المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - باب الحوض والشفاعة - شرح المصابيح لابن الملك - جـ ٦

[ابن الملك]

فهرس الكتاب

- ‌6 - باب نزول عيسى عليه السلام

- ‌7 - باب قُرْبِ السَّاعَة وأنَّ مَنْ ماتَ فقد قامَتْ قيامَتُه

- ‌8 - باب لا تقومُ السَّاعةُ إلا على الشِّرارِ

- ‌1 - باب النَّفْخِ في الصورِ

- ‌2 - باب الحَشْرِ

- ‌3 - باب الحِسَابِ والقِصَاصِ والمِيْزانِ

- ‌4 - باب الحَوْضِ والشفاعة

- ‌5 - باب صِفَةِ الجَنَّةِ وأَهْلِهَا

- ‌6 - باب رُؤْيَةِ الله تَعالى

- ‌7 - باب صِفَةِ النَّار وأهلِها

- ‌8 - باب خَلْقِ الجَنَّةِ والنَّارِ

- ‌9 - باب بدءِ الخَلقِ، وذكرِ الأَنبياءِ عليهم السلام

- ‌1 - باب فَضَائِلِ سيدِ المُرسَلِينَ صلَوَاتُ الله عَلَيْهِ

- ‌2 - باب أَسْمَاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتُهُ

- ‌3 - باب في أَخْلاقِهِ وشَمَائِلِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌4 - باب المَبْعَثِ وَبدْءِ الوَحْيِ

- ‌5 - باب علامات النبوة

- ‌فصل في المِعْرَاجِ

- ‌فصل في المُعْجِزَاتِ

- ‌6 - باب الكَرَامَاتِ

- ‌7 - باب(باب في بيان هجرة أصحابه من مكة)

- ‌8 - باب

- ‌1 - باب في مَناقبِ قريشٍ وَذِكرِ القَبَائِلِ

- ‌2 - باب مناقب الصحابة رضي الله عنهم

- ‌3 - باب مَناقِبِ أَبي بَكرٍ الصِّديقِ رضي الله عنه

- ‌4 - باب مَناقِبِ عُمَرَ بن الخَطابِ رضي الله عنه

- ‌5 - باب مَنَاقِبِ أَبي بَكْرِ وَعُمَرَ رضي الله عنهما

- ‌6 - باب مَنَاقِبِ عُثمانَ في عَفَّانَ رضي الله عنه

- ‌7 - باب مَنَاقِبِ هؤلاءِ الثَّلاثة رضي الله عنهم

- ‌8 - باب مَنَاقِبِ عَلِيِّ في أَبي طالب رضي الله عنه

- ‌9 - باب مَنَاقِبِ العَشرَةِ رضي الله عنهم

- ‌10 - باب مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

- ‌11 - باب مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌12 - باب جَامِعِ المَنَاقِبِ

- ‌13 - باب ذِكْرِ اليَمَنِ وَالشَّامِ، وَذِكْرِ أُوَيْسِ القَرَنِيِّ رضي الله عنه

- ‌14 - باب ثوَابِ هذِهِ الأُمَّةِ

الفصل: ‌4 - باب الحوض والشفاعة

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما يُبكيكِ؟ " قالت: ذَكَرْتُ النَّارَ فبَكيتُ، فهلْ تذكُرونَ أَهْليكُمْ يَوْمَ القِيامةِ؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أمَّا في ثلاثةِ مَواطِنَ فلا يَذْكُرُ أحد أحدًا: عِنْدَ الميزانِ حتَّى يَعْلَمَ أيَخِفُّ ميزانُه أم يثقُلُ، وعندَ الكتابِ حينَ يُقالُ {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} حتَّى يَعْلَمَ أينَ يقعُ كتابُه أفي يمينهِ أمْ في شِمالِهِ أو منْ وراءِ ظهرِه، وعند الصِّراطِ إذا وُضعَ بينَ ظَهْراني جَهَنَّمَ".

"عن عائشة رضي الله عنها: أنها ذكرت النار، فبكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قالت: ذكرتُ النارَ فبكيتُ فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ ": خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو مع مَنْ حضرَ من الرجال.

"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما في ثلاثة مواطنَ فلا يذكر أحدٌ أحدًا: عند الميزان حتى يعلم أيخفُّ ميزانه أم يثقل، وعند الكتاب حين يقال: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] "؛ أي: خذوه وانظروا ما فيه.

"حتى يعلم أين يقع كتابه؛ أفي يمينه، أم في شماله، أو من وراء ظهره"؛ لأن يده تكون مشددة إلى ظهره.

"وعند الصراط إذا وُضع"؛ أي: الصراطُ "بين ظَهْراني جهنم"؛ أي: في وسطها.

* * *

‌4 - باب الحَوْضِ والشفاعة

(باب الحوض والشفاعة)

مِنَ الصِّحَاحِ:

4312 -

قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنا أنا أَسيرُ في الجنَّةِ إذا أَنا بنهْرٍ حافَّتاهُ

ص: 50

قِبابُ الدّرِّ المُجَوَّفِ، قلتُ: ما هذا يا جِبْريلُ؟ قال: هذا الكَوثَرُ الذي أَعْطاكَ ربُّكَ، فإذا طِينُه مِسْكٌ أذفَرُ".

"من الصحاح":

" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا أنا أسيرُ في الجنة إذا أنا": (إذا) هذه للمفاجأة.

"بنهر حافتاه"؛ أي: طرفاه.

"قِبابُ الدُّر" بكسر القاف: جمع قُبَّة.

"المجوف": وهو الذي له جوفٌ.

"قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك": و (الكَوْثَر) على وزن فَوْعَل من (الكثرة).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: الكوثر: الخير الذي أعطاه الله تعالى إياه، وقيل: القرآن والنبوة.

"فإذا طينه مسكٌ أذْفَرُ"؛ أي: شديد الرائحة، قيل: الذَّافر بالتحريك: يقع على الطيب والكريه، ويُفرَّق بينهما بما يضاف إليه، أو يوصف به.

* * *

4313 -

وقالَ: "حَوْضي مَسيرةُ شَهْرٍ، وزَواياهُ سَواءٌ، ماؤُهُ أبيضُ مِنَ اللَّبن، وريحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وكِيزانُه كنُجومِ السَّماء، مَنْ يشْرَبْ منها فلا يَظمأُ أبدًا".

"وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حوضي ميسرةُ شهرٍ، وزواياه": جمع زاوية، وهي الناحية والجانب.

"سواء"؛ أي: يستوي طوله وعرضه، وقيل: عمقه أيضًا.

ص: 51

"ماؤه أبيضُ"؛ أي: أشد بياضًا "من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه": جمع كوز.

"كنجوم السماء"؛ أي: كعدد نجومها في الكثرة.

"من شرب منها"؛ أي: من الكيزان.

"فلا يظمأ أبدًا"؛ لأن الشرب منها علامةٌ للمغفرة، والمغفورُ لا يلحقه ضررُ ظمأ ولا غيره.

* * *

4314 -

وقال: "إنَّ حَوْضي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنَ، لهوَ أَشدُّ بَياضاً مِنَ الثَّلْج، وأَحْلَى مِنَ العَسَلِ باللبن، ولَانيَتُهُ أكثَرُ منْ عَدَدِ النُّجومِ، وإنِّي لأَصُدُّ النَّاسَ عنهُ كما يَصُدُّ الرَّجُلُ إبلَ النَّاسِ عنْ حَوْضهِ"، قالوا: يا رسولَ الله! أتعْرِفُنَا يومئذٍ؟ قال: "نعمْ، لكُمْ سِيما ليستْ لأَحَدٍ مِنَ الأُمَم، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُراً مُحَجَّلينَ مِنْ أثرِ الوُضُوءَ".

ويُروَى: "تُرَى فيهِ أَبارِيقُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ كعَدَدِ نُجومِ السَّماءَ".

ويُروَى: "يَغُتُّ فيهِ ميزابانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الجَنَّةِ، أَحَدُهُما مِنْ ذَهَبٍ، والآخَرُ منْ وَرِقٍ".

"وقال: إن حوضي أبعد من أَيْلَةَ"؛ أي: من بعد أيلة بفتح الهمزة وسكون الياء: بلد بالساحل من آخر بلاد الشام مما يلي بحر اليمن.

"من عدن": آخر بلاد اليمن مما يلي بحر الهند.

وقد جاء في حديث ثوبان: "ما بين عدن إلى عُمان"، وفي حديث حارثة:"كما بين صنعاء والمدينة" والتوفيق: أن إخباره عليه السلام عن ذلك على طريق التقريب، لا على سبيل التحديد، والتفاوت من اختلاف أحوال السامعين في

ص: 52

الإحاطة بها علماً.

"لهو أشد بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثرُ من عدد النجوم، وإني لأصدُّ الناسَ عنه"؛ أي: لأمنعهم عن حوضي، قيل: أراد بها: الكفار، ويجوز أن تكون أمة غيره من الأمم.

"كما يصدُّ الرجل"؛ أي: يمنع "إبلَ الناس عن حوضه، قالوا: يا رسول الله! أتعرفنا يومئذ، قال: نعم، لكم سِيمَا"؛ أي: علامة.

"ليست لأحد من الأمم، تردون عليَّ غُراً": جمع الأغر، وهو الأبيض الوجه.

"محجَّلين": المحجل مفعول من (التحجيل)، وهو بياض الأيدي والأرجل إلى المرافق، وهما منصوبان على الحال؛ يعني: علامة أمتي من بين الأمم نورٌ يلوح في أعضاء وضوئهم

"من أثر الوضوء"، وبذلك يتميزون عن غيرهم.

"وفي رواية أنس رضي الله عنه: ترى فيه"؛ أي: في حوضي.

"أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء".

"وفي رواية ثوبان: يغت فيه"؛ أي: يسيل متتابعًا.

"ميزابان يمدانه"؛ أي: الحوض.

"من الجنة؛ أحدُهما من ذهب، والآخرُ من وَرِقٍ"؛ أي: فضة.

* * *

4315 -

وقال: "إنِّي فَرَطُكُمْ على الحَوْضِ، مَنْ مرَّ عليَّ شَرِبَ، ومَنْ شرِبَ لمْ يَظْمَأ أَبَداً، لَيَرِدَنَّ عليَّ أَقْوامٌ أعرفُهُمْ وَيعْرِفُونَنِي ثمَّ يُحَالُ بَيْني وبَيْنَهُمْ، فأقولُ: إنَّهمْ مِنِّي، فيُقالُ: إنَّكَ لا تَدري ما أَحْدَثوا بَعْدَكَ، فأقولُ: سُحْقًا سُحْقاً لَمنْ غَيَّرَ بَعْدِي".

ص: 53

"وقال: إني فرطكم"؛ أي: متقدمكم وسابقكم.

"على الحوض، من مرَّ عليَّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، ليردنَّ علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً"؛ أي: بعداً "لمن غيَّر بعدي".

