المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌12 - باب جامع المناقب - شرح المصابيح لابن الملك - جـ ٦

[ابن الملك]

فهرس الكتاب

- ‌6 - باب نزول عيسى عليه السلام

- ‌7 - باب قُرْبِ السَّاعَة وأنَّ مَنْ ماتَ فقد قامَتْ قيامَتُه

- ‌8 - باب لا تقومُ السَّاعةُ إلا على الشِّرارِ

- ‌1 - باب النَّفْخِ في الصورِ

- ‌2 - باب الحَشْرِ

- ‌3 - باب الحِسَابِ والقِصَاصِ والمِيْزانِ

- ‌4 - باب الحَوْضِ والشفاعة

- ‌5 - باب صِفَةِ الجَنَّةِ وأَهْلِهَا

- ‌6 - باب رُؤْيَةِ الله تَعالى

- ‌7 - باب صِفَةِ النَّار وأهلِها

- ‌8 - باب خَلْقِ الجَنَّةِ والنَّارِ

- ‌9 - باب بدءِ الخَلقِ، وذكرِ الأَنبياءِ عليهم السلام

- ‌1 - باب فَضَائِلِ سيدِ المُرسَلِينَ صلَوَاتُ الله عَلَيْهِ

- ‌2 - باب أَسْمَاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتُهُ

- ‌3 - باب في أَخْلاقِهِ وشَمَائِلِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌4 - باب المَبْعَثِ وَبدْءِ الوَحْيِ

- ‌5 - باب علامات النبوة

- ‌فصل في المِعْرَاجِ

- ‌فصل في المُعْجِزَاتِ

- ‌6 - باب الكَرَامَاتِ

- ‌7 - باب(باب في بيان هجرة أصحابه من مكة)

- ‌8 - باب

- ‌1 - باب في مَناقبِ قريشٍ وَذِكرِ القَبَائِلِ

- ‌2 - باب مناقب الصحابة رضي الله عنهم

- ‌3 - باب مَناقِبِ أَبي بَكرٍ الصِّديقِ رضي الله عنه

- ‌4 - باب مَناقِبِ عُمَرَ بن الخَطابِ رضي الله عنه

- ‌5 - باب مَنَاقِبِ أَبي بَكْرِ وَعُمَرَ رضي الله عنهما

- ‌6 - باب مَنَاقِبِ عُثمانَ في عَفَّانَ رضي الله عنه

- ‌7 - باب مَنَاقِبِ هؤلاءِ الثَّلاثة رضي الله عنهم

- ‌8 - باب مَنَاقِبِ عَلِيِّ في أَبي طالب رضي الله عنه

- ‌9 - باب مَنَاقِبِ العَشرَةِ رضي الله عنهم

- ‌10 - باب مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

- ‌11 - باب مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌12 - باب جَامِعِ المَنَاقِبِ

- ‌13 - باب ذِكْرِ اليَمَنِ وَالشَّامِ، وَذِكْرِ أُوَيْسِ القَرَنِيِّ رضي الله عنه

- ‌14 - باب ثوَابِ هذِهِ الأُمَّةِ

الفصل: ‌12 - باب جامع المناقب

النبي صلى الله عليه وسلم سألتها عن بكائها وضحكها قالت: أخبرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه يموت فبكيت، ثم أخبرني أني سيدةُ نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكتُ": والحديث يدل على أن فاطمة خير نساء العالم إلا مريم أم عيسى عليه الصلاة والسلام.

قيل: يحمل هذا الاستثناء على الانقطاع، إذ لم يثبت الاستثناء في روايةٍ أخرى، وهي التي في الصحاح، وأحاديث الصحاح أعلى درجةً؛ أي: لكن مريم كانت سيدة نساء زمانها.

* * *

‌12 - باب جَامِعِ المَنَاقِبِ

(باب جامع المناقب)

مِنَ الصِّحَاحِ:

4854 -

عن عبدِ الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: رَأَيْتُ في المَنامِ كأَنَّ في يَدي سَرَقَةً مِن حريرٍ، لا أَهْوِي إلى مَكانٍ في الجَنَّةِ إلا طارَتْ بِي إِلَيْهِ، فَقَصَصْتُها على حَفْصَةَ فَقَصَّتْها حَفْصَةُ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَخاكِ رَجُلٌ صالِحٌ، أو إنَّ عَبْدَ الله رَجُلٌ صالحٌ".

"من الصحاح":

" عن عبد الله بن عمر قال: رأيت في المنام كأن في يدي سَرَقةٌ من حرير": والسرقة هنا عبارة عن ذات يده من العمل الصلح.

"لا أهوي بها"؛ أي: لا أقصد بتلك السَّرَقة "إلى مكانٍ في الجنة" ولا

ص: 482

أنزل فيها "إلا طارت بي إليه"؛ أي: كانت تلك السرقة مطهرةً لي ومبلغةً إلى تلك المنزلة، فكأنها مثل جناح الطائر.

"فَقَصصتُها على حفصة، فقصَصَتها حفصةُ على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن أخاك رجلٌ صالحٌ، أو إن عبد الله" وهو أخوها "رجلٌ صالح".

* * *

4855 -

عن حُذَيفَةَ رضي الله عنه قال: إنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلاًّ وسَمْتًا وهَدْيًا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم لابن أمِّ عَبْدٍ، من حينِ يَخْرُجُ مِن بيتِه إلى أنْ يرجِعَ إليه، لا نَدْري ما يَصْنَعُ في أَهْلِه إذا خَلَا.

"عن حذيفة رضي الله عنه: إنَّ أشبه الناس دَلَّا": وهو مما يدل على صلاح صاحبه من حسن الحديث، "وسَمتًا"؛ أي: سيرة، "وهديًا"؛ أي: طريقة "برسول الله صلى الله عليه وسلم لابن أمِّ عَبد": هو عبد الله بن مسعود، وقيل: الدَّل والسَّمت والهدي متقاربُ المعنى، وهي عبارة عن الحالة التي يكون عليها الإنسان من السكينة والوقار وحسن السيرة والطريقة واستقامة المنظر والهيئة، يريد شمائله في الحركة، والمشي والتصرف في الدِّين لا في الزينة والجمال.

"من حين يخرج من بيته": يريد أنه كان يلازم النبيَّ عليه الصلاة والسلام إذا خرج من بيته، "إلى أن يرجع إليه": فنشهد له بما يتبين لنا من ظاهر أمره.

"لا ندري ما يصنع في أهله إذا خلا"؛ يعني: لا نعرف ما بَطَن وما خفي عنّا منه، فلا نشهد بذلك.

* * *

4856 -

وقال أبو موسى الأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه: قدِمْتُ أنا وأخي مِن اليَمَنِ

ص: 483

فمَكَثْنَا حينًا مَا نُرَى إلا أن عَبْدَ الله بن مَسْعودٍ رضي الله عنه رَجُلٌ مِن أَهْلِ بيتِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا نَرَى مِن كثرةِ دُخُولهِ وَفىُ خُولِ أُمِّه على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

"وقال أبو موسى الأشعري: قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا"؛ أي: في المدينة "حينًا ما نُرى" - بضم النون -؛ أي: ما نظن "إلا أن عبد الله بن مسعود رجلٌ من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لما نرى من كثرة دخوله ودخول أمه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

* * *

4857 -

عن عَبْدِ الله بن عَمْرٍو رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "استَقْرِؤُوا القُرْآنَ مِن أربَعةٍ: من عبدِ الله بن مَسْعودٍ، وسالمٍ مَوْلَى أبي حُذَيفَةَ، وأُبَيِّ بن كَعْبٍ، ومُعاذِ بن جَبَلٍ" رضي الله عنهم.

"عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: استقرؤوا القرآن"؛ أي: اطلبوا قراءة القرآن وتعلُّمها من أربعةٍ: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعبٍ، ومعاذ بن جبل": فإنهم أحفظ الصحابة رضي الله عنهم.

* * *

4858 -

عن عَلْقَمَةَ قال: قَدِمْتُ الشَّامَ فصَلَّيتُ رَكْعَتَينِ ثُمَّ قُلْتُ: اللهمَّ! يَسِّرْ لي جَليسًا صالِحًا، فأتيتُ قَوْمًا فَجَلَسْتُ إليهم، فإذا شَيْخ قد جاءَ حتى جَلَسَ إلى جَنْبي، قُلْتُ: مَن هذا؟ قالوا: أبو الدَّرْداءَ، قلتُ: إلى دَعَوْتُ الله أنْ يُيَسِّرَ لي جَليسًا صالِحًا فيسَّرَكَ لي، فقال: مَن أنتَ؟ قُلْتُ: مِن أَهْلِ الكوفةِ قال: أَوَلَيْسَ عِنْدكم ابن أُمِّ عَبْدٍ صاحِبُ النَّعلَيْنِ والوسادَةِ والمِطْهَرَةِ، وفيكم الذي أَجارَهُ الله من الشَّيطانِ على لسانِ نبيهِ؟ - يعني: عَمَّارًا -، أَوَلَيْسَ فيكم صاحِبُ السِّرِّ الذي لا يَعْلَمُه غيرُه؟ - يعني: حُذَيفَةَ -.

