المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في المعجزات - شرح المصابيح لابن الملك - جـ ٦

[ابن الملك]

فهرس الكتاب

- ‌6 - باب نزول عيسى عليه السلام

- ‌7 - باب قُرْبِ السَّاعَة وأنَّ مَنْ ماتَ فقد قامَتْ قيامَتُه

- ‌8 - باب لا تقومُ السَّاعةُ إلا على الشِّرارِ

- ‌1 - باب النَّفْخِ في الصورِ

- ‌2 - باب الحَشْرِ

- ‌3 - باب الحِسَابِ والقِصَاصِ والمِيْزانِ

- ‌4 - باب الحَوْضِ والشفاعة

- ‌5 - باب صِفَةِ الجَنَّةِ وأَهْلِهَا

- ‌6 - باب رُؤْيَةِ الله تَعالى

- ‌7 - باب صِفَةِ النَّار وأهلِها

- ‌8 - باب خَلْقِ الجَنَّةِ والنَّارِ

- ‌9 - باب بدءِ الخَلقِ، وذكرِ الأَنبياءِ عليهم السلام

- ‌1 - باب فَضَائِلِ سيدِ المُرسَلِينَ صلَوَاتُ الله عَلَيْهِ

- ‌2 - باب أَسْمَاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتُهُ

- ‌3 - باب في أَخْلاقِهِ وشَمَائِلِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌4 - باب المَبْعَثِ وَبدْءِ الوَحْيِ

- ‌5 - باب علامات النبوة

- ‌فصل في المِعْرَاجِ

- ‌فصل في المُعْجِزَاتِ

- ‌6 - باب الكَرَامَاتِ

- ‌7 - باب(باب في بيان هجرة أصحابه من مكة)

- ‌8 - باب

- ‌1 - باب في مَناقبِ قريشٍ وَذِكرِ القَبَائِلِ

- ‌2 - باب مناقب الصحابة رضي الله عنهم

- ‌3 - باب مَناقِبِ أَبي بَكرٍ الصِّديقِ رضي الله عنه

- ‌4 - باب مَناقِبِ عُمَرَ بن الخَطابِ رضي الله عنه

- ‌5 - باب مَنَاقِبِ أَبي بَكْرِ وَعُمَرَ رضي الله عنهما

- ‌6 - باب مَنَاقِبِ عُثمانَ في عَفَّانَ رضي الله عنه

- ‌7 - باب مَنَاقِبِ هؤلاءِ الثَّلاثة رضي الله عنهم

- ‌8 - باب مَنَاقِبِ عَلِيِّ في أَبي طالب رضي الله عنه

- ‌9 - باب مَنَاقِبِ العَشرَةِ رضي الله عنهم

- ‌10 - باب مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

- ‌11 - باب مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌12 - باب جَامِعِ المَنَاقِبِ

- ‌13 - باب ذِكْرِ اليَمَنِ وَالشَّامِ، وَذِكْرِ أُوَيْسِ القَرَنِيِّ رضي الله عنه

- ‌14 - باب ثوَابِ هذِهِ الأُمَّةِ

الفصل: ‌فصل في المعجزات

"فحانت الصلاة"؛ أي: جاء وقتها.

"فأممتهم، فلما فركت من الصلاة قال قائل: يا محمد! هذا مالك خازن النار، فسلِّم عليه، فالتفت إليه، فبدأني بالسلام"؛ ليزيل ما استشعر من الخوف؛ لكونه خازن النار.

* * *

‌فصل في المُعْجِزَاتِ

(فصل في المعجزات)

جمع: معجزة، وهي: أمر بخلاف العادة، يظهر على يدِ من يدَّعي النبوةَ دالاً على صدقة.

4582 -

عَنْ أَنسٍ رضي الله عنه: أنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَالَ: نظَرتُ إلى أَقْدَامِ المُشْرِكِينَ على رُؤوسِنَا ونَحْنُ في الغَارِ، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ الله! لوْ أنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدمِهِ أبْصَرَنا، فَقَالَ:"يَا أَبَا بَكْرٍ! ما ظنُّكَ باثْنَينِ الله ثالِثُهُمَا؟ ".

"عن أنس بن مالك: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار": وهو الكهف في الجبل.

"فقلت: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظرَ إلى قدمه أبصرنا، فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين"؛ يعني: نفسه وأبا بكر.

"الله ثالثهما؟ "؛ أي: في المعاونة، واتحاد الضمير في (اثنين) و (ثالثهما) دليلٌ على كرامة أبي بكر وفضيلته.

* * *

ص: 290

4583 -

وقَالَ البَراءُ بن عَازِبٍ لأَبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ! حَدِّثْنِي كَيْفَ صنَعْتُما حِينَ سَرَيْتَ معَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: أسْرَيْنا لَيْلَتَنا ومِنْ الغَدِ حتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهيرَةِ وخَلا الطَّريقُ لا يَمُرُّ فيهِ أَحَدٌ، فرُفِعَتْ لنا صَخْرةٌ طَويْلةٌ لَهَا ظِلٌّ لمْ تأتِ عليهِ الشَّمسُ، فنزَلْنا عِندَهُ، وسَوَّيْتُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَاناً بيدِي يَنَامُ عليهِ، وبَسَطْتُ عليهِ فَرْوَةً، وقُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ الله! وأَنَا أنفُضُ ما حَوْلَكَ، فنامَ، وخَرَجْتُ أنفُضُ ما حَوْلَهُ، فإِذَا أَنَا براعٍ مُقبلٍ، قُلْتُ: أفي غَنَمِكَ لَبن؟ قَالَ: نعَمْ، قُلْتُ: أفتحلِبُ لي؟ قَالَ: نَعَمْ، فأَخَذَ شَاةً فَحَلَبَ في قَعْبٍ كُثْبةً مِنْ لَبن، ومَعِي إِدَاوةٌ حَمَلتُها للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْتَوِي فِيْهَا، يَشْرَبُ ويَتَوضَّأُ، فأتيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ فوافَقْتُهُ حتَّى اسْتَيْقَظَ، فصَبَبْتُ مِنَ المَاءِ على اللَّبن حتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فقُلْتُ: اشرَبْ يَا رَسُولَ الله! فشَرِبَ حتَّى رَضيْتُ، ثُمَّ قَالَ:"ألَمْ يَأْنِ للرَّحِيلِ؟ "، قُلتُ: بَلَى، قال: فارْتحَلْنا بَعْدَ مَا مالَتِ الشَّمْسُ، واتَّبَعَنا سُراقَةُ بن مَالِكٍ، فَقُلْتُ: أُتِينا يَا رَسُولَ الله! فَقَالَ: "لا تَحزَنْ، إنَّ الله مَعنا"، فدَعَا عَلَيْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فارتَطَمَتْ بهِ فرَسُهُ إلى بَطنِها في جَلَدٍ مِنَ الأرْضِ، فَقَال: إِنِّي أَرَاكُمَا دَعُوْتُما عَلَيَّ فادعُوَا لي، فالله لكُمَا أنْ أرُدَّ عنكُما الطَلَبَ، فدَعا لهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَجَا، فجَعَلَ لا يَلقَى أَحَداً إلَّا قَالَ: كُفيتُمْ مَا هُنَا، فلا يَلقَى أحداً، إلَّا ردَّهُ.

"وقال البراء بن عازب لأبي بكر: يا أبا بكر! حدثني كيف صنعتما حين سَرَيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ": سَرَى وأَسْرَى بمعنى، وهو: السير بالليل.

"قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائمُ الظهيرة": وهي نصف النهار.

"وخلا الطريقُ لا يمرُّ فيه أحدٌ، فرفعت لنا"؛ أي: ظهرت.

"صخرة طويلة لها ظلٌّ، لم تأتِ عليها الشمس، فنزلنا عنده، وسوَّيتُ للنبي صلى الله عليه وسلم مكاناً بيدي، ينام عليه"؛ أي: على ذلك المكان.

"وبسطتُ عليه فروة"؟ أي: ما يلبس من جلد الضأن وغيره.

ص: 291

"وقلت: نمْ يا رسول الله! وأنا أنفضُ ما حولك"؟ أي: أحفظ ما حولك، وأحرسك من الأعداء، وأتجسَّس الأخبار من كل وجه.

"فنام وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براعٍ مقبل، قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم، قلت: أفتحلب؟ قال: نعم، فأخذ شاة فحلب في قَعْبٍ" بفتح القاف وسكون العين المهملة: قدح من خشب مقعر، وقيل: قدح صغير.

"كُثْبة" بضم الكاف وسكون الثاء المثلثة؛ أي: قدر حلبة، وقيل: ملء القدح.

"من لبن، ومعي إداوة": وهي - بكسر الهمزة وفتح الدال المهملة -: المطهرة.

"حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم يرتوي فيها"؛ أي: يكسر عطشه من مائها.

"يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فكرهت أن أوقظه، فوافقته": بتقديم الفاء على القاف؛ أي: فوافقته فيما هو عليه من النوم، ويروى بتقديم القاف من الوقوف؛ أي: صبرتُ، وتوقفت في المجيء إليه.

"حتى استيقظ، وصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله! فشرب حتى رضيت به، ثم قال"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم.

"ألم يأنِ للرحيل؟ "؟ أي: ألم يدخل وقت الارتحال؟

"قلت: بلى، قال: فارتحلنا بعدما مالت الشمس، واتَّبَعَنَا سُراقةُ بن مالك": كافر من كفار قريش.

"فقلت: أُتينا يا رسول الله"؛ أي: جاءنا من يطلبنا.

"فقال: لا تحزن إن الله معنا، فدعا صلى الله عليه وسلم، فارتطمت به فرسه"؛ أي: ساخت قوائمها.

ص: 292

"إلى بطنها": كما تسوخُ في الوحل.

"في جَلَد": وهو - بفتحتين -: القطعة الغليظة الصلبة.

"من الأرض، فقال: إني أراكما"؛ أي: أظنكما.

"دعوتما عليَّ، فادعوا لي، فالله لكما"؛ أي: فالله شاهدٌ على أن لا أغْدِرَكُما في الردِّ عنكما، فـ (الله) مبتدأ، والخبر محذوف، وإن نصب فالتقدير: أُشهِد الله.

"أن أرد": بحذف الجار؛ أي: بأن أرد.

"عنكما الطلب"؛ أي: طلب الكفار.

"فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام، فنجا، فجعل لا يلقى أحداً"؛ أي: ما وصل سراقة أحداً من الكفار؛ لطلب النبي صلى الله عليه وسلم.

"إلا قال. كفيتم"؛ أي: استغنيتم عن الطلب.

"ما هاهنا": قيل: (ما) للنفي؛ أي: ليس هاهنا أحد، وقيل: بمعنى: (الذي)؛ أي: كفيتم الذي هاهنا؛ يعني: كفيتم الطلب في هذا الجانب.

"فلا يلقى أحداً إلا رده"؛ وفاء بما وعد، ومراعاةً لما عهد.

* * *

4584 -

وقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: سَمعَ عبدُ الله بن سَلامٍ بِمَقْدَمِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وهوَ في أَرْضٍ يَخْترِفُ، فَأَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي سَائِلُكَ عنْ ثلاثٍ لا يعلَمُهُنَّ إلَّا نبيٌّ: فما أَوَّلُ أَشْراطِ السَّاعةِ؟ وما أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ وما يَنْزِعُ الوَلدَ إلى أبيهِ أوْ إلى أُمِّهِ؟ قَالَ: "أخبَرنِي بهِنَّ جِبريلُ آنِفاً، أمَّا أَوَّلُ أَشْراطِ السَّاعةِ فنارٌ تحشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، وأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ فزِيَادَةُ

ص: 293

كَبدِ حُوتٍ، وإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المَرْأةِ نزَعَ الولدَ، وإِذَا سَبَقَ مَاءُ المَرأةِ نزَعَتْ"، قَالَ: أَشْهدُ أنْ لا إِلَهَ إِلَاّ الله وأنَّكَ رَسُولُ الله، ثُمَّ قَالَ: يا رَسُولَ الله! إنَّ اليَهُودَ قومٌ بُهْتٌ، وإنَّهُمْ إِنْ يَعلَمُوا بإسْلامِي قبلَ أَنْ تَسْألَهُمْ يَبْهتوني، فجَاءَت اليَهُودُ، فقال: "أيُّ رَجُلٍ عبدُ الله فيكُمْ؟ "، قالوا: خَيْرُنا، وابن خَيْرِنا، وسَيدُنا وابن سَيدِنا، قال: "أرأَيْتُمْ إنْ أسلَمَ عبدُ الله بن سَلامٍ؟ "، قالوا: أَعَاذَهُ الله مِنْ ذلكَ، فخرجَ عبدُ الله فَقَالَ: أَشْهدُ أنْ لا إِلهَ إلَّا الله وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، فَقَالوا: شَرُّنا وابن شَرِّنا، فانتقَصُوهُ، قال: هَذَا الَّذي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ الله!.

"وقال أنس رضي الله عنه: سمع عبد الله بن سلام بمقدَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ أي: بقدومه صلى الله عليه وسلم.

"وهو"؛ أي: عبد الله بن سلام.

"في أرض يخترِفُ"؛ أي: يجني الثمرة من الشجر.

"فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد"؛ أي: ما يشبهه "إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفاً؛ أما أول أشراط الساعة؛ فنارٌ تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة؛ فزيادةُ كبد الحوت"؛ أي: طرف كبده، وهي أطيب ما يكون من كبده.

"وإذا سبق"؛ أي: علا وغلب.

"ماءُ الرجل ماءَ المرأة نزع"؛ أي: جذب ذلك السبق "الولدَ" إلى مشابهة الرجل، أو جذب الرجل الولد إلى مشابهته بسبب سبق مائه على مائها.

"وإذا سبق ماء المرأة نزعت"؛ أي: جذبت المرأة الولد إلى مشابهتها بسبب غلبة مائها على مائه.

ص: 294

"قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، يا رسول الله! إن اليهود قومٌ بُهْتٌ" بضم الباء ثم السكون: جمع بَهُوت، من بناء المبالغة؛ أي: كثيرُ البهتان؛ يعني: أنهم قوم لا يبالون بالكذبِ والافتراءِ على الناس.

"وإنهم إن يعلموا بإسلامي من قبل أن تسألهم عني"؛ أي: قبل سؤالك منهم عن حالي.

"يبهتوني"؛ أي: يقولون عليَّ ما لم أفعله.

"فجاءت اليهود، فقال: أيُّ رجل عبد الله فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم"؛ أي: أخبروني "إن أسلم عبد الله بن سَلامٍ؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، فانتقصوه"؛ أي: عابوه وحقروه.

"قال"؛ أي: عبد الله بن سلام: "هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله".

* * *

4585 -

وقَالَ أَنسٌ رضي الله عنه: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم شَاوَرَنا حِيْنَ بلَغَنا إِقْبالُ أبي سُفْيانَ، فَقَامَ سَعدُ بن عُبادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! والّذِي نَفْسِي بيدِهِ، لوْ أمَرْتَنَا أنْ نُخِيضَها البحرَ لأخَضْنَاها، ولوْ أمَرْتَنا أنْ نَضْرِبَ أكبَادَها إلى بَرْكِ الغِمادِ لفعَلْنا، قال: فندَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم النَّاسَ، فانطَلَقُوا حتَّى نزَلُوا بَدْراً، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"هذا مَصْرَعُ فُلانٍ"، ويَضعُ يَدهُ على الأَرْضِ هَاهُنَا وهَاهُنَا، قَالَ: فَمَا مَاطَ أحدُهُمْ عن مَوْضعِ يَدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.

"وقال أنس رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم شاورَ حين بلغنا إقبالُ أبي سفيان"؛ أي: حين سمعنا أن أبا سفيان أقبل من مكة مع الجيش للمحاربة.

ص: 295

مشاورته صلى الله عليه وسلم أهل المدينة كان امتحاناً على وثوق عهدهم.

"فقام سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله! والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نُخِيضَها"؛ أي: ندخل الخيل والإبل؛ لدلالة الحال عليهما.

"البحر لأخضناها"؛ أي: لأدخلناها البحر.

"ولو أمرتنا أن نضربَ أكبادها": ضرب أكباد الخيل والإبل كنايةٌ عن تكليفها السير الكثير.

"إلى بَرْكِ الغِماد": بكسر الباء الموحدة وفتحها، والفتح أشهر، قال التوربشتي: كسر الباء أصح الروايتين، وبضم الغين المعجمة وكسرها أيضاً: اسم موضع بأقصى اليمن، وقيل: وراء مكة بخمس ليالٍ بناحية الساحل مما يلي اليمن؟ يعني: لو أمرتنا أن نفعلَ خلاف العادة بالسير والقتال إلى موضع ذلك، "لفعلنا"، فكيف لا نسير ونقاتل ببدر مع قربها؟!

"قال: فندب"؛ أي: دعا.

"رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناسَ، فانطلقوا"؛ أي: فذهبوا.

"حتى نزلوا بدراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مصرعُ فلان"؛ أي: مقتله.

"ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا، قال: فما ماطَ"؛ أي: ما بعد، وما تجاوز "أحدُهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ أي: عن الموضع الذي عيَّنه صلى الله عليه وسلم بيده لمصرع كفار قريش في بدر.

* * *

4586 -

وعَنِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وهوَ في قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ: "اللهمَّ! أَنشُدُكَ عَهْدَكَ ووعْدَكَ، اللهمَّ! إِنْ تَشَأْ لا تُعبَدُ بعدَ اليومِ"، فأَخَذَ أبو بَكْرٍ بيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ الله! ألْحَحْتَ على ربك، فخَرجَ وهوَ يَثِبُ في

ص: 296

الدِّرْعِ وهوَ يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ".

"عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة"؛ أي: خيمة.

"يوم بدر: اللهم أنشدك عهدك ووعدك"؛ أي: أسألك إيفاء عهدك، وإنجاز وعدك، المشار إليه بقوله:{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، وفي سورتي (الفتح) و (النصر).

"اللهم إن تشأ"؛ أي: عدمَ الإسلام، مفعوله محذوف؛ لدلالة السياق عليه؛ أي: إن تشأ أن لا تُعبَدَ، "لا تُعبَدُ بعد اليوم"؛ لأنه حينئذ لا يبقى على وجه الأرض مسلم.

"فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده فقال: حسبك يا رسول الله! ألححتَ على ربك"؛ أي: بالغت في الدعاء كلَّ المبالغة.

إلحاحُهُ صلى الله عليه وسلم في دعائه تشجيعٌ للمسلمين، وتثبيتٌ لأقدامهم؛ لأنهم كانوا عالمين بأن دعاءه مستجاب البتة، لاسيما إذا بالغ فيه.

وقول أبي بكر هذا يدل على أنه أقوى قلباً من الصحابة، وأوثقهم بإنجاز وعده تعالى.

"فخرج"؛ أي: الرسول صلى الله عليه وسلم.

"وهو يثب في الدرع"؛ أي: حال كونه مسرعاً فيها، "وهو يقول:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] "؛ أي: يدبرون.

* * *

4587 -

وعنِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ يومَ بَدْرٍ: "هذا جِبريلُ آخِذٌ بِرَأسِ فرَسهِ، عَليهِ أداةُ الحَرْبِ".

ص: 297

"وعنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: هذا جبريلُ آخذٌ برأس فرسه عليه أداةُ الحرب"؛ أي: آلته.

* * *

4588 -

وقَالَ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه: بَيْنَما رَجُلٌ مِنَ المُسْلِميْنَ يومئذٍ يَشتَدُّ في أثَرِ رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بالسَّوْطِ فَوقَهُ، وصَوْتَ الفَارِسِ يَقُولُ: أقْدِمْ حَيْزومُ! إذْ نظرَ إلى المُشركِ أَمَامَهُ خَرَّ مُسْتَلْقِياً، فنظرَ إليهِ، فإذا هوَ قدْ خُطِمَ أنفُهُ وشُقَّ وجهُهُ كضَرْبةِ السَّوْطِ، فاخْضَرَّ ذلكَ أجْمَعُ، فجاءَ الأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"صَدَقْتَ، ذلكَ منْ مَدَدِ السَّمَاءَ الثالِثةِ".

"وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بينما رجل من المسلمين يومئذٍ"؛ أي: يوم إذ قامت الحرب.

"يشتدُّ"؛ أي: يعدو.

"في إثر رجل من المشركين أمامَهُ"؛ أي: قُدَّامه.

"إذ سمع"؛ أي: الرجل، (إذ) هنا للمفاجأة.

"ضربةً بالسوط فوقه، وصوتَ الفارس": معطوف على (ضربة).

"يقول: أَقْدِم" بفتح الهمزة: أمرٌ بالإقدام.

"حيزوم" بفتح الحاء المهملة وضم الزاء المعجمة: اسم فرس جبريل، وحرف النداء منه محذوف، وقيل: اسم فرسٍ من خيول الملائكة.

"إذ نظر": بدل من (إذ سمع).

"إلى المشرك أمامه خَرَّ"؛ أي: سقط.

"مستلقياً، فنظر إليه"؛ أي: إلى المشرك.

ص: 298

"فإذا هو قد خُطِم أنفه"؛ أي: ظهر على أنفه أثر ضربة، و (الخطم) بالخاء المعجمة: الأثر على الأنف.

"وشُقَّ وجهُهُ كضربة السوط، فأخْضرَّ ذلك أجمعُ"؛ أي: صار موضع الضربة كله أسود.

"فجاء الأنصاريُّ، فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت، ذلك من مددِ السماء الثالثة"؛ أي: مدد ملائكتها.

خُصَّ المدد بأهل السماء الثالثة؛ تنبيهاً على أن المدد كان من كثير من السماوات، أو على أن لأهلها هذا التأثير المخصوص.

* * *

4589 -

وقَالَ سَعْدُ بن أبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه: رأيتُ عنْ يَمينِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وعَنْ شِمالِه يَومَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِما ثِيابٌ بِيضٌ، يُقاتِلانِ كأشَدِّ القِتَالِ، مَا رأَيْتُهُما قَبْلُ ولا بَعْدُ، يَعني: جِبريلَ ومِيكائِيلَ عليهما السلام.

"وقال سعد بن أبي وقاص: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعن شماله يومَ أُحدٍ رجلين عليهما ثياب بيض، يقاتلان كأشد القتال، ما رأيتهما قبلُ ولا بعدُ؛ يعني: جبريل وميكائيل": تفسير للرجلين.

* * *

4590 -

وعَنِ البَراءِ رضي الله عنه قال: بَعثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رَهْطاً إِلى أَبي رافِعٍ، فدَخَلَ عليهِ عبدُ الله بن عَتِيكٍ بيتَهُ لَيْلاً وهوَ نائِمٌ فقتَلَهُ، فَقَالَ عَبدُ الله بن عَتِيكٍ: فوضَعْتُ السَّيفَ في بطنِهِ حتَّى أَخَذَ في ظهرِهِ فعرَفْتُ أنِّي قَتَلتُهُ، فَجَعَلْتُ أفتحُ الأبوابَ حتَّى انتهَيْتُ إِلى دَرَجةٍ، فوضَعْتُ رِجْلِي، فوقعْتُ في لَيلةٍ مُقْمِرَةٍ، فانكسَرَتْ سَاقِي،

ص: 299

فعصَبْتُها بِعِمَامةٍ، فانطلَقْتُ إلى أَصْحَابي فانتَهَيْتُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فحَدَّثتُهُ فَقَال:"ابْسُطْ رِجْلَكَ"، فبسَطْتُ رِجْلِي فمسَحَها، فكَأنَّها لمْ أشتَكِها قطُّ.

"عن البراء رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً": من الخزرج، والرهط: ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة.

"إلى أبي رافع": وهو ابن الحقيق اليهودي، وكان أعدى عدوٍّ للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يسعى في أذيته، ويهجوه بعدما نقض عهده، وكان له قلعة، فهو ملكها يتحصَّنُ بها.

"فدخل عبد الله بن عَتيكٍ": بفتح العين المهملة وكسر التاء، وهو أمير الرهط.

"بيته ليلاً وهو نائم، فقتله، فقال عبد الله بن عتيك: فوضعت السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت"؛ أي: طفقت "أفتح الباب، حتى انتهيت إلى درجة، فوضعت رجلي، فوقعت"؛ أي: من تلك الدرجة.

"في ليلة مقمرة"؛ أي: مضيئة من نور القمر، يقال: أقمرت الليلة: إذا أضاءت.

"فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة"؛ أي: شددتها بها.

"فانطلقتُ إلى أصحابي، فانتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، فقال: ابسطْ رِجلَكَ، فبسطتُ رجلي، فمسحها"؛ أي: مسح رجلي بيده، فصارت صحيحة.

"فكأنما لم أشتكها قط": وفيه دليل على أن الذمي إذا نقض عهده يُقتَلُ.

* * *

4591 -

وقَالَ جَابرٌ: إنَّا يومَ الخَنْدَقِ نَحفِرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيْدَةٌ، فجَاءُوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: هَذِه كُدْيَةٌ عَرضَتْ في الخَنْدَقِ، فَقَالَ: "أَنَا نازِلٌ، ثُمَّ

ص: 300

قَامَ وبطنُهُ مَعصُوبٌ بحَجَرٍ، ولَبثْنا ثَلاثَةَ أيَّامٍ لا نَذوقُ ذَواقاً، فأخَذَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المِعْوَلَ فضَربَ فعَادَ كَثِيْباً أهْيَلَ، فانْكَفأْتُ إلى امرأَتِي فَقُلتُ: هَلْ عِندَكِ شَيءٌ؟ فإنِّي رَأيتُ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خَمَصاً شَدِيْداً، فأخْرجَتْ جِراباً فيهِ صَاعٌ مِنْ شَعيرٍ، ولَنَا بُهَيْمةٌ داجِنٌ فذبَحْتُها، وطَحنْتُ الشَّعيرَ، حتَّى جَعَلْنا اللَّحْمَ في البُرْمَةِ، ثُمَّ جِئتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فسَارَرْتُهُ فقلْتُ: يا رَسُولَ الله! ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعيرٍ، فتَعَالَ أَنْتَ ونَفَرٌ معَكَ، فَصَاحَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ! إنَّ جَابراً صَنَع سُوْراً، فَحَيَّ هَلا بكُمْ"، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، ولا تَخْبزُنَّ عَجينَكُمْ حتَّى أَجِيءَ"، وجاءَ فأخرَجَتْ لهُ عَجيْناً فبَصَقَ فيهِ وبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إلى بُرْمَتِنا فبَصَقَ وباركَ، ثُمَّ قالَ:"ادْعِي خابزةً فلتَخْبزْ معَكِ، واقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ ولا تُنزِلُوها"، وهُمْ ألفٌ، فأُقسِمُ بالله لأَكَلوا حتَّى تَركُوه وانحَرَفوا، وإنَّ بُرْمَتَنا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وإنَّ عَجينَنا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ.

"وقال جابر: إنَّا يوم الخندق نحفرُ، فعرضت"؛ أي: ظهرت.

"كُديةٌ": وهي - بضم الكاف وسكون الدال المهملة -: الأرض الصلبة الغليظة التي لا يعملُ فيها الفأس.

"شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذه كُديةٌ عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل"؛ أي: في الخندق.

"ثم قام، وبطنُهُ معصوبٌ"؛ أي: مشدود من الجوع.

"بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذَواقاً" بالفتح: ما يُذاقُ من المأكول والمشروب.

"فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المِعوَلَ": وهو - بكسر الميم وسكون العين المهملة -: الفأس العظيم التي ينقر بها الصخر.

"فضربَ، فعادَ كثيباً"؛ أي: تلاً من الرمل.

ص: 301

"أَهْيَلَ"؛ أي: سائلاً؛ يعني: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم تلك الكُديةَ، فصارت كثيباً من الرمل ينصبُّ ويسيل.

"فانكفأت"؛ أي: فانصرفت ورجعت "إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خَمَصاً"؛ أي: جوعاً.

"شديداً، فأخرجت جِراباً" بكسر الجيم: جلد مُنقَّى عن الشَّعر.

"فيه صاعٌ من شعير، ولنا بُهيمة": تصغير بَهْمة، وهي ولد الضأن، يقع على الذكر والأنثى، وقيل: هي السخلة.

"داجن": وهو ما ألف البيتَ واستأنس.

"فذبحتها، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البُرمة": وهي القدر من حجر.

"ثم جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فساررته"؛ أي: فكلمته سراً.

"وقلت: يا رسول الله! ذبحنا بُهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير، فتعالَ أنت ونفرٌ معك، فصاح النبيُّ صلى الله عليه وسلم: يا أهل الخندق! إن جابراً صنع سُؤْراً"؛ أي: هيأ لكم طعاماً.

"فحيَّ هلا بكم"؛ أي: يا رجال! هلموا وعجلوا إلى الطعام الذي صنع لكم جابر، وهي كلمة مركبة من (حيَّ) و (هل) مثل (خمسة عشر)، ويستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، فإذا وقفتَ عليه قلت: حي هلا، والألف لبيان أن الحركة كالهاء في {كِتَابِيَهْ} و {حِسَابِيَهْ} لأن الألف من مخرج الهاء، ويجوز:(حي هلاًّ) بالتنوين.

"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنزلنَّ برُمتكم، ولا تَخبزنَّ عجينَكم حتى أجيء، وجاء، فأخرجتُ له عجيناً، فبصق فيه"؛ أي: رمى بالبزاق في العجين.

ص: 302

"وبارك"؛ أي: دعا بالبركة.

"ثم عَمِدَ"؛ أي: قصد.

"إلى برُمتنا، فبصق وبارك، ثم قال: ادعُ خابزةً، فلتخبزْ معي": قيل: بإعانتي إياها.

خاطب جابراً، ثم عدل إلى خطاب ربةِ البيتِ بقوله:"واقدحي"؛ أي: اغرفي "من برمتكم"، ثم عدل إلى الجمع، فقال:"ولا تنزلوها"، خطاباً للخابزةِ وغيرها على التغليب.

"وهم يومئذ ألفٌ، فأقسمُ بالله لأكلوا حتى تركوه، وانحرفوا"؛ أي: مالوا ورجعوا إلى أماكنهم.

"وإن برُمتنا لتغِطُّ": بكسر الغين المعجمة والطاء المهملة؛ أي: لتفور وتغلي غلياناً، لها صوتٌ، ممتلئة "كما هي، وإن عجيننا ليُخبَزُ كما هو".

* * *

4592 -

وقَالَ أَبو قتادَةَ: إنَّ رَسُولَ الله صلى الله صلى الله عليه وسلم قالَ لِعمَّارٍ حِينَ يَحفِرُ الخَنْدَقَ، فجَعلَ يَمسحُ رأسَهُ ويقول:"بُؤْسَ ابن سُمَيَّةَ، تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ".

"وقال أبو قتادة رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين يحفرُ الخندقَ، فجعل يمسح رأسه"؛ أي: فأخذ يمسح رأسَ عمار بن ياسر.

"ويقول: بؤس ابن سُمية": (البؤس): الشدة والمشقة، و (سمية) بضم السين وفتح الميم والياء المشددة: اسم أم عمار؛ أي: يا شدة سمية التي تصل إليه، هذا إن رُوي (بؤسَ) بالنصب.

وإن رُوي رفعاً، فخبر مبتدأ محذوف، و (ابن سمية) منادى؛ أي: يصيبك بؤسٌ وشدةٌ يا ابن سمية! "تقتلك الفئة الباغية"؛ يعني: أهل البغي، وهم معاوية

ص: 303

وقومه، كأنه صلى الله عليه وسلم ترحم له من الشدة التي يقع فيها، ثم ظهر صدقه صلى الله عليه وسلم، قتلة أهل معاوية وقومه، وكان مع علي رضي الله عنه في حرب صِفين.

* * *

4593 -

وقَالَ سُلَيمانُ بن صُرَدٍ: قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حِيْنَ أُجْلِيَ الأحزابُ عنهُ: "الآنَ نَغزوهُم ولا يَغزوننَا، نحنُ نسَيرُ إليهِمْ".

"وقال سليمان بن صُرَد رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أُجلِيَ الأحزابُ عنه": يقال: أجلوا عن كذا؛ أي: انكشفوا عنه وانفرجوا، والأحزاب: الجماعة التي تجتمع على محاربة الأنبياء، ويوم الأحزاب: يوم الخندق؛ لأن الكفار تحزبوا؛ أي: اجتمعوا على محاربة أهل المدينة.

"الآن نغزوهم، ولا يغزوننا، ونحن نسيرُ إليهم": أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين انهزم الأحزاب بأن الظفرَ والنصرةَ قد جاء عليهم في هذه الساعة.

* * *

4594 -

وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لمَّا رَجَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الخَنْدَقِ ووَضَعَ السِّلاحَ واغتَسلَ، أَتاهُ جِبريلُ وهو يَنْفُضُ رَأسَهُ مِنَ الغُبارِ، فقالَ:"لَقَدْ وضَعْتَ السِّلاحَ، والله ما وَضَعتُهُ، اخرُجْ إِليهِمْ"، قالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"فأَيْنَ؟ فأشارَ إلى بني قُرَيْظَةَ".

"وقالت عائشة رضي الله عنها: لما رجع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح، واغتسل، أتاه جبريلُ وهو ينفضُ رأسَه": النفض: تحريك الشيء؛ ليزول ما عليه من الغبار وغيره؛ يعني: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسح رأس جبريل "من الغبار"، والأولى أن يعود الضميران إلى جبريل عليه السلام.

ص: 304

"فقال"؛ أي: جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام.

"قد وضعتَ السلاح؟ والله ما وضعته، اخرجْ إليهم"؛ أي: قاصداً إلى بني قريظة، وهم اليهود.

"فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين" أقصد؟ "فأشار إلى بني قريظة".

* * *

4595 -

قَالَ أَنسٌ: كَأنِّي أنظُرُ إلى الغُبارِ سَاطِعاً في زُقاقِ بني غَنْمٍ مِنْ مَوْكِبِ جِبريلَ عليه السلام حِينَ سَارَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظَةَ".

"قال أنس رضي الله عنه: كأني أنظر الغبار ساطعاً"؛ أي: مرتفعاً.

"في زقاق بني غَنْم": بفتح الغين المعجمة وسكون النون، ويروى بتحريكها: قبيلة من الأنصار؛ أي: في سكنهم.

"من موكب جبريل عليه السلام"؛ أي: جماعته الذين هو فيهم، والموكب: جماعة الفرسان، وجماعة الركبان أيضاً يسيرون برفق.

"حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة".

* * *

4596 -

وقَالَ جَابرٌ رضي الله عنه: عَطِشَ النَّاسُ يومَ الحُدَيْبيَةِ ورَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بيْنَ يَدَيْهِ رَكوَةٌ فتَوضَّأَ مِنها، ثُمَّ أَقْبَلَ النَّاسُ نحوَهُ، قَالُوا: لَيسَ عِنْدَنا مَاءٌ نتَوضَّأُ بهِ ونَشْربُ إِلَاّ ما في رَكْوَتِكَ، فوَضَعَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ في الرَّكْوَةِ، فَجَعَلَ المَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابعِهِ كَأَمْثَالِ العُيونِ، قَالَ: فشَرِبنا وتَوضَّأْنا، قيلَ لِجَابرٍ: كَمْ كُنْتُم؟ قَالَ: لوْ كُنَّا مِائةَ ألْفٍ لَكَفانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرةَ مِئَةً.

"وقال جابر: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه رَكوة"

ص: 305

بفتح الراء المهملة: ظرف يتوضأ منها ويشرب.

"فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ به ونشرب إلا ما في ركوتك، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فجعل الماء"؛ أي: طفق.

"يفور"؛ أي: يجيش.

"من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوضأنا، قيل لجابر: كم كنتم"؛ أي: كم رجلاً كنتم؟

"قالوا: لو كنا مئة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مئة".

* * *

4597 -

وقَالَ البَراء بن عازِبٍ رضي الله عنه: كُنَّا معَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَرْبَع عَشْرةَ مِئَةً يومَ الحُدَيْبيَةِ، والحُدَيْبيَةُ بِئرٌ، فنَزَحْنَاها، فلَمْ نترُكْ فيها قَطْرةً، فبلَغَ ذَلِكَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأَتَاها فجَلَسَ على شَفِيرِها، ثُمَّ دَعَا بإناءٍ مِن مَاءٍ فَتَوضَّأَ، ثُمَّ مَضْمَضَ ودَعا، ثُمَّ صَبَّهُ فيها، ثُمَّ قَالَ:"دَعُوها سَاعة"، فأَرْوَوا أنفُسَهُمْ ورِكابَهُمْ حتَّى ارتَحَلوا.

"وقال البراء بن عازب: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مئة يوم الحديبية، والحديبية بئر فنزحناها"؛ أي: استقينا ما في الحديبية.

"فلم نترك فيها قطرة، فبلغ"؛ أي: خبر انقضاء الماء.

"النبيَّ عليه الصلاة والسلام، فأتاها"؛ أي: الحديبية.

"فجلس على شفيرها"، أي: طرفها.

"ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا، ثم صبَّه فيها"؛ أي: ذلك الماء في الحديبية.

ص: 306

"ثم قال: دعوها ساعة، فأَرْووا أنفسهم وركابهم": وهي الإبل التي يسار عليها.

"حتى ارتحلوا"؛ أي: كانوا هم وركابهم يرتوون منها مدة إقامتهم هناك.

* * *

4598 -

وقَالَ عِمْرانُ بن حُصَيْنٍ رضي الله عنه: كُنَّا في سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فاشتَكَى إليهِ النَّاسُ مِنَ العَطشِ، فنزَلَ، فدَعا فُلاناً ودَعا عَليًّا فقال:"اذْهَبا فابتَغِيا المَاءَ"، فانطلَقا فلَقِيا امرأةً بينَ مَزادَتَيْنِ - أو سَطيحَتَيْنِ - مِنْ مَاءٍ، فجَاءَا بها إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فاستَنْزَلوها عَنْ بَعيرِها، ودَعا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بإناءٍ ففرَّغَ فيهِ منْ أفواهِ المَزادَتَيْنِ، ونُودِيَ في النَّاسِ: اسْقُوا واسْتَقوا، قال: فشَرِبنا عِطَاشاً أَرْبعينَ رَجُلاً حتَّى رَوِينا، فمَلأْنا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنا وإِداوَةٍ، وايمُ الله لَقْدْ أُقلِعَ عنها وإنَّهُ لَيُخيَّلُ إلَيْنا أنَّها أَشَدُّ مِلأَةً منها حِينَ ابتَدأَ.

"وقال عمران بن حصين رضي الله عنه: كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلاناً، ودعا علياً، فقال: اذهبا فابتغيا"؛ أي: اطلبا.

"الماء، فانطلقا، فتلقيا"؛ أي: استقبلا.

"امرأة بين مزادتين": المَزَادة - بفتح الميم والزاي المعجمة -: وعاء يوضع فيه طعام السفر.

قال الجوهري: المزادة: الراوية.

"أو سطيحتين من ماء": والسطيحة: نوع من المزادة يتخذ من جلدين سُطِحَ أحدهما على الآخر.

"فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستنزلوها"؛ أي: طلبوا منها أن تنزل.

ص: 307

"عن بعيرها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء، ففرَّغ فيه"؛ أي: صب في الإناء.

"من أفواه المزادتين، ونودي في الناس: اسقوا واستقوا"؛ أي: ناولوا الإناء وانزحوا في أوانيكم وقربكم.

"قال: فشربنا عطاشاً": نصب على الحال من الضمير في (شربنا).

"أربعين رجلاً": حال بعد حال، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في (عطاشاً).

"حتى روينا، فملأنا كل قربة معنا وإدَاوَة" بكسر الهمزة: المِطهَرة.