* * *

4316 -

عن أنس: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يُحْبَسُ المُؤْمِنونَ يَوْمَ القِيامةِ حتى يهِمُّوا بذلكَ، فيقولونَ: لَوِ استشْفعْنا إلى رَبنا فيُريحُنا منْ مَكانِنا، فيأتونَ آدمَ فيقولونَ: أنتَ آدمُ، أبو النَّاسِ، خَلقَكَ الله بيدِه، وأَسْكَنَكَ جنتهُ، وأَسْجَدَ لكَ ملائكَتَهُ، وعلَّمَكَ أسماءَ كُل شيءٍ، اشفَعْ لنا عِنْدَ ربكَ حتَّى يُريحَنا منْ مكانِنا هذا، فيقولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكرُ خَطِيئتَهُ التي أَصابَ، أكلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ وقدْ نُهيَ عنها، ولكنِ ائتوا نُوحاً أوَّلَ نبيٍّ بَعَثَهُ الله إلى أَهْلِ الأَرْضِ، فيأتونَ نُوْحاً فيقولُ: لَسْتُ هُناكمْ، ويَذْكرُ خَطِيئتَهُ التي أَصابَ، سُؤالَه ربَّهُ بغيرِ عِلْم، ولكنِ ائتوا إبراهيمَ خليلَ الرَّحمَن". قال: "فيأتونَ إبراهيمَ فيقولُ: إنِّي لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكرُ ثلاثَ كِذْباتٍ كَذَبَهُنَّ، ولكنِ ائتوا مُوْسَى عَبْداً آتاهُ الله التَّوراةَ وكلَّمَهُ وقَرَّبَهُ نَجيًّا، قال: فيَأتونَ مُوْسَى فيقولُ: إنِّي لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكرُ خَطِيئتَهُ التي أَصابَ، قَتْلَهُ النَّفْسَ، ولكنِ ائتوا عيسَى عبدَ الله ورسولَهُ ورُوحَ الله وكلِمَتَهُ، قال: فيأتونَ عيسَى فيقول: لَسْتُ هُناكُمْ، ولكنِ ائتوا مُحَمَّداً عَبْداً غَفَرَ الله لهُ ما تَقَدَّمَ منْ ذَنْبهِ وما تأخرَ". قال: "فيَأتونَنِي، فأَسْتَأذِنُ على ربي في دارِه، فيُؤْذَنُ لي عَلَيهِ، فإذا رأيتُهُ وَقَعْتُ ساجِداً، فيدَعُني ما شاءَ الله أنْ يَدَعَني، فيقولُ: ارفَعْ مُحَمَّدُ! وقُلْ تُسْمَعْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَهْ"، قال: "فَارْفَعُ رَأْسي، فأُثني على ربي بثناءً وتَحْمِيدٍ! يُعلِّمُنيهِ، ثمَّ أَشْفَعُ فيَحُدُّ لي حَداً فأَخْرُجُ، فأُخْرِجُهُمْ مِنَ

ص: 54

النَّارِ فأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فأَسْتَأذِنُ على ربي في دارِه، فيُؤذَنُ لي عليهِ، فإذا رأيتُهُ وَقَعْتُ ساجِداً، فيدَعُني ما شاءَ الله أنْ يدَعَني، ثُمَّ يقولُ: ارفَعْ مُحَمَّدُ! وقُلْ تُسْمَعْ، واشفَعْ تُشفَّعْ، وسَلْ تُعطَهْ، قال: فَأَرْفَعُ رَأْسي فَأُثني على رَبي بثَناءٍ وتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنيه، ثمَّ أَشْفَعُ فيَحُدُّ لي حَداً فأَخْرُجُ، فأُدخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثةَ، فأَسْتأذِنُ على ربي في داره، فيُؤذَنُ لي عليهِ، فإذا رأيتُهُ وَقَعْتُ ساجِدًا، فيدَعُني ما شاءَ الله أن يدَعَني، ثُمَّ يقولُ: ارفَعْ مُحَمَّدُ! وقُلْ تُسْمَعْ، واشفَعْ تُشفَّعْ، وسَلْ تُعْطَهْ، قالَ: فأَرْفَعُ رَأْسي، فأُثني على ربي بثناءٍ وتَحْميدٍ يُعلِّمُنيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ، فيَحُدُّ لي حَدًا فأَخْرُجُ، فأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، حتَّى ما يبقى في النَّارِ إلَّا مَنْ قد حَبَسَهُ القُرْآنُ"، أيْ: وَجَبَ عليهِ الخُلودُ، ثُمَّ تلا هذهِ الآية: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وقالَ: "وهذا المَقَامُ المَحْمُودُ الذي وُعِدَهُ نبيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم ".

"وعن أنس رضي الله عنه قال: [قال]صلى الله عليه وسلم: يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يُهمُّوا": علي بناء المجهول؛ أي: يقلقوا ويحزنوا.

"بذلك": الحبس.

"فيقولون: لو استشفعنا": (لو) هذه للتمني؛ أي: لو سألنا أن يُشفَع لنا.

"إلى ربنا، فيريحَنا": بالنصب جواب للتمني؛ أي: يزيلنا.

"من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، وعلَّمك أسماء كل شيء، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول"؛ أي؟ آدم.

"لست هُنَاكم"؛ أي: لست بالمكان الذي تظنونني فيه من الشفاعة، و (هُنا) إذا ألحق به كاف الخطاب يكون للتبعيد عن المكان المشار إليه؛ يعني: أنا بعيد من مقام الشفاعة.

ص: 55

"ويذكر خطيئته التي أصاب": والمفعول محذوف؛ أي: أصابها.

"أكلَهُ": بالنصب بدل من (خطيئة)؛ أي: يذكر أكله.

"من الشجرة، وقد نهي عنها": الواو للحال.

"ولكن ائتوا نوحاً أوَّلَ نبي بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض": أراد بهم الكفار.

"فيأتون نوحًا، فيقول: لست هُنَاكم، ويذكر خطيئته التي أصاب؛ سؤالَهُ": بالنصب أيضًا.

"ربَّه بغير علم": وهو قوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45].

"ولكن ائتوا إبراهيمَ خليلَ الرحمن، قال: فيأتون إبراهيم، فيقول: إني لست هُنَاكم، ويذكر ثلاث كذبات كذبهن": إحداها: إني سقيم، والثانية: بل فعله كبيرهم هذا، والثالثة: قوله لزوجته سارة: هي أختي، وسميت كذبات، وإن كان الخليل عليه السلام أتى بها في صورة المعاريض؛ لكونها في صورة الكذب، والكاملُ قد يؤاخَذ بما هو عبادة في حقِّ غيره، فإن حسناتِ الأبرار سيئاتُ المقربين.

"ولكن ائتوا موسى عليه الصلاة والسلام عبدًا آتاه الله التوراة، وكلَّمه وقرَّبه نجياً، قال: فيأتون موسى فيقول: إني لست هُنَاكم، ويذكر خطيئته التي أصاب قتلَهُ النفسَ"؛ يعني: القبطي.

"ولكن ائتوا عيسى عبدَ الله ورسولَهُ، وروحَ الله وكلمته، قال: فيأتون عيسى فيقول: لست هُنَاكم": إنما قال كذا مع أن خطيئته غير مذكورة، لعله كان لاستحيائه من افتراء النصارى في حقه بأنه ابن الله عز وجل.

"ولكن ائتوا محمدًا صلى الله تعالى عليه وسلم عبدًا غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: فيأتونني، فاستأذن على ربي في داره"؛ أي:

ص: 56

تحت عرشه، وقيل: التي دورها لأنبيائه وأوليائه، وهي الجنة؛ لقوله تعالى:{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، إضافةُ الدار إلى الله تعالى إضافةُ تشريف وتكريم.

والمراد من الاستئذان: طلب الأذن من الله تعالى أن يؤذن له صلى الله عليه وسلم في الشفاعة، فيقوم صلى الله عليه وسلم في مقام لا يقوم فيه سائلٌ إلا أجيب، ولا يقفُ فيه داع إلا استجيب؛ إذ الشفيع لا بد له أن يقوم أولًا مقامَ الكرامة؛ لتقعَ الشفاعة موقعها.

"فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته": بارتفاع الحجاب عني.

"وقعت ساجداً": خوفًا منه وإجلالًا له.

"فيدعني"؛ أي: يتركني في السجود.

كما شاء الله تعالى أن يدعني، فيقول"؛ أي: الله تعالى.

"ارفعْ، محمَّد! "؛ أي: ارفع رأسك في السجود يا محمَّد.

"وقيل"؛ أي: ما شئت.

"تُسمَعْ": على صيغة المجهول بالجزم جوابًا للأمر؛ أي: يسمع قولك.

"واشفعْ تشفَّعْ": بتشديد الفاء علي بناء المجهول؛ أي: تقبل شفاعتك.

"وسلْ تعطَه": الضمير لما مسألة؛ أي: تعطَ ما تَسألُ.

وإنما لم يُلهموا أولًا أن يستشفعوا محمدًا عليه الصلاة والسلام؛ ليظهر على جميع المخلوقين أن المقام خاصٌ له.

"قال: فأرفع رأسي، فأُثني على ربي بثناء وتحميد يُعلّمنيه، ثم أشفعْ، فيحدُّ لي حداً"؛ أي: يعين لي حدًا معلوما لا أتجاوز عنه مثل أن يقول: شفعتك فيمن أخل بالصلاة، وكذا تقبل الشفاعة في كل طور في طائفة من العاصين، كمن أخلَّ بالزكوات، وارتكب سائر المنهيات.

"فأخرج"؛ أي: من تلك الدار.

ص: 57

"فأخرجهم من النار": أراد بالنار: شدة الحرِّ من دنو الشمس، وبالإخراج الخلاص منها.

"فأدخلهم الجنة، ثم أعود الثانية، فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفعْ، محمد! " رأسَك، "وقيل تُسمَع، واشفع تشفع، وسل تعطه، قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحدُّ لي حداً، فأخرج، فأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة، فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله تعالى أن يدعني، ثم يقول: ارفع، محمَّد! وقيل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه، قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، ثم اشفع، فيحدُّ لي حداً، فأخرج، فأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من قد حبسَهُ القرآنُ"؛ أي: منعه حكمُ القرآن، وهم الكفار.

"أي: وجب عليه الخلودُ": قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6].

"ثم تلا هذه الآية: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] ، وقال: وهذا المقام المحمود الذي وُعِده نبيُّكم" صلى الله عليه وسلم.

* * *

4317 -

وعن أنس رضي الله عنه قالَ: إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ ماجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ في بَعْضٍ، فيأتُونَ آدمَ، فيقولونَ: اِشْفَعْ لنا إلى ربكَ، فيقولُ: لَسْتُ لها، ولكنْ عَلَيكُمْ بإبراهيمَ فإنَّهُ خَليلُ الرَّحْمنِ، فيأتونَ إبراهيمَ فيقولُ: لَسْتُ لها، ولكنْ عَلَيكُمْ بموسَى فإنَّهُ كَليمُ الله، فيأتونَ موسَى فيقولُ: لَسْتُ لها، ولكنْ عليكُمْ بعيسَى فإنَّهُ رُوحُ الله وكَلِمَتُهُ، فيأتونَ عيسَى فيقولُ: لستُ لها، ولكنْ عليكُمْ

ص: 58

بمُحَمَّدٍ، فيأتوننَي فأقولُ: أنا لها، فأَسْتاذِنُ على ربي فَيُؤذَنُ لي، ويُلهِمُني مَحامِدَ أَحْمَدُهُ بها لا تَحْضُرُني الآنَ، فأَحْمَدُهُ بتلكَ المَحامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لهُ ساجِداً فيُقال: يا مُحَمَّدُ! اِرفَعْ رأسَكَ، وقُلْ تُسْمَعْ، وسَلْ تُعطَة، واشْفَع تُشَفَّعْ، فأقولُ: يا رَبِّ! أُمَّتي، أُمَّتي، فيُقالُ: اِنْطَلِقْ فأَخْرِجْ منها مَنْ كانَ في قلبهِ مِثقالُ شَعيرةٍ منْ إيمانٍ، فأَنْطَلِقُ فأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فأَحْمَدُهُ بتِلكَ المَحامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لهُ ساجِداً، فيُقال: يا مُحَمَّدُ! ارفَعْ رأسَكَ، وقُلْ تُسمَعْ، وسَلْ تُعطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقولُ: يا رَبِّ! أُمَّتي، أُمَّتي، فيُقَالُ: اِنْطَلِقْ فأَخْرِجْ مَنْ كانَ في قَلْبهِ مِثقالُ ذرَّةٍ أو خردلةٍ مِن إيمانٍ، فأَنطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثمَّ أَعُودُ فأحمدُهُ بتلكَ المَحامِدِ، ثمَّ أَخِرُّ لهُ ساجِداً، فيُقالُ: يا مُحَمَّدُ! اِرْفَعْ رأْسَك، وقُلْ تُسْمَعْ، وسَل تُعطَهْ، واشفَعْ تُشفَّعْ، فأقولُ: يا رَبِّ! أُمَّتي، أُمَّتي، فيُقالُ: اِنْطَلِقْ فأخرِجْ مَنْ كانَ في قَلْبهِ أَدْنَى أدنَى أدنىَ مِثْقالِ حَبَّةِ خَرْدلةٍ مِنْ إيمانٍ فأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فأَنْطَلِقُ فأَفْعَلُ، ثمَّ أعودُ الرَّابعةَ فأَحْمَدُهُ بتلكَ المَحامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لهُ ساجِداً، فيقالُ: يا مُحَمَّدُ! اِرفَعْ رأْسَكَ، وقُلْ تُسْمَعْ، وسَلْ تُعطَهْ، واشفَعْ تُشفَّعْ، فأقولُ: يا رَبِّ! ائْذَنْ لي فيمَنْ قالَ: لا إله إلَّا الله، قال: ليسَ ذلكَ لكَ، ولكنْ وعِزَّتي وجَلالي وكِبريائي وعَظَمتي، لأُخْرِجَنَّ منها مَنْ قال: لا إله إلَّا الله".

"عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة ماجَ الناس"؛ أي: اختلط.

"بعضُهم في بعض": مقبلين مدبرين حَيارى.

"فيأتون آدم عليه السلام، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها"؛ أي: للشفاعة.

"ولكن عليكم بإبراهيم"؛ أي: الزموه؛ فالباء زائدة، أو تشفعوا وتوسلوا به؛ فالباء غير زائدة.

ص: 59

"فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم عليه السلام، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى؛ فإنه كليم الله تعالى، فيأتون موسى عليه السلام، فيقول: لست لها؛ ولكن عليكم بعيسى؛ فإنه روح الله تعالى وكلمته، فيأتون عيسى، فيقول: لست لها؛ ولكن عليكم بمحمد، فيأتونني، فأقول: أنا لها، فأستأذنُ على ربي، فيؤذن لي، ويلهمني"؛ أي: يلقي في رُوْعي.

"محامدَ": جمع (حَمْد) على غير قياس، كـ (محاسن) جمع حُسن، أو جمع: مَحْمَدَة.

"أحمده بها"؛ أي: بتلك المحامد، والجملة صفة (المحامد).

"لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأَخِرُّ له"؛ أي: أسقط على الأرض لربي "ساجداً"؛ لشفاعة أمتي.

"فيقال: يا محمدا ارفعْ رأسك، وقيل تُسمَع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي"؛ أي: ارحمْ أمتي، وتفضل عليهم بالكرامة، كرَّره للتأكيد.

"فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة"؛ أي: وزن شعيرة.

"من إيمان": والمثقال: ما يُوزَنُ به، قيل: هذا مثل في معرفة الله تعالى، لا في الوزن؛ لأن الإيمان ليس بجسم يحصره وزن أو قيل، لكن المعقول قد يُمثَّلُ بالمحسوس؛ ليعلم.

"فانطلق فافعل، ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخِرُّ له ساجداً، فيقال: يا محمَّد! ارفعْ رأسك، وقيل تُسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول:

ص: 60

يا رب! أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة"؛ أي: وزنها.

"أو خردلة من إيمانٍ": والمراد به: أدق ما يفرض من الإيمان بحيث ينتهي إلى أنه لا يقبل قسمةً بعدُ، وأن ليس بعده إلا الكفر الصريح؛ إذ الإيمانُ كلما قلَّ قَرُبَ من الكفر حتى ينتهي إليه، هذا على مذهب من يجوِّز التجزئةَ من الإيمان؛ وأما من لم يجوِّز التجزئةَ؛ فيقول: المراد به: القلة من أعمال الخير مع قطع النظر عن شيء آخر، وإلا فالإيمان الذي هو التصديق القلبي لا تدخله التجزئة.

"فأنطلق فأفعل، ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخِرُّ له ساجداً، فيقال: يا محمَّد! ارفع رأسك، وقيل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبَّة من خردل من إيمان، فأخرجْهُ من النار، فانطلق فأفعل، ثم أعود الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخِرُّ له ساجداً، فيقال: يا محمدا ارفع رأسك، وقيل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! ائذنْ لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك"؛ أي: ليس إخراجهم من النار إليك، فاللام بمعنى:(إلى)، أو ليس إخراجهم منها لأجلك، بل إنَّا أحِقَاءُ أن نفعلَ ذلك كرما وتفضلاً وإجلالاً لتوحيدي وتعظيمًا لاسمي.

"ولكن وعزتي": الواو فيه للقسم.

"وجلالي وكبريائي وعظمتي، لأخرجنَّ منها من قال: لا إله إلا الله": يعلم من هذا أن إخراج من لم يعمل خيراً قط في الدنيا سوى كلمة الإخلاص خارجٌ عن حدِّ الشفاعة، بل موكولٌ إلى محضِ الكرم.

* * *

ص: 61

4318 -

عن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"أَسْعَدُ النَّاسِ بشفاعَتي يَوْمَ القِيامَةِ مَنْ قال: لا إله إلَّا الله خالِصاً مِنْ قَلْبهِ - أو: - نفْسِهِ ".

"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسعدُ الناس بشفاعتي يومَ القيامة": أفعل التفضيل هنا للزيادة المطلقة.

"من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه، أو نفسه": شك من الراوي.

والمراد به: أن لا يشوبه شرك، ولا نفاق.

قيل: التوفيق بين هذا الحديث وبين الحديث المتقدم: أن المراد بالأول إخراجُ جميع الأمم الذين آمنوا على أنبيائهم، لكنهم استوجبوا النار، والمراد بالثاني: من قال؛ لا إله إلا الله من أمته صلى الله عليه وسلم. أو المراد بالأول: قائل هذه الكلمة بلا عمل أصلًا، والمراد بالثاني: الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا.

والشفاعةُ تُوجدُ على طرق شتى، منها الشفاعة في المحشر حيث يطول بهم القيام، ومنها عند ورود الحوض، وعند اختلاف السبيلين، وعند الجواز على الصراط وغيرها،

فالمؤمن المطيع غير العاصي والمؤمن المطيع العاصي سعيدان بشفاعته صلى الله عليه وسلم في جميع تلك المقامات.

* * *

4319 -

عن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قالَ: أُتيَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بلَحْمٍ، فرُفِعَ إليهِ الذِّراعُ، وكانتْ تُعْجبُهُ، فَنَهَسَ منها نهسَةً، ثُمَّ قالَ:"أنا سَيدُ النَّاسِ يومَ القِيامَةِ، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، وتَدنُو الشَّمْسُ فيَبلُغُ النَّاسُ مِنَ الغَمِّ والكَرْبِ ما لا يُطيقونَ، فيقولُ النَّاسُ: ألا تنظُرونَ مَنْ يَشْفَعُ لكُمْ إلى رَبكُمْ؟ فيأتونَ آدمَ"، وذَكرَ حَدِيْثَ الشَّفاعَةِ، وقال: "فأَنْطَلِقُ، فآتي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ

ص: 62

ساجِداً لربي، ثُمَّ يَفْتَحُ الله عَلَيَّ مِنْ مَحامِده وحُسْنِ الثَّنَاء عليهِ شيئًا لمْ يَفتحْهُ على أَحَدٍ قَبلي، ثُمَّ يُقالُ: يا مُحَمَّدُ! ارفَعْ رأَسكَ، سَلْ تُعطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسي فأقولُ: أُمَّتي، يا رَبِّ! أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي ياربِّ، فيقالُ: يا محمدُ! أَدْخِلْ منْ أُمَّتِكَ مَنْ لا حِسابَ عليهمْ من الباب الأيمنِ من أبوابِ الجنَّةِ وهم شركاءُ النَّاسِ فيما سِوَى ذلك مِنَ الأَبْوابِ. ثُمَّ قال: والذي نفْسي بيدِه إنَّ ما بينَ المِصْراعَيْنِ منْ مَصاريعِ الجَنَّةِ كما بينَ مكَّةَ وهَجَرَ".

"وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُتِي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم، فرُفع إليه الذراع، وكانت"؛ أي: الذراع، وهو يذكر ويؤنث.

"تعجبه"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم؛ لسمنها وحسن طبخها.

"فنهس منها نهسةً"؛ أي: أخذ ما عليها بمقدَّم أسنانه.

"ثم قال: أنا سيدُ ولد آدم يوم القيامة"؛ يعني: أن جميع الناس يوم القيامة من الأنبياء وغيرهم محتاجون إلى شفاعتي؛ لكرامتي عند الله، فإذا اضطروا أتوا إليَّ طالبين لشفاعتي لهم.

"يوم يقوم الناس لرب العالمين": يحتمل أن يكون جواب سائل قائل: ما يوم القيامة؟ ويحتمل أن يكون بدلًا لـ (يوم القيامة).

"وتدنو الشمس"؛ أي: من الغروب، أو من رؤوس الناس في العرصات.

"فيبلغ الناس من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون، فيقول الناس: ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيأتون آدم، وذكر"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم.

"حديث الشفاعة، وقال: فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله تعالى عليَّ من محامِده وحُسنِ الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب! أمتي يا رب! أمتي يا رب! فيقال: يا محمد! أدخل

ص: 63

من أمتك من لا حسابَ عليهم" من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركإءُ الناس فيما سوى ذلك "من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين": وهما قطعتا باب واحد، تغلقان على منفذ واحد، وهو مِفْعال من (الصرع)، وهو الإلقاء، سمي الباب به؛ لأنه كثير الدفع والإلقاء.

"من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر": يحتمل أن يكون هجر؛ الذي هو قرية من قرى المدينة، وأن يكون هجر البحرين، وهي قرية من قراها؛ يعني: مسافة ما بينهما كمسافة ما بين مكة وهجر.

* * *

4320 -

وعن حُذَيْفةَ رضي الله عنه في حَديثِ الشَّفاعَةِ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ:"وتُرْسلُ الأَمانةُ والرَّحِمُ فيقومانِ جَنَبَتَيْ الصِّراطِ يَمينًا وشِمالاً".

"وعن حذيفة رضي الله عنه في حديث الشفاعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تُرسَلُ الأمانةُ والرحمُ"؛ يعني: أن الأمانة والرحم لعظم شأنهما وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما يُمثَّلان هنالك للأمين والخائن، والواصل والقاطع.

"فتقومان جَنَبَتي الصراطِ": و (الجنبة) بفتحتين؛ بمعنى: الجانب.

"يمينًا وشمالاً": يقوم أحدهما من هذا الجانب، والآخر من ذاك، وتحاجَّان عن المحق، وتشهدان على المبطل؛ ليتميز كلٌّ منهما، وقيل: يرسل من الملائكة من يحاج لهما، وفي هذا من الحث على رعاية حقوقهما.

* * *

4321 -

عن عَبْدِ الله بن عَمْرِو بن العاصِ: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم تَلا قولَ الله تعالى في إبراهيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} ، وقالَ عيسَى:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وقالَ:"اللهمَّ أُمَّتي أُمَّتي". وبَكَى،

ص: 64

فقالَ الله عز وجل: يا جِبْريلُ اِذهَبْ إلى مُحَمَّدٍ وربُّكَ أعلَمُ فسَلْهُ ما يُبكيهِ؟ فأتاهُ جِبْريلُ فَسَألَهُ، فأَخْبَرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بما قالَ، فقالَ الله لِجبْريلَ: اِذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ فقُلْ: إنَّا سَنُرْضيْكَ في أُمَّتِكَ ولا نَسُوؤُكَ.

"عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى في إبراهيم"؛ أي: في حقه عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)} [إبراهيم: 36].

"وقال عيسى عليه الصلاة والسلام"؛ أي: قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] فرفع يديه فقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل! اذهب إلى محمَّد، وربك أعلم، فاسأله ما يبكيه؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله، فأخبره على بما قال، فقال الله تبارك وتعالى لجبريل: اذهب إلى محمَّد، فقل: إنا سنرضيكَ في أمتك، ولا نَسُوءُكَ".

