءٍ، ثُمَّ الله فَوْقَ ذَلِكَ".

ص: 176

"وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه زعم أنه كان جالساً في البَطْحَاء في عِصَابةٍ"، أي: في جماعة من الناس.

"ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فيهم، فَمَرَّتْ سحابَةٌ فنظروا إليها، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما تسمُّون": (ما) استفهام بمعنى التقرير؛ أي: أيُّ شيء تسمُّون.

"هذه": إشارة إلى السحابة، مفعول الثاني (لتسمُّون)، ومفعوله الأول (ما) مُقدَّم عليه.

"قالوا: السَّحاب": منصوب بفعل محذوف؛ أي: تسميتها السَّحاب، أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي السَّحاب.

"قال: والمُزْنُ، قالوا: والمُزْنُ" بضم الميم وسكون الزاء المعجمة: هو السَّحاب الأبيض.

"قال: والعَنَان؟ قالوا: والعَنَان"، وهو بفتح العين المهملة: السَّحاب، سُمِّي به لأنه من عَنَّ في السماء؛ أي: ظهر.

"قال: هل تدرون ما بُعْدُ ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندري، قال: إنَّ بُعْدَ ما بينهما إما واحدة"؛ أي: واحدة وسبعون.

"وإما اثنتان" وسبعون.

"أو ثلاث وسبعون سنة": شكٌّ من الراوي.

"والسماء التي فوقها"؛ أي: فوق السماء الدنيا.

"كذلك، حتى عَدَّ"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم "سبع سماوات، ثم فوق السماء السابعة بحرٌ بين أعلاه وأسفله": الضمير فيهما يعود إلى البحر.

"كما بين سماء إلى سماءٍ، ثم فوق ذلك": إشارة إلى البحر.

ص: 177

"ثمانية أَوْعَال": جمع وَعْل: تيس شياه الجبل، والمراد: ثمانية ملائكة على صور الأوعال.

"بين أَظْلَافِهِنَّ": جمع ظِلْف.

"وأوْرَاكِهِنَّ": جمع الورك، ما فوق الفخذ.

"مثل ما بين سماءٍ إلى سماءٍ، ثم على ظُهُورِهِنَّ العَرْشُ بين أسْفَلِهِ وأَعلَاه": الضمير فيهما عائد إلى (العرش).

"ما بين سماء إلى سماء، ثم الله فوق ذلك": إشارة إلى العرش؛ أي: الله سبحانه وتعالى فوق العرش حكمًا وعظمةً وعُلُوًّا، لا بالمكان تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرًا.

4455 -

عَنْ جُبَيْرِ بن مُطْعِم قَالَ: أتى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فَقَال: جُهِدَتْ الأنفُسُ وجَاعَ العِيالُ، ونُهِكَتْ الأَمْوالُ، وهلكَتْ الأَنْعامُ، فاسْتَسْقِ الله لَنَا، فإنَّا نستَشْفِعُ بِكَ عَلَى الله، ونستَشْفِعُ بالله عَلَيْكَ، فَقَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"سُبحَانَ الله، سُبحانَ الله"، فَمَا زَالَ يُسبحُ حتَّى عُرِفَ ذلكَ في وُجوه أصحَابهِ، ثُمَّ قَالَ:"ويحَكَ! إنَّهُ لا يُستَشْفَعُ بالله علَى أَحَدٍ، شَأنُ الله أَعْظَمُ مِنْ ذلكَ، ويحَكَ! أتدرِي مَا الله؟ إنَّ عَرْشَهُ علَى سَمَاواتِهِ لهكَذا - وقَالَ بأَصابعِهِ مِثْلَ القُبَّةِ عليهِ -، وإنَّه لَيئطُّ بهِ أطِيطَ الرَّحْلِ بالرَّاكِب".

"عن جُبَيْر بن مُطْعِم رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابى فقال: جُهِدَتِ الأنفس"؛ أي: حُمِّلَتْ فوق طاقتها.

"وجاع العِيَال"، عيال الرجل: مَنْ يَمُوْنُهُ من الزوجة والأولاد والعبيد وغير ذلك.

"ونُهِكَتِ الأموال"؛ أي: نقصت.

ص: 178

"وهلكت الأنعام": جمع النَّعَم - بفتح النون والعين -، وهي الإبل والبقر والغنم.

"فاسْتَسْقِ الله"؛ أي: اطلب السقي "لنا، فإنا نستشفع بك"؛ أي: نطلب الشفاعة بوجودك "على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، سبحان الله، فما زال يسبِّح حتى عُرِفَ ذلك"؛ أي: التغير.

"في وجوه أصحابه"؛ يعني: سَاءَهم تكرير التسبيح منه صلى الله عليه وسلم، وتوهَّموا أنه عليه السلام غضب من هذا السؤال، فخافوا من غضبه، فتغيرت وجوههم؛ خوفًا من الله تعالى، فلما أَثَّر فيهم الخوف، رقَّ لهم صلى الله عليه وسلم وقطع التسبيح.