"وايم الله لقد أُقلِع عنها": بصيغة المجهول؛ أي: كُفَّ عن تلك المزادة وترك.

"وإنه"؛ أي: إن الشأن "ليخيَّل"؛ أي: ليظنُّ "إلينا أنها"؛ أي تلك المزادة "أشد ملأً منها حين ابتدئ"؛ يعني: كانت أكثر ماء من تلك الساعة التي كان الناس يبتدؤون بالاستقاء.

* * *

4599 -

وقَالَ جَابرٌ صلى الله عليه وسلم: سِرْنا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حتَّى نَزَلنا وادِياً أفْيَحَ، فذهَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْضي حَاجتَهُ فَلَمْ يرَ شَيئاً يَسْتتِرُ بهِ، وإذا شَجَرتانِ بِشَاطِئِ الوادِي، فانطلَقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلىَ إِحْداهُما فأخَذَ بغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِها فَقَال:"انْقادِي عَليَّ بإذنِ الله"، فانقادَتْ مَعَهُ كالبَعيرِ المَخْشوشِ الذي يُصانِعُ قائِدَهُ حتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخرَى، فأخذَ بغُصْنٍ منْ أغصَانِها فقال:"انقادِي عليَّ بإذنِ الله"، فانقادَتْ معهُ كذلك، حتَّى إذا كانَ بالمَنْصَفِ ممَّا بينهُما قال:"التَئِما عليَّ بإذنِ الله"، فالتَأَمَتا، فجلسْتُ أُحدِّثُ نفسِي، فحانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ فإِذَا أنَا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم مُقبلاً، وإذا الشَّجَرتانِ قدْ افْتَرَقَتَا، فقامَتْ كُلُّ واحِدةٍ منهُما على ساقٍ.

ص: 308

"وقال جابر: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا وادياً أفيح"؛ أي: واسعاً.

"فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته، فلم يرَ شيئاً يستتر به، وإذا شجرتين": روي منصوباً لفعلٍ مضمرٍ؛ أي: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شجرتين، وروي:(شجرتان) مرفوعاً، وهو ظاهر؛ لأنه موضع الخبر مبتدأ، ف (إذا) للمفاجأة.

"بشاطئ الوادي"؛ أي: بطرفه.

"فانطلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: ذهب.

"إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليَّ بإذن الله، فانقادت معه": معجزة له صلى الله عليه وسلم.

"كالبعير المخشوش": وهو الذي جعل في أنفه الخِشاش، وهو - بكسر الخاء -: عُوَيد يجعل في أنف البعير لينقاد.

"الذي يصانع"؛ أي: يطاوع وينقاد.

"قائده"، والأصل في المصانعة: الرشوة.

"حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليَّ بإذن الله، فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمَنْصَف" بفتح الميم والصاد المهملة: نصف الطريق.

"مما بينهما"؛ أي: بين الشجرتين.

"قال"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم.

"التئما"؛ أي: اجتمعا "علي بإذن الله، فالتأمتا، فجلست أحدث نفسي، فحافت مني لفتة"؛ أي: أتى وقتها، فعلة من (الالتفات)؛ يعني: كنت مشتغلاً بنفسي لا ألتفت إلى شيء، فالتفتُّ بغتةً.

ص: 309

"فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، وإذا الشجرتان قد افترقتا": بعد اجتماعهما.

"فقامت كل واحدة منهما على ساق"؛ يعني: رأيت تلك المعجزة منه صلى الله عليه وسلم.

* * *

4600 -

عَنْ يَزيْدَ بن أبي عُبَيْدٍ رضي الله عنه قال: رأيتُ أثَرَ ضَرْبةٍ في سَاقِ سَلَمةَ ابن الأكْوَعِ رضي الله عنه فقلتُ: يا أبا مُسْلمٍ! ما هذِه الضَّرْبةُ؟ قال: ضَرْبةٌ أصَابَتْنِي يومَ خَيْبَرَ، فقالَ النَّاسُ: أُصيْبَ سَلَمَةُ، فأتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فنَفثَ فيهِ ثَلاثَ نَفَثَاتٍ، فمَا اشْتكَيْتُها حتَّى السَّاعةِ.

"عن يزيد بن أبي عُبيدٍ رضي الله عنه قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة بن الأكوع فقلت: يا أبا مسلم! ما هذه الضربة؟ قال: ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة"؛ أي: مات بسبب الضربة.

"فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فنفث فيه ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة"؛ أي: إلى الآن.

* * *

4601 -

وقَالَ سهْلُ بن سَعْدٍ رضي الله عنه: قالَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ خَيْبَرَ: "لأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايةَ غَداً رَجُلاً يَفتحُ الله على يَديهِ يُحبُّ الله ورسولَهُ ويُحبُّهُ الله ورسولُهُ"، فلمَّا أصْبحَ النَّاسُ غَدَوْا على رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَال:"أَيْنَ عليُّ بن أبي طالِبٍ؟ "، فقالوا: هوَ يا رَسُولَ الله! يَشْتَكِي عيْنَيْهِ، فأُتِيَ بهِ، فبَصقَ في عَيْنَيْهِ ودَعا لهُ فَبَرَأَ حتَّى كأنْ لَمْ يَكُنْ بهِ وجَعٌ، فأعطاهُ الرايةَ.

"وقال سهل بن سعد رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خبير: لأعطين هذه

ص: 310

الراية غداً رجلاً يفتح الله"؛ أي: خيبر.

"على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فلما أصبح الناسُ غَدَو على رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ أي: أتوه وقت الغداة.

"فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينه، فأتي به، فبصق في عينه، ودعا له فبرأ"؛ أي: فشفي.

"حتى كأن لم يكنْ به وجع، فأعطاه الراية": وفيه دليل على فضيلة علي رضي الله عنه على سائر الصحابة.

* * *

4602 -

وقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: نَعَى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم زيداً وجَعْفَراً وابن رَواحةَ لِلنَّاسِ قبلَ أنْ يأتيَهُمْ خبرُهُمْ فَقَالَ: "أخذَ الرَّايةَ زَيْدٌ فأُصيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعفَرُ فأُصيبَ، ثُمَّ أخذَ ابن رَواحَةَ فأُصيبَ - وعَيْناهُ تَذرِفان - حتَّى أخذَ الرَّايةَ سَيْفٌ منْ سُيوفِ الله - يَعني: خَالدَ بن الوليدِ رضي الله عنه حتَّى فتحَ الله عليهِم".

"وقال أنس رضي الله عنه: نعى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس"؛ أي: أخبر الناس بموتهم.

"قبل أن يأتيهم خبرهم"؛ أي: الناس خبر موتهم، وفيه دليل على جواز النعي.

"فقال"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام.

"أخذ الراية زيد فأصيبَ"؛ أي: مات.

"ثم أخذ جعفرٌ فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه"؛ أي: عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم "تذرفان"؛ أي: يسيل منهما الدمع لموت هؤلاء الثلاثة، وفيه

ص: 311

دليل على جواز البكاء على الميت.

"حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله؛ يعني: خالد بن الوليد حتى فتح الله عليهم".

* * *

4603 -

وقَالَ عَبَّاسٌ رضي الله عنه: شَهِدتُ معَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ حُنَيْنٍ، فلمَّا الْتَقَى المُسْلِمُونَ والكُفّارُ وَلَّى المُسْلِمُونَ مُدبرينَ، فطفِقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ بَغلتَهُ قِبَلَ الكُفَّارِ وأَنَا آخِذٌ بلِجامِ بَغلةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أكُفُّها إِرَادَةَ أنْ لا تُسرِعَ، وأَبُو سُفيانَ بن الحَارِثِ رضي الله عنه آَخِذٌ برِكابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فنَظَر رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وهوَ على بَغلتِهِ كالمُتطاوِلِ عليْها إلى قِتالهِمْ فقال:"هذا حِينَ حَمِيَ الوَطِيسُ! "، ثُمَّ أَخَذَ حَصَياتٍ فرَمَى بهِنَّ وجُوهَ الكُفَّارِ ثُمَّ قال:"انهَزَموا ورَبِّ مُحَمَّدٍ"، فوالله ما هُوَ إلَّا أنْ رَماهُمْ بحَصَياتِهِ، فما زِلْتُ أرَى حَدَّهُمْ كلِيلاً وأمْرَهُمْ مُدبراً.

"وقال عباس رضي الله عنه: شهدت"؛ أي: حضرتُ.

"مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم حُنينٍ"؛ أي: يوم وقعة حنين اسم موضع.

"فلما التقى المسلمون والكفار ولَّى المسلمون مدبرين"؛ أي: أدبروا متوجِّهين إلى خلفهم.

"فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يَركُضُ بغلته"؛ أي: يحثها لتعدو "قِبَلَ الكفار"؛ أي: نحوهم.

"وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها"؛ أي: أمنع البغلة.

"إرادة أن لا تسرع": في العدو نحوهم.

ص: 312

"وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته": الواو للحال؛ يعني: نظر صلى الله عليه وسلم في حال كونه راكباً على بغلته، والكاف في قوله:

"كالمتطاول عليها": حال من الضمير المرفوع في (على بغلته)؛ أي: كائناً كالغالب القادر على سوقها.

"إلى قتالهم": متعلق بـ (نظر).

"فقال: هذا"؛ أي: هذا الحين.

"حين حمي الوطيس": وهو - بفتح الواو وكسر الطاء -: التنور، وقيل: الضراب في الحرب، وقيل: الوطء الذي يطيس الناس؛ أي: يدقهم، وقيل: حجارة مدورة إذا أُحمِيت لم يقدر أحد أن يطأها، ولم تسمع لغة الوطيس من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، عبر به عن اشتباك الحرب واشتدادها وقيامها على ساق.

"ثم أخذ حصيات": جمع حصاة.

"فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب محمدٍ": والرمي وإن صدر في الظاهر منه صلى الله عليه وسلم، لكن الله تعالى نفاه عنه حقيقة؛ دفعاً للسبب، وأضاف إلى نفسه من الحقيقة، إتياناً للمسبب؛ لأنه لا فاعلَ في عالم الوجود إلا الله في الحقيقة بقوله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].

قال الراوي: "فو الله ما هو"؛ أي: ليس انهزام الكفار.

"إلا أن رماهم بحصياته، فما زلتُ أرى حَدَّهم"؛ أي: بأسهم وشدتهم وسيوفهم.

"كليلاً"؛ أي: ضعيفاً.

"وأمرهم مدبراً".

* * *

ص: 313

4604 -

وقِيْلَ للبَراءِ بن عَازِبٍ رضي الله عنه: أفَرَرْتُمْ يومَ حُنَيْنٍ؟ قال: لا والله ما ولَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحابهِ لَيسَ عليهِمْ كثيرُ سِلاحٍ، فلَقُوا قَوماً رُماةً لا يَكادُ يَسقُطُ لهُمْ سَهْمٌ، فرَشَقُوهُمْ رَشْقاً ما يَكادونَ يُخطِئونَ، فأقبَلُوا هُناكَ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ورَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم على بَغلتِهِ البَيْضَاءِ، وأبو سُفيانَ بن الحَارِثِ رضي الله عنه يَقُودُهُ، فنزلَ واستنصَرَ وقال:

"أَنَا النَّبيُّ لا كَذِبْ

أَنَا ابن عبدِ المُطَّلِبْ"

ثُمَّ صَفَّهُمْ.

"وقيل للبراء: أفررتم يوم حُنين؟ قال: لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن خرج شبان أصحابه": جمع شاب.

"ليس عليهم كثير سلاح، فلقوا"؛ أي: أبصروا.

"قوماً رماة" بضم الراء: جمع رام.

"لا يكاد يسقط لهم"؛ أي: على الأرض.

"سهم، فرشقوهم"؛ أي: رموهم بالسهام.

"رشقاً ما يكادون يخطئون"؛ أي: في الرمي.

"فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسولُ الله على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث يقوده، فنزل"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم عن بغلته.

"واستنصر"؛ أي: طلب النصرة من الله تعالى.

"وقال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب": قيل: إنه على سبيل التعريف لا على سبيل المباهاة، وقد كان أصحاب الأخبار من أهل الكتاب يتحدثون بأن النبي صلى الله عليه وسلم الموعود به في آخر الزمان من بني عبد المطلب، فذكَّرهم بما اشتهر فيهم؛ ليرجعوا عن قتالهم.

ص: 314

قال التوربشتي: إن القول ربما صدر عن صاحبه مستقيماً على وزن الشعر من غير تعمد منه، فلا يعدُّ ذلك عليه شعراً، ثم إنه رجز، والرجز خارجٌ من جملة ما يتعاطاه الشعراء على القوانين الموضوعة في العَروض.

"ثم صفهم"؛ أي: المسلمين، يقال: صففت القوم: إذا أقمتهم في الحرب صفاً.

* * *

4605 -

قَالَ البَرَاءُ: كُنَّا والله إِذَا احْمَرَّ البَأْسُ نتَّقِي بِهِ، وإنَّ الشُّجاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحاذِي بهِ، يَعني: رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.

"قال البراء: كنا والله إذا احمرَّ البأسُ"؛ أي: اشتد الحرب، من قولهم: موت أحمر: إذا وُصِف بالشدة، وكذا: سنة حمراء، والعرب تصف عام القحط بالحمرة، واحمرار الحرب كناية عن إراقة الدماء.

"نتقي به"؛ أي: بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: نجعله واقياً لنا من العدو.

"وإن الشجاعَ منا لَلذي يحاذي به؛ يعني: بالنبي صلى الله عليه وسلم "؛ أي: يوازي منكبه حذو منكبه.

* * *

4606 -

وقَالَ سَلَمَةُ بن الأَكْوَعِ رضي الله عنه: "غَزَوْنا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حُنَيْناً، فوَلَّى صَحابةُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا غَشُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نزَلَ عَنِ البَغْلةِ، ثُمَّ قَبضَ قَبْضةً مِنْ تُرابٍ مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ اسَتَقْبَلَ بها وُجُوهَهُمْ، فَقَال: "شَاهَتِ الوُجوهُ"، فَمَا خَلَقَ الله منهُمْ إِنْسَاناً إلَّا مَلأَ عَيْنَيْهِ تُراباً بِتِلْكَ القَبْضةِ، فوَلَّوْا مُدبرينَ.

ص: 315

"وقال سلمة بن الأكوع: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنيناً، فولى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما غَشُوا"؛ أي: جاؤوا "رسولَ الله صلى الله عليه وسلم "وحفوه، "نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من ترابٍ من الأرض، ثم استقبل به"؛ أي: بالتراب فرمى به.

"وجوههم فقال: شاهت الوجوه"؛ أي: قبحت، دعاء على العدو.

"فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين".

* * *

4607 -

عَنْ أَبي هُريْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْنا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حُنَيْناً، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُ يَدَّعِي الإسلامَ:"هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ"، فلمَّا حَضَرَ القِتَالُ قاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ القِتالِ وكثُرَتْ بهِ الجِراحُ، فجَاءَ رَجُلٌ فقال: يَا رَسُولَ الله! أَرَأَيْتَ الذِي تَحدَّثْتَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قَدْ قاتَلَ في سَبيلِ الله مِنْ أَشَدِّ القِتالِ فكثُرَتْ بهِ الجِرَاحُ، فَقَال:"أَمَا إِنَّهُ منْ أَهلِ النَّارِ"، فكادَ بعضُ المُسْلِمِينَ يَرتابُ، فبَيْنَما هُمْ عَلَىَ ذَلِكَ إذْ وَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الجِراحِ فَأَهْوَى بيَدِه إلى كِنانتِهِ فانتزَعَ سَهْماً فانتحَرَ بهِ، فاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمينَ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالوا: يا رسولَ الله! صَدَّقَ الله حَديثَكَ، قَدْ انتحَرَ فُلانٌ وقتلَ نفسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"الله أَكْبرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبدُ الله ورَسُولُهُ، يَا بِلالُ! قُمْ فأذِّنْ: لا يَدخلُ الجَنَّةَ إِلَاّ مُؤْمِنٌ، وإنَّ الله لَيُؤيدُ هذا الدِّينَ بالرَّجُلِ الفاجِرِ".

"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدَّعي الإسلام"؛ أي: في الظاهر، وهو منافق.

"هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال،

ص: 316

فكثرت به الجراح، فجاء رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت الذي تحدِّثُ أنه من أهل النار، قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال، فكثرت به الجراح، فقال: أما إنه من أهل النار، فكاد بعض الناس يرتاب"؛ أي: فقرب أن يرتاب بعضهم؛ أي: يشك في قوله صلى الله عليه وسلم: إنه من أهل النار.

"فبينما هو على ذلك، إذ وجد الرجلُ ألمَ الجراح، فأهوى بيده"؛ أي: قصد بها.

"إلى كنانته": وهو - بكسر الكاف -: ظوف السهم.

"فانتزع"؛ أي: سلَّ "سهماً".

"فانتحر بها"؛ أي: نحر نفسه.

"فاشتد رجال من المسلمين"؛ أي: عدوا قاصدين "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! صدق الله حديثك، قد انتحر فلان، وقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر": هذا كلام يقال عند الفرح.

"أشهد أني عبد الله ورسوله، يا بلال! قم فأذن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد"؛ أي: يقوي "هذا الدين": المحمدي، وينصره "بالرجل الفاجر".

* * *

4608 -

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سُحِرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إليهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيءَ وما فَعَلَهُ، حتَّى كَانَ ذَاتَ يَومٍ عندِي، دَعا الله ودَعاهُ، ثُمَّ قال: "أشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ! أنَّ الله قَدْ أَفتانِي فِيْمَا استفتَيْتُهُ، جَاءَنِي رَجُلانِ، جَلَسَ أحدُهُما عندَ رأْسِي والآخرُ عِندَ رِجْلِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُما لِصَاحبهِ: ما وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قالَ: مَطْبوبٌ، قَالَ: ومَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبيدُ بن الأَعْصَمِ اليَهُودِيُّ،

ص: 317

قَالَ: فِي ماذا؟ قال: في مُشْطٍ ومُشَاطَةٍ وجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، قال: فَأَينَ هوَ؟ قَالَ: في بِئْرِ ذَرْوانَ"، فَذَهَبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في أُنُاسٍ مِنْ أَصْحَابه إلى البئرِ فَقَال: "هذِهِ البئرُ الَّتي أُريتُها، وكأَنَّ مَاءَها نُقاعَةُ الحِنَّاءِ، وكأَنَّ نَخْلَها رُؤُوسُ الشَّياطِينِ"، فاستخرجَهُ.

"عن عائشة رضي الله عنها قالت: سُحِر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ يعني: سحره لبيد بن الأعصم اليهودي.

"حتى إنه ليخيل إليه"؛ أي: ليظن.

"أنه فعل الشيء، وما فعله"؛ يعني: غلب عليه النسيان، وقد فعل ذلك في أمر الدنيا، لا في أمر الدين؛ لأن [الأنبياء] معصومون في أمر الوحي، فلا يؤثر فيهم السحر في ذلك.

"حتى إذا كان ذات يوم عندي، دعا الله ودعاه"؛ أي: استجاب دعاءه، وقيل: معناه: دعاء الله مرة بعد أخرى.

"ثم قال: أشعرت"؛ أي: أعلمت "يا عائشة! أن الله قد أفتاني"؛ أي: بيَّن لي.

"فيما استفتيته"؛ أي: فيما طلبت منه بيانه.

"جاءني رجلان، جلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رِجْلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب"؛ أي: مسحور، والطب: السحو، كنُّوا عن السحر بالطب الذي هو العلاج تفاؤلاً بالبرء، كما كنوا عن اللديغ بالسليم، وقيل: هو من الأضداد.

"قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: في ماذا؟ "؛ أي: في أيِّ شيء طبه؟

ص: 318

"قال: في مشط ومشاطة" بضم الميم: الشعر الذي يسقط من الرأس واللحية عند الامتشاط بالمشط.