* * *

4322 -

عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنَّ ناساً قالوا: يا رسولَ الله! هلْ نرى رَبنا يومَ القِيامَةِ؟ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نعَمْ، هلْ تُضارُّونَ في رُؤْيةِ الشَّمْسِ بالظَّهيرةِ صحْوا ليسَ مَعَها سَحاب، وهلْ تُضَارُّونَ في رُؤْيَةِ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ صَحْوا ليسَ فيها سَحاب؟ " قالوا: لا يا رسولَ الله، قال: كما تُضَارُّونَ في رُؤْيَةِ الله يومَ القِيامةِ إلَّا كما تُضارُّونَ في رُؤْيةِ أحدِهِما، إذا كانَ يومُ القِيامةِ أذَّنَ مُؤذِّن: لِيتَّبعْ كُلُّ أُمَّةٍ ما كانتْ تَعبُدُ، فلا يَبقَى أحدٌ كانَ يَعبُدُ غيرَ الله مِنَ الأَصْنامِ والأنصابِ إلَّا يتساقَطُونَ في النَّارِ، حتَّى إذا لمْ يَبْقَ إلَّا مَنْ كانَ يَعْبُدُ الله من بَرٍّ وفاجِرٍ أتاهُمْ رَبُّ العالَمينَ قال: فَماذا تَنتظِرونَ؟ يتَّبعُ كُلُّ أمّةٍ ما كانتْ تعبُدُ، قالوا: يا رَبنا فارَقْنا النَّاسَ في الدُّنيا أفقَرَ ما كُنَّا إلَيْهمْ ولمْ نصُاحِبْهُمْ".

ص: 65

وفي رِوايةِ أبي هُريرَةَ رضي الله عنه: "فيقولونَ: هذا مَكانُنا حتَّى يأتِينَا ربنا، فإذا جاءَ ربنا عَرَفْناه".

وفي رِواية أَبي سعيدٍ رضي الله عنه: "فيقولُ: هلْ بَيْنَكُمْ وبينَهُ آيةٌ تَعرِفُونهُ؟ فيقولون: نعَم، فيُكشَفُ عنْ ساقٍ فلا يَبقَى مَنْ كانَ يَسْجُدُ لله مِنْ تِلقاءَ نفسِه إلَّا أَذِنَ الله لهُ بالسُّجودِ، ولا يَبقَى مَنْ كانَ يَسْجُدُ اتِّقاءً ورِياءً إلَّا جَعَلَ الله ظَهْرَهُ طَبقةً واحِدَةً، كُلَّما أَرادَ أنْ يَسْجُدَ خَرَّ على قَفاهُ، ثمَّ يُضرَبُ الجسْرُ على جَهَنَّمَ وتَحِلُّ الشَّفَاعةُ، ويقولونَ: اللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، فَيَمُرُّ المُؤْمِنونَ كطَرْفِ العَيْنِ وكالبَرْقِ وكالرِّيح وكالطَّيرِ وكأجاوِيدِ الخَيْلِ والرِّكابِ، فناجٍ مُسَلَّمٌ، ومَخدوشٌ مُرْسَل ومَكْدوسٌ في نارِ جهنم، حتَّى إذا خَلَصَ المُؤْمِنونَ مِنَ النَّارِ، فوالَّذي نَفْسي بيدِه ما مِنْ أَحَدٍ منكُمْ بأَشَدَّ مُناشَدَةً في الحَقِّ، وقدْ تبينَ لكُمْ، مِنَ المُؤْمنينَ لله يومَ القِيامةِ لإخْوانِهمُ الذينَ في النَّارِ، يقولونَ: ربنا كانوا يَصومونَ مَعَنا، ويُصْلُّونَ معنا، ويَحُجُّونَ معنا، فيُقالُ لهمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرفْتُمْ، فتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ على النَّارِ، فيُخرِجونَ خَلْقًا كثيراً ثُمَّ يقولونَ: ربنا ما بقيَ فيها أَحَد مِمَّنْ أَمَرْتَنا بهِ، فيقولُ: اِرجِعُوا فمَنْ وَجَدْتُمْ في قلبهِ مِثْقالَ دِينارٍ منْ خَيْرٍ فأَخْرِجوهُ، فيُخْرِجونَ خَلْقاً كثيرًا، ثُمَّ يقولُ: اِرجِعُوا فمَنْ وَجَدتُمْ في قلبهِ مِثقالَ نِصْفِ دِينارٍ منْ خَيْرٍ فأخرِجُوهُ، فيُخْرِجونَ خَلْقاً كثيرًا، ثُمَّ يقولُ: اِرجِعُوا فمَنْ وَجَدْتُمْ في قلبهِ مِثقالَ ذرَّةٍ منْ خَيْرٍ فأَخْرِجُوهُ، فيُخرِجونَ خَلْقاً كثيرًا، ثمَّ يقولونَ: ربنا لمْ نَذَرْ فيها خَيْراً، فيقولُ الله شَفَعَت الملائِكةُ، وشَفعَ النبيونَ، وشَفَعَ المُؤْمِنونَ، ولمْ يَبقَ إلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ، فيقْبضُ قَبْضَةً مِنَ النارِ، فَيُخْرِجُ مِنْها قَوْما لم يَعْمَلوا خَيْراً قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَماً، فَيُلْقِيهِمْ في نَهْرٍ في أَفْوَاهِ الجَنَّةِ يُقالُ لهُ: نهرُ الحياةِ، فيَخْرُجُونَ كما تَخْرُجُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ، فيَخرُجونَ كاللُّؤْلؤِ في رِقابهِمُ الخَواتِمُ، فيقولُ أهلُ الجنَّةِ: هؤلاءَ عُتَقاءُ الرَّحْمنِ، أَدْخَلَهُمُ الجنَّةَ بغيرِ عَمل عَمِلُوهُ، ولا خَيرٍ قَدَّموهُ، فيُقالُ لهمْ: لكُمْ ما رأَيْتُمْ ومِثلُهُ مَعَهُ".

ص: 66

" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسًا قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال عليه السلام: نعم، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوًا ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوًا ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: ما تضارون في رؤية الله تعالى يوم القيامة، إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يوم القيامة أذن مؤذنٌ؟ لتتبعْ كلُّ أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحدٌ كان يعبد غير الله من الأصنام ": بيان (غير الله): جمع صنم، " والأنصاب ": جمع (نُصْب) بالفتح والضم وسكون الصاد، وقد يحرك مع الضم، وهو ما نُصِب من الحجارة، فعُبد من دون الله تعالى.

" إلا يتساقطون في النار، حتَّى إذا لم يبقَ إلا من كان يعبد الله تعالى مِنْ برٍّ أو فاجرٍ، أتاهم ربُّ العالمين "؟ أي: أمره، وقيل: يجوز أن يعبَّر بالإتيان عن التجليات الإلهية، والتعريفات الربانية.

" قال: فماذا تنظرون؟ تتبعُ كلُّ أمة ما كانت تعبُدُ، قالوا: يا ربنا! فارقنا الناسَ ": والمراد بالناس هنا: هم الذين عبدوا غيرَ الله تعالى.

" في الدنيا أفقرَ ": منصوب على أنَّه حال من ضمير (فارقنا).

" ما كنا إليهم ": (ما) هذه مصدرية؛ أي: أفقر زمان كوننا إليهم.

" ولم نصاحبهم ": والمعنى: فارقناهم في الدنيا على تلك الحال من شدة افتقارنا واحتياجنا إلى ما في أيديهم من الأمور الدنيوية، فمفارقتنا إياهم الآن أولى مع عدم الاحتياج إليهم في أمرٍ ما أصلًا.

" وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه: فيقولون: هذا مكاننا حتَّى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه ".

" وفي رواية أبي سعيد رضي الله عنه: فيقولون: هل بينكم وبينه "؟ أي: بين الله.

ص: 67

" آية "؟ أي: علامة.

" تعرفونه "؟ أي: ربكم بتلك الآية، وهي المعرفة والمحبة والإيمان.

" فيقولون: نعم، فيكشفُ عن ساقٍ ": قد مرَّ تفسير كشفِ الساق في (بابٌ: لا تقوم الساعة).

" فلا يبقى من كان يسجد لله تعالى من تلقاء نفسه إلا أذن الله تعالى له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجدُ لله تعالى اتقاءٌ "؟ أي: من العباد والسيف.

" ورياء إلا جعل الله تعالى ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خَرَّ "؟ أي: سقط.

" على قفاه، ثم يُضرَب الجسرُ على متن جهنم، وتحلُّ الشفاعة، ويقولون "؟ أي: الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - طلبًا للسلامة لأمتهم.

" اللهم سلِّمْ سلِّمْ ": أمر من التسليم، وهو: جعل الشخص سالمًا من الآفة، والثاني تأكيد للأول؛ أي: اجعل أمتي سالمين من ضرر الصراط والسقوط في النار.

" فيمرّ المؤمنون كطرفة العين ": يقال: طرف طرفًا: إذا أطبق أحدَ جفنيه على الآخر، والتاء للوحدة.

" وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل ": جمع: أجود، وجواد، وهو الفرس السابق الجيد.

" والركاب ": وهو الإبل التي يُسارُ عليها، الواحدة: راحلة، ولا واحدَ لها من لفظها.

" فناجٍ مُسلَّم "؟ أي: فالناس بالإضافة إلى المرور على ثلاث طبقات:

الأولى: ناجون سالمون من الآفات، وهم المؤمنون الذين ذكر مرورهم قبلُ.

ص: 68

" ومخدوش "؟ أي: الثانية: مخدوش؛ أي: الَّذي خُدِش جلده؛ أي: جُرِح بالكلاليب من عصاة أهل الإيمان.

" مُرسَلٌ "؟ أي: مطلق عن القيد والغل بعد أن عُذِّبوا مدة.

" ومكدوش "؟ أي: الثالثة: مكدوش؛ أي: مغلول مقيد بالسلاسل والأغلال " في نار جهنم ": وهم الكفار.

ويروى: بالسين المهملة؛ أي: مدفوع في النار من وراء ظهره.

" حتَّى إذا خَلَص المؤمنون من النار ": (حتَّى) غاية لمرور البعض على الصراط وسقوط البعض في النار.

" فوالذي ": الفاء جواب (إذا)، والواو للقسم.

" نفسي بيده ما من أحد ": (من) فيه زائدة للاستغراق، و (أحد) اسم (ما).

" منكم ": صفة لـ (أحد).

" بأشد ": خبر (ما).

" مناشدة ": نصب على التمييز؛ أي: مطالبة ومناظرة، من نشدت الضالة: إذا طلبتها.

" في الحق "؟ أي: في أمر الحق، وهو ظرف لـ (مناشدة).

" قد تبين لكم ": نصب على الحال؛ أي: ظهر لكم الحق.

" من المؤمنين ": متعلق بـ (أشد).

" لله ": متعلق بـ (المناشدة).

" يوم القيامة ": متعلق أيضًا بـ (أشد).

" لإخوانهم "؟ أي: لأجل نجاة إخوانهم.

" الذين في النار ": تلخيصه: لا يكون أحدٌ منكم أكثر اجتهادًا ومبالغة في

ص: 69

طلب الحق حين ظهوره من المؤمنين في طلب خلاص إخوانهم العصاة في النار من النار يوم القيامة.

" يقولون: ربنا! كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا! ما بقي فيها أحدٌ ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقال: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف ذرة من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذرْ فيها "؟ أي: لم نترك في جهنم " خيرًا "؟ أي: أهل خير.

" فيقول الله تعالى: شفعت الملائكةُ، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبقَ إلا أرحمُ الراحمين، فيقبض قبضةً من النار ": القبضة: عبارة عما يسعه الكفُّ، والله سبحانه وتعالى منزهٌ عن الجوارح؛ فإنها صفة الأجسام، ومثل هذا من المتشابهات فتركُ الخوض فيها أقربُ إلى السلامة.

" فيخرج الله منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط قد عادوا حُمَمًا ": جمع حممة، وهي الفحم؛ أي: قد صاروا محترقين سُودًا مثل الفحم.

" فيلقيهم في نهر في أفواهِ الجنّة ": صفة نهر؟ أي: في أوائلها ومقدماتها وطرقها، يقال: فوهة الطريق، والجمع:(أفواه) على غير قياس.

" يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرجُ الحِبَّة " بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة: اسم جامع لحبوب البقول التي تنتشر إذا هبت الريح، ثم إذا أمطرت السماء من قابل نبتت.

ص: 70

" في حَميلِ السيل "؟ أي: محموله من طين ونحوه، فإذا اتفقت فيه حبة، واستقرت على شطِّ مجرى السيل، تنبت في يوم وليلة، فشبَّه بها سرعةَ عود أبدانهم وأجسامهم إليهم بعدَ إحراق النار لها.