ص: 484

"عن علقمة رضي الله عنه قال: قدمت الشام فصليت"؛ أي: بمسجد دمشق "ركعتين، ثم قلت: اللهم يسِّر لي جليسًا صالحًا، فأتيت قومًا فجلست إليهم، فإذا شيخٌ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: مَنْ هذا؟ قالوا: أبو الدرداء، قلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليسًا صالحًا فيسَّرك لي، فقال: مَنْ أنت": قيل: صوابه: من أين أنت، بدليل قوله:"قلت: من أهل الكوفة"، ولعل لفظة (أين) سقطت من القلم، أو من بعض الرواة، أو صحف (أين) بـ (أنت)، و (من) الجارَّة بالاستفهامية.

"قال: أوليس عندكم ابن أم عبدٍ صاحب النعلين والوسادة والمطهرة": يريد: أنه خَصَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأخذ نعليه إذا جلس، وبوضعها إذا نهض وتسوية المضجع، ووضع الوسادة إذا أحب النوم، وبحمل المطهرة إذا أراد الوضوء.

قيل: فيه دليل على جواز أن يستخدم الرجل أحدًا في هذه الأشياء الثلاثة، أو غيرها قياسًا عليها، وسِرُّ هذا الاستخدام أنه استفاد من كل خدمةٍ نوعًا من العلوم من آداب تلك الخدمة فرضها وسنتها وغير ذلك، وكان في ذلك إشارة إلى آداب التصوف التي هي آدابٌ مرضيةٌ لهذه الطائفة، ويحتمل أن يريد: أن هذه الأشياء التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خص بها ابن مسعود بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

"وفيكم الذي أجاره الله"؛ أي: أنقذه "من الشيطان على لسان نبيه"؛ يعني: عمارًا، "أو ليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه"؛ أي: ذلك السر "غيره؛ يعني: حذيفة": سماه صاحب السر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرَّفه أسماء المنافقين ليلة العقبة مرجعَه من غزوة تبوك، وكان الصحابة يراجعون حذيفة في أمر المنافقين، وقد ذكر أنهم أربعة عشر فتاب منهم اثنان، ومات اثنا عشر على النفاق.

* * *

ص: 485

4859 -

وعن جابرٍ رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُريتُ الجَنَّةَ، فرَأَيْتُ امرَأَةَ أبي طَلْحَةَ، وسَمِعْتُ خَشْخَشةً أمامي فإذا بلالٌ".

"وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُريت الجنة، فرأيت امرأة أبي طلحة": وهي أم سليم أم أنس بن مالك الملقبة بالرُّميصاء.

"وسمعت خشخشةً": وهو صوت يحدث من اصطكاك الأشياء اليابسة، "أمامي فإذا بلال" رضي الله عنه.

* * *

4860 -

عن سَعْدٍ رضي الله عنه قالَ: كُنَّا معَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ نَفَرٍ، فقالَ المُشْرِكونَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: اُطرُدْ هؤلاءِ لا يَجْتَرؤوا عَلَينا، قالَ: وكنْتُ أنا، وابن مَسْعُودٍ، ورَجُلٌ مِن هُذَيْل، وبلالٌ ورَجُلانِ لستُ أُسَمِّيهما، فأنزلَ الله:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .

"عن سعد رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفرٍ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرُدْ هؤلاء، لا يجترؤون علينا": من الجراءة: الشجاعة.

"قال"؛ أي: الراوي: "وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هُذيل وبلال ورجلان لست أسميهما": فوقع في نفس رسول صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه.

"فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} "؛ أي: دائبين على الدعاء في كل وقت، " {يُرِيدُونَ} "؛ أي: بعبادتهم " {وَجْهَهُ} ": لأشياء أخر من أعراض الدنيا.

* * *

ص: 486

4861 -

عن أبي مُوْسى رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ: "يا أبا موسى! لقد أُعطِيتَ مِزْمارًا مِن مَزَامِير آلِ داودَ".

"عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا موسى! لقد أعطيت مِزمارًا" - بكسر الميم - آلة الزمر، وقد وقد يستعار للصوت الحسن والنغمة الطيبة، وهو المراد في الحديث.

"من مزامير آل داود": والآل مقحمٍ، والمراد: نفس داود عليه الصلاة والسلام، إذ لم يشتهر أحدٌ من آله بحسن الصوت، شَبَّه حسنَ صوته في قراءة القرآن وحلاوة نغمته بصوت المزمار.

* * *

4862 -

عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأُبيِّ بن كَعْبٍ: "إنَّ الله أَمَرَني أنْ أَقْرأَ عليكَ القرآن"، قال: الله سَمَّاني؟! قال: "نعم"، فَبكَى.

ويُرْوَى: أنه قَرَأَ عليه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} .

"عن أنسٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعبٍ: إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك القرآن"؛ قيل: أراد أن يحفظ أبيٌّ من فمه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرواية بالسماع عن الأصل أقوى من القراءة عليه؛ لأنه أبعد من الغَلَط واحتمال الخطأ، وكان أبيٌّ مقدَّما على قراء الصحابة.

"قال"؛ أي: أبي: "الله سماني": بتقدير حرف الاستفهام، "قال: نعم، فبكى"؛ أي: أبيُّ ابتهاجًا وفرحًا من تسمية الله تعالى إياه بأمر القراءة، أو خوفًا من العجز عن قيام شكر تلك النعمة.

"ويروى: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ عليه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة:1] ".

ص: 487

قيل: تخصيص هذه السورة لأنها وجيزةٌ جامعةٌ لقواعد كثيرةٍ من أصول الدين وفروعه، والإخلاص، وتطهير القلب، فكان الوقت يقتضي الاختصار.

وقيل: لأن فيها قصة أهل الكتاب، وأبيٌّ كان من علماء اليهود؛ ليعلم حال أهل الكتاب، وخطاب الله معهم.

* * *

4863 -

عن أنسٍ رضي الله عنه قال: جَمَعَ القرآنَ على عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَرْبَعةٌ: أُبَيُّ بن كَعْبٍ، ومُعاذُ بن جَبَلٍ، وزيدُ بن ثابتٍ، وأبو زَيدٍ، قيلَ لأَنَسٍ: مَن أبو زَيدٍ؟ قال: أَحَدُ عُمُومتي.

"عن أنسٍ قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ أي: حَفِظه في زمانه "أربعةٌ: أبي بن كعبٍ ومعاذٌ بن جبل وزيدٌ بن ثابتٍ وأبو زيدٍ": قال التُّورِبشتي: المراد من الأربعة: من رهط أنسٍ وهم الخزرجيون، وإلا فقد جَمَعَ القرآن جمعٌ من المهاجرين، فلعل أنسًا ذكر ذلك على سبيل المفاخرة.

"قيل لأنسٍ: من أبو زيدٍ، قال: أحد عمومتي".

* * *

4864 -

عن خَبَّابِ بن الأَرَتِّ قال: هاجرْنَا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نبتَغي وَجْهَ الله فَوَقعَ أَجْرُنا على الله، فمِنَّا مَن مَضَى لم يَأْكُلْ مِن أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهم مُصْعَبُ بن عُمَيرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فلَمْ يُوْجَدْ له ما يُكفَّنُ فيهِ إلا نَمِرَةً، فكُنَّا إذا غَطَّينا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وإذا غَطَّينا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُه، فقالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"غَطُّوا بها رَأْسَه، واجْعَلُوا على رِجْلَيْهِ مِن الإِذْخِرِ"، ومِنَّا مَن أَيْنَعَتْ لهُ ثَمَرَته فهوَ يَهْدِبُها.

"عن خَبَّاب بن الأرت رضي الله عنه قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجَه

ص: 488

الله"؛ أي: نطلب رضاءه (1)، "فوقع أجرنا على الله تعالى، فمنَّا من مضى"؛ أي: مات، "لم يأكل من أجره": وهو الغنيمة "شيئًا"؛ يعني: لم يكن له من الدنيا ما يتمتع به؛ لأنه استشهد في سبيل الله، فبقي أجره كاملًا على الله تعالى في الآخرة.

"منهم مصعب بن عميرٍ قُتل يوم أحدٍ فلم يوجد له ما يكفَّن فيه إلا نَمِرةٌ" - بفتح النون وكسر الميم - كل شَمْلةٍ مخظطة من مآزر الأعراب، كانها أُخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض.

"فكنا إذا غطَّينا رأسه خرجت رجلاه، وإذا كطينا رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غطُّوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر، ومنا من أينعت"؛ أي: أَدْركت ونَضَجَت "له ثمرته فهو يَهْدِبُها"؛ أي: يجتنيها، يعني: ومنا من رجع سالمًا غانمًا.

* * *

4865 -

عن جابرٍ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "اِهْتَزَّ العَرْشُ لمَوْتِ سَعْدِ بن مُعاذٍ".

وفي رِوايةٍ: "اِهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بن مُعاذٍ".