"وجُفِّ طلعة ذكر": والجف - بضم الجيم - وعاء الطلع، وهو قشره، ويروى:(في جب طلعة) أراد بالجب: داخل الطلعة، وقيل: طلعةِ ذكرٍ بالإضافة، أراد بالذكر: فحل النخل، وفي بعض بالتنوين صفة وموصوفاً.

"قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذروان": وهو - بفتح الذال المعجمة وسكون الراء المهملة -: اسم موضع، وقيل: ذروان بئر المدينة؛ يعني: بئر بالمدينة لبني زريق.

وفي "كتاب مسلم": (بئر ذي أروان).

قيل: وهو الصواب؛ لأن أروان بالمدينة أشهر من ذروان، وذروان على مسيرة ساعة من المدينة.

"فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر، فقال: هذه البئر التي أُريتها"؛ أي: التي أراني جبريل عليه السلام إياها.

"وكأن ماءها نقاعةُ الحنَّاء"؛ أي: متغير لونه، كمثل ماء نقع فيه الحناء.

"وكأن نخلها"؛ أي: نخل تلك البئر، أراد به: طلع النخل، وإنما أضافه إلى البئر؛ لأنه كان مدفوناً فيها.

"رؤوس الشياطين": وإنما شبهه بها لقبح صورته، وكراهة منظره؛ لأن العرب إذا استقبحوا شيئاً يشُبهوه بوجه الشيطان، قال الله تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65].

وقيل: أراد بالشياطين: الحيَّات الخبيثة؛ أي: أنها دقيقة كرؤوس الحيات، والحيةُ لخبثها يقال لها: شيطان.

"فاستخرجه".

ص: 319

4609 -

عَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنما نَحْنُ عِندَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهوَ يَقْسِمُ قَسْماً أَتَاهُ ذُو الخُوَيْصِرَةِ، وهوَ رَجُلٌ مِنْ بني تَميمٍ، فَقَال: يا رَسُولَ الله! اعدِلْ، فَقَال:"ويلَكَ! فمَنْ يَعدِلُ إذا لمْ أعدِلْ؟ قدْ خَبْتُ وخَسِرْتُ إِذَا لمْ أكُنْ أعدِلُ"، فَقَال عُمرُ: ائْذَنْ لي أَنْ أَضْرِب عُنُقَهُ، فَقَالَ:"دَعْهُ، فَإِنَّ لهُ أَصْحَاباً يَحقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ معَ صَلاتِهِمْ، وصِيامَهُ معَ صِيامِهِمْ، يَقْرَؤُوْنَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إلى نَصْلِهِ، إلى رِصَافِهِ، إلى نَضيهِ - وهو: قِدْحُهُ - إلى قُذَذِهِ، فلا يُوجدُ فيهِ شيءٌ، قَدْ سَبَقَ الفَرْثَ والدَّمَ، آيتُهُمْ رَجُلٌ أَسْودُ إِحْدَى عضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ المَرأَةِ، أو مِثْلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، ويَخرُجونَ على حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ".

قالَ أبو سَعِيْدٍ: أَشْهَدُ أنَيِّ سَمِعْتُ هذا الحَديْثَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأَشْهَدُ أنَّ عليَّ بن أبي طالِبٍ رضي الله عنه قاتَلَهُمْ وأَنَا معَهُ، فأمرَ بذلكَ الرَّجُلِ فالتُمِسَ، فأُتِيَ بهِ حتَّى نظَرتُ إليهِ على نَعْتِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي نعَتَهُ.

وفي رِوَايَةٍ: أقبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الوَجْنتَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَال: يَا مُحَمَّدُ! اتَّقِ الله، قَالَ:"فمَنْ يُطيعُ الله إذا عَصَيْتُهُ، فَيَأْمَنُني الله على أهلِ الأرضِ فلا تَأْمَنُوني؟ "، فَسَألَ رَجُلٌ قَتْلَهُ فمنعَهُ، فلَمَّا ولَّى قال:"إنَّ مِنْ ضئْضئِ هذا قَوْماً يَقْرَؤُونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ حَناجِرَهُمْ، يَمْرُقونَ مِنَ الإِسلامِ مُروقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فيَقتُلُونَ أهلَ الإِسلامِ، ويَدَعُونَ أهلَ الأوْثَانِ، لَئِنْ أدْرَكْتُهُمْ لأقْتُلنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ".

"عن أبي سعيد الخدري منه قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً" بالفتح: مصدر (قسمت الشيء)، سمى الشيء المقسوم - وهو الغنيمة - بالمصدر؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين بالجعرانة.

"أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم": قيل: اسمه حرقوص بن

ص: 320

زهير التميمي، وهو رئيس الخوارج.

"فقال: يا رسول الله! اعدل، فقال: ويلك! فمن يعدل إذا لم أعدلْ، قد خبتَ وخسرتَ": بضمير المخاطب فيهما؛ يعني: صرت خائباً وخاسراً إذا اعتقدت أني لم أعدل، وذلك لأنه تعالى بعثه رحمة للعالمين، وليقوم فيهم بالعدل، وإذا اعتقد أن الرسول خائن كفر، وأيُّ خسران وخيبة أشد منه؟!

"فقال عمر: ائذن لي أضرب عنقه، قال: دعه؛ فإن له أصحاباً يحقر"؛ أي: يقلل.

"أحدكم صلاتَهُ مع صلاتهم، وصيامَهُ مع صيامهم": وفيه تنبيهُ على أنهم يصلون، وقد نهى عن قتل المصلين.

ووجه الجمع بين منعه صلى الله عليه وسلم عن قتله مع قوله: "لئن أدركتهم لأقتلنهم": أن الإباحة عند كثرتهم، وإظهارهم الخلاف، وامتناعهم على الإمام بالسلاح، وهو غير موجود عند المنع، وأول ظهورهم كان في زمان علي رضي الله عنه وقاتلهم حتى قتل كثيراً منهم.

"يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم": جمع ترقوة، وهي العظم الذي بين نقرة النحر والعاتق؛ أي: لا يتخلص من ألسنتهم وآذانهم إلى قلوبهم وأفهامهم.

"يمرقون"؛ أي: يخرجون بسرعة.

"من الدين"؛ أي: من طاعة الإمام.

"كما يمرق السهم من الرمية": وهي الصيد الذي تقصده فترميه، ومروق السهم: عبارة عن خروجه إلى الجانب الآخر، وعدم قراره فيها.

"ينظر إلى نصله إلى رِصافه" بكسر الراء: جمع الرَّصفة بالفتح وهي العقب الذي يُلوَى - أي: يشد - على مدخل النصل.

"إلى نضيه": بفتح النون وكسر الضاد المعجمة.

ص: 321

"وهو قِدْحه": بكسر القاف: هو السهم قبل أن يراش ويركب نصله.

"إلى قُذذه" بضم القاف والذالين المعجمتين: جمع قذة، وهي ريش السهم.

وتفسير النضي بالقدح كأنه من قول بعض الرواة أدرج في الحديث.

قيل: وفيه نظر؛ لأن القدح السهم قبل أن يراش ويركب نصله، ونضي السهم: ما بين الريش والنصل.

"فلا يوجد فيه"؛ أي: في السهم، وقيل: أي: في كل من النصل وأخواته.

"شيء قد سبق الفرث"؛ أي: الروث.

"والدم": وهذه جملة حالية؛ يعني: كما نفذ السهم في الرمية بحيث لم يتعلق به شيء من الفرث والدم، فكذلك دخول هؤلاء في الإسلام، ثم خروجهم منه سريعاً بحيث لم يتأثر فيهم.

قيل: المراد بالنصل: القلب الذي هو المؤثر والمتأثر، فإذا نظرتَ إلى قلبه فلا تجد فيه أثراً مما شرع من العبادات.

وبالرّصاف: الصدر؛ الذي هو محلُّ الانشراح والانفساح بالأوامر (1) والنواهي، وتحمل مشاق التكاليف، فلم ينشرح لذلك، ولم يظهر فيه أثر السعادة.

وبالنضي: البدن؛ أي: أن البدن - وإن تحمل تكاليف الشرع من الصلاة والصوم وغير ذلك - لكنه لم يحصل له من ذلك فائدة.

وبالقذذ: أطراف البدن التي هي بمثابة الآلات لأهل الصناعات، إذا لم يحصل له بها ما يحصل لأهل السعادات.

(1) في "غ" و"ت": "مجار الأوامر"، والتصويب من "مرقاة المفاتيح"(11/ 35).

ص: 322

"آيتهم"؛ أي: علامتهم.

"رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، ومثل البضعة" بفتح الباء: قطعة اللحم.

"تدردر"؛ أي: تجيء وتذهب وتضطرب من تحريكه، وأصله: تتدردر.

"ويخرجون على خير فرقة من الناس": يريد: علياً وأصحابه رضي الله عنهم، وفيه دليل على فضله وفضل أصحابه.

وفي بعض: (على حين فُرقة) بضم الفاء، فمعناه: أوان تشتت أمر الناس، واضطراب أحوالهم، وظهور المحاربة، وتكون (على) بمعنى: في، كقوله تعالى:{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص: 15].

"قال أبو سعيد رضي الله عنه: أشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليَّ بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر"؛ أي: علي رضي الله عنه

"بذلك الرجل"؛ أي: بطلبه.

"فالتُمس"؛ أي: طُلِب.

"فأتي به حتى نظرت إليه، فوجدته على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته"؛ أي: وجدته على الصفة التي وصف صلى الله عليه وسلم.

"وفي رواية: أقبل رجل" مكان: (أتاه ذو الخويصرة) في أول هذا الحديث.

"غائر العينين"؛ اسم فاعل من (غارت عينه): إذا دخلت في الرأس.

"ناتئ الجبهة"؛ أي: مرتفعها.

"كَثُّ اللحية": بفتح الكاف وتشديد الثاء المثلثة؛ أي: كثيفها.

"مشرف الوجنتين"؛ أي: عالي الخدين.

ص: 323

"محلوق الرأس، فقال: يا محمد اتق الله! قال"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم.

"فمن يطيع الله إذا عصيته؟ فيأمِّنني الله"؛ أي؛ يجعلني أميناً.

"على أهل الأرض، ولا تأمنوني؟ ": الخطاب مع ذي الخويصرة وقومه.

"فسأل رجل" من الصحابة "قتله، فمنعه"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل عن قتله.

"فلما ولى"؛ أي: رجع ذو الخويصرة.

"قال"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم.

"إن من ضئْضئ هذا قوماً": الضئضئ - بكسر الضادين المعجمتين وبهمزتين -: الأصل، وأشار بهذا إلى ذي الخويصرة التميمي؛ يعني: إن قوماً نعتهم كذا وكذا سيخرجون من الأصل الذي هو منه في النسب، أو هو عليه في المذهب.

"يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروقَ السهم من الرمية، فيقتلون أهل الإسلام، ويدعون"؛ أي: يتركون.

"أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتلَ عاد": أراد به: الاستئصال بالإهلاك، كما أُهلكت عاد بالصيحة دون القتل.

* * *

4610 -

وقَالَ أَبُو هُريرَةَ رضي الله عنه: كُنْتُ أدعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلَامِ وهيَ مُشرِكَةٌ، فدَعَوْتُها يَوماً، فأسمعَتْنِي في رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ما أكْرَهُ، فأَتيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وأَنَا أَبْكِي قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! ادْعُ الله أنْ يَهدِيَ أُمَّ أبي هُرَيْرَةَ، فَقَال:"اللهمَّ! اهْدِ أُمَّ أبي هُرَيْرَةَ"، فخرجتُ مُستبْشِراً بدَعْوةِ نبَيِّ الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا صِرْتُ إلى البَابِ، فإذا هوَ مُجَافٌ، فسمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فقالتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ!

ص: 324

وسَمِعتُ خَضْخَضَةَ المَاءِ، فاغتَسَلَتْ، ولبسَتْ دِرْعَها، وعَجلَتْ عنْ خِمارِها، ففَتحَتِ البَابَ، ثُمَّ قَالَت: يا أبا هُرَيْرةَ! أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاِّ الله وأشهدُ أنِّ مُحَمَّداً عبْدُهُ ورسُوْلُهُ، فرجَعْتُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكِي مِنَ الفَرح، فحمِدَ الله وقالَ خَيْراً.

"وقال أبو هريرة رضي الله عنه: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ أي: في حقه.

"ما أكره"؛ أي: شيئاً أكرهه.

"فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله! ادعُ الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال: اللهم اهدِ أمَّ أبي هريرة، فخرجت مستبشراً بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صِرت إلى الباب، فإذا هو مُجافٌ"؛ أي: الباب مغلق مردود.

"فسمعت أمي خشفَ قدمي"؛ أي: صوتهما، وقيل: أي: حركتهما وحسهما.

"فقالت: مكانك"؛ أي: الزم مكانك.

"يا أبا هريرة! وسمعت خضخضة الماء"؛ أي: تحريكه.

"فاغتسلت، وليست درعها"؛ أي: قميصها.

"وعجلت عن خِمارها"؛ أي: عن لبس خمارها.

"ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي من الفرح، فحمد الله، وقال خيراً".

ص: 325

4611 -

وقَالَ أَبُو هُريْرَةَ رضي الله عنه: إنَّكُمْ تَقُولُون: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرةَ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والله المَوعِدُ، وإنِّ إخْوَتِي مِنَ المُهاجِرينَ كانَ يَشغَلُهُمْ الصَّفْقُ بالأسْواقِ، وإنَّ إخْوَتِي مِنَ الأنْصَارِ كَانَ يشغَلُهُمْ عَمَلُ أموالِهِمْ، وكُنْتُ امْرَءاً مِسْكيناً، ألزَمُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم على مِلْءَ بَطنِي، وقالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يَوماً:"لَنْ يَبسُطَ أَحَدٌ منكُمْ ثَوْبَهُ حتَّى أقضيَ مَقالتِي هذهِ ثُمَّ يَجمعُهُ إلى صَدرِهِ فيَنسَى منْ مَقالتِي شيئاً أبداً"، فبسَطْتُ نَمِرَةً لَيْسَ عَلَيَّ ثَوْب غيرُهَا، حتَّى قضَى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم مَقالَتهُ ثُمَّ جَمَعْتُها إلى صَدرِي، فَوالذِي بَعثَهُ بالحَقِّ ما نَسيتُ مِنْ مَقالتِهِ تِلْكَ إلى يَومِي هذا.

"وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إنكم": خطاب مع الصحابة.

"تقولون: أكثر أبو هريرة"؛ أي: أكثر الرواية.

"عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله الموعد"؛ أي: لقاء الله يوم القيامة موعودنا؛ أي: مرجعنا إليه، فيظهر عنده صدق الصادق وكذب الكاذب لا محالة.

"وإن إخوتي من المهاجرين": يريد به: أهل مكة؛ فإنهم كانوا أصحاب تجارات.

"كان يشغلهم الصفق"؛ أي: البيع والشراء.

"بالأسواق": قيل للبيعة: صفقة؛ لضرب اليد على اليد عند عقد البيع؛ يعني: كان يمنعهم اشتغالهم بالتجارات والمعاملات عن كثرة ملازمتهم النبي صلى الله عليه وسلم.

"وإن إخوتي من الأنصار": يريد به: أهل المدينة، فإنهم كانوا أصحاب زراعات.

"كان يشغلهم عمل أموالهم"، وأموالهم: المواضع التي فيها نخيلهم.

"وكنت امرأً مسكيناً ألزمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني"؛ أي: إذا شبعت لزمته، قيل: المراد منه: امتلاؤه رغبةً وحرصاً في طلب العلم وسماع الحديث

ص: 326

لا الامتلاء من الطعام، ويحتمل أن يكون كناية عن الفراغة من المعاملات والأمور الدنيوية وعدم المبالاة بها.

"وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً: لن يبسط أحدٌ منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه": قيل: كانت مقالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الدعاء لصحابته بالحفظ والفهم.

"ثم يجمعه"؛ أي: ذلك الثوب.

"إلى صدره، فينسى من مقالتي شيئاً أبداً، فبسطت نَمِرة" بفتح النون وكسر الميم: كساء ملون.

"ليس عليَّ ثوب غيرها، حتى قضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم جمعتها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحقِّ ما نسيتُ من مقالته ذلك إلى يومي هذا": قيل: وقد أسلم أبو هريرة سنة سبع من الهجرة، ومكث عنده ثلاث سنين.

* * *

4612 -

وقَالَ جَرِيْرُ بن عبدِ الله: قالَ لي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تُريحُني منْ ذِي الخَلَصَة؟ "، فقلتُ: بلى يا رَسُولَ الله! وكُنْتُ لا أثبُتُ على الخَيْلِ، فَذَكَرتُ ذلِكَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فضربَ بِيَدِهِ على صَدرِي حتَّى رَأَيْتُ أثرَ يَدِهِ في صَدرِي، وقَالَ:"اللهمَّ! ثَبتْهُ، واجعلْهُ هَادِياً مَهْدِيًّا"، قَالَ: فَمَا وقَعْتُ عنْ فرَسِي بَعْدُ، فانْطَلقَ في مِئَةٍ وخَمسينَ فارِساً منْ أحْمَسَ، فحرَّقَها بالنَّارِ وكسرَها.

"وقال جرير بن عبد الله: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تريحني"؛ أي: ألا تخلِّصني.

"من ذي الخلصة": بيت لخثعم، كان يدعى كعبة اليمامة، وكان فيه صنم يقال له:[ذو] الخلصة، والمعنى: ألا تخرب ذا الخلصة وتكسرها، فأستريح من وجودها.

ص: 327

"فقلت: بلى، وكنت لا أثبتُ على الخيل"؛ أي: لا أقدر أن أركب على الخيل.

"فذكرت ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فضرب يده على صدري حتى رأيت أثرَ يده في صدري، وقال: اللهم ثبته، واجعله هادياً مهدياً، قال: فما وقعت عن فرسي بعد، فانطلقَ": فيه التفاتٌ من الحضور إلى الغيبة.

"في مئة وخمسين فارساً من أحمس" بالحاء والسين المهملتين: قبائل من قريش، سموا بذلك؛ لأنهم تحمسوا؛ أي: تشددوا في دينهم، والحماسة: الشجاعة.

"فحرقها بالنار، وكسرها".

* * *

4613 -

وَقَالَ أَنسٌ رضي الله عنه: إنَّ رَجُلاً كانَ يكتُبُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فارتدَّ عن الإِسلامِ، ولحِقَ بالمُشركينَ، فَقَالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الأرضَ لا تَقبَلُهُ"، فأخبرَنيِ أبو طَلْحةَ أنَّهُ أتَى الأرضَ التي ماتَ فيها، فوجدَهُ مَنْبُوذاً"، فَقَالَ: مَا شَأنُ هذا؟ فَقَالُوا: دَفنَّاهُ مِراراً فلمْ تَقبَلْهُ الأرضُ.

"وقال أنس رضي الله عنه: إن رجلاً كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم "؛ أي: يكتب له الوحي، وهو عبد الله بن أبي السرح، فلما أملى عليه الصلاة والسلام قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] ووصل إلى قوله: {خَلْقًا آخَرَ} خطر بباله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]؛ تعجباً من تفصيل خلق الإنسان طوراً بعد طور، فأملاها صلى الله عليه وسلم كذلك، فقال: إن كان ما يقوله محمد وحياً، فأنا نبي يوحى إلي، فسبقه الحكم الأزلي بكفره.

"فارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين": نعوذ بالله من ذلك.

ص: 328

"فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الأرض لا تقبله، فأخبرني"؛ أي: قال أنس: أخبرني "أبو طلحة: أنه أتى الأرض التي مات فيها، فوجده منبوذاً"؛ أي: ملقًى على الأرض، "فقال: ما شأن هذا؟ فقالوا: دفنَّاه مراراً، فلم تقبله الأرض".