وفيه دليلٌ على أن العاصي لا يخلد في النار، وعلى تفاضل الناس في الإيمان.

" فيخرجون كاللُّؤْلؤ في رقابهم ": جمع رقبة.

" الخواتم ": جمع خاتم، والمراد بها: العلامة، وتعليق الخواتم؛ ليمتازوا عن المغفورين بواسطة العمل الصالح.

" فيقول أهل الجنّة: هؤلاء عتقاءُ الرحمن، أدخلهم الجنّة بغير عمل عملوه، ولا خير قدَّموه، فيقال لهم "؟ أي: للعتقاء.

" لكم ما رأيتم "؟ أي: مدَّ بصركم من فضله الكامل.

" ومثله معه "؟ أي: مع ما رأيتم من الدور والقصور.

* * *

4323 -

وقال: " إذا دَخَلَ أهلُ الجَنَّةِ الجنَّةَ وأهلُ النَّارِ النَّارَ يقولُ الله تعالى: مَنْ كانَ في قَلْبهِ مِثْقالُ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ منْ إيمانٍ فأخْرِجُوهُ، فيُخْرَجونَ قدِ امتَحَشُوا وعادُوا حُمَمًا، فيُلقَوْنَ في نهرِ الحياةِ فيَنْبُتونَ كما تَنبُتُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ، ألَمْ تَرَوْا أنَّها تَخْرُجُ صَفْراءَ مُلتَوِيةً ".

" وقال: إذا دخل أهلُ الجنّة الجنّة، وأهلُ النار النارَ، يقول الله تعالى: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون قد امْتَحَشُوا "؟ أي: احترقوا، والمحش: احتراق الجلد، وظهور العظم.

" وعادوا حُممًا، فيُلقَون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحِبَّة في

ص: 71

حميل السيل، ألم تروا أنها تخرج صفراء "؟ أي: خضراء.

" ملتوية "؟ أي: مجتمعة.

* * *

4324 -

عن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه: أنَّ النَّاسَ قالوا: يا رسولَ الله! هلْ نَرَى ربنا يومَ القِيامةِ؟ فذكرَ معنَى حديثِ أبي سعيد رضي الله عنه غيرَ كَشْفِ السَّاقِ. وقال: " ويُضْرَبُ الصِّراطُ بينَ ظَهْرانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، ولا يَتَكلَّمُ يَومئِذٍ إلَّا الرُّسُلُ، وكلامُ الرُّسُلِ يَومَئِذٍ: اللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وفي جَهَنَّمَ كلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدانِ لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِها إلَّا الله، تَخْطَفُ النَّاسَ بأَعْمالِهِمْ، فمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بعَمَلِهِ، ومنهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنجُو، حتَّى إذا فَرَغَ الله مِنَ القَضاءِ بينَ عِبادهِ، وأرادَ أنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ أرادَ أنْ يُخرِجَهُ ممَّنْ كانَ يَشهدُ أنْ لا إله إلَّا الله؛ أَمَرَ الملائِكَةَ أنْ يُخرِجُوا مَنْ كانَ يعبُدُ الله، فيُخرِجونَهُمْ، وَيعْرِفُونَهُمْ بآثارِ السُّجودِ، وحَرَّمَ الله على النَّارِ أنْ تَأَكُلَ أثرَ السُّجودِ، فكُلُّ ابن آدمَ تَأكُلُهُ النَّارُ إلَّا أثرَ السُّجودِ، فيُخرَجونَ مِنَ النَّارِ قدِ امتَحَشُوا، فيُصَبُّ عليهِمْ ماءُ الحَياةِ، فَيَنْبتُونَ كما تنبُتُ الحِبَّةَ في حَميلِ السَّيْلِ، ويَبقَى رَجُلٌ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، وهوَ آخِرُ أهلِ النَّارِ دُخولًا الجَنَّةَ، مُقْبلٌ بوَجهِهِ قِبَلَ النَّارِ، فيقولُ: يا ربِّ اصْرِفْ وَجْهي عنِ النَّارِ، قدْ قَشَبني رِيحُها وأحرَقَني ذَكاؤُها، فيقولُ: هلْ عَسَيْتَ إنْ فُعِلَ ذلكَ بكَ أنْ تسألَ غيرَ ذلك؟ فيقولُ: لا وعِزَّتِكَ، فيُعطِي الله ما شاءَ مِنْ عَهْدٍ ومِيثاقٍ، فيَصرِفُ الله وَجْهَهُ عنِ النَّارِ، فإذا أقبَلَ بهِ إلى الجَنَّةِ رأَى بَهْجَتَها سَكَتَ ما شاءَ الله أنْ يَسكُتَ، ثم قال: يا رَبِّ قَدِّمْني عِندَ بابِ الجنَّةِ، فيقولُ الله تبارك وتعالى: أليسَ قدْ أَعطَيْتَ العُهُودَ والمِيثاقَ أنْ لا تَسألَ غيرَ الَّذي كنتَ سألتَ؟ فيقولُ: يا ربِّ لا أَكُونُ أَشْقَى خَلقِكَ، فيقولُ: فما عَسَيْتَ إنْ أُعْطِيْتَ ذلكَ أنْ تسألَ غيرَهُ، فيقولُ:

ص: 72

لا وعِزَّيكَ لا أَسألُك غيرَ ذلكَ، فيُعْطِي ربَّهُ ما شاءَ منْ عَهْدٍ وميثاقٍ، فيُقدِّمُهُ إلى بابِ الجَنَّةِ، فإذا بلغَ بابَهَا فرأَى زَهْرَتَها وما فيها مِنَ النَّضْرَةِ والسُّرورِ، فَسَكَتَ ما شاءَ الله أنْ يَسكُتَ، فيقولُ: يا رَبِّ أَدْخِلْني الجَنَّةَ، فيقولُ الله تبارك وتعالى: ويلَكَ يا ابن آدمَ ما أغْدَرَكَ! أليسَ قدْ أَعْطيْتَ العُهودَ والمِيثاقَ أنْ لا تَسألَ غيرَ الَّذي أُعْطِيتَ؟ فيقولُ: يا رَبِّ لا تَجْعَلْني أَشْقَى خَلقِكَ، فلا يزالُ يَدعُو حتَّى يَضْحَكَ الله منهُ، فإذا ضَحِكَ أذِنَ لهُ في دُخُولِ الجَنَّةِ، فيقولُ: تَمنَّ، فيَتمنَّى حتَّى إذا انقَطَعَ أُمنِيَّتُهُ قالَ الله تعالَى: تَمَنَّ كذا وكذا، أَقْبَلَ يُذكِّرُهُ ربُّهُ، حتَّى إذا انتهتْ بهِ الأَمانيُّ قالَ الله تعالَى: لكَ ذلكَ ومِثلُهُ معه ".

وقالَ أبو سعيدٍ رضي الله عنه: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " قالَ الله تعالَى: لكَ ذلكَ وعَشْرَةُ أَمْثالِهِ ".

" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فذكر معنى حديث أبي سعيد رضي الله عنه غير كشف السَّاق، وقال: ويُضرَبُ الصِّراط بين ظَهْرَانيْ جهنم، فأكون أوَّلُ من يَجُوْزُ من الرُّسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ إلا الرُّسل، وكلام الرُّسل يومئذ: اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ، وفي جهنَّم كلاليب ": جمع كُلَّاب - بالضم والتشديد -، وهو حديدة معوجَّة الرَّأس يُجرَّ الناس بها.

" مثل شوك السَّعْدان ": نبت أغبر اللون يأكله كل الدَّواب، وهو عند العرب أطيب مرعى الإبل، وله شوك يشبه حلمة الثدي.

" لا يعلم قدر عِظَمها إلا الله، تَخْطَفُ الناس بأعمالهم، فمنهم مَنْ يُوْبَق "؟ أي: يُحْبَسُ " بعمله، ومنهم مَنْ يُخَرْدَلُ "؟ أي: يُقطَّع؛ يعني: تقطعه كلاليب الصراط حتَّى يهوي في النار، ثم ينجو، وقيل: تقطِّع الكلاليب لحمه على الصراط وتخرج أعضاؤه.

" ثم ينجو " ولا يقع في النار، يقال: خَرْدَلْتُ اللحم؛ أي: قَطَّعته صغارًا.

ص: 73

" حتَّى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده، وأراد أن يُخْرِج من النار مَنْ أراد أن يُخرجه، ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، أمر الملائكة أن يُخْرِجُوا مَنْ كان يعبد الله، فيُخْرِجُونهم وَيعْرِفُونهم بآثار السُّجود، وحرَّمَ الله على النَّار أن تأكل أثر السُّجود، فكل ابن أدم تأكله النار إلا أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتَحَشُوا، فيصبُّ عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحِبَّة في حَمِيْلِ السَّيْل، ويبقى رجل بين الجنّة والنار، وهو آخر أهل النار دخولًا الجنة، مُقْبِلٌ بوجهه قِبَلَ النار، فيقول: يا ربِّ، اصرف وجهي عن النار فقد قَشَبني "؛ أي: آذَاني.

" ريحها وأحرقني ذَكَاؤُها "؛ أي: شدَّة وهجها واشتعالها.

" فيقول: هل عَسَيْتَ ": استفهام بمعنى التقرير.

" إن فُعِلَ ذلك بك ": جملة شرطية يدل على جزائه ما تقدم؛ أي: إن صُرِف وجهك عن النار فهل عسيت " أن تسأل غير ذلك، فيقول: لا وعزَّتك فيعطي الله "؛ أي: الرجلُ ربَّه.

" ما شاء من عَهْدٍ وميثاق، فيصرف الله وجهَهُ عن النار، فإذا أقبل به "؛ أي: بوجهه.

" على الجنّة، ورأى بهجَتَها "؛ أي: حُسْنَها.

" سَكَتَ ما شاء الله أن يَسْكُتَ، ثم قال: يا ربِّ، قدِّمني عند باب الجنّة، فيقول الله تبارك وتعالى: أليس قد أعطيْتَ العهود والميثاق أن لا تسأل غير الَّذي كنت سألْتَ؟ فيقول: يا ربِّ، لا أكون أشقى خلقك، فيقول: فما عسيت إن أُعطيْتَ ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزَّتك لا أسألك غير ذلك، فيعطي ربَّه ما شاء الله من عهد وميثاق، فيقدِّمُهُ إلى باب الجنّة، فإذا بَلَغَ بابها، فرأى زهرتَها "، و (الزهرة): البياض، وزهرة الدنيا: نضارتها؛ أي: رأى طيب العيش في الجنّة.

ص: 74

" وما فيها من النَّضْرَة "؛ أي: الحُسْنِ والرَّونق.

" والسرور "؛ أي: الفرح.

" فسكت ما شاء الله أن يسكُتَ، فيقول: يا ربِّ، أدخلني الجنّة، فيقول الله تبارك وتعالى: ويلك ": عبارة عن الهلاك؛ أي: هلكْتَ هلاكًا.

" يا ابن آدم ما أغدَرَكَ ": (ما) فيه إما للتعجب؛ أي: إنك تستحق أن يُتَعَجَّب من كثرة غدرك وثباتك عليه، أو للاستفهام؛ أي: أي شيء صيَّرك غادرًا.

" أليس قد أعطيْتَ العهود والميثاق أن لا تسأل غير الَّذي أُعْطِيْتَ "، روي:(أعذرك) - بالعين المهملة والذال المعجمة -؛ معناه: أي شيء جعلك في هذا السؤال معذورًا.

" فيقول: يا ربِّ لا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو "؛ أي: يداوم في دعائه.

" حتَّى يضحك الله منه "، ضحكه تعالى: عبارة عن كمال الرضى.

" فإذا ضحك أَذِنَ له في دخول الجنّة، فيقول له تمنَّ ": أمر مخاطب من تمنَّيت الشيء: إذا اشتهيته.

" فيتمنَّى حتَّى إذا انقطع أُمْنِيَّتُهُ "؛ أي: مُشْتَهاه ومطلوبه.

" قال الله تعالى: تمنَّ من كذا وكذا "؛ أي: من كل جنس تشتهي منه.