"عن جابرٍ رضي الله عنه قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: اهتز العرش"؛ أي: تحرك "لموت سعد بن معاذ"؛ اسعظامًا لموته، فإن العرب إذا عظَّموا أمرًا نَسَبوه إلى أعظم الأشياء.

"وفي روايةٍ أخرى: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ": قيل: أي: ارتاح واستبشر بروحه حين صُعِد به لكرامته على الله تعالى، وقيل: أراد به

(1) في "غ": "رضا الله".

ص: 489

فرح أهلِ العرش وَحَملَته لقدوم روحه، فأقام العرشَ مقامَ حَمَلَته.

* * *

4866 -

وعن البَرَاءِ رضي الله عنه قال: أُهْدِيَتْ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم حُلَّةُ حَريرٍ، فَجَعَلَ أَصْحابُه يَمَسُّونَها ويَعْجَبُون مِن لِيْنِها، فقال:"أتعجبُونَ مِن لِيْنِ هذهِ؟ لمَنَادِيلُ سَعْدِ بن معاذٍ في الجنَّةِ خَيْرٌ مِنْها وأليَنُ".

"عن البراء رضي الله عنه قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حُلَّة حريرٍ، فجعل أصحابه يمسونها ويتعجبون من لينها، فقال: أتعجبون من لين هذه، لمناديل سعد بن معاذ": التي يمسح بها سعد يديه، "في الجنة خيرٌ منها وألين"، وفيه تنبيةٌ على بعد المناسبة بين حُلل الدارين، حتى إن أرفع شيءٍ مِنْ هذه لا يقاوم أوضعَ شيء من تلك.

* * *

4867 -

وعن أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّها قالت: يا رسولَ الله! أَنَسٌ خادِمُك، ادْعُ الله لهُ، قال:"اللهمَّ! أَكْثِرْ مالَهُ ووَلَدَهُ وباركْ لهُ فيما أعطيْتَه"، قال أَنَسٌ: فوالله إنَّ مالي لكثيرٌ، وإنَّ ولدِي ووَلَدَ ولدِي ليَتَعَادُّونَ على نحوِ المِئَةِ اليومَ.

"عن أم سليم رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله! أنسٌ خادمك ادع الله تعالى له، قال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته": قيل: فيه دليل لمن يفضل الغني على الفقير.

وأجيب: بأنه مختصٌّ بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد بارك فيه، ومتى بارك فيه لم يكن فيه فتنةٌ، فلم يحصل بسببه ضرر ولا تقصير في أداء حق الله تبارك تعالى.

ص: 490

"قال أنس رضي الله عنه: فوالله إن مالي لكثيرٌ، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون اليوم"؛ أي: يزيدون في العدد "على نحو المئة".

* * *

4868 -

وعن سَعْدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه قال: ما سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقُولُ لأَحَدٍ يمشي على وَجْهِ الأَرْض: إِنَّه مِن أَهْلِ الجَنَّةِ، إلا لعَبْدِالله بن سلامٍ.

"عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحدٍ يمشي على وجه الأرض إنَّه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلامٍ".

* * *

4869 -

وقال عبدُ الله بن سلامٍ: رأَيتُ كأَنِّي في رَوْضَةٍ، وذَكَرَ مِن سَعَتِها وخُضْرتِها، وَسْطَها عَمُودٌ مِن حديدٍ، أَسْفَلُهُ في الأَرْضِ وأَعْلاهُ في السَّماءِ، في أعلاهُ عُروةٌ، فقيلَ لي: ارْقَهُ، فقُلْتُ: لا أسْتَطِيعُ، فأتاني مِنْصَفٌ فَرَفَعَ ثِيابي مِنْ خَلْفي، فَرَقَيْتُ حتَّى كُنْتُ في أَعْلاهَا فأخذتُ بالعُرْوَةِ، فاسْتَيقَظْتُ وإنها لفي يَدي، فقصَصْتُها على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ:"تلكَ الرَّوْضَةُ الإسْلَامُ، وذلكَ العَمُودُ عَمُودُ الإسْلامِ، وتلْكَ العُرْوَةُ الوُثْقَى، فأنتَ على الإسْلَامِ حَتّى تَمُوتَ".

"وقال عبد الله بن سلام: رأيت" من الرؤيا "كأني في روضةٍ، ذكر"؛ أي: عبد الله بن سلام "من سَعَتها وخضرتها، وسطها" - بالنصب - على أنه ظرف خبر مبتدأ، وهو "عمود من حديد، أسفله في الأرض، وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة": هي عروة القميص والكُوز والدَّلو، ويستعار لما يوثق به ويعوَّل عليه، وهو المراد هنا.

"فقيل لي ارقِهُ": أمرٌ مِنْ رقى يرقي: إذا صعد، والهاء للسكت، ويجوز

ص: 491

أن يعود إلى العمود.

"فقلت: لا أيستطيع، فأتاني مِنصَف" - بكسر الميم وفتح الصاد -؛ أي: خادم، "فرفع ثيابي من خلفي فرقيتُ حتى كنت في أعلاها، فأخذت بالعروة فاستيقظتُ دمانها لفي يدي، فقصصْتُها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الروضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة العروة الوثقى، فأنت على الإسلام حتى تموت".

* * *

4870 -

وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: كانَ ثَابتُ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ خطيبَ الأَنْصارِ، فلمَّا نزلَتْ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} إلى آخرِ الآيةِ، جَلَسَ ثابتٌ في بيتِهِ، واحتبَس عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بن مُعاذٍ فقال:"ما شأنُ ثابتٍ؟ أَيَشْتكي؟ "، فأَتَاه سَعْدٌ، فذكرَ لهُ قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقالَ ثابتٌ: أُنزِلَتْ هذهِ الآيةُ، ولقدْ عَلِمْتُم أَنِّي مِن أَرْفَعِكُم صَوْتًا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأنا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فذكرَ ذلك سَعْدٌ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ رسولُ الله:"بل هوَ مِن أَهْلِ الجَنَّةِ".

"عن أنس رضي الله عنه قال: كان ثابت بن قيس بن شَمَّاس خطيبَ الأنصار": أي: مقدَّمهم ورئيسهم، "فلما نزلت:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إلى آخر الآية، جلس ثابت في بيته، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي عن الخطبة عند ذلك، ولم يتردَّد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

"فسأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ فقال: ما شأنُ ثابت، أيشتكي؛ ": أي: أَبهِ مرض، "فأتاه سعد فذكر له قول النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني مِنْ أرفعكم صوتًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار، فذكر

ص: 492

ذلك سعدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو من أهل الجنة".

* * *

4871 -

وعن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قال: كُنَّا جُلوسًا عِندَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ نزلَتْ سُوْرَةُ الجُمُعةِ، فَلَمَّا نزلَتْ هذهِ:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قالوا: مَن هؤلاءِ يا رسولَ الله؟ قالَ: وفينَا سَلْمَانُ الفارسيُّ، قالَ: فَوَضَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدَهُ على سَلْمانَ ثُمَّ قال: "لو كانَ الإيمانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِن هؤلاءِ".

"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة، فلما نزلت: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] ": هذا على أن يكون (آخرين) عطفًا على الأميين، يعني: أنه تعالى بعثه في الأميين الذين على عهده، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم، وسيلحقون بهم وهم الذين بعد الصحابة.

"قالوا: مَنْ هؤلاء يا رسول الله؟ قال"؛ أي أبو هريرة: "وفينا سَلْمان الفارسي، قال: فوضع النبيُّ صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: لو كان الإيمان معلقًا بالثريا" - وهو نجم معروف - "لناله": أي لوجده "رجال من هؤلاء"، وقال الحسن: يريد بهم العَجَم لوقوعهم في مقابلة الأميين.

وقال عكرمة: يريد بهم فارس الروم.

والمراد: المبالغة في انقيادهم للإسلام والإيمان، يعني: لو صور الإيمان عَينًا وكان بعيدًا غاية البعد لَتنَاوله ووصل إليه رجالٌ منهم ببذل مجهودهم.

* * *

4872 -

وعن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ! حَببْ

ص: 493

عُبَيْدَكَ هذا - يعني: أبا هريرةَ - وأُمَّه إلى عِبادِكَ المُؤْمنينَ، وحَببْ إليهم المُؤْمنينَ".

"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم حبب عُبيدك هذا - يعني: أبا هريرة - وأمَّه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهما المؤمنين".

* * *

4873 -

وعن عائِذِ بن عَمْروٍ: أن أبا سُفْيانَ أتى على سَلْمَانَ وصُهَيْبٍ وبلالٍ في نَفَرٍ فقالوا: ما أَخَذَتْ سُيوفُ الله مِن عُنُقِ عَدُوِّ الله مَأْخَذَها، فقالَ أبو بكرٍ: أتقولونَ هذا لشيخ قُرَيشٍ وسيدِهم! فأَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرَهُ فقال: "يا أبا بكرٍ! لعلَّكَ أَغْضَبْتَهُم، لئنْ كنتَ أَغْضَبْتَهُم لقد أغْضبْتَ ربَّكَ"، فأتَاهُم فقال: يا إخْوَتَاهُ! أَغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفرُ الله لكَ يا أُخَيَّ!.