"ثم قال: ويحك إنه لا يُسْتَشْفَعُ بالله على أحدٍ؛ شَأْنُ الله أعظم من ذلك"؛ أي: من أن يستشفع به على أحدٍ.

"ويحك، أتدري ما الله"؛ أي: ما عظمة الله سبحانه وتعالى.

"إن عرشه على سماواته لَهكذا" بفتح اللام، "وقال بأصابعه"؛ أي: أشار بها.

"مثل القبة"؛ أي: العرش مثل القبة.

"وإنه"؛ أي: العرش مع ما وصف من العظمة والسَّعة.

"لَيَئِطُّ به"؛ أي: ليصوِّت بعظمة الله.

"أطيط الرَّحل"؛ أي: كتصويت الرحل الجديد.

"بالراكب": قرره صلى الله عليه وسلم بهذا النوع من التمثيل، معنى عظمة الله وجلاله وارتفاع عرشه؛ ليعلم أن الموصوف بعلوِّ الشأن وجلالة القَدْر لا يُجْعَل شفيعاً إلى من هو دونه في القدر وأسفل منه في الدرجة.

ص: 179

4456 -

عَنْ جَاِبرٍ بن عَبْدِ الله رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أُذِنَ لِي أَنْ أُحدِّثَ عنْ مَلَكٍ منْ ملائِكَةِ الله مِنْ حَمَلَةِ العَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحمَةِ أُذُنيهِ إلَى عَاتِقِهِ مَسِيْرةُ سَبع مِئَةِ عَامٍ".

"عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُذِنَ لي"؛ أي: صرْتُ مأذونا مِنْ حضرته تعالى.

"أن أُحدِّثَ"؛ أي: أخبر أمتي.

"عن مَلَكٍ"؛ أي: عن كيفية عِظَم جثة مَلَكٍ.

"من ملائكة الله تعالى من حملة العرش": جمع حامل؛ أي: الذين يحملون.

"إنَّ ما بين شَحْمَةِ أُذُنيه إلى عاتقه مسيرة سبع مئة عام".

4457 -

عَنْ زُرَارَةَ بن أَوْفَى رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجبْريِلَ عليه السلام: "هل رَأَيتَ ربَّك؟ "، فانتفضَ جِبْريِلُ عليه السلام فَقَالَ: يا مُحَمَّدُ! إنَّ بَيني وبيْنَهُ سَبْعِيْنَ حِجَاباً مِنْ نُورٍ لَو دنوتُ منْ بَعضها لَاحْتَرَقْتُ.

"عن زُرارة بن أوفى رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه الصلاة والسلام: هل رأيْتَ ربَّك فانتفض جبريل"؛ أي: ارتعد ارتعاداً شديداً من عظمة ذلك السؤال.

"وقال: يا محمدا إنَّ بيني وبينه سبعين حجاباً من نور": والحجاب عبارة عن كمال الله تعالى ونقصان جبريل عليه الصلاة والسلام، فالحجاب من طرف جبريل عليه السلام.

"لو دَنَوْتُ"؛ أي: لو قربت.

ص: 180

"من بعضها لاحترقْتُ": وسؤاله صلى الله عليه وسلم عن رؤية الله تعالى يدل على حقِّية إمكانها في الآخرة، وإلا لما سأل عنها.

4458 -

عَنِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ خَلَقَ إسْرافيلَ مُنْذُ يَومَ خَلَقَهُ صَافًّا قَدمَيْهِ لا يَرْفَعُ بَصَرَه، بَيْنَهُ وبَيْنَ الرَّبِّ تبارك وتعالى سَبْعُونَ نُوراً، مَا مِنْها مِنْ نُورٍ يَدْنُو مِنهُ إلَّا احتَرقَ"، صحَّ.

"عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق إسرافيل منذ يوم خلقه صَافًّا": نصب على الحال من الضمير المنصوب في (خلقه).

"قدمَيْه": مفعول له؛ أي: واقفاً على قدميه.

"لا يرفع بصره بينه وبين الربِّ تبارك وتعالى سبعون نوراً، ما منها من نور يدنو منه إلا احترق"، "صحيح".

4459 -

عَنْ جَابرٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ الله تعالى آدمَ وذُرَّيتَهُ قَالَتِ المَلائِكةُ: يَا ربِّ! خَلَقتَهُم يَأْكلونَ وَيشْرَبُونَ ويَنْكِحُونَ ويَركَبُونَ، فَاجْعَلْ لَهمُ الدُّنيا ولَنَا الآخرة، قَالَ الله تَعَالَى: لَا أَجْعَلُ مَنْ خَلقْتُهُ بِيَديَّ، ونَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحِي، كمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ، فَكَانَ".

"عن جابر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة: يا ربِّ خلقتَهُم يأكلون ويشربون وينكِحُون ويركبون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، قال الله تعالى: لا أجعل مَنْ خلقْتُهُ": الضمير يعود إلى (من)؛ أي: لا أجعل كرامة من خلقته.

ص: 181