* * *

4614 -

وقَالَ أَبُو أيُّوب: خرجَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد وَجَبَت الشَّمْسُ، فَسمعَ صَوْتاً فَقَال:"يَهودُ تُعذَّبُ في قبُورِها".

"وقال أبو أيوب: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس"؛ أي: سقطت وغربت.

"فسمع صوتاً، فقال: يهود تعذب في قبورها": وهذا يدل على أن عذاب القبر حق.

* * *

4615 -

وَقَالَ جَابرٌ رضي الله عنه: قَدِمَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم منْ سَفَرٍ، فلَمَّا كَانَ قُرْبَ المَدينةِ هَاجَتْ رِيحٌ تكادُ أنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"بُعِثَتْ هذِه الرِّيحُ لمَوْتِ مُنافِقٍ"، فقَدِمَ المَدِينَةَ، فإذا عَظيمٌ مِنَ المُنافِقينَ قدْ ماتَ.

"وقال جابر رضي الله عنه: قدم النبي صلى الله عليه وسلم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت"؛ أي: ثارت.

"ريح تكاد أن تدفن الراكب"؛ أي: يقرب أن يتوارى الراكب من شدة ثورانها.

"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعثت هذه الريح لموت منافق": اللام للتوقيت؛ أي: في وقت موت منافق.

ص: 329

"فقدم المدينة فإذا عظيم من المنافقين قد مات".

* * *

4616 -

عَنْ أَبي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: خرَجْنا معَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حتَّى قَدِمْنَا عُسْفانَ، فأَقَامَ بِهَا لَيالِيَ، فقالَ النَّاسُ: ما نحنُ هَاهُنا في شَيءٍ، وإنَّ عِيالَنا لَخُلوفٌ مَا نَأْمَنُ عليهِمْ، فبَلَغَ ذلكَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَال:"والَّذِي نفسِي بيدِه، ما مِنَ المَدينةِ شِعْبٌ ولا نَقْبٌ إلَّا عليهِ مَلَكانِ يَحْرُسَانِها حتَّى تَقْدَموا إليها"، ثُمّ قال:"ارتَحِلُوا"، فارتَحَلْنا، وأقبَلْنا إلى المَدِينةِ، فوَالَّذِي يُحْلَفُ بهِ، ما وَضَعْنا رِحَالَنا حِينَ دَخَلنا المَدِينَةَ حتَّى أَغَارَ عَلَيْنا بنو عَبدِ الله بن غَطَفانَ، ومَا يَهْيجُهُمْ قبلَ ذلكَ شيءٌ.

"قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى قدمنا عُسْفان" بضم العين وسكون السين المهملتين: موضع قريب من المدينة.

"فأقام بها ليالي، فقال الناس: ما نحن هاهنا في شيء، وإن عِيالنا": بكسر العين؛ أي: أهل بيتنا.

"لخُلوفٌ": بضم الخاء المعجمة؛ أي: ليس فيهم إلا النساء من غير الرجال.

"ما نأمن عليهم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والذي نفسي بيده ما في المدينة شِعبٌ": وهو - بكسر الشين المعجمة -: الطريق في الجبل.

"ولا نَقَب" بفتح النون: بمعنى الشعب.

"إلا عليه ملكان يحرسانها"؛ أي: يحفظان المدينة.

"حتى تقدموا"؛ أي: ترجعوا "إليها، ثم قال: ارتحلوا، فارتحلنا وأقبلنا إلى المدينة، فوالذي يحُلَفُ به، ما وضعنا رحالنا حين دخلنا المدينة، حتى

ص: 330

أغارَ علينا بنو عبد الله بن غطَفْان" بفتح الغين والطاء المهملتين: اسم قبيلة.

"وما يهيجهم"؛ أي: ما يثير بني عبد الله.

"قبل ذلك"؛ أي: قبل الغارة "شيء".

* * *

4617 -

وقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ على عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فبَبْنا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يَخطُبُ في يومِ جُمُعَةٍ فَقَامِ أعْرَابيٌّ فَقَالَ: يا رَسُولَ الله! هَلَكَ المَالُ، وجَاعَ العِيالُ، فادْعُ الله لَنَا، فَرَفعَ يدَيْهِ ومَا نرَى في السَّماءَ قَزَعَةً، فوَالَّذِي نفسِي بيَدِهِ، ما وضَعَهُما حتَّى ثارَ السَّحابُ أمثالَ الجبالِ، ثُمَّ لمْ يَنْزِلْ عنْ مِنبَرِهِ حتَّى رَأَيْتُ المَطَرَ يَتَحادَرُ على لِحيَتِهِ، فمُطِرْنا يومَنا ذلكَ، ومِنَ الغَدِ، ومِنْ بعدِ الغَدِ، حتَّى الجُمْعَةِ الأَخرَى، فقامَ ذلكَ الأعرابيُّ، أو غيرُهُ، فَقَال: يا رسولَ الله! تَهدَّمَ البناءُ، وغَرِقَ المَالُ، فادْعُ الله لَنَا، فرفَعَ يدَيْهِ وقال:"اللهمَّ! حَوالَيْنا ولا علَيْنا"، فَمَا يُشيرُ إلى ناحيةٍ مِنَ السَّحابِ إلَّا انفرَجَتْ، وصَارَتِ المَدِينةُ مِثْلَ الجَوْبَةِ، وسَالَ الوادِي قَناةُ شَهَراً، ولم يَجئْ أَحَدٌ منْ ناحِيَةٍ إلَّا حَدَّثَ بالجَوْدِ.

وفي رِواية: قال: "اللهمَّ! حَوالَيْنا ولا عَلَيْنَا، اللهمَّ! على الآكَامِ والظِّرَابِ وبُطونِ الأوْدِيةِ ومَنابتِ الشَّجرِ"، قال: فأَقلَعَتْ، وخَرَجْنا نمشِي في الشَّمسِ.

"قال أنس رضي الله عنه: أصابت الناس سنة"؛ أي: قحط.

"على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا النبي عليه الصلاة والسلام يخطب في يوم الجمعة، قام أعرابي فقال: يا رسول الله! هلك المال"؛ أي: المواشيء لأنها أكثر أموالهم.

"وجاع العيال، فادعُ الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قَزَعة": بفتح

ص: 331

القاف والزاء المعجمة؛ أي: قطعةً من السحاب.

"فوالذي نفسي بيده ما وضعهما حتى ثار"؛ أي: سطع (1).

"السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطَر يتحادر"؛ أي: يتساقط.

"على لحيته": قيل: يريد أن السقف قد وكف حتى نزل الماء عليه.

"فمُطِرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد الغد، حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله! تهدم البناء، وغرق المال، فادعُ الله لنا، فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا"؛ أي: أنزل الغيث على موضع النبات، لا على موضع الأبنية.

"فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة": بفتح الجيم وسكون الواو، وهي الفرجة في السحاب، وهنا حذف تقديره: صار جوب المدينة مثل الفرجة في السحاب؛ أي: خالياً عن السحاب.

وقيل: الجوبة: الحفرة المستديرة الواسعة؛ أي: صار الغيم والسحاب محيطاً بآفاق المدينة.

"وسال الوادي قناة": نصب على الحال من فاعل (سأل)، أي: سائلاً مثل القناة "شهراً".

أو على التمييز؛ أي: قدر قناة، فحينئذ تفسير القناة بالرمح أولى منه بالتي تحُفَر في الأرض؛ لأنه قلَّما تبلغ القنى في كثرة مياهها مبلغ السيول، ويجوز أن يكون مصدراً على حذف؛ أي: سيل القناة أو سيلانها في الدوام والاستمرار والقوة.

(1) في "ت" و "غ": "جمع"، والصواب المثبت.

ص: 332

"ولم يجئ أحد من ناحية"؛ أي من جانب من جوانب المدينة.

"إلا حدث"؛ أي: أخبر.

"بالجود" بفتح الجيم وسكون الواو: بالمطر الكثير.

"وفي رواية: قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام" بفتح الهمزة الممدودة وكسرها المقصورة: جمع أكمة، وهو ما ارتفع من الأرض.

"والظِّراب" بكسر الظاء المعجمة: الجبال الصغار.

"وبطون الأودية ومنابت الشجر، قال: فأقلعت"؛ أي: انكشفت السحاب، والضمير فيه للسحاب، فإنها جمع سحابة.

"وخرجنا نمشي في الشمس".

* * *

4618 -

وقَالَ جَابرٌ رضي الله عنه: كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا خَطَبَ اسْتَنَد إِلى جِذْعِ نَخلةٍ منْ سَوارِي المَسْجدِ، فَلَمَّا صُنِعَ لهُ المِنَبُر فاستَوَى عليهِ، صَاحَت النَّخلةُ الَّتي كَانَ يَخطُبُ عِندَها حتَّى كَادَتْ أَنْ تَنشَقَّ، فنزَلَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم حتَّى أخذَهَا فضَمَّها إليهِ، فجَعَلَتْ تَئِنُّ كَمَا يَئِنُّ الصَّبيُّ الذي يُسَكَّتُ حتَّى استقرَّتْ، قَالَ:"بَكَتْ على مَا كانتْ تَسمَعُ مِنَ الذِّكْرِ".

"وقال جابر رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة"؛ أي: أصلها وساقها.

"من سواري المسجد": جمع سارية، وهي الأُسطُوانة.

"فلما صُنِع له المنبر فاستوى عليه، صاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشقَّ، فنزل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أخذها"؛ أي: تلك النخلة.

ص: 333

"فضمَّها إليه"؛ أي: إلى نفسه.

"فجعلت"؛ أي: شرعت النخلة.

"تئنُّ"؛ أي: تصيح.

"أنينَ الصبي الذي يُسكَّت"؛ أي: يجعل ساكناً.

"حتى استقرت، قال" النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "بكت"؛ أي: النخلة.

"على ما كانت"؛ أي: على فوت ما كانت "تسمع من الذكر".

* * *

4619 -

عَنْ سَلَمَة بن الأَكْوَعِ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ عندَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بشمالِهِ، فقال:"كُلْ بيَمينِكَ"، فَقَال: لا أستطيعُ، قال:"لا استَطَعْتَ"، مَا منعَهُ إلا الكِبْرُ، قَالَ: فما رفعَها إلى فيهِ.

"عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: أن رجلاً": اسمه بُسر ابن راعي العير.

"أكل عند النبي صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: كل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعته": دعاء عليه.

"ما منعه ذلك"؛ أي: ما منع الرجل من الأكل بيمينه.

"إلا الكبر": فيه دليل على أن الأكل باليمين من السنن.

"قال"؛ أي: الراوي.

"فما رفعها"؛ أي: الرجل يمينه.

"إلى فيه" بعد ذلك؛ لدعائه صلى الله عليه وسلم عليه.

ص: 334

4620 -

عَنْ أَنسٍ رضي الله عنه أنَّ أَهْلَ المَدينةِ فَزِعُوا مَرّةً، فركِبَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طَلحَةً بَطيئاً فكَانَ يَقْطِفُ، فَلمَّا رَجَعَ قَالَ:"وَجَدْنا فرسَكُمْ هذا بَحْراً"، فكانَ بعدَ ذلكَ لا يُجارَى.

وفي رِوَايَةٍ: فَمَا سُبقَ بعدَ ذلكَ اليَومِ.

"عن أنس رضي الله عنه: أن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب النبي صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة بطيئاً، وكان يقطف"؛ أي: يتقارب في الخطوات.

"فلمَّا رجع قال: وجدنا فرسكم هذا بحراً"؛ أي: واسع الجري.

"فكان بعد ذلك لا يُجارَى"؛ أي: لا يُقاوم في الجري، وفي بعض:"لا يُجازى" أي: لا يجازيه فرس يجري معه.

"وفي رواية: فما سُبق" - على صيغة المجهول - "بعد ذلك اليوم".

* * *

4621 -

وَقَالَ جَابرٌ رضي الله عنه: تُوفِّي أَبي وعَليهِ دينٌ، فعَرَضْتُ على غُرَمائِهِ أنْ يَأْخُذُوا التَّمرَ بما عليهِ فأبَوْا، فأتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: قدْ عَلِمْتَ أنَّ والِدي استُشْهِدَ يومَ أُحُدٍ وتَرَكَ دَيْنا كَثِيراً، وإنِّي أُحِبُّ أنْ يَراكَ الغُرَماءُ، فقالَ لي:"اذهَبْ فبَيْدِرْ كُلَّ تمرٍ على ناحِيةٍ"، ففعلتُ، ثمَّ دعَوْتُهُ، فلمَّا نَظَروا إليهِ كأنّهُمْ أُغْروا بي تلكَ السَّاعةَ، فلمَّا رأَى ما يَصنعونَ طَافَ حولَ أعظَمِها بَيْدَراً ثلاثَ مرَّاتٍ، ثُمَّ جَلَس عليهِ، ثمَّ قال:"اُدْعُ لي أصحابَكَ"، فَمَا زالَ يَكِيلُ لهُمْ حتَّى أَدَّى الله عنْ والِدي أَمَانَتَهُ، وأَنَا أَرْضى أنْ يُؤَدِّيَ الله أمانَةَ والِدي ولا أَرْجِعَ إلى أَخَواتِي بتمرةٍ، فسَلَّمَ الله البَيادِرَ كُلَّها وحتَّى إنِّي أنظُرُ إلى البَيْدَرِ الَّذي كانَ عليهِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كأنَّها لمْ تنقُصْ تَمرةً واحِدةً.

"وقال جابر رضي الله عنه: توفي أبي"؛ أي: مات.

ص: 335

"وعليه دين، فعرضتُ على غرمائه أن يأخذوا التمَر بما عليه، فأبوا"؛ لأنه كان في أعينهم قليلاً، وكانوا يهوداً.

"فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: قد علمتَ أن والدي استشهد يوم أحد، وترك ديناً كثيراً، وإني أحب أن يراك الغرماءُ، فقال لي: اذهبْ فبيدر كلَّ تمر على ناحية"؛ أي: اجعل كل نوع من التمر بيدراً؛ أي: صُبرة واحدة.

"ففعلت، ثم دعوته، فلما نظروا إليه"؛ أي: الغرماء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.

"كأنهم أُغْروا بي"؛ أي: أولعوا بي، ولجوا في مطالبتي، وألحوا.

"تلك الساعة، فلما رأى"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم.

"ما يصنعون، طاف حول أعظمها بيدراً ثلاث مرات، ثم جلس عليه، ثم قال: ادعْ لي أصحابك"؛ أي: غرماءك.

"فما زال يكيل لهم حتى أدَّى الله تعالى عن والدي أمانته"؛ أي: دينه، سمى الدين أمانة؛ لأنه ائتمن على أدائه.

"وأنا أرضى أن يؤدي الله أمانة والدي، ولا أرجعُ إلى أخواتي بتمرة، فسلَّم الله البيادر كلها"؛ أي: جعلها سالماً عن النقصان.

"حتى أني أنظر إلى البيدر الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، كأنها": الضمير للقصة.

"لم تنقص تمرة واحدة".

* * *

4622 -

وقَالَ جَابرٌ: إنَّ أُمَّ مالِكٍ كَانتْ تُهْدي للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في عُكَّةٍ لَهَا سَمْناً، فيأتِيها بنوهَا فيَسألونَ الأُدْمَ وليسَ عِندَهُمْ شَيءٌ، فتعمِدُ إلى الذِي كانتْ

ص: 336

تُهْدي فيه للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فتَجدُ فيهِ سَمْناً، فما زالَ يُقيمُ لَهَا أُدْمَ بيتِها حتَّى عَصَرَتها، فأتَتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"عصرتيها؟ "، قالتْ: نعمْ، قَالَ:"لوْ تَركْتِيها ما زالَ قائِماً".

"وقال جابر رضي الله عنه: إن أمَّ مالك كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم "؛ أي: ترسل.

"في عُكَّةٍ لها سمناً": و (العكة) بضم العين المهملة وتشديد الكاف: وعاء من جلد مستدير مختص بالسمن والعسل، وبالسمن أخص.

"فيأتيها بنوها، فيسألون الأُدم" بضم الهمزة: ما يؤتدم.

"وليس عندهم شيء، فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، فتجد فيه سمناً، فما زال"؛ أي: ذلك السمن الذي في العكة.

"يقيم لها أدم بيتها": ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

"حتى عصرتها"؛ أي: العكة.

"فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عصرتيها؟ ": الياء للإشباع.

"قالت: نعم، قال: لو تركتيها"؛ أي: لو تركت ما فيها من السمن وما عصرتها.

"ما زال" أدم بيتك "قائماً"؛ فإن البركة تترك في شيء ولو كان قليلاً، فإذا تركت فيه كثر ذلك القليل.

* * *

4623 -

وقَالَ أَنسٌ رضي الله عنه: قَالَ أبو طَلْحَةَ لأُّمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعتُ صَوْتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ضَعيفاً أعرِفُ فيهِ الجُوعَ، فهَلْ عِندَكِ منْ شيءٍ؟ قَالَتْ: نعمْ، فأخرجَتْ أَقْرَاصاً منْ شَعِيْرٍ، ثُمَّ أخرجَتْ خِماراً لَهَا فلَفَّتِ الخُبزَ ببعضهِ، ثمَّ دَسَّتْهُ تحْتَ يَدِي، ولَاثَتْنِي ببعضهِ، ثمَّ أرسَلَتْنِي إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:

ص: 337

فذهبتُ بهِ، فوجَدْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في المَسجدِ ومعهُ نَاسٌ، فقُمْتُ فسلَّمتُ عليهِمْ، فقالَ لي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أرسلكَ أبو طَلْحَةَ؟ "، قُلْتُ: نعمْ، قَالَ:"بطعامٍ؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ:"قُوموا"، فانطلَقَ، وانطَلَقْتُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ، حتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فأخبَرْتُهُ، فَقَالَ أبو طَلْحَةَ: يا أُمَّ سُلَيْمٍ! قدْ جَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بالنَّاسِ وليسَ عِندَنا ما نُطْعِمْهُمْ، فقَالَتْ: الله ورسُولُهُ أَعْلَمُ، فانطلقَ أبو طَلْحَةَ حتَّى لَقِيَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأقبَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو طَلْحَةَ معهُ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"هَلُمِّي يا أُمَّ سُلَيْم! ما عِنْدَك"، فأتَتْ بذلك الخبزِ، فأَمَر به رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ، وعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً، فأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فيهِ مَا شَاءَ الله أنْ يقولَ، ثُمَّ قال:"ائْذَنْ لِعَشَرةٍ"، فأذِنَ لهُمْ، فأكَلوا حتَّى شَبعوا ثُمَّ خرَجوا، ثُمَّ قال:"ائْذَنْ لِعَشَرةٍ، ثُمَّ لِعَشَرةٍ"، فأكَلَ القَومُ كُلُّهُمْ وشَبعُوا، والقومُ سَبعونَ أو ثَمانونَ رَجُلاً.

ويُروى أَنَّه قال: "ائْذَنْ لِعَشَرةٍ"، فدَخَلوا فَقَالَ:"كُلوا، وسَمُّوا الله"، فأَكَلوا حتَّى فَعَلَ ذلك بِثَمانينَ رَجُلاً، ثمَّ أَكَلَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وأهلُ البيتِ وتَرَكَ سُؤْراً.

ويُروى: فجَعَلْتُ أنظُرُ: هلْ نَقَصَ منها شَيءٌ؟!.

ويُروَى: ثُمَّ أَخَذَ ما بَقِيَ فجَمَعَهُ، ثُمَّ دَعا فيهِ بالبَرَكَةِ، فَعَادَ كَمَا كَانَ، فقال:"دُونَكُمْ هذا".

"قال أنس رضي الله عنه: قال أبو طلحة لأم سليم": هي أم أنس.

"لقد سمعتُ صوتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها": وهو ما تستر المرأة [به] رأسها.

"فلفت الخبز ببعضه"؛ أي: جمعته ببعض الخمار.

ص: 338

"ثم دسَّته"؛ أي: أخفته.

"تحت يدي، ولاثَتْني ببعضه"؛ أي: عصبت ببعض الخمار على رأسي.

"ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، فسلمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: آرسلك أبو طلحة؟ قلت: نعم، قال: بطعام؟ قلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لمن معه: قوموا، فانطلق، وانطلقتُ بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة، فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم! قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلمي"؛ أي: عجِّلي وأحضري.

"يا أم سليم ما عندك": من الطعام.

"فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ"؛ أي: كسر وجعل فتيتاً؛ أي: قطعاً صغاراً.

"وعصرت أمُّ سليم عكَةً فأَدَمَتْهُ"؛ أي: جعلت السمن الذي في العكة إداماً لذلك الفتيت.

"ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال" رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة:

"ائذن لعشرة، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة، ثم لعشرة، فأكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون، أو ثمانون رجلاً": قيل: إنما لم يأذن للكل مرة واحدة؛ لأن الجمع الكثير إذا نظروا إلى طعام قليل يزداد حرصهم على الأكل، ويظنون أن ذلك الطعام لا يشبعهم، فإذا كان كذلك فالحرصُ عليه ممحقة للبركة، وإذا كان الأمر بالعكس، فلا يهيج

ص: 339

حرصهم عليه، وتطمئن نفوسهم، فعند ذلك نزولُ البركة متوقعٌ من عند الله، فلهذه الحكمة قال: ائذن لعشرة عشرة.

وقيل: يحتمل أن يكون لضيق بالمنزل.

"ويروى: أنه قال: ائذن لعشرة، فدخلوا فقال: كلوا، وسموا الله، فأكلوا حتى فعل ذلك بثمانين رجلاً، ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البيت، وتركوا سُؤْراً": بالهمزة؛ أي: بقية من الطعام.

"ويروى: فجعلت أنظر؛ هل نقص منها شيء؟ ويروى: ثم أخذ ما بقي فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة، فعاد كما كان، فقال: دونكم هذا"؛ أي: خذوه وكلوه، اسم فعل للأمر.

* * *

4624 -

وقَالَ أَنسٌ رضي الله عنه: أُتِىَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بإناءٍ وهَوَ بالزَّوْراءِ، فوَضَعَ يَدهُ في الإِناءِ فجعَلَ الماءُ يَنبُعُ منْ بينِ أَصَابعِهِ، فتوضَّأَ القَوْمُ، قال قَتادةُ رضي الله عنه: قُلتُ لِأَنَسٍ: كمْ كنتُمْ؟ قالَ: ثَلاثَ مَئِةٍ، أوْ زُهَاءَ ثَلاثَ مِئَةٍ.

"وقال أنس رضي الله عنه: أُتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزَّوراء" بفتح الزاء المعجمة وسكون الواو: وهي دار عثمان رضي الله عنه، موضعٌ بالمدينة، وفي الأصل: البئر البعيدة القعر، قيل: سميت بذلك؛ لبعدها عن المدينة.

"فوضع يده في الإناء، فجعل الماء ينبع"؛ أي: ينصب.

"من بين أصابعه، فتوضأ القوم": قال النووي: في كيفية هذا النبع قولان:

أحدهما: أن الماء يخرج من بين أصابعه، وينبع من ذاتها، وهو قول أكثر العلماء، وهذا أعظم [في] المعجزة من نبعه من حجر.

ص: 340

وثانيها: أنه تعالى أكثر الماء في ذاته، فصار يفور من أصابعه.

"قال قتادة: قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاث مئة، أو زُهاء ثلاث مئة": بضم الزاء المعجمة وبالمد؛ أي: مقدارها.

* * *

4625 -

عَنْ عبدِ الله بن مَسْعودٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نعُدُّ الآياتِ برَكَةً، وأنتُمْ تَعُدُّونَها تَخْوْيفاً، كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ فَقَلَّ المَاءُ، فَقَالَ: اطلُبوا فَضْلةً من مَاءٍ، فَجَاءُوا بإناءٍ فيهِ مَاءٌ قليلٌ، فأدْخَلَ يَدَهُ في الإِناءِ ثُمَّ قَالَ:"حَيَّ على الطَّهورِ المُبارَكِ، والبَرَكَةُ مِنَ الله"، فلقدْ رأيتُ الماءَ يَنبُعُ منْ بينِ أَصَابعِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولَقدْ كُنَّا نسمعُ تسبيح الطَّعامِ وهوَ يُؤْكَلُ.

"وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كنا نعد الآيات": جمع آية، وهي العلامة، والمراد بها: المعجزات، سميت آية؛ لأنها علامة على نبوته صلى الله عليه وسلم.

"بركةً، وأنتم تعدُّونها تخويفاً": قيل: أراد ابن مسعود بذلك أن عامة الناس لا ينفع فيهم الآيات التي نزلت بالعذاب والتخويف، وأن خاصتهم - وهم الصحابة - ينتفعون بالآيات المقتضية للبركة.

"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقلَّ الماء، فقال: اطلبوا فضلةً من ماء، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: حيَّ على الطهور المبارك"؛ أي: هلموا إليه وأسرعوا.

"والبركة من الله": وأصل البركة: الثبات والدوام.

"ولقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيحَ الطعام وهو يؤكل": وإنما سبح؛ لأنه كان خير طعام؛ لكونه مأكول خير الأنبياء.

ص: 341

4626 -

قَالَ أَبُو قَتادَةَ رضي الله عنه: خَطَبنا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "إنَّكمْ تَسيرُونَ عَشيَّتكُمْ ولَيْلَتكُمْ، وتأْتونَ المَاءَ إنْ شَاءَ الله غَداً"، فانطلقَ الناسُ لا يَلْوِي أَحدٌ على أَحدٍ، قال أبو قَتادَةَ رضي الله عنه: فبَيْنَما رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسيرُ حتَّى ابْهارَّ اللَّيلُ، فمَالَ عنْ الطَّريقِ، فوَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ:"احْفَظُوا علَيْنا صَلاتَنا"، وَكَانَ أوَّلَ مَنْ استَيْقَظَ رَسَولُ الله صلى الله عليه وسلم والشَّمْسُ في ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ:"ارْكَبُوا"، فركِبنا، فسِرْنا، حتَّى إذا ارتفَعَتِ الشَّمسُ نزَلَ، ثُمَّ دَعا بمِيضأَةٍ كانتْ معِي فيها شَيءٌ منْ ماءٍ، فتوضَّأَ مِنْهَا وُضُوءاً دُونَ وُضوءٍ، قال: وبقيَ فيها شَيءٌ منْ مَاءٍ، ثُمَّ قال:"احْفَظْ علَيْنا مِيضَأَتَكَ فسيَكونُ لَهَا نبَأٌ"، ثُمَّ أَذَّنَ بِلالٌ بالصَّلاةِ، فصَلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ركعتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الغَداةَ، ورَكِبَ ورَكِبنا مَعَهُ، فانتَهَينا إلى النَّاسِ حِينَ امتدَّ النَّهارُ وحَمِيَ كُلُّ شيءٍ وهُمْ يقولون: يا رَسُولَ الله! هَلَكْنا عَطَشاً، فقال:"لا هُلْكَ عَلَيْكُمْ"، ودَعا بالمِيضأَةِ، فَجَعلَ يَصُبُّ وأبو قَتادَةَ يَسقيهِمْ، فلمْ يَعْدُ أنْ رَأَى النَّاسُ ماءً في المِيضأَةِ فتكَابُّوا عليها، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أحْسِنوا المَلأَ، كلُّكُمْ سَيَرْوَى"، قال: ففعلَوا، فجَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ ويَسقِيهِمْ، حتَّى ما بَقِيَ غَيْرِي وغَيْرُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَبَّ فقالَ لي:"اشرَبْ"، فقلتُ: لا أشرَبُ حتَّى تَشْرَبَ يا رَسُولَ الله! قَالَ: "إنَّ سَاقِيَ القَومِ آخِرُهُمْ شُرْباً"، قال: فشرِبْتُ وشَرِبَ، قال: فأتَى النَّاسُ المَاءَ جامِّينَ رِواءً.

"وقال أبو قتادة رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم، وتأتون الماء إن شاء الله غداً، فانطلق الناس لا يلوي أحدٌ على أحد"؛ أي: لا يميل ولا يلتفت إليه، بل يمشي كلُّ واحد على حدته من غير مراعاة صحبةِ أصحابهِ اهتماماً بطلب الماء وحرصاً عليه.

"قال أبو قتادة: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهارَّ الليل"؛ أي:

ص: 342

انتصف، (البُهْرَة) بالضم: وسط كل شيء.

"فمال عن الطريق، فوضع رأسه، ثم قال" لأصحابه:

"احفظوا علينا صلاتنا"؛ أي: وقت صلاتنا.

"فكان أول من استيقظ رسول الله عليه الصلاة والسلام، والشمس في ظهره، ثم قال: اركبوا، فركبنا فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس، نزل صلى الله عليه وسلم، ثم دعا بميضأة" بكسر الميم: مطهرة كبيرة يتوضأ بها.

"كانت معي، فيها شيء من ماء، فتوضأ منها وضوءاً دون وضوء"؛ أي: دون وضوئه الذي كان يكثر فيه إراقة الماء؛ يعني: توضأ وضوءاً وسطاً لقلة الماء، وقيل: أراد: أنه استنجى في هذا الوضوء بالحجر لا بالماء.

"قال: فبقي فيها شيء من ماء، ثم قال صلى الله عليه وسلم: احفظ علينا مِيضأتك، فسيكون لها نبأ"؛ أي: خبر، والمراد هنا: أن يكون لها شأنٌ يتحدث به الناس.

"ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة": وفي تأخيره صلى الله عليه وسلم قضاء الصلاة دليلٌ على أن من نام عن صلاة، أو نسيها، لا يجب عليه القضاء على الفور، وعلى استحباب مفارقة الموضع الذي ترك فيه المأمور، أو ارتكب فيه المنهي، واستحباب الإتيان بالمتروك في موضع آخر ترغيماً للشيطان.

"فركب وركبنا معه، فانتهينا إلى الناس حين امتدَّ النهار"؛ أي: ارتفع.

"وحمي كلُّ شيء"؛ أي: اشتدت حرارته.

"وهم يقولون: يا رسول الله! هلكنا وعطشنا، فقال: لا هُلْك عليكم": و (الهلك) بالضم وسكون اللام: اسمٌ للهلاك.

"ودعا بالميضأة، وجعل يصب وأبو قتادة يسقيهم، فلم يَعْدُ أن رأى

ص: 343

الناس"؛ أي: لم يتجاوز رؤيتهم "ما في الميضأة"؛ يعني: قصروا الرؤية عليه.

"فتكابُّوا عليها"؛ أي: ازدحموا على الميضأة مُكِباً بعضهم على بعض.

"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسنوا الملأ" بفتح الميم واللام: الخُلُق.

"كلُّكم سيُروى، قال"؛ أي: الراوي.

"ففعلوا"؛ أي: فعل الناس بعضهم مع البعض إحسانَ الخلق.

"فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبُّ وأيسقيهم، حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صبَّ، فقال لي: اشرب، فقلت: لا أشرب حتى تشربَ يا رسول الله! فقال: إن ساقي القوم آخرهم شُرباً، قال: فشربت وشرب، قال: فأتى الناس الماء"؛ أي: من الماء؛ يعني: انصرفوا عنه.

"جامِّين"؛ أي: مستريحين، جمع جامٍّ، وهو المستريح، من (الجَمَام) بالفتح، وهو الراحة، وقيل: أي: مجتمين من (الجمِّ)، قال الله تعالى:{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]؛ أي: كثيراً.

"رِواء" بكسر الراء: جمع راوٍ، وهو الذي رَوِيَ من الماء، أو جمع: ريان.

* * *

4627 -

عَنْ أَبي هُريْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لمَّا كَانَ يَومُ غَزوةِ تَبوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، فَقَالَ عُمرُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ الله! ادْعُهُمْ بفَضْلِ أزْوادِهمْ، ثمَّ ادْعُ الله لهُمْ عليها بالبَرَكَةِ، فقال:"نعَمْ" فدَعا بنطَعٍ فبُسِطَ، ثُمَّ دَعا بفَضْلِ أزْوادِهمْ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجيءُ بكَفِّ ذُرَةٍ، ويَجيءُ الآخرُ بكَفِّ تَمْرٍ، ويَجيءُ الآخَرُ بكِسْرةٍ، حتَّى اجتمَعَ على النَّطَعِ شَيءٌ يَسيرٌ، فدَعا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بالبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ:"خُذوا في أَوْعيَتِكُمْ"، فأخَذوا في أوْعِيَتهِمْ حتَّى مَا تَرَكوا في العَسْكَرِ وِعاءً إلَّا مَلَؤُوهُ،

ص: 344

قَالَ: فأكَلوا حتَّى شَبعوا، وفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلَّا الله وأنِّي رَسُولُ الله، لا يَلْقَى الله بهِما عبدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فيُحْجَبَ عن الجَنَّةِ".

"قال أبو هريرة رضي الله عنه: لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناسَ مَجاعةٌ": بفتح الميم؛ أي: جوع.

"فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! ادعهم بفضل أزوادهم": جمع زاد، وهو الطعام الذي يُتَّخذُ للسفر؛ يعني: اطلب منهم أن يأتوا ببقية أزوادهم.

"ثم ادع الله لهم عليها بالبركة": قيل: هي ثبوت الخير الإلهي في شيء، وذلك إما أن يجعل الله القليل مشبعاً بقدرته بالبركة القديمة، وإما بزيادته في أجزائه زيادةً غير محسوسة ابتلاء للآكلين.

"فقال: نعم، فدعا بنطعٍ فبُسطَ، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكفِّ ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع شيءٌ يسير، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العَسْكِر وعاءً إلا ملؤوه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلةٌ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما"؛ أي: بالشهادتين.

"عبدٌ غيرُ شاكٍّ"؛ أي: غير متردد في الإسلام، يجوز رفع (غير) على أنه صفة (عبد)، ونصبه على أنه حال.

"فيحجبَ": بالنصب جواب النفي؛ يعني: من لقي الله بالشهادتين من غير ترددٍ وشكٍّ فلا يحجب "عن الجنة" البتَّةَ.

* * *

4628 -

وقَالَ أَنسٌ رضي الله عنه: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَروساً بزَيْنَبَ، فعَمَدَتْ أُمِّي

ص: 345

أُمُّ سُلَيْمٍ إلى تَمْرٍ وسَمْنٍ وأَقِطٍ، فَصَنَعَتْ حَيْساً فجعلَتْهُ في تَوْرٍ، فَقَالتْ: يَا أَنَسُ! اذهَبْ بهذا إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقُلْ: بَعَثَتْ بهذا أُمِّي إليكَ، وهيَ تُقْرِئُكَ السَّلامَ، وتَقُولُ: إنَّ هَذا لكَ مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ الله! فذهبْتُ فقلتُ، فَقَالَ:"ضَعْهُ"، ثُمَّ قَالَ:"اذهَبْ فادْعُ لي فُلاناً وفُلاناً وفُلاناً - رِجالاً سمّاهُمْ -، وادْعُ مَنْ لَقِيتَ"، فدعَوْتُ مَنْ سَمَّى ومَنْ لَقِيتُ، فرجعتُ، فإذا البَيْتُ غَاصٌّ بأهلِهِ، قِيلَ لِأَنَسٍ: كَمْ كَانَ عَدَدَكُمْ؟ قال: زُهاءَ ثَلَاثِ مِئَةٍ، فَرَأَيتُ النَّبيَّ وَضَعَ يَدَهُ على تِلْكَ الحَيْسَةِ، وتَكلَّمَ بَما شَاءَ الله، ثُمَّ جَعَلَ يَدعُو عَشَرَةً عَشَرةً يأْكُلونَ منهُ ويقولُ لهُمْ:"اذْكُروا اسمَ الله عَلَيْهِ، ولْيأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَليهِ"، قال: فَأَكَلوا حتَّى شَبعوا، فخَرَجَتْ طَائِفةٌ ودَخلَتْ طَائِفةٌ حتَّى أكَلوا كلُّهُمْ، فقالَ لي:"يا أنسُ! ارْفَعْ"، فرفَعْتُ، فَمَا أدْرِي حِينَ وضَعْتُ كَانَ أكثرَ أمْ حينَ رَفَعْتُ!.

"وقال أنس رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم عروساً بزينب"؛ أي: متزوجاً بها.

"فعمدت"؛ أي: قصدت.

"أمي أمُّ سليم إلى تمرٍ وسمنٍ وأَقِطٍ، فصنعت حَيْساً": وهو تمر يخلط بسمنٍ وأقطٍ.

"فجعلته في تَورٍ": وهو: إناء يشرب فيه.

"فقالت: يا أنس! اذهبْ بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل: بعثَت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام، وتقول: إن هذا لك منا قليلٌ يا رسول الله، فذهبت وقلت، فقال: ضعه، ثم قال: اذهب، فادعُ لي فلاناً وفلاناً وَفلاناً رجالاً سماهم، وادعُ لي من لقيت، فدعوت من سمى، ومن لقيتُ، فرجعتُ فإذا البيتُ غاصٌّ"؛ أي: ممتلئٌ.

"بأهله، قيل لأنسٍ: عددكم كم كانوا": جمع الضمير نظراً إلى معنى العدد؛ لزيادته على الواحد.

ص: 346

"قال: زُهاء ثلاث مئة"؛ أي: قدرها.

"قرأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم وضع يده على تلك الحيسة، وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرةً عشرةً يأكلون منه، ويقول لهم: اذكروا اسم الله، وليأكل كلُّ رجلٍ مما يليه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة، ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم، فقال لي: يا أنس! ارفع، فرفعت، فما أدري حين وضعتُ كان أكثر، أم حين رفعتُ".

* * *

4629 -

قَالَ جَابرٌ رضي الله عنه: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا على نَاضحٍ قدْ أعْيا فلا يَكَادُ يَسيرُ، فَتَلاحَقَ بِي النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"ما لِبَعيرِكَ؟ "، قُلْتُ: قدْ عَييَ، فتخلَّفَ رَسُولُ الله فَزَجَرَهُ ودَعا لَهُ، فما زالَ بينَ يَدَي الإِبلِ قُدَّامَها يَسيرُ، فَقَالَ لِي:"كيفَ تَرى بَعيرَكَ؟ "، قلتُ: بخَيْرٍ، قدْ أصابَتْهُ بَرَكَتُكَ، قال:"أفَتَبيعُنِيهِ بِوُقِيَّةٍ؟ "، فبعْتُهُ على أنَّ لي فَقارَ ظهرِهِ إلى المدينةِ، قَالَ: فلمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المَدِينةَ غَدَوْتُ عليهِ بالبَعيرِ، فأعْطَانِي ثَمْنَهُ، ورَدَّهُ عليَّ.

"قال جابر رضي الله عنه: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على ناضح": وهو: بعير يُستقَى عليه الماء.

"قد أعيا"؛ أي: عجز عن السير وغيره.

"فلا يكاد يسير، فتلاحقَ بي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لبعيرك؟ قلت: قد عَييَ، فتخلَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم فزجره، فدعا له، فما زال بين يدي الإبل قُدَّامها يسير": ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم.

"فقال لي: كيف ترى بعيرك؟ قلت: بخير، قد أصابته بركتك، قال: أفتبيعنيه بوقيةٍ؟ "؛ أي: بأربعين درهماً.

"فبعته على أن لي فَقارَ ظهرِهِ"؛ أي: ركوب فقار ظهره.

ص: 347

"إلى المدينة، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوت عليه بالبعير، فأعطاني ثمنه وردَّه"؛ أي: البعير "عليَّ": وفيه دليل على جواز استثناء بعض منفعة المبيع مُدةً.