"عن عائذ بن عمرو: أن أبا سفيان أتى على سلمان، وصهيب، وبلال في نفر": قيل: كان إتيانه بعد صلح الحديبية وهو كافر، وقيل: كان بعد إسلامه.

"فقالوا": لإحساسهم منه آثار النفاق: "ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مآحْذها" - بالقصر وفتح الخاء وبالمد، أو كسر الخاء - يريدون به أبا سفيان حين لم يقتل يوم بدر.

"فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم، فأتى"؛ أي: أبو بكر "النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربَّك"، وفيه فضيلة لهم حيث كان غضبهم سببًا لغضب ربهم، وتنبيه على إكرام ضعفاء الصالحين والاتقاء من قلوبهم.

"فقال"؛ أي: أبو بكر لسلمان وصهيب وبلال: "يا إخوتاه! أغضبتكم؟

ص: 494

قالوا: لا"؛ أي: ما أغضبتنا "يغفر الله لك" بدون الواو، ومقتضى البلاغة إتيانها، روي أن أبا بكر نهى عن هذه الصيغة فقال: قل لا، ويغفر الله لك.

"يا أخي": الظاهر أن يقال: يا أخانا، ولعله حكاية قول كل أحد، ضبطوه بضم الهمزة على التصغير، وهو تصغيرُ تحبيبٍ، وفي بعض النسخ بفتحها.

* * *

4874 -

عن أنسٍ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"آيةُ الإِيمانِ حُبُّ الأَنْصارِ، وآيةُ النِّفاقِ بُغْضُ الأَنْصارِ".

"عن أنس رضي الله عنه عن النبي" صلى الله عليه وسلم، "قال: آية الإيمان"؛ أي علامته "حب الأنصار، وآية النفاق بغضُ الأنصار"، وإنما قال في حقهم كذلك؛ لأنهم تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؛ يعني: توطَّنوا المدينة، واتخذوها دار الهجرة وأسلموا في ديارهم، وآثروا الإيمان وبنوا المساجد قبل قدوم النبي عليه الصلاة والسلام.

* * *

4875 -

وعن البَرَاءِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "الأَنْصارُ لا يُحِبُّهم إلا مُؤْمِنٌ، ولا يُبغِضُهم إلا منافقٌ، فمَن أَحَبَّهم أَحَبَّهُ الله، ومَن أَبْغَضَهُم أبغَضَهُ الله".

"عن البراء رضي الله عنه قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: الأنصار لا يحبُّهم إلا مؤمن، ولا يُبغضهم إلا منافق، فمن أحبَّهم أحبَّه الله تعالى"، وذلك من كمال علامة إيمانهم، "ومن أبغضهم أبغضه الله"، فذلك من علامة نفاقهم.

* * *

ص: 495

4876 -

عن أَنسٍ رضي الله عنه: أن ناسًا مِن الأَنْصارِ قالوا حينَ أفاءَ الله على رسولهِ مِن أموالِ هَوَازِن ما أفاءَ، فطَفِقَ يُعْطِي رِجالًا مِن قُرَيشٍ المِئَةَ مِن الإِبلِ، فقالوا: يَغْفِرُ الله لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، يُعطِي قُرَيشًا ويَدَعُنا وسُيُوفُنا تَقْطرُ مِن دِمائِهم؟ فحُدِّثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمَقَالَتِهم، فأَرْسَلَ إلى الأَنْصارِ فَجَمَعَهم في قُبَّةٍ مِن أَدَمٍ ولَمْ يَدْعُ معَهم أَحَدًا غيرَهم، فلمَّا اجتَمَعُوا جاءَهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ:"ما حَديثٌ بلغَني عَنْكم؟ "، فقالَ له فُقَهاؤُهم: أمَّا ذَوُو رَأْينَا يا رسولَ الله! فلَمْ يقولوا شيئًا، وأمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَديثةٌ أَسْنانهُم قالوا: يَغْفِرُ الله لرسولِ الله، يُعطي قُرَيشًا ويَدَعُ الأَنْصارَ وسُيُوفُنا تَقْطُرُ مِن دِمائِهم؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إنِّي أُعْطِي رِجالًا حديثي عهدٍ بكُفْرٍ أتأَلَّفُهم، أَمَا تَرْضَوْنَ أنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالأَمْوالِ وتَرْجِعونَ إلى رحالِكم برسولِ الله؟ "، قالوا: بلى يا رسولَ الله! قد رَضينَا.

"وعن أنس رضي الله عنه: أن ناسًا من الأنصار قالوا حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطَفِقَ يعطي رجالًا من قريش المئة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشًا ويدعنا"؛ أي: يتركنا من العطاء، "وسيوفنا تقطُر من دمائهم، فحُدِّث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أَدَم، ولم يدع معهم أحدًا غيرهم (1) "؛ أي: لم يترك غير الأنصار أن يدخل في القبة مع الأنصار.

"فلما اجتمعوا، جاءهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما حديث"؛ أي: أيُ حديثٍ "بلغني عنكم؟ فقال فقهاؤهم"؟، أي: ساداتهم وعقلاؤهم.

"أما ذوو رأينا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم": جمع سن؛ يعني: شبابنا، "قالوا: يغفِرُ الله لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يعطي قريشًا ويدع الأنصار، وسيوفنا تَقْطُر من دمائهم، فقال

(1) في "غ": "ولم يدع خيرهم".

ص: 496

رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أعطي رجالًا حديثي عهدٍ بكفر"؛ أي قريبي العهد إلى الإسلام.

"أتألفهم"؛ يعني: ليكون ذلك موجبًا لألفتهم على الإسلام.

"أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم"؛ أي منازلكم.

"برسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ أي برضائه.

"قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا".

* * *

4877 -

وقالَ: "لولا الهِجْرَةُ لكُنْتُ امْرَأً مِن الأَنْصارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ وادِيًا أو شِعْبا وسَلَكَتِ الأَنْصارُ وادِيًا أو شِعْبًا لَسَلَكْتُ وادِيَ الأَنْصارِ وشِعْبَها، الأَنْصارُ شعَارٌ والنَّاسُ دِثَارٌ، إنَّكم سَتَرَوْنَ بعدي أثَرَةً فاصبرُوا حتَّى تَلْقَوْني على الحَوْضِ".

"وقال: لولا الهجرة كنت امرأ من الأنصار": المراد منه: إكرام الأنصار، والتعريض بأن لا رتبة بعد الهجرة أعلى من النصرة، وبيان أنهم بَلَغوا مبلغًا لولا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم من جملة من هاجر من مكة لَعَدَّ نفسَه منهم.

"ولو سلك الناس واديًا، وسلكت الأنصار واديًا أو شعبًا"، وهو بكسر الشين: الطريق في الجبل.

"لسلكت وادي الأنصار وشعبَها": أراد بهما حقيقتهما لكثرتهما في أرض الحجاز، أو المراد اختيار موافقتهم، ومرافقتهم على غيرهم تطييبًا لقلوبهم.

"الأنصار شِعار" وهو بكسر الشين: ثوب يلي الجسد.

"والناس دِثار"، وهو بكسر الدال: ما كان فوق الشعار، شبَّههم بالشعار

ص: 497

لكون مودتهم راسخة في باطنه، وكونهم أقربَ الناس إليه كقرب الشِّعار من البدن، ولأنهم كانوا ذوي الأسرار كخفاء الشِّعار من الدِّثار.

"إنكم ستلقون بعدي أثرة"، وهو بالفتحات: اسم من الاستئثار، يعني: أمراؤكم تُفَضل عليكم مَنْ هو أدناكم، "فاصبروا"؛ أي على هذه الشدة، ولا تخالفوهم، "حتى تلقوني على الحوض".

* * *

4878 -

عن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قال: كُنَّا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الفَتْح فقالَ: "مَن دَخَلَ دارَ أبي سُفْيانَ فهوَ آمِنٌ، ومَن أَلقَى السِّلاحَ فهوَ آمِنٌ"، فقالَتِ الأَنصْارُ: أمَّا الرَّجُلُ فقد أَخَذَتْهُ رَأْفةٌ بعشيرَتِهِ ورغبةٌ في قَرْيَتِهِ، ونزلَ الوحيُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ:"قلتُم: أَمَّا الرَّجلُ أخذَتْهُ رأفةٌ بعشيرَتِهِ ورغبةٌ في قَرْيَتِهِ، قال: كلا! إنِّي عَبْدُ الله ورسولُه هاجَرْتُ إلى الله وإليكم، المَحْيَا مَحْيَاكُم، والمَمَاتُ مَمَاتُكم"، قالوا: والله ما قُلْنَا إلا ضنًّا بالله ورسولهِ، قال:"فإنَّ الله ورسولَه يُصَدِّقانِكم ويَعْذِرَانِكم".

"عن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فقال: مَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، قيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوذي بمكة فدخل دار أبي سفيان كان آمنًا فجازاه بمثل ذلك.

"ومَنْ ألقى السلاح فهو آمن"، وفيه دلالة على أن فتح مكة كان عَنْوة، لأن لفظ "آمن" إنما يستعمل في القهر.