" أقبلَ ربُّه "؛ أي: طفق لطفه تعالى " يذكِّره " ما تفضل عليه من النِّعم.

" حتَّى إذا انتهت به الأمانيُّ، قال الله تعالى: لك ذلك ومثله معه، وقال أبو سعيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: لك ذلك وعشرة أمثاله ".

* * *

ص: 75

4325 -

عن ابن مَسْعودٍ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " آخِرُ مَنْ يَدخُلُ الجَنَّةَ رَجُلٌ فهوَ يَمْشي مَرَّةً ويَكْبُو مَرَّةً وتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فإذا جاوَزَها التفَتَ إلَيْها فقال: تَبَارَكَ الَّذي نجَّاني مِنكِ لقدْ أَعْطانيَ الله شَيْئًا ما أعطاهُ أَحَدًا مِنَ الأَوَّلينَ والآخِرينَ، فتُرْفَعُ لهُ شَجَرَةٌ فيقولُ: أيْ رَبِّ أدْنِني منْ هذهِ الشَّجَرةِ فلأَستَظِلَّ بظِلِّها، وأَشْربَ منْ مائِها، فيقولُ الله: يا ابن آدمَ لعَلِّي إنَّ أَعْطَيْتُكَها سألتَني غيرَها، فيقول: لا يا رَبِّ، ويُعاهِدُهُ أنْ لا يسألَهُ غيرَها، فيُدنِيه منها، فيَستظِلُّ بظِلِّها، ويَشْرَبُ منْ مائِها ثُمَّ تُرْفَعُ لهُ شَجَرَةٌ هيَ أَحْسنُ مِنَ الأُولى، فيقولُ: أيْ رَبِّ أدْنِني منْ هذهِ الشَّجَرةِ لأَشربَ منْ مائِها، وأَستظِلَّ بظِلِّها، فيقولُ: لَعلِّي إنْ أدنَيْتُكَ منها تسألُني غيرَها، فيُعاهِدُه أنْ لا يسأَلَهُ غيرَها، فيُدنيهِ منها فيَستظِلُّ بظِلِّها، وَيشْرَبُ منْ مائِها، ثمَّ تُرفَعُ لهُ شجَرةٌ عندَ بابِ الجَنَّةِ هيَ أَحْسنُ مِنَ الأُولَيَيْنِ فيقولُ: أيْ ربِّ أدْنِني منْ هذهِ فلأستظِلَّ بظِلِّها وأشربَ منْ مائِها، فيقولُ: يا ابن آدمَ أَلَم تُعاهِدْني أنْ لا تَسأَلَني غيرَها؟ قال: بَلَى يا رَبِّ هذهِ لا أسألُكَ غيرَها، ورَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأنَّهُ يَرَى ما لا صَبْرَ لهُ عليهِ، فيُدنِيهِ منها، فإذا أدناهُ منها سَمعَ أَصْواتَ أَهْلِ الجَنَّةِ فيقولُ: أيْ ربِّ أَدْخِلْنِيها، فيقولُ: يا ابن آدمَ ما يَصْرِيني منكَ؟ أيُرضيكَ أنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيا ومِثلَها مَعَها؟ قال: أيْ رَبِّ أتَسْتهْزِئُ مِنِّي وأنتَ ربُّ العالمينَ ". فضَحِكَ ابن مَسعودٍ فقالوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قال: هكذا ضَحِكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مِمَّ تَضْحَكُ يا رسولَ الله؟ قال: " منْ ضحْكِ ربِّ العالمينَ حِينَ قال: أتَستهْزِئُ مِنِّي وأنتَ ربُّ العالمينَ؟ فيقولُ: إنِّي لا أَسْتَهْزِئُ مِنكَ، ولكنِّي على ما أشاءُ قدِير ".

" وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: آخِرُ مَنْ يدخل الجنّة رجل فهو يمشي مرَّة ويَكْبُو مرَّة "؛ أي: يقف تارة، والكَبْوَة: الوقفة، وقيل: أي يسقط لوجهه.

ص: 76

" وتَسْفَعُهُ النار مرَّة "؛ أي: تلفحه لفحًا يسيرًا فتغيِّر لون بشرته، وقيل: أي تعلمه علامة؛ يعني: به أثر منها.

" فإذا جاوَزَها "؛ أي: النار.

" التفَتَ إليها، فقال: تَبَارَكَ الَّذي نجَّاني "؛ أي: خلَّصني.

" منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأوَّلين والآخرين، فَتُرْفَع "؛ أي: تظهر.

" له شجرة، فيقول: أَيْ ربِّ أدْنِني ": أمرٌ من الإدناء؛ أي: قرِّبني.

" مِنْ هذه الشجرة فلأستظل ": الفاء زائدة؛ أي: لأستريح.

" بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله تعالى: يا ابن آدم، لعلي إن أعطيْتُكَها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب، ويعاهده على أن لا يسأله غيرها، فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم تُرْفَعُ له شجرة هي أحسن من الأُولى، فيقول: أَيْ ربِّ أَدْنِني من هذه الشجرة لأشرب من مائها وأستظل بظلِّها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها، فيقول لعلِّي إن أدنَيْتُكَ منها سألتني غيرها، فيعاهده أن لا يسأله غيرها، فيدنيه منها فيستظل بظلِّها ويشرب من مائها، ثم تُرْفَع له شجرة عند باب الجنّة، وهي أحسن من الأُوْلَيَيْنِ، فيقول: أَيْ ربِّ، أَدْنِني مِنْ هذه فلأستظِلَّ بظلِّها وأشرب من مائها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؛ قال: بلى يا ربِّ، هذه لا أسألك غيرها، وربُّهُ يعذِرُهُ؛ لأنه يرى ما لا صبْرَ له عليه، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصواتَ أهل الجنّة، فيقول: أي ربِّ، أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم، ما يَصْرِيني منك "؛ أي: ما الَّذي يقطع مسألتك عني ويرضيك مني.

" أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها، قال: أَيْ ربِّ أتستهزئ مني "، يريد به: أتحلني محل المستَهْزَئ به، " وأنت ربُّ العالمين "، والاستهزاء

ص: 77

بالشيء إذا أُسْنِد إلى الله يراد به: إيقاع الهَوَان، فإن قيل: كيف صحَّ هذا القول منه بعد كشف الغطاء واستواء العالم والجاهل في معرفة ما يجوز على الله وما لا يجوز.

قلنا: مثابة هذا العبد مثابة العالم العارف الَّذي يستولي عليه الفرح بما آتاه الله، فيزلُّ لسانه من شدة الفرح، كما أخطأ في القول مَنْ ضَلَّتْ راحلته بأرض فلاة وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، ثم بعد ما وجدها وأخذ بخطامها قال من شدَّة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك.

" فضحك ابن مسعود فقالوا: ممَّ تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: مِنْ ضحك ربِّ العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين "، وإنما ضحك صلى الله عليه وسلم سرورًا بما رآه من كمال رحمته، ولطفه بعبده المذنب، وغاية رضاه عنه استعجابًا منه.

" فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قدير ": وهذا استدراك عن مقدَّر، فإنه تعالى لما قال:(أيرضيك إن أعطيتك الدنيا ومثلها معها) فاستبعده العبد لما رأى أنَّه ليس أهلًا لذلك، وقال: أتستهزئ بي، قال سبحانه وتعالى: نعم كنْتَ لسْتَ أهلًا له لكني أجعلك أهلًا له وأعطيك ما استبعدته؛ لأني على ما أشاء قدير.

* * *

4326 -

وفي رِوَايةٍ: " ويُذَكِّرُهُ الله سَلْ كذا وكذا، حتَّى إذا انقَطَعَتْ بهِ الأمَانِيُّ قال الله: هوَ لكَ وعَشَرةُ أمثالِهِ، قال: ثُمَّ يَدْخُلُ بيتَهُ فتدخُلُ عليهِ زَوْجتاهُ مِنَ حُوْرِ العِينِ فتقولانِ: الحَمْدُ لله الَّذي أحْياكَ لنا وأحْيانا لكَ، قالَ فيقولُ: ما أُعطيَ أَحَدٌ مِثلَ ما أُعْطِيتُ ".

ص: 78

" وفي رواية: ويذكره الله: سَلْ كذا وكذا، حتَّى إذا انقطعَتْ له الأماني، قال الله تعالى: هو لك وعشرة أمثاله، قال: ثم يدخله بيته، فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فتقولان: الحمد لله الَّذي أحْيَاك لنا وأحْيَانا لك، قال: فيقول: ما أعطي أحدٌ مِثْلَ ما أُعْطِيْتُ ".

* * *

4327 -

عن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " لَيُصِيبنَّ أَقْوامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بذُنُوبٍ أَصابُوها عُقوبةً، ثُمَّ يُدخِلُهُمْ الله الجنَّةَ بفَضْلِ رَحْمَتِهِ، فيُقالُ لهُمْ: الجَهَنَّمِيُّونَ ".

" عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لَيُصِيْبنَّ أقوامًا ": جواب قسم مقدَّر.

" سَفْعٌ "؛ أي: إحراق قليل.

" من النار ": صفة (سفع).

" بذُنُوبٍ ": الباء فيه للسببية.

" أصابوها ": صفة (ذنوب).

" عقوبةً ": مفعول له.

" ثم يُدْخِلُهم الله الجنّة بفضل رحمته، فيقال لهم: الجَهَنَّمِيُّون ": جمع جَهَنَّمِيٍّ، وهو منسوب إلى جهنَّم.

* * *

4328 -

عن عِمران بن حُصَيْن، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:" يَخرُجُ قومٌ مِنَ النَّارِ بشَفاعةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فيَدخُلونَ الجَنَّةَ ويُسمَّوْنَ: الجَهنَّميينَ ".

وفي رِوايةٍ: " يَخْرُجُ قومٌ مِنْ أُمَّتي مِنَ النَّارِ بشَفاعَتي يُسمَّوْنَ: الجَهنَّميينَ ".

ص: 79

" عن عِمْرَان بن حُصَيْن رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يخرج قومٌ من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنَّة، ويُسَمَّوْنَ الجَهَنَّمِييِّن ": كذلك في أكثر النُّسخ، وفي بعضها:(الجَهَنَّمِيُّونَ)، ليست التَّسمية بها تنقيصًا لهم، بل لأن ذلك يكون عَلَمًا لكونهم عتقاء الله تعالى.

" وفي رواية: يخرج قومٌ من أمتي من النار بشفاعتي، يُسَمَّوْنَ الجَهَنَّميِّين ".

* * *

4329 -

عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ رضي الله عنه قال: قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم " إنِّي لأَعلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُروجًا منها، وآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخولًا، رَجُلٌ يخرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فيقولُ الله: اِذْهَبْ فادخُلِ الجَنَّةَ، فيأتِيها فيُخَيَّلُ إليهِ أنَّها مَلأَى، فيقولُ الله: يا رَبِّ وَجَدتُها مَلأَى، فيقولُ الله: اذهَبْ فادخُلِ الجَنَّةَ فإنَّ لكَ مِثْلَ الدُّنْيا وعَشَرَةَ أمثالِها، فيقول: تَسْخَرُ مِنِّي - أو تَضْحَكُ مِنِّي - وأنتَ المَلِكُ؛ " ولقَدْ رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نوَاجِذُهُ. وكانَ يُقالُ: " ذلكَ أدنىَ أهلِ الجنَّةِ مَنزِلةً ".

" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إنِّي لأعلم آخر أهل النَّار خُروجًا منها، وآخر أهل الجنّة دخولًا، رجلٌ يخرج من النار حَبْوًا ": وهو المشي على أربع، أو الدَّب على الأست، نصب على الحال، أو المصدر.

" فيقول الله: اذهب فأدخل الجنّة، فيأتيها فيخيَّل إليه أنها مَلأى " تأنيث ملآن.

" فيقول: يا ربِّ وجدْتُها مَلأى، فيقول: اذهب فادخل الجنّة، فإنَّ لك مِثْلَ الدنيا وعشرة أمثالها، فيقول: أتسخَرُ مني، أو: تَضْحَكُ مني، وأنت الملك؟!

ص: 80

ولقد رأيْتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نوَاجِذُهُ، وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنّة مَنْزِلَةً ".