"فقالت الأنصار: أما الرجل": يريد به النبي صلى الله عليه وسلم، "فقد أخذته رأفة"؛ أي رحمة وشفقة، "بعشيرته"؛ أي قبيلته، "ورغبة في قريته"؛ يعني مكة شَرَّفها الله تعالى.

ص: 498

"فنزل الوحيُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلتم أما الرجل فقد أخذته رأفةٌ بعشيرته، ورغبة في قريته، كَلاً"، حرف ردع، أي: ليس الأمر كما توهَّمتم من إقامتي بمكة، بل هجرتي كانت إلى الله تعالى.

"إني عبدُ الله ورسوله"؛ يعني: كوني على هذه الصفة يقتضي أن لا أرغبَ إلى بلدة هاجرت منها بأمر الله تعالى.

"هاجرت إلى الله وإليكم"؛ يعني: قصدت في الهجرة إلى ثواب الله تعالى، وإلى دياركم، فلا أرجعُ عن الهجرة الواقعة لله تعالى.

"المَحيْا مَحياكم، والمَمَات مماتكم"؛ يعني: قصدي أن أحيا في بلدكم وأموت فيها ولا أفارقكم، "قالوا: والله! ما قلنا إلا ضَنًّا بالله ورسوله"؛ أي بخلًا وضنَّة بما أنعم الله تعالى علينا من شرف الجوار، والصحبة بك، وخشية على فَوت ذلك بميلك إلى أهلك.

"قال: فإن الله ورسوله يصدِّقانكم ويَعْذُرانكم"؛ أي يَقْبلان اعتذارَكم فيما تقولون من دعوى الضنة.

وفيه دلالة على جواز البخل بالعلماء والصلحاء، وعدم الرضا بمفارقتهم.

* * *

4879 -

وعن أَنَسٍ رضي الله عنه: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى صِبْيانًا ونِساءً مُقْبلينَ مِن عُرْسٍ، فقامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقالَ:"اللهمَّ! أنتُم مِن أَحَبِّ النَّاسِ إليَّ، اللهمَّ! أنتُم مِن أَحَبِّ الناسِ إليَّ، اللهمَّ! أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النّاسِ إِلَيَّ"، يعني: الأنصارَ.

"عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيانًا ونساء مقبلين"؛ أي حال كونهم متوجهين "من عرس" - بضم العين -: طعام الوليمة.

"فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم أنتم مِنْ أحبِّ الناس إليَّ، اللهم أنتم

ص: 499

مِنْ أحب الناس إلي"، كرره للتأكيد في محبتهم؛ "يعني: الأنصار".

* * *

4880 -

عن أنسٍ قال: مَرَّ أبو بَكْرٍ والعَبَّاسُ رضي الله عنهما بمَجْلِسٍ مِن مجالسِ الأَنْصارِ وهم يَبْكُونَ فقال: ما يُبْكِيكُم؟ قالوا: ذكَرْنَا مَجْلِسَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَّا، فَدَخلَ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فأَخْبَرَهُ بذلكَ، فَخَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقد عَصَّبَ على رأسه حاشِيَةَ بُرْدٍ، فَصَعَدَ المِنْبرَ ولم يَصْعَدْ بعدَ ذلكَ اليَوْمِ، فحَمِدَ الله وأثنَى عليهِ ثم قال:"أوصِيْكُم بالأَنْصارِ، فإنَّهم كَرِشي وعَيْبَتي، وقد قَضَوْا الذي عليهم وبقيَ الذي لهم، فاقبلُوا مِن مُحْسنِهم، وتجاوَزُوا عن مُسِيئهم".

"عن أنس رضي الله عنه قال: مرَّ أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلسَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم منا فدخل أحدهما على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقد عَصَب على رأسه حاشيةَ بُرْدٍ، فصعِدَ المنبر، ولم يصعد بعد ذلك اليوم، فحمِدَ الله تبارك وتعالى وأثنى عليه، ثم قال: أُوصيكم بالأنصار، فإنهم كَرشي"، الكرش: الجماعة؛ يعني: هم جماعتي الذين أثق بهم في أموري، "وعَيبتي"، العيبة: ما يجعل فيه الثياب، والمراد هنا: خاصتي وموضع سِرِّي، كما أن عَيبة الرجل موضع يحرز مضاعه وثيابه، والعرب تكنِّي عن القلب والصدر بالعَيبة.

"وقد قَضَوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم"؛ أي من الأجر والثواب عند الله.

"فاقْبلوا من محسنهم، وتجاوزوا"؛ أي اعفوا "عن مسيئهم"، والمراد بذلك فيما سوى الحدود.

* * *

ص: 500

4881 -

وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: خَرَجَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في مَرَضه الذي ماتَ فيهِ حتَّى جَلَسَ على المِنْبَرِ، فحَمِدَ الله وأثنَى عليهِ ثُمَّ قال:"أمَّا بَعْدُ، فإِنَّ النَّاسَ يَكثُرون، ويَقِلُّ الأَنْصارُ حتَّى يكونُوا في النَّاسِ بمَنْزِلةِ المِلْح في الطَّعامِ، فمَن وَلِيَ منكم شيئًا يَضُرُّ فيهِ قَوْمًا ويَنْفَعُ فيهِ آخرينَ فلتقبلْ مِن مُحْسِنِهم ويتجاوزْ عن مُسيئهم".

"عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه حتى جلس على المنبر، فحمِدَ الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أمَّا بعد: فإن الناس يَكْثُرون": هذا إخبار عن الغيب، يريد: أن أهل الإسلام يكثرون بأن يدخلوا في دين الله فوجًا بعد فوج.

"ويقِلُّ الأنصار": إذ لا بد لهم، لأنهم هم الذين آووا ونصروا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر لا يدركه اللاحقون فيقِلُّون لا محالة.

"حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام، فمن ولي منكم شيئًا": المراد منه الخلافة والإمارة، "يضر فيه قومًا، وينفع فيه آخرين، فليقبَلْ مِنْ محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم".

* * *

4882 -

عن زبدِ بن أَرْقَمَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ! اغفِرْ للأنصارِ، ولأَبناءِ الأَنْصارِ، ولأَبناءِ أَبناءِ الأَنْصارِ".

"عن زبد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفِرْ للأنصار، ولأبناءِ الأنصارِ، وأبناء أبناء الأنصار".

* * *

ص: 501

4483 -

عن أَبي أُسَيْدٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خَيرُ دُورِ الأَنْصارِ بنو النَّجَّارِ، ثُمَّ بنو عَبْدِ الأَشْهَلِ، ثُمَّ بنو الحارثِ بن الخَزْرج، ثُمَّ بنو ساعِدَةَ، وفي كلِّ دُورِ الأَنْصارِ خيرٌ".

"عن أبي أسيد" - بفتح الهمزة وكسر السين -، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيرُ دورِ الأنصار بنو النجار"، أي: دار بني النجار، والمراد بالدور: القبائل، وإنما كنَّى عنها بالدور، لأن كل واحدة من تلك البطون كانت لها محلة تسكنها، والمحلة تسمى دارًا.

"ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير": والمراد بالدور: القبائل، وإنما كنى عنها بالدور لأن كل واحدة من تلك البطون كانت لها محَلَّة تسكنها، والمحلة تسمى دارًا، قيل: تفضيلهم على قدر مآثرهم، وسبقِهم إلى الإسلام.

* * *

4884 -

وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعُمَرَ في حاطِبِ بن أبي بَلْتَعَةَ: "إِنَّه شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْريكَ؟ لعلَّ الله قد اطَّلعَ على أَهْلِ بَدْرٍ فقالَ: اعمَلُوا ما شِئْتُم فقد وَجَبَتْ لكم الجَنَّةُ".

وفي روايةٍ: "قد غَفرْتُ لكم".

"عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعُمر في حاطب بن أبي بلتعة"؛ أي: في حقه حين أرسل كتابًا إلى أهل مكة بامرأة، وكان فيه بيان بعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأحوال المؤمنين، فعلم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك بالوحي، فبعث رجالًا على عَقبها، فأخذوا منها الكتاب، فقال صلى الله عليه وسلم لحاطب:"ما حَملَك على ما صنعتَ؟ " قال: يا رسول الله! والله ما كفرتُ منذ أسلمت، ولكن حملني ذلك أني لست من نفس

ص: 502

قريش، ولم يكن لي قريب فيها، فأردت أن أتخذ عندهم يدًا يَحْمُون بها مالي، فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضربْ عُنُقَ هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم:"إنه شهد بدرًا"، يعني: حضر غزوة بدر.

"وما يدريك"؛ أي: أي شيء يعلمك أنه مستحق للقتل، "لعل الله أن يكون قد اطَّلع على أهل بدر"؛ أي نظر إليهم بنظر الرَّحمة والمغفرة.

قيل: الترجي فيه راجع إلى عمر؛ لأن وقوع هذا الأمر محقَّق عنده صلى الله عليه وسلم، والأقرب: أن ذكر (لعل) لئلا يتكل من يشهد بدرًا على ذلك، وينقطع عن العمل.

"فقال: اعملوا ما شئتم": المراد به: إظهار العناية بهم، لا الترخص لهم في كل فعل.

"فقد وجبت لكم الجنة".

"وفي رواية: فقد غفرت لكم".

* * *

4885 -

عن رِفاعةَ بن رافعٍ قال: جاءَ جِبْريلُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما تَعُدُّونَ أهلَ بَدْرٍ فيكم؟ قال: "مِن أَفْضَلِ المُسْلِمينَ"، أو كَلِمةً نحوَها، قال: وكذلكَ مَن شهدَ بدرًا مِن الملائكةِ.

"عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: ما تعدون": قيل: معناه: ممن تعدون "أهل بدر فيكم، قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة"؛ أي: أو قال كلمة "نحوها، قال"؛ أي: جبرائيل عليه السلام: "وكذلك من شهد"؛ أي حضر "بدرًا من الملائكة": هم أفضل من الملائكة الذين لم يشهدوها.

* * *

ص: 503

4886 -

عن حَفْصَةَ رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأَرْجو أنْ لا يَدْخُلَ النَّارَ إنْ شاءَ الله أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا والحُدَيْبيةَ"، قلتُ: يا رسولَ الله! أليسَ قد قالَ الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ؛ قال: "أَفلم تَسْمعِيهِ يقولُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} .

وفي روايةٍ: "لا يَدْخُلُ النَّارَ إنْ شاءَ الله مِن أَصْحابِ الشَّجرةِ أَحَدٌ، الدينَ بايعُوا تحتَها".

"عن حفصة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن لا يدخلَ النارَ إن شاء الله تعالى أحدٌ شَهِدَ بدرًا والحديبيَة، قلت: يا رسول الله! أليس قد قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]؟ ": والورود: بمعنى الدخول عند أهل السنة؛ لأن النجاة التي بعده تدل عليه، "قال صلى الله عليه وسلم: أفلم تسمعيه": خطاب لحفصة، أي: أفلم تسمعي الله "يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] ": فينجي الله المتقين بفضله، فتكون عليهم بَرْدًا وسلامًا، كما كانت على إبراهيم عليه السلام، ويترك الكافرين فيها بِعَدْله، وقد يكون الورود بمعنى الحضور، والهاء للقيامة أو للنار.

وقال ابن عباس: قد يَرِدُ الشيءُ الشيءَ ولم يدخله، كما يقال: وردَت القافلة البلدَ وإن لم تدخله، ولكن قربت منه.

وقيل: هو الجواز على الصراط؛ لأن الصراط ممدودٌ عليها.

قال خالد بن معدان: يقول أهل الجنة: ألم يَعِدْنا ربنا أن نرِدَ على النار، فيقال: بلى، ولكنكم مررتم وهي خامدة.

"وفي رواية: إنه لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة أحدٌ": فاعل (يدخل)، "الذين بايعوا تحتها": بيان لأصحاب الشجرة، أو بدل عنها، وهي بيعة الرضوان.

* * *

ص: 504

4887 -

وقال جابرٌ: كُنَّا يَوْمَ الحُديْبيَة ألفًا وأربعَ مئةٍ، قالَ لنا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنتمْ اليَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ".

"وقال جابر رضي الله عنه: كنا يوم الحديبيَة ألفًا وأربع مئة، قال لنا النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم اليومَ خيرُ أهل الأرض".

* * *

4888 -

عن جابرٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن يَصْعَدُ الثنيَّةَ، ثنيَّةَ المُرَارِ، فإنَّه يُحَطُّ عنهُ ما حُطَّ عن بني إِسرائيلَ"، فكانَ أَوَّلَ مَن صَعِدَها خَيْلُنا، خيلُ بني الخَزْرجَ، ثُمَّ تتَامَّ النَّاسُ، فقالَ رسولُ الله: صلى الله عليه وسلم "كلُّكم مَغْفورٌ لهُ إلا صاحبَ الجَمَلِ الأَحْمَرِ"، فأَتينَاهُ فقلنا: تعالَ يَسْتَغْفِرْ لكَ رسولُ الله، قال:"لأَنْ أَجدَ ضالَّتي أَحَبُّ إليَّ مِن أنْ يَسْتَغْفِرَ لي صاحِبُكم".

"عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَصْعَد الثنية": وهي الطريق العالي في الجبل؛ "ثنية المِرَار" بدل مما قبلها، أو عطف بيان، والمِرَار - بكسر الميم - رسم موضع بين مكة والمدينة عند الحديبيَة.

"فإنه يحط عنه ما حط"؛ أي مثل الذي حط "عن بني إسرائيل": لعل تلك الثنية كان صعودها شاقًا على الناس؛ إما لقربها من العدو، أو لصعوبة طريقها، وهذا غاية المبالغة في حطِّ ذنوب ذلك الصاعد، وإلا فخطيئة المؤمن كيف تكون مثل خطيئتهم العظيمة حين خالفوا أمرَ موسى وعَبَدُوا العجل؟!

"فكان أول من صعدها خيلُنا خيل بني الخزرج، ثم تتامَّ الناس"؛ أي تتابع وصَعَدِ كلُّهم الثنية.

"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر، فأثيناه فقلنا له: تعال يستغفرْ لك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: لأن أجد ضالَّتي أحبّ إليَّ من أن

ص: 505

يستغفر لي صاحُبكم".

* * *

مِنَ الحِسَان:

4889 -

عن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال:"اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِن أصحابي: أبي بَكْرٍ وعُمَرَ، واهتَدُوا بهَدْيِ عمَّارٍ، وتَمَسَّكُوا بعَهْدِ ابن أمِّ عبدٍ".

وفي روايةٍ: "ما حَدَّثكم ابن مَسْعودٍ فَصَدِّقُوه".

"من الحسان":

" عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار"؛ أي بسيرته، "وتمسكوا بعهد ابن أم عبد": وهو عبد الله بن مسعود، يريد به: ما يعهده إلى الصحابة ويوصيهم، ومن جملته استخلاف أبي بكر، فإنه أول مَنْ شَهِدَ بصحتها من أجِلَّة الصحابة، واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم قدَّم الصديق في صلاتنا، فكيف لا نرتضي لدنيانا من ارتضاه صلى الله عليه وسلم لديننا، ويتأيد هذا بالمناسبة الواقعة من أول الحديث وآخره، وكذا يتأيد أيضًا بحديث حذيفة الآتي حيث قال:"إن استخلفتُ عليكم فعصيتموه عُذِّبتم، ولكن ما حدَّثكم حذيفةُ فصدِّقوه"، وهو ما أسر النبي صلى الله عليه وسلم إليه من أمر الخلافة في الحديث الذي نحن فيه.

"وفي رواية: ما حدثكم ابن مسعود فصدقوه".

* * *

4890 -

عن عليٍّ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لو كُنْتُ مُؤَمِّرًا عن غَيْرِ

ص: 506

مَشورَةٍ لأَمَّرتُ عليهم ابن أمِّ عَبْدٍ".

"عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كنت مؤمِّرًا": التأمير: جعل الرجل أميرًا على قوم، وفي بعض طرقه:"لو كنتُ مُستخلفًا".

"عن غير مشورة لأمَّرت عليهم ابن أم عبد": أراد به: تأميره في جيش بعينه، أو استخلافه في أمر من أموره صلى الله عليه وسلم حالَ حياته في أمر خاص؛ لأنه لم يكن قرشيًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"الأئمة من قريش".

* * *

4891 -

عن خَيْثَمةَ بن أبي سَبْرَةَ رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ المَدينةَ فسألتُ الله أنْ يُيسِّرَ لي جَليسًا صالِحًا، فيسَّرَ لي أبا هُرَيرةَ، فجَلَسْتُ إلَيْهِ فقلتُ. إنِّي سألتُ الله أنْ يُيسِّرَ لي جَليسًا صالحًا فوُفِّقتَ لي، فقالَ: من أينَ أنتَ؟ قلتُ: مِن أَهْلِ الكُوفَةِ، جِئْتُ ألتَمِسُ الخَيرَ وأَطلبُه، فقالَ: أَلَيْسَ فيكُم سَعْدُ بن مالكٍ مُجَابُ الدَّعْوةِ، وابن مَسْعودٍ رضي الله عنه صاحِبُ طَهُورِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ونَعْلَيْهِ، وحُذَيْفَةُ صاحِبُ سِرِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وعمَّارٌ الذي أَجارَهُ الله تعالى مِن الشَّيطانِ على لسانِ نَبِيهِ صلى الله عليه وسلم، وسَلْمانُ صاحِبُ الكتابيْنِ؟ "، يعني: الإِنجيلَ والقُرآنَ.