* * *

4330 -

عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لأَعلَمُ آخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخولًا الجَنَّةَ، وآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُروجًا منها، رَجُلٌ يُؤتَى بهِ يومَ القِيامَةِ فيُقالُ: اعْرِضُوا عليهِ صِغارَ ذُنوبهِ، وارفَعوا عنهُ كِبارَها، فيُعرَضُ عليهِ صِغارُ ذُنوبهِ، فيُقالُ: عَمِلتَ يَوْمَ كَذا وكَذا؛ كَذا وكَذا، وعَمِلتَ يَوْمَ كَذا وكَذا؛ كَذا وكَذا، فيقولُ: نعمْ، لا يَستطيعُ أنْ يُنكِرَ، وهوَ مُشفِقٌ مِنْ كِبارِ ذُنوبهِ أنْ تُعرَضَ عليهِ، فيُقالُ لهُ: فإنَّ لكَ مَكانَ كُلِّ سيِّئةٍ حَسَنَةً، فيقولُ: رَبِّ قدْ عَمِلتُ أَشْياءَ لا أَراها ها هُنا "، فلقدْ رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حتَّى بدَتْ نَواجِذُهُ.

" عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم آخرَ أهل الجنّة دخولًا الجنّة ": نصب بـ (دخولًا).

" وآخر أهل النار خروجًا منها، رجلٌ يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذُنُوبه وارفعوا عنه كبارها، فتُعْرَضُ عليه صغار ذنوبه، فيقال: عَمِلْتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم لا يستطيع أن يُنْكِرَ وهو "؛ أي: العبد " مُشْفِقٌ "؛ أي: خائف " من كبار ذنوبه أن تُعْرَضَ عليه، فيقال له: فإن لك مكان كلِّ سيئةٍ حسنةً، فيقول: ربِّ قد عملت أشياء لا أَراها هاهنا، فلقد رأيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نواجِذُهُ ".

* * *

4331 -

عن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: " يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَرْبعَةٌ

ص: 81

فيُعرَضونَ على الله تعالى، ثُمَّ يُؤْمَرُ بهمْ إلى النَّارِ، فيَلتفِتُ أَحَدُهُمْ فيقولُ: أيْ ربِّ لقد كُنْتُ أرجُو إذْ أَخْرَجْتَني منها أنْ لا تُعيدَني فيها، قال: فيُنْجيهِ الله منها ".

" عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرجُ من النار أربعة "؛ أي: أربعة رجال.

" فيُعْرَضُون على الله، ثم يُؤْمَر بهم إلى النار فيَلتفِتُ أحدهم فيقول: أَيْ ربِّ لقد كنْتُ أرجو إذ أخرجتني منها أن لا تعيدني فيها، قال: فينجيه الله منها ".

* * *

4332 -

وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " يَخْلُصُ المُؤْمِنونَ مِنَ النَّارِ، فيُحْبَسونَ على قَنْطَرةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فيُقْتَصُّ لبَعْضهِمْ منْ بَعْضٍ مَظالِمُ كانتْ بينَهُمْ في الدُّنْيا، حتَّى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهُمْ في دُخُولِ الجَنَّةِ، فوالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لأَحدُهُمْ أَهْدَى لِمَنْزِلهِ في الجنَّةِ منهُ لِمَنْزِلهِ كانَ في الدُّنْيا ".

" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يَخلُصُ المؤمنون من النار، فيحبسون على قَنْطَرة "، والمراد بها هنا: الصراط الممدود.

" بين الجنّة والنار فيُقْتَصُّ ": بصيغة المجهول، من الاقتصاص.

" لبعضهم من بعضٍ مَظالم ": جمع مَظْلِمَة - بكسر اللام -، وهي ما تطلبه من عند الظالم مما أخذه منك.

" كانت بينهم في الدنيا ": مالية كانت أو عرضية.

" حتَّى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا " من الذنوب، بأداء ما عليهم من الحقوق إلى صواحبها، أو يرضيهم الله سبحانه بكرمه ولطفه مما عنده، والتَّهذيب والتَّنقية واحد.

ص: 82

" أُذِنَ لهم في دخول الجنّة، فوالذي نفسُ محمد بيده لأَحَدُهُمْ ": اللام فيه للابتداء.

" أهدَى "؛ أي: أَعْرَف.

" بمنزله ": المعدُّ له.

" في الجنَّة منه "؛ أي: من مَعْرِفَتِهِ.

" بمنزله، الَّذي " كان في الدنيا ".

* * *

4333 -

وقال: " لا يَدْخُلُ أَحَدٌ الجَنَّةَ إلا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، لوْ أَساءَ لِيَزْدادَ شُكرًا، ولا يدخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إلَّا أُرِيَ مقعدَهُ مِنَ الجنَّةِ، لوْ أحسنَ ليكونَ عليهِ حَسْرةً ".

" وقال صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنَّة إلا أُرِيَ ": علي بناء المجهول.

" مقعَدَهُ ": بالنصب مفعوله الثاني.

" من النار لو أَسَاء "؛ يعني لو أساء لكان ذلك مقعده.

" ليزداد شُكرًا ": متعلق بقوله: (أري).

" ولا يدخل النار أحد إلا أُرِيَ مقعده من الجنّة لو أحسن؛ ليكون عليه حَسْرَة ".

* * *

4334 -

وقالَ: " إذا صارَ أَهْلُ الجَنَّةِ إلى الجَنَّةِ، وأهلُ النَّارِ إلى النَّارِ جِيءَ بالمَوْتِ حتَّى يُجْعَلَ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، ثمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنادِي مُنادٍ: يا أَهْلَ الجَنَّةِ لا مَوْتَ، ويا أَهْلَ النَّارِ لا مَوْتَ، فيزدادُ أهلُ الجَنَّةِ فَرَحًا إلى فرَحِهم،

ص: 83

ويزدادُ أَهْلُ النَّار حُزنًا إلى حزنهم ".

" وقال: إذا صار أهل الجنّة إلى الجنّة "؛ أي: وصل إليها.

" وأهل النار إلى النار جِيءَ بالموت ": يخرجُ الموت المعقول يوم القيامة في صورة المحسوس.

" حتَّى يُجعَلَ بين الجنّة والنار " فيشاهده أهل الجنّة والنار بأعينهم فيمثَّل لهم في صورة كبش.

" ثم يُذْبَحُ "؛ ليعلموا أنَّ نعيم أهل الجنّة في الجنّة أَبَدِيٌّ بلا انقطاع، وعذاب أهل النار الذين لهم استحقاق الخلود في النار أَبَدِيٌّ بلا انقطاع.

" ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنّة خلود لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنّة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حُزْنًا إلى حُزْنهم ".

* * *

مِنَ الحِسَان:

4335 -

عن ثَوْبان رضي الله عنه قال: قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: " حَوْضِي من عَدَنَ إلى عَمَّانَ البَلْقاءَ، ماؤُهُ أشدُّ بياضًا مِنَ اللَّبن، وأحلَى مِنَ العَسَلِ، وأكوابُهُ عَدَدُ نُجومِ السَّماءِ، مَنْ شَرِبَ منهُ شَرْبةً لمْ يَظْمَأ بعدَها أبدًا، أوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا فُقراءُ المُهاجِرينَ، الشُّعْثُ رُؤُوسًا الدُّنسُ ثيابًا، الذينَ لا يَنْكِحونَ المُتَنعِّماتِ، ولا يُفْتَحُ لهُمُ السُّدَدُ "، غريب.

"من الحسان":

" عن ثويان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: حوضي من عَدَن إلى عَمَّان " بالفتح ثم التشديد: موضع بالشام، وبالضم ثم التخفيف: موضع بالبحرين.

ص: 84

" البَلْقَاء " بفتح الباء وسكون اللام: مدينة بالشام.

" ماؤه أشدُّ بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، وأكوابه ": جمع كُوبٍ، وهو كُوزٌ لا عُرْوَة له.

" عددَ ": نصب بنزع الخافض، أو رفع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: عددُ أكوابه عددُ " نجوم السماء، مَنْ شَرِب منها شربةً لم يظمَأْ بعدها أبدًا، أوَّلُ الناس وُرُودًا ": نصب على التمييز.

" فقراء المهاجرين الشُّعْث " بضم الشين المعجمة وسكون العين المهملة: جمع أشعث.

" رؤوسًا ": نصب على التمييز أيضًا.

" الدُّنُس " بضمتين: جمع دنس، وهو الوسخ.

" ثيابًا، الذين لا ينكحون المُتَنَعِّمات ": جمع مُتَنَعِّمَة؛ يعني: لو خطبوا المتنعِّمات من النسوان لم يُجابوا.

" ولا يفتح لهم السُّدد " بضم السين المهملة: جمع سُدَّة، وهي الباب؛ يعني: لو دفعوا الأبواب لم يُفْتَحْ لهم هوانًا بهم.

" غريب ".

* * *

4336 -

عن زيْدٍ بن أَرْقَمَ قال: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فنزَلنا مَنْزِلًا، فقالَ:" ما أنتُمْ جُزْءٌ منْ مِئَةِ ألْفِ جُزءٍ مِمَّنْ يرِدُ عليَّ الحَوْضَ ". قيلَ: كمْ كنتُمْ يومئذٍ؟ قال: سبعَ مِئَةٍ أو ثمانِ مِئَةَ.

" عن زيْدِ بن أرقم رضي الله عنه قال: كُنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلًا، فقال: ما أنتم جزء ": يجوز نصب (جزء) على لغة أهل الحجاز بإعمال (ما) وإجرائه

ص: 85

مجرى (ليس)، ويجوز رفعه على لغة بني تميم.

" مِنْ مئة ألف جزء ممَّنْ يَرِدُ عليَّ الحوض ": يريد كثرة مَنْ آمَنَ به وصدَّقه من الجن والإنس، وهذه العبارة للمبالغة.

" قيل: كَمْ كنتم "، (كم) هنا: للاستفهام، محلها نصب على خبر (كان)، تقديره: كم رجلًا كنتم، أو كم عددًا كنتم.

" يومئذ قال "؛ أي: زيد.

" سبع مئة أو ثمان مئة ".

* * *

4337 -

عن الحَسَنِ، عن سَمُرةَ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ لكُلِّ نبيٍّ حَوْضًا، وإنَّهُمْ ليتباهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وارِدَةً، وإنِّي أَرْجُو أنْ أكونَ أكثرَهُمْ وارِدةً "، غريب.

" عن الحسن، عن سَمُرَة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ لكلِّ نبيٍّ حَوْضًا "، قيل: يجوز على ظاهره، وأن يحمل على المجاز، ويراد به: العلم والهدى ونحوه.

" وإنهم ليَتَبَاهَوْنَ "؛ أي: ليتفاخرون.

" أيُّهم أكثر وارِدَةً "، قيل: موصول صدر صلتها محذوف، أو مبتدأ وخبر كما تقول: يتباهى العلماء أيهم أكثر علمًا؛ أي: قائلين: أيهم أكثر علمًا، و (الواردة): بمعنى الوارد، وهم الذين يردون الماء.

" وإنِّي لأرجو أن أكون أكثرهم واردة ".

" غريب ".

* * *

ص: 86

4338 -

عن أنسٍ رضي الله عنه قالَ: سأَلتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يَشْفَعَ لي يَوْمَ القِيامَةِ، فقالَ:" أنا فاعِلٌ ". قُلتُ: يا رسُولَ الله! فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قالَ: " اُطلُبنى أوَّلَ ما تطلُبني على الصِّراطِ ". قلتُ: فإنْ لمْ ألْقَكَ عَلَى الصِّراطِ؟ قالَ: " فاطلُبني عِنْدَ المِيزانِ. قلتُ: فإنْ لم ألْقَكَ عِنْدَ المِيزانِ؟ قال: " فاطلُبني عِنْدَ الحَوْضِ، فإنِّي لا أُخطِئُ هذَهَ الثلاثَ المَواطِنَ "، غريب.

" عن أنس رضي الله عنه قال: سألْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفَعَ لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل "؛ أي: أنا فاعِلٌ الشفاعة؛ يعني: أشفع لك.