"عن خَيْثَمة" - بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحت قبل الثاء المثلثة المفتوحة -. "ابن أبي سَبْرة" - بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة -، "قال: أتيت المدينةَ، فسألت الله أن ييسِّرَ لي جليسًا صالحًا، فيسَّرَ لي أبا هريرة، فجلستُ إليه فقلتُ: إني سألتُ الله أن ييسِّر لي جليسًا صالحًا، فوفِّقت لي، فقال: من أين أنت؟ فقلت: مِنْ أهل الكوفة، جئت ألتمسُ الخيرَ وأطلبه، فقال: أليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة، وابن مسعود صاحب طَهور رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ونعليه، وحذيفة صاحب سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمار الذي

ص: 507

أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وسَلْمان صاحب الكتابين؛ يعني: الإنجيل والقرآن": فإنه آمنَ بالإنجيل قبل نزول القرآن، ثم بعد نزوله آمن به أيضًا.

* * *

4892 -

وعن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ الرَّجُلُ أبو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ، نِعْمَ الرَّجُلُ أبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ، نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ ثابتُ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بن جَبَلٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بن عَمْرِو بن الجَمُوحِ"، غريب.

"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نِعْمَ الرجلُ أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أَسِيد" - بفتح الهمزة وكسر السين - "بن حُصَيْن" - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين وسكون الياء -، "نعم الرجل ثابت بن قيس بن شَمَّاس، نعم الرجل معاذ بن جبل، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح". "غريب".

* * *

4893 -

عن أَنَسٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الجَنَّةَ تَشْتَاقُ إلى ثلاثَةٍ: عَلِيٍّ، وعَمَّارٍ، وسَلْمانَ".

"عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: علي وعمار وسلمان": وإنما تشتاق لهؤلاء الثلاثة؛ لأنهم قد شَغَلَهم عنها قربةُ الحق تعالى، والمشاهدة والكشف، والمراقبة والتجليات الإلهية، فلذلك تشتاق إلى دخولهم إياها.

* * *

ص: 508

4894 -

وعن عَلِيٍّ رضي الله عنه قال: استَأْذَنَ عَمَّارٌ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: ائذَنُوا له، مَرْحَبًا بالطِّيبِ المُطَيَّبِ".

"عن علي رضي الله عنه قال: استأذن عمار على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ائذَنوا له، مرحبًا بالطَّيب المُطَيَّب".

* * *

4895 -

عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا خُيرَ عَمَّارٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَرْشَدَهُمَا".

"عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ما خُير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدَهما"؛ أي: أصوبَهَما.

* * *

4896 -

عن أَنسٍ رضي الله عنه قال: لمَّا حُمِلَت جَنازَةُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ قال المُنافِقُونَ: ما أَخَفَّ جَنازتَهُ! وذلك لِحُكْمِهِ في بني قُرَيظَةَ، فبلغَ ذلكَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: إنَّ المَلائِكَةَ كانَتْ تَحْمِلُه.

"عن أنس رضي الله عنه قال: لما حُمِلَتْ جنازةُ سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخفَّ جنازته": على صيغة التعجب، يريدون بذلك حقارته وازدراءه.

"وذلك لحُكمِه في بني قريظة": وهذا إشارة إلى أن بني قريظة لمَّا نزلوا على حكمه معتمدين على حسن رأيه = حَكَم بأن تقتل المقاتلة، وتُسبى الذرية، فنسبه المنافقون إلى الجَور، وقد شهد له صلى الله عليه وسلم بالإصابة في حكمه.

"فبلغ ذلك" القول "النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إنَّ الملائكة كانت تحمله": أجاب صلى الله عليه وسلم بما يلزم من تلك الخفة تعظيم شأنه، وتفخيم أمره.

* * *

ص: 509

4897 -

عن عَبْدِ الله بن عَمْرٍو رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "ما أَظَلَّتْ الخَضْراءُ ولا أقلَّتْ الغَبْراءُ أَصْدَقَ مِن أبي ذَرٍّ".

"عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظلَّت الخضراء"؛ أي: السماء، "ولا أقلَّتِ الغَبراء"؛ أي: ما حملت الأرض، "أصدق من أبي ذر": وهذا على سبيل المبالغة والتأكيد، لا أنه أصدق على الإطلاق إذ (1) لم يكن أصدق من الأنبياء، ولا من أبي بكر؛ لأنه صِدِّيق هذه الأمة.

* * *

4898 -

وعن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قالَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أظلَّت الخَضْراءُ، ولا أقلَّت الغَبْراءُ مِن ذي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ، ولا أَوْفَى مِن أبي ذرٍّ، شِبهِ عيسى بن مريمَ عليه السلام".

"عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظلَّت الخضراء، ولا أقلَّت الغبراء من ذي لهجة"؛ أي: لسان "أصدق، ولا أوفى من أبي ذر، شبه عيسى بن مريم"؛ أي في الزهد والتقشف، وقد روى بعضهم هذا الحديث فقال:"أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم".

* * *

4899 -

عن معاذِ بن جَبَلٍ رضي الله عنه: لمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قال: التمِسُوا العِلْمَ عندَ أربعةٍ: عِنْدَ عُوَيمرٍ أبي الدَّرْداءِ، وعِنْدَ سَلْمانَ، وعِنْدَ ابن مَسْعودٍ، وعِنْدَ عَبْدِ الله بن سلامٍ، الذي كانَ يهوديًا فأَسْلَمَ، فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ:

(1) في "ت" و "غ": "إذا"، والصواب ما أثبت.

ص: 510

"إنَّه عاشِرُ عَشْرَة في الجَنَّةِ".

"عن معاذ بن جبل رضي الله عنه لمَّا حَضَره الموتُ قال: التمسوا العلم عند أربعة: عند عُويمر أبي الدرداء، وعند سَلْمان، وعند ابن مسعود، وعند عبد الله ابن سَلَام الذي كان يهوديًا فأسلم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه"؛ أي: عبد الله بن سلام "عاشر عشرة في الجنة".

* * *

4900 -

وعن حُذَيفَةَ رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسولَ الله! لو استَخْلَفْتَ، قال:"إنْ استَخْلَفْتُ عَلَيكُم فعَصَيْتُمُوهُ عُذِّبْتُم، ولكِنْ: ما حَدَّثَكُم حُذَيْفَةُ فَصَدِّقُوه، وما أَقْرَأَكُم عَبْدُ الله فاقرَؤُوه".

"عن حذيفة رضي الله عنه: قالوا يا رسول الله! لو استخلفت"؛ أي: إن استخلفت شخصًا فمن يكون، أو لَكان حَسَنًا.

"قال: إن استخلفت عليكم فعصيتموه عُذِّبتم، ولكن ما حدَّثكم حذيفةُ فصدِّقوه، وما أقركم عبد الله"؛ أي ما أعلمكم عبد الله بن مسعود "فاقرؤوه": هذا من الأسلوب الحكيم؛ لأنه زيادة على الجواب، كأنه قيل: لا يهمكم استخلافي فدعوه، ولكن يهمكم العمل بالكتاب والسنة فتمسكوا بهما، خصَّ حذيفةَ؛ لأنه كان صاحب [سرِّ] رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومُنْذِرَهم من الفتن الدنيوية، وعبدَ الله بن مسعود فإنه كان منذَرهم من الأمور الأخروية، وحيثما (1) أطلق عبد الله أريد: ابن مسعود.

* * *

(1) في "ت" و "غ": "ومهما".

ص: 511

4901 -

عن حُذَيْفةَ قال: ما أَحَدٌ مِن النَّاسِ تُدرِكُه الفِتْنَةُ إلا أنا أَخافُها عليهِ إلا مُحَمَّدَ بن مَسْلَمَةَ، فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ:"لا تَضَرُّكَ الفِتْنَةُ".

"عن حذيفة رضي الله عنه قال: ما أحدٌ من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة، فإني سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تضرُّك الفتنة".

* * *

4902 -

وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رأَى في بَيتِ الزُّبَيْرِ مِصْباحًا، فقال:"يا عائِشَةُ! ما أُرَى أَسْماءَ إلا قد نُفِسَت، فلا تُسَمُّوه حتى أُسمِّيَهُ"، فسمَّاهُ: عبدَ الله، وحَنَّكَهُ بتَمْرَةٍ بيدِهِ.

"عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيت الزبير مِصْباحًا فقال: يا عائشة! ما أُرى" - بضم الهمزة -؛ أي: ما أظن "أسماء": أخت عائشة رضي الله عنهما زوجة الزبير "إلا قد نُفست" - بضم النون وفتحها -؛ أي: ولدت وصارت ذات نفاس.

"فلا تسمُّوه حتى أسميه، فسماه عبد الله، وحَنَّكه بتمرة بيده صلى الله عليه وسلم ": يقال: حنكت الصبي: إذا مضغت تمرًا أو غيره، ثم دَلَكْته بِحنَكَه، وفيهه دليل على أن شريف قوم إذا ولد لواحد ولد يطلب منه أن يسمي ذلك الولد ويحنكه بتمرة أو غيره من الحلو تبركًا.

* * *

4903 -

عن عَبْدِ الرَّحمنِ بن أَبي عُمِيرةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه قالَ لِمُعاوِيةَ رضي الله عنه: "اللهمَّ! اجعَلْهُ هادِيًا مَهْدِيًا، وَاهْدِ بِهِ".