" فقلت: يا رسول الله! فأين أطلبك، قال: اطلبني أوَّلَ ما تطلبني على الصراط، قلْتُ: فإن لم ألْقَكَ على الصِّراط؟ قال: فاطلبني عند الميزان، قلت: فإن لم ألْقَكَ عند الميزان؟ قال: فاطلبني عند الحوض، فإنِّي لا أُخْطِئ "؛ أي: لا أتجاوز.

" هذه الثلاثة المواطِنَ ": جمع موطن، وهو الموضع.

" غريب ".

* * *

4340 -

عن ابن مَسْعودٍ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: قيلَ لهُ: وما المَقَامُ المَحْمُودُ؟ قال: " ذاكَ يَوْمٌ يَنْزِلُ الله تعالى على كُرْسِيِّهِ فيَئِطُّ كَما يئِطُّ الرَّحُلُ الجديدُ منْ تضايقهِ بهِ، وهو يَسَعُهُ ما بينَ السَّماءِ والأَرْضِ، ويُجَاءُ بكُمْ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، فيكونُ أوَّلَ مَنْ يُكْسَى إبراهيمُ صَلَوات الله علَيه، يقولُ الله تعالى: اكْسُوا خَليلي. فيُؤتَى برَيْطَتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ مِنْ رِياطِ الجنَّةِ، ثُمَّ أُكْسَى على أَثَرِهِ، ثُمَّ أقومُ عنْ يَمِيْنِ الله مَقامًا يغبطُنِي الأوَّلونَ والآخِرونَ ".

" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما المقام المحمود؟ قال: ذاك

ص: 87

يومٌ " بالرفع والتنوين، وهو الرواية الصحيحة، وفي الكلام حذف، والتقدير: ذلك اليوم الَّذي أبلغ فيه المقام المحمود، يوم " ينزل الله على كرسيِّه ": نزوله: كناية عن تجلِّي أثار عظمته على الكرسي، وظهور مملكته وحكمه محسوسًا مشاهدًا بلا حِجَاب بينه تعالى وبين عباده، فيتضايق الكرسي عن احتمال ما يغشاه من عظمته.

" فيئِطُّ "؟ أي: يصوِّت الكرسي ويئنُّ.

" كما يئطُّ "؟ أي: يصوِّت.

" الرَّحْل الجديد " براحلته " من تضايقه به ": متعلق بقوله (فيئط)؛ أي: من تضايق الكرسي بالله، أو بملائكة الله تعالى، وهذا تمثيل عن كثرة الملائكة بالكرسي، وتقرير رحمة الله وإن لم يكن ثمَّةَ أطيط.

" وهو "؟ أي: والحال أنَّ الكرسي.

" يسعه ما بين السماء والأرض ": قال الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] وهو إشارةٌ إلى عِظَم الكرسي.

" ويجاء بكم حُفَاة عُرَاة غُرْلًا، فيكون أوَّلَ مَنْ يُكْسَى ": خبر (يكون) واسمه " إبراهيم " عليه السلام.

" يقول الله تعالى: اكسوا خليلي، فيُؤْتَى بِرَيْطَتَيْنِ "، (الريطة) بالفتح: الملحفة، وقيل: كل ثوب رقيق لين.

" بَيْضَاوَيْن من رِيَاط الجنّة، ثمَّ أُكْسَى على أَثَرِهِ، ثم أقوم على يمين الله تعالى "، أراد به: قيامه مَقَام الكرامة.

" مقامًا يغبِطني الأولون والآخرون "، ذكر صلى الله عليه وسلم أولًا الوقت الَّذي يكون فيه المقام، ووصفه بما يكون فيه من الأهوال؛ ليكون أعظم في النفوس موقعًا، ثم

ص: 88

أشار إلى الجواب بقوله: (ثم أقوم على يمين الله). . . إلى آخره.

* * *

4339 -

عن المُغِيرةِ بن شُعْبةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " شِعَارُ المُؤْمنينَ يومَ القِيامَةِ على الصِّراطِ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ "، غريب.

" عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شِعَار المؤمنين "؛ أي: علامتهم " يوم القيامة على الصِّراط: ربِّ سَلِّمْ سَلِّمْ "، " غريب ".

* * *

4341 -

عن أنسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: " شَفاعَتِي لأَهْلِ الكَبائِرِ مِنْ أُمَّتي ".

" عن أنس - رضي الله تعالى عنه -: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: شفاعتي لأهل الكبائر من أُمَّتي ".

* * *

4342 -

عن عَوْفِ بن مالِكٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " أَتاني آتٍ منْ عِنْدِ ربي فخيَّرَني بينَ أنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتي الجَنَّةَ وبينَ الشفاعةِ، فاخْتَرْتُ الشَّفاعَةَ، وهيَ لِمَنْ ماتَ لا يُشرِكُ بالله شَيْئًا ".

" عن عَوْفٍ بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني آتٍ من عند ربي، فخيَّرَني بين أن يَدْخُلَ نِصْفُ أمَّتي الجنّة وبين الشفاعة، فاخترْتُ الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئًا " ": جملة حالية.

* * *

ص: 89

4343 -

عن عبدِ الله بن أبي الجَدْعاءِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: " يَدخُلُ الجَنَّةَ بشَفاعَةِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتي أَكْثَرُ منْ بني تَميمٍ ".

" عن عَبْدِ الله بن أبي الجَدْعَاءِ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدخُلُ الجنَّةَ بشفاعَةِ رجلٍ من أُمَّتي أكثرُ من بني تميم ": وهو تميم بن مرة بن أد ابن طابخة بن إلياس بن مضر.

* * *

4344 -

عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: " إنَّ مِنْ أُمَّتي مَنْ يَشْفَعُ للفِئامِ، ومنهُم مَنْ يَشْفَعُ للقَبيلَةِ، ومنهُم مَنْ يَشْفَعُ للعَصَبَةِ، ومنهُم مَنْ يَشْفَعُ للرَّجُلِ حتَّى يَدْخُلَ الجَنَّة ".

" عن أبي سعيد رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ من أمتي مَنْ يشفع للفِئَام ": وهي جماعة من الناس أكثر من القبيلة، لا واحد له من لفظه.

" ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعُصْبَة ": وهي - بضم العين، وسكون الصاد المهملتين - جماعة من الناس ما بين العشرة إلى الأربعين، لا واحد لها من لفظها.

" ومنهم من يشفع للرجل، حتَّى يدخلوا الجنّة ".

* * *

4345 -

عن أَنسٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الله عز وجل وَعَدَني أنْ يُدخِلَ الجَنَّةَ منْ أُمَّتي أَرْبَعَ مِئَةِ ألفٍ ". فقالَ أبو بَكْرٍ: زِدْنَا يا رسولَ الله، قال:" وهكذا "، فحَثا بكَفَّيْه وجَمَعَهُما، قال أبو بَكْرٍ: زِدْنَا يا رسولَ الله، قال:" وهكذا ". فقالَ عُمَرُ: دَعْنا يا أبا بَكْرٍ: فقال أبو بَكْرٍ وما عليك أنْ يُدْخِلَنا الله

ص: 90

كُلَّنا الجَنَّةَ، فقال عُمَرُ: إنَّ الله عز وجل إنْ شاءَ أَنْ يُدخِلَ خَلْقَه الجَنَّةَ بكفٍّ واحِدٍ فَعَلَ، فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:" صَدَقَ عُمَرُ ".

" عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله عز وجل وعدني أن يُدْخِلَ الجنّة من أمتي أربع مئة ألف بلا حساب، فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله! قال: وهكذا فحَثَا بكفَّيه وجمعهُما "، إنما ضرب المثل بالحثيان؛ لأن من شأن المعطي الكريم إذا اسْتُزِيْد أن يحثي بكفَّيه من غير حساب، فالحثيُ كِنَاية عن المبالغة في الكثرة وإلا فلا كَفَّ ثَمَّةَ ولا حَثْيٌ.

" فقال أبو بكر " مرة أخرى: " زدنا يا رسول الله! قال: وهكذا "، وهذا دليل على أن له عز وجل مدخلًا ومجالًا في الأمور الأخروية.

" فقال عمر: دعنا يا أبا بكر، فقال أبو بكر: وما عليك "؟ أي: ما عليك بأس.

" أن يدخلنا الله كلنا الجنّة، فقال عمر: إنَّ الله عز وجل إنْ شاء أن يُدْخِل خلقَهُ بكَفٍّ واحِدٍ "، أراد به: بعض عطائه وفضله؛ أي: لو أراد الله أن يدخل خلقه الجنّة ببعض رحمته لا بكلها.

" فعل " فإنها أوسع من ذلك.

" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ عمر "، قيل: ما ذهب إليه أبو بكر هو من باب الجُؤار والمسكنة، وما ذهب إليه عمر هو من باب التَّسليم.

* * *

4346 -

عن أَنَسٍ رضي الله عنه: قالَ: " يُصَفُّ أَهْلُ النَّارِ، فَيَمُرّ بهِم الرَّجَلُ من أَهْلِ الجَنَّةِ، فيقُولُ الرَّجُلُ منهم: يا فُلانُ! أما تَعرِفُني؟ أنا الَّذي سَقَيْتُكَ شَرْبةً، وقال بَعْضُهُمْ: أنا الَّذي وَهَبْتُ لكَ وَضُوءًا، فيشفَعُ لهُ فيُدْخِلُهُ الجنَّةَ ".

ص: 91

" عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُصَفُّ أهلُ النار، فيمر بهم الرجل من أهل الجنّة، فيقول الرجل منهم: يا فلان! أما تعرفني؟ أنا الَّذي سقيتك شَرْبَةً، وقال بعضهم: أنا الَّذي وهبت لك وَضوءًا " بفتح الواو: الماء الَّذي يُتَوَضَّأ منه.

" فيشفَعُ له، فَيُدْخِلُهُ الجنّة ": وهذا تحريضٌ على الإحسان إلى المسلمين سيما العلماء والصلحاء، والمجالسة معهم ومحبتهم؛ فإن محبتهم زين في الدنيا ونور في الآخرة.

* * *

4347 -

عن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه، " أنَّ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ دَخَلَ النَّارَ اشتَدَّ صِياحُهُما، فقالَ الرَّبُّ: أَخْرِجُوهُما، فقال لهما: لأَيِّ شَيءٍ اشتَدَّ صِياحُكُما؟ قالا: فعَلْنا ذلكَ لتَرْحَمَنا، قالَ: فإن رَحْمَتي لكُما أنْ تَنْطَلِقا فتُلْقِيا أنفُسَكُما حيثُ كنتُما مِنَ النَّارِ. فيُلقِيْ أَحَدُهُما نفسَهُ، فَيَجْعَلُهَا الله عَلَيهِ بَرْدًا وسَلامًا، ويَقُومُ الآخرُ فلا يُلقي نفسَهُ، فيقولُ لهُ الرَّبُّ: ما مَنَعَكَ أنْ تُلقيَ نفسَكَ كما أَلْقى صاحِبُكَ؟ فيقول: رَبِّ إنِّي أَرْجُو أنْ لا تُعِيْدَني فيها بَعْدَ ما أخرَجْتَني منها، فيقولُ لهُ الرَّبُّ: لكَ رَجاؤُكَ. فيَدْخُلانِ جَميعًا الجَنَّةَ برَحْمَةِ الله ".

" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ رجلين ممن دخل النار اشتدَّ صياحُهُما، فقال الربُّ: أخرجوهما، فقال لهما: لأيِّ شيءٍ اشتدَّ صياحكما؟ قالا: فعلنا ذلك لترحَمَنَا، قال: فإن رحمتي لكما أَنْ تنطَلِقَا فَتُلْقِيَا أنفُسَكُما حيثُ كُنْتُمَا من النار، فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها الله عليه بَرْداً وسَلامًا، ويقوم الآخر فلا يُلْقِي نفسَهُ، فيقول له الربُّ: ما منعَكَ ": (ما) هذه استفهامية.

" أن تُلقِيَ نفسَكَ كما ألقَى صاحِبُكَ؟ فيقول: ربِّ إني لأرجو أن لا تُعيدني فيها بعد ما أخرَجْتَني منها، فيقول له الربُّ: لك رجاؤُكَ، فيدخلان

ص: 92