ص: 512

"عن عبد الرحمن بن أبي عَمِيرة" - بفتح العين وكسر الميم -، "عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال لمعاوية: اللهم اجعله هاديًا مهديًا، واهْدِ به".

* * *

4904 -

وعن عُقْبَةَ بن عامر رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمَ النَّاسُ، وآمَنَ عَمْرُو بن العاصِ"، غريب.

"عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلم الناس"، أُريد به: مَنْ أسلم من أهل مكة عامَ الفتح رهبة تحت السيف، وعند استيلاء المؤمنين على دياره وأهله، ذكَرَ العام وأراد به الخاص.

"وآمن عمرو بن العاص": فإنه هاجر قبل ذلك إلى المدينة بسنة، وقيل: بسنتين رغبةً في الإسلام.

والحديث يدل على أن الإسلام غير الإيمان، وفيه تنبيه على أنهم أسلموا رهبة، وآمن عمرو رغبة، فإن الإسلام يحتمل أن يشوبه كراهية دون الإيمان فإنه إنما يكون رغبة وطواعية، وإنما خصصه بالإيمان رغبة؛ لأنه وقع إسلامه في قلبه في الحبشة حين اعترف النجاشي بنبوته صلى الله عليه وسلم فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنًا من غير أن يدعوَه أحدٌ إليه، فجاء إلى المدينة صاعيا، فآمن فأمَّرَه النبي صلى الله عليه وسلم في الحال على جماعة فيهم الصديق والفاروق، وذلك لأنه كان مبالغًا قبل إسلامه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وإهلاك أصحابه، فلما آمن أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُزيل من قلبه أثرَ تلك الوحشة المتقدمة حتى يأمَنَ من جهته ولا ييأس من رحمة الله تعالى.

"غريب".

* * *

ص: 513

4905 -

قالَ جابرٌ رضي الله عنه: لقِيَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: "يا جابرُ! مالي أَراكَ مُنْكَسِرًا؟ " قلتُ: استُشْهِدَ أبي وتركَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قال:"أفلَا أُبشِّرُكَ بما لقيَ الله بهِ أباكَ؟ " قال: قلتُ: بلى يا رسولَ الله! قال: "ما كَلَّمَ الله أَحَدًا قَطُّ إِلا مِن وَراءِ حِجَابٍ، وأَحْيَا أباكَ فكلَّمَه كفَاحًا، فقالَ: يا عبدي! تَمَنَّ عليَّ أُعْطِكَ، قالَ: يا رَبِّ! تُحْييني، فأُقتَلَ فيكَ ثانيةً، قالَ الرَّبُّ تعالى: إِنَّه قد سَبَقَ منِّي: أَنَّهم لا يُرْجَعونَ"، فنزلَتْ:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية.

"قال جابر رضي الله عنه: لقِيني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا جابر! ما لي أراك مُنْكسرًا؟ قلتُ: استُشْهِد أبي وترك عيالًا ودَينًا، قال: أفلا أبشرك بما لقي الله تعالى به أباك": وهذا من الأسلوب الحكيم؛ أي: لا تهتم بشأن أمر دنياه، فإن الله تعالى يقضي عنه دَينه ببركة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبشرك بما هو فيه من القرب عند الله تعالى، وما لقيه به من الكرامة.

"قلت: بلى يا رسول الله، قال: ما كَلَّم الله تعالى أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلَّمه كفاحًا" - بكسر الكاف -؛ أي: مواجهة بلا واسطة غير، ولا حجاب، وإحياءُ أبيه هو بجعل روحه في جوف طير أخضر، وإحياؤه تعالى ذلك الطيرَ بروح أبيه الشهيد، وإلا فالشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون، أو لم يكن لروحه قوة مشاهدة الحق كِفاحًا، فوهبه الله تعالى تلك القوة وزيادة حياة إلى حياته.

"قال: يا عبدي! تمنَّ عليٍّ أعطك، قال: يا ربِّ! تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الربُّ تعالى: إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون، فنزلت: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] الآية".

* * *

ص: 514

4906 -

وقالَ جابرٌ رضي الله عنه: استَغْفَرَ لي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خَمْسًا وعِشْرينَ مَرَّةً.

"قال جابر رضي الله عنه استغفَرَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين مرة".

* * *

4907 -

عن أَنسٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ، لا يُؤْبَهُ لهُ، لو أَقْسَمَ عَلى الله لأَبَرَّه، مِنْهم البَرَاءُ بن مالكٍ" رضي الله عنه.

"عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: كَمْ مِنَ أشعثَ"، (كم) هذه خبرية مبتدأ، و (من) مبين لها، وخبره (لا يؤبه)، والأشعث: متفرق شعر الرأس.

"أغبر": أي ذو غبار، "ذي طِمرين" - بكسر الطاء المهملة وسكون الميم - الطمر: الثوب الخَلِق.

"لا يؤيه له"؛ أي لا يُبالى له، ولا يُلتفت إليه لحقارته، ومع ذلك ذو فضل وافر من الدِّين والخضوع لربه تعالى.

"لو أقسم على الله"؛ بأن يقول: يارب بحقِّك فافعل كذا، "لأبَّره"؛ أي: لأمضاه على الصدق، "منهم البراء بن مالك".

* * *

4908 -

عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: قالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "ألا إنَّ عَيْبَتي التي آوي إليها أهلُ بَيْتي، وإنَّ كرِشي الأَنْصارُ، فاعفُوا عن مُسِيئهم واقبَلُوا مِن مُحْسِنِهم"، صحيح.

"عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ألا إنَّ عَيبتي التي آوي"؛ أي: أميل وأرجع "إليها أهل بيتي، وإن كَرشي الأنصار، فاعفوا عن مُسيئهم، واقبلوا من محسنهم": مرَّ تقريره. "صحيح".

* * *

ص: 515

4909 -

عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُبغِضُ الأَنْصارَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ"، صحيح.

"عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: لا يُبْغِض الأنصار أحدٌ يؤمن باله واليوم الآخر".

* * *

4910 -

عن أَنسٍ رضي الله عنه، عن أبي طَلْحَةَ رضي الله عنه قال: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَقْرِئ قومَكَ السَّلامَ، فإنَّهم ما عَلِمْتُ أَعِفَّةٌ صُبُرٌ".

"عن أنس رضي الله عنه، عن أبي طلحة قال: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أقرِأْ قومَك السلامَ، فإنهم ما علمت"، أي: مدةَ علمي بحالهم "أعفة": جمع عفيف، أو ما علمت فيهم من الصفات أنهم أعفة، "صُبُرْ" - بضم الصاد والباء - جمع صَبور، يريد: أنهم يتعففون عن السؤال، ويتحملون الصبر عند الفاقَة والقتال.

* * *

4911 -

عن جابرٍ رضي الله عنه: أن عَبْدًا لحاطِبٍ جاءَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَشْكُو حاطِبًا، فقالَ: يا رَسِولَ الله! لَيَدْخُلَنَّ حاطِبٌ النارَ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"كذَبْتَ، لا يَدْخُلُها، فإنَّه شَهِدَ بَدْرًا والحُديْبيَة".

"عن جابر رضي الله عنه: أن عبدًا لحاطب جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبًا، فقال: يا رسول الله! ليدخلنَّ حاطب النار، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: كذبتَ لا يدخلُها، فإنَّه شَهِدَ بدرًا والحديبيَة".

* * *

4912 -

عن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تَلَا هذه الآيةُ: {وَإِنْ

ص: 516

تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} قالوا: يا رسولَ الله! مَن هؤلاءِ الذينَ إنْ تولَّيْنا استُبدِلُوا بنا ثُمَّ لا يكونُوا أمثالَنا؟ فَضَرَبَ على فَخِذِ سَلْمانَ الفارِسيِّ ثُمَّ قال: "هذا وقَوْمُهُ، ولو كانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّريَّا لَتَنَاوَلَه رِجالٌ مِن الفُرْسِ".

"عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]: الخطاب فيه لصناديد قريش؛ أي: إنْ تتولوا عن محمد استبدلَ الله قومًا غيركم، بل خيرًا منكم.

"قالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الذين إنْ تولَّينا استُبدِلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فخذ سَلْمان الفارسي، ثم قال: هذا وقومه، لو كان الدِّين عند الثُّريا لتناوله رجالٌ من الفرس".

* * *

4913 -

عن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قالَ: ذُكِرَت الأَعاجِمُ عِنْدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لأَنَا بهم أو ببَعْضهم أَوْثَقُ مِنِّي بكُم أو ببَعْضكُم".

"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ذكرت الأعاجم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لأنا بهم": اللام فيه للابتداء، "أو ببعضهم": عطف على (بهم)، "أوثق": خبر المبتدأ، "مني بكم"، والباء فيه مفعول فعل مقدَّر يدل عليه (أوثق)، "أو ببعضكم": عطف عليه، المعنى: وثوقي واعتمادي بهم أو ببعضهم أكثرُ من وثوقي واعتمادي بكم أو ببعضكم، قيل: فيه تفضيل الأعاجم.

* * *

ص: 517