* * *

4630 -

عَنْ أَبي حُمَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبوكَ، فأتَيْنا وادِي القُرَى على حَديقةٍ لامْرأةٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"اخْرُصُوهَا"، فخَرَصْناهَا، وخَرَصَها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ أوْسُقٍ وقال:"أَحْصِيْهَا حتَّى نرَجِعَ إِلَيكِ إِنْ شَاءَ الله عز وجل "، وانْطَلَقْنا حتَّى قَدِمْنَا تَبوكَ، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ستَهُبُّ عَلَيكُمُ اللَّيلةَ رِيحٌ شَديدةٌ، فلا يَقُمْ فيها أَحدٌ، فمَنْ كَانَ لَهُ بَعيرٌ فلْيَشُدَّ عِقالَهُ"، فهَبَّتْ رِيحٌ شَديدةٌ، فَقَامَ رَجَلٌ فحَملَتْهُ الرِّيحُ حتَّى ألْقَتْهُ بجَبَلَ طَيئٍ، ثُمَّ أقبَلْنا حتَّى قَدِمنا وادِي القُرَى، فَسَألَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المَرأَةَ عنْ حَديقتِها، "كَمْ بَلَغَ تمرُها؟ "، فَقَالت: عَشَرَةَ أوْسُقٍ.

"عن أبي حُميَدٍ رضي الله عنه أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فأتينا وادي القرى": اسم موضع.

"على حديقة"؛ أي: بستان.

"لامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرصوها"؛ أي: قدِّروها.

"فخرصناها، وخرصها النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أوسقٍ، وقال: أحصيها"؛ أي: احفظيها وعديها إلى كم يبلغ ثمرها.

"حتى نرجع إليك إن شاء الله، وانطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستهب عليكم الليلة ريحٌ شديدةٌ، فلا يقم فيها أحدٌ، من كان لى بعيرٌ فليشدَّ عقاله، فهبت ريحٌ شديدةٌ، فقام رجلٌ فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طي": أحدهما

ص: 348

سلمى، والآخر أَجَأٌ، وهما بأرض نجد.

"ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأةَ عن حديقتها، كم بلغ ثمارها؟ فقالت: عشرة أوسق".

* * *

4631 -

وقَالَ أَبُو ذَرٍّ، قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّكُمْ ستَفْتَحُونَ مِصْرَ، وهيَ أَرْضٌ يُسمَّى فيها القِيراطُ، فإذا فتَحتُموها فأحْسِنوا إلى أَهلِها فإنَّ لَهَا ذِمَّةً ورَحِماً - أَوْ قَالَ: ذِمَّةً وصِهْراً - فإِذَا رَأيتُمْ رجُلَيْنِ يَخْتصِمَانِ في مَوْضعِ لَبنةٍ فاخْرُجْ مِنْهَا"، قَالَ: فَرَأَيْتُ عبدَ الرَّحمنِ بن شُرَحْبيلَ بن حَسَنةَ وأَخاهُ رَبيعةَ يَخْتصِمانِ في مَوْضعِ لَبنةٍ فخرجْتُ منها.

"قال أبو ذر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم ستفتحون مصرَ، وهي أرض يسمى فيها القيراط": قيل: تسمية القيراط لم تختصَّ بأهل مصر، بل يشاركهم فيها البدو والحضر من بلاد العرب، وإنما الإشارة بها إلى كلمة يستعملها أهل مصر في المسابة وإسماع المكروه، فيقولون: أعطيتُ فلاناً قراريط؛ أي: سمَّعته المكروه، واذهب لأعطيك قراريطك؛ أي: سبابك، حكاه الطحاوي عنهم، وهو أعلم بلهجة أهل بلده؛ لأنه منهم.

"فإذا فتحتموها، فأحسنوا إلى أهلها"؛ أي: بالصفح والعفو عمَّا تنكرون، ولا يحملنكم حدة لسانهم فيما يذكرون من المساوئ على الإساءة.

"فإن لهم ذمةً"؛ أي: ذماماً وعهداً حصل لهم بإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية؛ فإنها من أهل مصر.

"ورحماً": من قِبَلِ هاجرَ أم إسماعيل عليه السلام؛ فإنها من أهل مصر أيضًا.

ص: 349

"أو قال: ذمةً وصهراً": فعلى هذه الرواية الصهر يختص بمارية، والذمة بهاجر.

"فإذا رأيتم رجلين يختصمان في موضع لبنة، فاخرجْ منها": والقياس: فاخرجوا منها، لعل النبي صلى الله عليه وسلم التفت عند الأمر بالخروج إلى أبي ذرٍّ الراوي، وخصَّه بهذا الأمر دون غيره؛ شفقةً عليه من وقوعه في الفتنة لو أقام ثمة بينهم، وقد وقع ذلك في آخر عهد عثمان رضي الله عنه حين عتبوا عليه ولايةَ عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخيه من الرضاعة، وكان منهم ما كان.

"قال" أبو ذر: "فرأيت عبد الرحمن بن شُرَحبيل": بضم الشين وفتح الراء وسكون الحاء المهملتين، وفي بعض بالفتح وبالجيم.

"ابن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة فخرجت منها".

* * *

4632 -

عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"في أَصْحَابي - وفي رَوِايَةٍ: في أُمَّتِي - اثنا عَشَرَ مُنافِقاً، لا يَدخُلونَ الجَنَّةَ ولا يَجِدونَ رِيحَها حتَّى يَلِجَ الجمَلُ في سَمِّ الخِياطِ، ثَمانِيةٌ منهُمْ تَكفِيهِم الدُّبَيْلَةُ: سِراجٌ مِنَ النارِ تَظهرُ في أكتافِهِمْ حتَّى تَنْجُمَ في صُدورِهِم".

"عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: في أصحابي": الصحابة: لا تُطلَق إلا على من صَدَقَ في إيمانه، وإطلاقها على من يستر النفاق إنما هو بطريق المجاز؛ لتشبههم بالصحابة، وإدخالهم أنفسَهم في زمرتهم، ولذا قال: في أصحابي، ولم يقل: من أصحابي.

"وفي رواية: في أمتى اثنا عشر منافقاً، لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها حتى يلجَ الجمل"؛ أي: يدخل.

ص: 350

"في سمِّ الخِياط": بكسر الخاء: الإبرة؛ أي: في ثقبها؛ يعني: لا يدخلون الجنة أبداً؛ لأن دخول الجمل في ثقبة الإبرة محال، والمعلق بالمحال محالٌ.

"ثمانية منهم تكفيهم"؛ أي: تمنعهم وتطردهم.

"الدُّبيلَةُ": بالموت، وهي - بضم الدال المهملة وفتح الباء الموحدة ثم السكون - في الأصل: الداهية، وتستعمل في القرحة، فسرها صلى الله عليه وسلم بقوله:"سراج من نار، يظهر في أكتافهم حتى ينجُم": بضم الجيم؛ أي: يظهر.

"في صدورهم": لعله أراد بها: ورماً حاراً يحدث في أكتافهم بحيث يظهر أثرُ تلك الحرارة وشدة لهبها في صدورهم.

قصد صلى الله عليه وسلم بهذا القول تنبيهَ أصحابه الصديقين؛ لئلا يأمنوا من مكرهم، وهم الذين كانوا قد قصدوا أن يمكروا به صلى الله عليه وسلم ليلةَ العقبة مرجعَهُ من غزوة تبوك متلثمين، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم منقطعاً في تلك الليلة عن جماعة المسلمين مع حذيفة وعمار آخذاً في طريق الثنية، وهم في بطن الوادي، فسمع صلى الله عليه وسلم خشفة القوم من ورائه، فأمر حذيفة أن يزجرهم، فاستقبلَ حذيفة وجوهَ رواحلهم بمحجن كان معه ضرباً، فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة، فانقلبوا مسرعين على أعقابهم، فأدرك حذيفة النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال له:"هل عرفت واحداً منهم؟ " قال: لا، فإنهم كانوا متلثمين، ولكن أعرف رواحلهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله أخبرني أسماءهم، وأسماء آبائهم، وسأخبرك بهم إن شاء الله تعالى عند الصباح"، فمن ثمة كانوا يراجعون حذيفة في أمر المنافقين، قيل: أسرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمرَ هذه الفئة المشؤومة؛ لئلا تهيج الفتنة من تشهيرهم.

* * *

4633 -

عَنْ جابرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَصْعَدُ الثَّنِيَّةَ ثَنيَّةَ المُرارِ فإنَّهُ يُحَطُّ عنهُ ما حُطَّ عنْ بني إسْرائيلَ"، فكانَ أوَّلَ مَنْ صَعِدَها خَيْلُنا

ص: 351

خَيْلُ بني الخَزْرَجِ، ثمَّ تَتامَّ النَّاسُ، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"وكُلُّكُمْ مَغفورٌ لهُ إِلَاّ صاحِبَ الجَملِ الأحمرِ"، فَأتَيْنَاهُ فقُلنا لهُ: تَعَالَ يَستغفِرْ لكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي أحبُّ إليَّ منْ أنْ يَستغفِرَ لِي صاحِبُكُمْ، وكَانَ رَجُلاً يَنشُدُ ضَالَّةً لهُ.

"عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يصعد": روي بالرفع على جعل (من) استفهاماً، وبالجزم شرطاً، وهو الأشبه.

"الثنيةَ": وهي في الجبل كالعقبة فيه، وقيل: الطريق العالي فيه.

"ثنيةِ": بدل مما قبلها، أو عطف بيان.

"المرار" - بالحركات الثلاث -: اسم موضعبين مكة والمدينة من طريق الحديبية، حثهم صلى الله عليه وسلم على صعودها؛ لأنها عقبةٌ شاقةٌ؛ إما لقربها من العدو، أو لصعوبة طريقها، فلهذا قال:

"فإنه يحطُّ عنه ما حُطَّ"؛ أي: مثل الحط الذي حُطَّ "عن بني إسرائيل" حين امتثلوا قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58]، وهذا غاية المبالغة في حطِّ ذنوب ذلك الصاعد، وإلا فخطيئة المؤمن كيف تكون مثل خطيئتهم العظيمة حين خالفوا أمر موسى وعبدوا العجل؟!

"فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج، ثم تتام الناس"؛ أي: جاؤوا كلهم، واجتمعوا على صعودها.

"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكلكم مغفورٌ له إلا صاحب الجمل الأحمر، فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفرْ لك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لأن أجد ضالتي أحبَّ إليَّ من أن يستغفر لي صاحبكم، وكان"؛ أي: صاحبُ الجمل "رجلاً ينشد ضالَّةً له".

ص: 352

مِنَ الحِسَان:

4634 -

عَنْ أَبي مُوْسَى الأَشْعرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ أبو طَالِبٍ إِلى الشَّامِ، وخَرجَ مَعَهُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في أَشْياخٍ منْ قُريشٍ، فلمَّا أشْرَفوا على الرَّاهِبِ، هَبَطوا فحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فخرجَ إليهِم الرَّاهِبُ، وكانوا قَبْلَ ذلكَ يَمُرُّونَ بهِ فَلا يَخرُجُ إليهِمْ، قَالَ: فهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فجَعَلَ تتخلَّلُهُم الرَّاهِبُ حتَّى جَاءَ فأخذَ بيدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: هذا سَيدُ العَالَمِينَ، هذا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَبعثُهُ الله رَحْمَةً للعَالَمينَ، فقالَ لهُ أَشْياخٌ منْ قُريشٍ: مَا عِلْمُكَ؟ قال: إنَّكُمْ حِينَ أشْرَفْتُم مِنَ العَقَبةِ لم يَبْقَ شَجرٌ ولا حجرٌ إلَّا خَرَّ سَاجِداً، ولا يَسجَدانِ إِلَاّ لِنَّبيٍّ، وإِنِّي أَعْرِفُهُ بَخَاتَمِ النُّبوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْروفِ كتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لهُمْ طَعَاماً، فلمَّا أَتاهُمْ وكانَ هوَ في رِعْيَةِ الإبلِ قَالَ: أَرْسِلوا إليْهِ، فأقبَلَ وعلَيهِ غَمامَة تُظِلُّهُ، فلمَّا دَنا مِنَ القَومِ وجَدَهُمْ قدْ سَبقوهُ إلى فَيْءِ الشَّجَرَةِ، فلمَّا جَلَسَ مالَ فَيْءُ الشَّجرةِ عَلَيْهِ فَقَال: انظُروا إلى فَيْءِ الشَّجَرةِ مَالَ عليهِ، فَقَالَ: أنشُدُكُم الله، أيُّكُمْ ولِيُّهُ؟ قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ، فلمْ يَزَلْ يُناشِدُهُ حتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ، وبعثَ معهُ أَبُو بَكرٍ رضي الله عنه بِلالاً، وزوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الكَعْكِ والزَّيْتِ.

"من الحسان":

" عن أبي موسى رضي الله عنه قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا"؛ أي: اطلعوا.

"على الراهب": وهو الزاهد من النصارى، قيل: اسم ذلك الراهب بحيرا، وكان أعلم النصارى، وكان موضعه ببصرى من بلاد الشام.

"هبطوا"؛ أي: نزلوا.

"فحلوا رحالهم"؛ أي: فتحوها.

"فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرُّون به، فلا يخرج إليهم،

ص: 353

قال"؛ أي: الراوي.

"فهم يحلُّون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهبُ"؛ أي: يدخل وسطهم.

"حتى جاء، فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا سيد العالمين، وهذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمةً للعالمين، فقال له أشياخ من قويش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة"؛ أي: وقت ظهوركم منها.

"لم يبقَ شجرٌ ولا حجرٌ إلا خرَّ ساجداً، ولا يسجدان إلا لنبيٍّ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفلُ من غضروف كتفه": وهو: اللحم الذي بين الكتفين.

"مثل التفاحة، ثم رجع، فصنع له طعاماً، فلما أتاهم به"؛ أي: بالطعام.

"وكان هو"؛ أي: النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.

"في رعية الإبل، فقال"؛ أي: الراهب.

"أرسلوا إليه"؛ أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

"فأقبل وعليه غمامةٌ تظله، فلما دنا من القوم"؛ أي: قرب منهم.

"وجدهم قد سبقوه إلى فيء شجرة"؛ أي: إلى ظلها.

"فلما جلس مالَ فيءُ الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، فقال: أنشدكم الله"؛ أي: أطلب منكم بالله.

"أيكم وليُّه؟ "؛ أي: قريبه.

"قالوا: أبو طالب، فلم يزل"؛ أي: الراهب.

"يناشده"؛ أي: أبا طالب؛ يعني: يقول له: بالله سألتك أن ترد محمداً إلى مكة، وتحفظه من العدو، قيل: كان الراهب يخاف أن يذهبوا به إلى الروم، فيصلَ إليه الضرر منهم، فلذلك ناشده.

"حتى ردَّه أبو طالب": إلى مكة.

ص: 354

"وبعث معه أبو بكر بلالاً، وزَّوده الراهبُ من الكعك والزيت".

* * *

4635 -

عَنْ عَلِيِّ بن أبي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فخرَجْنا في بعضِ نَواحِيها، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ ولا شَجَرٌ إِلَاّ وهوَ يقولُ: السَّلامُ عليكَ يَا رَسُولَ الله!.

"وعن عليٍّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه - قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبلٌ ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله"! * * *

4636 -

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بالبُراقِ لَيْلةَ أُسْرِيَ بهِ مُلْجَماً مُسْرَجاً، فاسْتَصْعَبَ عليهِ، فَقَالَ لهُ جبريلُ:"أَبمُحَمَّدٍ تفعلُ هذا؟ فَمَا ركِبَكَ أَحَدٌ أكرمُ على الله مَنْهُ"، قَالَ: فارْفَضَّ عَرَقاً. غريب.

"عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتي بالبراق ليلة أُسرِي به مُلجَماً"؛ أي: مشدوداً عليه اللجام.

"مُسرَجاً": موضوعاً عليه السرج؛ أي: كان مهيئاً للركوب.

"فاستصعبَ عليه"؛ أي: البراق على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يمكنه من الركوب.

"فقال له جبريل: أبمحمدٍ تفعل هذا؟ فما ركبك أحدٌ أكرم على الله منه"؛ أي: من محمد.

"قال: فأرْفَضَّ عرقاً"؛ أي: سأل منه العرق.

"غريب".

ص: 355

4637 -

وعَنْ بُرَيْدةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لمَّا انتهَيْنا إلى بيتِ المَقْدِسِ قالَ جِبريلُ بأُصبُعِهِ، فخَرَقَ بها الحَجرَ، فشدَّ بهِ البُراقَ".

"وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبرائيل بإصبعه"؛ أي: أشار بها.

"فخرق بها الحجر"؛ أي: ثقب ثقباً نافذاً.

"فشدَّ به البراق".

* * *

4638 -

عن يَعلى بن مُرَّة الثَّقَفيِّ قَالَ: ثَلاثةُ أَشْيَاءَ رأَيْتُها مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: بَيْنا نحنُ نَسيرُ معهُ إِذ مَرَرْنا ببَعِيرٍ يُسْنَى عَلَيهِ، فلَمَّا رَآهُ البَعيرُ جَرْجَرَ، فوضَعَ جِرانَهُ، فوقَفَ عليهِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَال:"أينَ صاحِبُ هذا البعيرِ؟ "، فجَاءَهُ، فَقَالَ:"بِعْنِيهِ"، فَقَالَ: بلْ نَهَبُهُ لكَ يَا رَسُولَ الله! وإنَّهُ لِأَهلِ بيتٍ ما لهُمْ مَعيشَةٌ غيرُهُ، فقال:"أَمَّا إِذَ ذَكَرتَ هذا منْ أمْرِهِ فإنَّه شَكا كَثْرَةَ العملِ وقِلَّةَ العَلَفِ، فأحْسِنوا إليهِ"، ثُمَّ سِرْنا حتَّى نزَلْنا مَنْزِلاً، فَنَامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فجَاءَتْ شَجَرةٌ تَشُقُّ الأَرْضَ حتَّى غَشِيَتْهُ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلى مَكانِها، فلمَّا استيقظَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَكَرْتُ لهُ، فقال:"هِيَ شَجرةٌ استأْذَنَتْ ربَّها في أَنْ تُسَلِّمَ على رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأذَنِ لَها"، قال: ثُمَّ سِرْنا، فمَرَرْنا بماءٍ، فأتَتْهُ امرأَةٌ بابن لَهَا بهِ جِنَّةٌ، فأخذَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بمَنْخِرِهِ، ثُمَّ قَالَ:"اخرُجْ، إنِّي مُحَمَّد رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "، ثمَّ سِرْنا، فلمَّا رَجَعْنا مَرَرْنا بذلكَ المَاءِ، فَسَألَها عَنْ الصَّبيِّ، فَقَالَتْ: والَّذِي بعثَكَ بالحَقِّ، ما رأَيْنا منهُ رَيْباً بَعْدَك.

"عن يَعلى بن مُرَّة الثقفي رضي الله عنه قال: ثلاثة أشياء رأيتها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بينا نحن نسير معه إذ مررنا ببعيرٍ يُسْنَى عليه"؛ أي: يُستقَى الماء.

ص: 356

"فلما رآه البعير جَرجَر"؛ أي: صوَّت وصاح، وقيل: أي: ردد الصوت.

"فوضع جِرانه": وهو بكسر الجيم باطن العنق، وقيل: مقدم العنق من المذبح إلى المنحر.

"فوقف عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: أين صاحب هذا البعير؟ فجاءه فقال: بعنيه، فقال: بل نهبه لك يا رسول الله، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشةٌ غيره، قال: أما إذا ذكرت هذا من أمره، فإنه شكا كثرةَ العملَ وقلة العلفَ، فأحسنوا إليه، ثم سرنا حتى نزلنا منزلاً، فنام النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت شجرةٌ تشقُّ الأرضَ حتى غشيته"، أي: النبي صلى الله عليه وسلم، وأظلته.

"ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذكرت له فقال: هي شجرةٌ استأذنت ربها في أن تسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن لها، قال: ثم سِرْنا فمررنا بماءٍ"؛ أي: بقبيلةٍ.

"فأتته امرأةٌ بابن لها به جِنةٌ": بكسر الجيم؛ أي: بالابن جنونٌ.

"فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنخره، ثم قال" للجنون:

"اخرجْ؛ فإني محمد رسول الله، ثم سرنا فلما رجعنا مررنا بذلك الماء، فسألها عن الصبي فقالت: والذي بعثك بالحق نبياً ما رأينا منه"؛ أي: من الصبي "رَيْباً"؛ أي: مكروهاً، وقيل: أي: شكاً؛ يعني: ما رأينا منه ما أوقعنا في الشك من حاله.

"بعدك"؛ أي: بعد مفارقتك عنا.

* * *

4639 -

وَقَالَ ابن عبَّاس رضي الله عنهما: إنَّ اَمْرأةً جَاءَتْ بابن لَهَا إلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله! إنَّ ابني بهِ جُنونٌ، وإِنَّهُ يأخُذُهُ عِنْدَ غَدائِنا وعَشائِنا، فمَسَحَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ ودَعا، فثَغَّ ثَعَّةً، وخرجَ منْ جَوْفِهِ مثلُ الجَرْوِ الأَسْودِ يَسعَى.

ص: 357

"وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن امرأةً جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن ابني به جنونٌ، وإنه ليأخذه عند غدائنا وعشائنا"؛ أي: عند صباحنا ومسائنا.

"فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، ودعا، فثَعَّ ثعةً": بتشديد العين؛ أي: قاء قيئةً.

"وخرج من جوفه مثل الجِرو الأسود": والجِرو - بكسر الجيم -: ولد الكلب وغيره من السباع.

"يسعى": حالٌ من الجرو؛ أي: يتحرك ويمشي، وفيه دليل على جواز الرقية إذا لم يكن فيها غير اسم الله تعالى.

* * *

4640 -

عَنْ أَنسٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاء جِبريلُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو جالِسٌ حَزينٌ، قدْ تَخضَّبَ بالدَّمِ مِنْ فِعْلِ أهلِ مَكَّةَ، قَالَ: يا رَسُولَ الله! هَلْ تُحبُّ أنْ نُريَكَ آَيَةً؟ قال: "نَعَمْ"، فنَظَرَ إلى شَجرةٍ منْ ورائِهِ فَقَال:"ادعُ بِهَا"، فدَعا بها، فجاءتْ، فقامَتْ بينَ يَدَيْهِ، فقال: مُرْهَا فلْتَرجِعْ، فَأَمَرَها، فَرجَعَتْ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"حَسْبي، حَسْبي".

"عن أنس رضي الله عنه قال: جاء جبرائيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزينٌ، قد تخضَّب بالدم من فعل أهل مكة": وذلك كان يوم أُحُدٍ من كسر رَباعيته.

"قال: يا رسول الله! هل تحب أن نريك آية؟ "؛ أي: علامة لصحة نبوتك، قيل: قاله جبريل عليه السلام لتردده صلى الله عليه وسلم في نبوته؛ لأنه كان في أَول الأمر.

"قال: نعم، فنظر إلى شجرة من ورائه، فقال جبريل: ادعُ بها، فدعا

ص: 358

بها، فجاءت، فقامت بين يديه، فقال: مرها فلترجعْ، فأمرها فرجعت، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: حسبي حسبي"؛ أي: كفاني في تسليتي عمَّا لقيته من حزني هذه الكرامةُ من ربي.

* * *

4641 -

وقَالَ ابن عُمَرَ رضي الله عنه: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، فأقبَلَ أَعْرَابيٌّ، فَلَمَّا دَنا قَالَ لهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"تشهدُ أنْ لا إِلهَ إلَّا الله وحْدَهُ لا شَريكَ لهُ، وأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورسولُهُ؟ "، قَالَ: ومَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ؟ قَالَ: "هذِهِ السَّلَمَةُ"، فَدَعَاهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وهوَ بِشَاطِئِ الوَادِي، فَأَقبَلَتْ تَخُدُّ الأَرْضَ حتَّى قامَتْ بينَ يَدَيْهِ، فاستَشْهَدَها ثَلَاثاً، فَشَهِدَتْ ثَلاثاً أَنَّه كَمَا قَالَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلى مَنْبتِها.

"قال ابن عمر: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فأقبل أعرابيٌّ، فلما دنا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تشهد": بحذف حرف الاستفهام.

"أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؟ قال: ومن يشهد على ما تقول؟ قال: هذه السَّلَمة": وهي بفتحتين: شجرة من العضاه، ورقُها القرظُ الذي يُدَبغ به الجلد، وبكسرها: الحجر.

"فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بشاطئ الوادي"؛ أي: كان صلى الله عليه وسلم واقفاً بطرفه.

"فأقبلتْ تَخُدُّ الأرضَ": بضم الخاء المعجمة وتشديد الدال المهملة؛ أي: تشقها.

"حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً، فشهدت ثلاثاً: أنه كما قال، ثم رجعتْ إلى منبتها".

ص: 359

4642 -

وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ أَعْرَابيٌّ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: بِمَ أَعْرِفُ أَنَّكَ نبيٌّ؛ قَالَ: "إِنْ دَعَوْتُ هذا العِذْقَ منْ هذهِ النَّخْلَةِ يَشْهَدُ أنِّي رَسُولُ الله"، فدَعاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَجَعلَ يَنزِلُ منَ النَّخْلَةِ حتَّى سَقَطَ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قال:"ارجِعْ"، فَعَادَ، فَأَسْلَمَ الأَعْرابيُّ. صَحَّ.

"عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بم أعرف أنك نبيٌّ؟ قال: أن دعوتُ": بفتح الهمزة.

"هذا العِذْقَ" بكسر العين المهملة: العرجون بشماريخه.

"من هذه النخلة": والعذق من النخل بمنزلة العنقود من العنب.

"يشهد أني رسول الله، فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ينزل من النخلة حتى سقطَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ارجعْ فعاد، فأسلمَ الأعرابيُّ"، "صح".

* * *

4643 -

عَنْ أبي هُريْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ ذِئبٌ إلى رَاعِي غَنْمٍ فأخذَ منها شَاةً، فطَلبَهُ الرَّاعِي حتَّى انتزَعَها منهُ، قَالَ: فصَعِدَ الذِّئبُ على تَلِّ فأقْعَى واسْتَقَّر وقال: عَمَدْتُ إلى رِزْقٍ رَزَقَنِيهِ الله أَخَذْتُهُ ثمَّ انتزَعْتَهُ منِّي؟ فقالَ الرَّجلُ: تالله إنْ رأيتُ كاليومِ! ذِئبٌ يَتكلَّمُ؟ فقالَ الذِّئبُ: أَعْجَبُ منْ هذا رَجُلٌ في النَّخَلاتِ بينَ الحَرَّتَيْنِ يُخْبرُكُمْ بِمَا مَضَى وبمَا هوَ كَائِنٌ بعدَكُمْ، قال: وكَانَ الرَّجُلُ يَهُودِياً، فجَاءَ إِلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرَهُ وأسلَمَ، فصَدَّقَهُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم. "إنَّها أَمَاراتٌ بينَ يَدَي السَّاعَةِ، فقدْ أَوْشَكَ الرَّجُلُ أنْ يَخرُجَ فلا يَرجِعَ حتَّى تُحدِّثَهُ نَعْلاهُ وسَوْطُه بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ".

"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ذئبٌ إلى راعي غنمٍ، فأخذ منها شاةً، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، قال: فصعد الذئبُ على تلٍّ فأقْعَى"؛ أي:

ص: 360

جلس مقعياً، وهو: أن يجلس على وركيه، وينصب يديه.

"واستثفرَ"؛ أي: أدخل ذنبه بين رجليه.

"وقال: عمدت إلى رزقٍ رزقنيه الله، أخذته، ثم انتزعته مني، فقال الرجل: تالله إن رأيتُ كاليوم"؛ أي: ما رأيت أعجوبةً كأعجوبةِ اليوم، فحُذِف الموصوف، وأُقِيمت الصفة مقامه، ثم حُذِف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: معناه وتقديره: ما رأيت ذئباً يتكلم مثل الذئب الذي رأيته في اليوم.

"ذئب": خبر مبتدأه محذوف، كأنه قيل: وأي شيءٍ هو؟ فقال: هو ذئب.

"يتكلم فقال الذئبُ: أَعْجَبُ من هذا رجلٌ في النَّخَلات بين الحرَّتين"؛ أي: بين الحجرين، والحرةُ: حجارة سُود بين جبلين.

"يخبركم بما مَضَى وما هو كائنٌ بعدكم، قال: فكان الرجل يهودياً فجاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأخبره وأسلم فصدَّقه النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إنها"؛ أي: إن الحال التي رأيتُها "أمارات"؛ أي: علامات "بين يدي الساعة قد أوشك الرجل"؛ أي: قرب "أن يخرجَ فلا يرجع حتى تحدِّثَه نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعده"؛ أي: بعد أن يخرج.

* * *

4644 -

عَنْ أبي العَلاءِ عَنْ سَمُرَةَ بن جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا معَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نتَداول منْ قَصْعَةٍ مِنْ غُدْوَةٍ حتَّى اللَّيلِ، تَقُومُ عَشَرةٌ وتَقْعُدُ عَشَرةٌ، قُلنا: فَمَا كانتْ تُمَدُّ؟! قَالَ: منْ أيِّ شَيءٍ تَعْجَبُ؟ ما كانتْ تُمَدُّ إلَّا مِنْ هَاهُنَا، وأَشَارَ بيدِهِ إِلى السَّماءَ.

ص: 361

"عن أبي العلاء، عن سمُرة بن جندَب رضي الله عنهما: قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نتداولُ من قصعةٍ"؛ أي: نتناوب بأكل الطعام منها.

"من غدوةٍ حتى الليل"؛ يعني: طولَ النهار.

"تقوم عشرة وتقعد عشرة، قلنا: فما كانت تُمد"، على صيغة المجهول؛ من الإمداد؛ أي: فأي شيء كانت القصعة تُزاد طعاماً، يعني: من أين يكثُر الطعام فيها طولَ النهار.

"قال"؛ أي: النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "من أي شيء تعجب"؛ يعني: لا تعجب.

"ما كانت تُمد إلا من هاهنا، فأشار بيده إلى السماء"؛ يعني: لا يكون كثرة الطعام فيها إلاّ من عالم القُدرة بنزول البركة فيما فيها منه.

* * *

4645 -

عَنْ عبدِ الله بن عَمْرٍو رضي الله عنه: أَنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يومَ بَدْرٍ في ثَلَاثِ مِئَةٍ وخَمْسةَ عَشَرَ، فقال:"اللهمَّ! إنَّهُمْ حُفاةٌ فاحْمِلْهُمْ، اللهمَّ إنَّهُمْ عُراةٌ فاكْسُهُمْ، اللهمَّ إنَّهُمْ جِياعٌ فأَشْبعْهُمْ"، ففَتحَ الله لَهُ، فانقَلَبوا وما منهُمْ رَجُلٌ إِلَاّ وقدْ رَجَعَ بجَمَلٍ أو جَمَلَيْنِ، واكتَسَوا وشَبعوا.

"عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم بدرٍ في ثلاث مئة وخمسة عشر" رجلاً، "فقال: اللهم إنهم حفاة": جمع الحافي "فاحملهم"؛ أي: أعطِ كلَّ واحدٍ منهم المركوب.

"اللهم إنَّهم عُراة": جمع العاري "فاكسهم"؛ أي: أعطهم كساء.

"اللهم إنهَّم جياع": جمع الجائع "فأشبعهم، ففتح الله له"؛ أي: للنبي صلى الله عليه وسلم "فانقلبوا"؛ أي: انصرفوا "وما منهم رجلٌ إلاّ وقد رجع بجملٍ أو جملين واكتسوا وشَبعوا".

ص: 362

4646 -

عَنِ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّكُمْ مَنصورُونَ ومُصِيْبُونَ ومَفتوحٌ لَكُمْ، فمَنْ أَدْرَكَ ذلكَ منكُمْ فليَيَّقِ الله، ولْيأْمُرْ بالمَعْروفِ، ولْيَنْهَ عَنِ المُنكَرِ".

"عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنكم منصورون": على الأعداء، "ومصيبون"؛ أي: الغنيمة، "ومفتوحٌ لكم"؛ أي: يفتح لكم البلاد الكثيرة.

"فمن أدرك ذلك منكم فليتقِ الله وليأمُرْ بالمعروف ولْيَنْهَ عن المنكر"، قيل: أي: عن الغُلول.

* * *

4647 -

وَعَنْ جَابرٍ رضي الله عنه: أنَّ يَهودِيَّةً مِنْ أَهلِ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً مَصْلِيَّةً، ثمَّ أهدَتْها لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فأَخذَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الذِّرَاعَ فأَكَلَ منها، وأكلَ رَهْطٌ منْ أَصْحَابهِ معهُ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ارْفَعوا أيْدِيَكُمْ"، وأَرْسَلَ إلى اليَهودِيَّةِ، فدَعَاها فقال:"سَمَمْتِ هذِه الشاةَ؟ "، فقالت: مَنْ أخبَرَكَ؟ فقال: "أخبَرَنِي هذِه في يَدِي"، يَعني: الذِّراعَ، قالتْ: نعَمْ، قلتُ: إنْ كانَ نبَيًّا فلنْ يَضُرَّهُ، وإنْ لمْ يكُنْ نبيًّا اسْتَرَحْنا منهُ، فعفَا عَنْهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ولمْ يُعاقِبْها.

"عن جابر رضي الله عنه: أن يهوديةً"، وهي زينب بنت الحارث "من أهل خيبر سَمَّت شاةً"؛ أي: جعلت فيها سماً.

"مَصْلِيَّة"؛ أي: مشوية؛ من صليت اللحم - بتخفيف اللام -: شويته بالصَّلا، وهي النار.

"ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الذراعَ فأكل منها، وأكل رهطٌ من أصحابه معه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم، وأرسل إلى

ص: 363

اليهوديَّة فَدَعاها، فقال: سَمَمْتِ هذه الشاةَ؟ فقالت: مَنْ أخبرك؟! قال: أخبرتني هذه في يدي": حال من (هذه)؛ أي: مستقرةً فيها.

"الذراع": خبر مبتدأ محذوف.

"قالت: نعم، قلت: إن كان نبياً فلن يضرَّه، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه، فعفى عنها"؛ أي: عن هذه المرأة "رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعاقبها".

وفي رواية: "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها فَقْتلت".

وجه التوفيق بين الروايتين: أنه عفا عنها أولاً، ثم لما مات بِشْر بن البراء من الأَكلة التي ابتلعها أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بقتلها، فقُتلت في الحال.

* * *

4648 -

عَنْ سَهْلِ بن الحَنْظَلِيَّةِ: أنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَومَ حُنَيْنٍ، فأطْنَبُوا السَّيْرَ حتَّى كَانَ عَشِيَّةً، فجَاءَ فَارِسٌ فقال: يا رَسُولَ الله! إنِّي طَلعْتُ عَلَى جَبَلِ كَذا وكَذا، فإذا أَنَا بهَوازِنَ على بَكْرَةِ أَبيهِمْ بظُعُنِهِمْ وَنعَمِهِمْ، اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فتبسَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال:"تِلكَ غَنيمَةُ المُسلِمِينَ غداً إنْ شَاءَ الله"، ثُمَّ قال:"مَنْ يَحْرُسُنا الَّليلةَ؟ "، قالَ أَنسُ بن أبي مَرْثَدٍ الغَنَوِيُّ: أَنَا يا رَسُولَ الله! قال: "اركَبْ"، فركبَ فرَساً لهُ فقال:"استقْبلْ هذا الشِّعْبَ حتَّى تكونَ في أَعْلاهُ"، فلمَّا أَصْبَحْنا خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى مُصَلَاّه فركَعَ ركعَتَيْن ثُمَّ قال:"هلْ حَسِسْتُمْ فارِسَكُمْ؟ "، فقالَ رَجُلٌ: ما أَحْسَسْنا، فثُوِّبَ بالصَّلاة، فجعَل رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو يُصلي يَلْتَفِتُ إلى الشِّعْبِ، حتى إذا قَضَى الصَّلاةَ قال:"أبشِروا فقدْ جاءَ فارِسُكُمْ"، فجعَلْنا نَنْظُرُ إلى خِلالِ الشَّجرِ في الشِّعْبِ، وَإِذَا هوَ قدْ جاءَ حتَّى وَقَفَ على رَسُوِل الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِنِّي انطلَقْتُ حتَّى كُنْتُ في أَعْلَى هذا الشِّعْبِ حَيْثُ أمرَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أَصبحْتُ طَلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ

ص: 364

كليهما فلمْ أرَ أَحَداً، فقالَ لهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"هلْ نزلْتَ الليلةَ؟!، قال: لا، إلَّا مُصَلِّيا أوْ قَاضيَ حَاجَةٍ، قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فلا عَلَيْكَ أنْ لا تَعْمَلَ بَعْدَها".

"وعن سهل بن الحَنْظلية: أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ حُنينٍ فأطنبوا السير"؛ أي. بالغوا فيه وأطالوه.

"حتى كان عشية، فجاء فارسٌ فقال: يا رسول الله! إنِّي طَلَعت على جبل كذا"؛ أي: أتيته، "فإذا أنا بهوازن" قبيلة من قيس "على بَكْرة أبيهم"؛ أي: جاؤوا بأجمعهم، يقال: جاؤوا على بَكْرة أبيهم: للجماعة إذا جاؤوا جميعاً بلا تخلُّف أحدٍ منهم.

"بظُعُنهم": الظُّعْن - بضم الظاء المعجمة وسكون العين المهملة - جماعة الرجال، أو النساء الذين يظعنون، والمراد بها الهودج معهنَّ.

"ونعمهم اجتمعوا إلى حُنين، فتبسَم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال: تلك غنيمةُ المسلمين غداً إن شاء الله، ثم قال: مَنْ يحرسنا"؛ أي: مَنْ يكون حارساً لنا "الليلة؟ قال أنس بن أبي مرثد الغَنَوي: أنا يا رسول الله، قال: اركب، فركب فرساً له فقال: استقبلْ هذا الشِّعب"، وهو بالكسر: الطريق في الجبل.

"حتّى تكون في أعلاه، فلمَّا أصبحنا خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلَّاه، فركع ركعتين، ثم قال: هل حسستم"؛ أي: هل أدركتم بالحر "فارسَكم"، يريد به: أنس بن أبي مرثد الغنويّ الذي أرسله ليتفحَّص عن حال العدو.

"فقال رجل: يا رسول الله! ما أحسسنا، فَثُوِّبَ بالصلاة"؛ أي: أقيم بها، "فجعل"؛ أي: طَفِق "رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي": الواو للحال؛ أي: حال كونه مصلِّياً "يلتفت إلى الشِّعب"، وفيه دليل على أن الالتفات في الصلاة لا يبُطلها.

"حتّى إذا قضى الصلاةَ"؛ أي: فَرَغ منها "قال: أبشِروا، فقد جاء فارسُكم، فجعلنا ننظُر إلى خِلال الشَّجر في الشِّعب، فإذا هو قد جاء حتى

ص: 365

وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنِّي انطلقت حتى كنت في أعلا هذا الشَّعب حيث أمرني النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحت طلعت الشِّعبين كليهما، فلم أر أحداً، فقال له صلى الله عليه وسلم: هل نزلتَ الليلة"؛ أي: عن فرسك؟ "قال: لا، إلا مصلِّياً أو قاضيَ حاجةٍ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا عليكَ أن لا تعمل بعدها"؛ أي: فلا بأس عليك في ترك العمل الصالح سوى الفرائض بعد هذه الليلة؛ لأنه قد حَصَل لك فضيلة كافية، وهذه بشارةٌ له منه صلى الله عليه وسلم بأن الله قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر.

* * *

4649 -

وعن أَبي هُريْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أتيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بتَمَراتٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! ادْعُ الله فيهِنَّ بالبَرَكَةِ، فضَمَّهُنَّ ثُمَّ دَعا لِي فيهنَّ بالبَرَكَةِ، قال:"خُذهُنَّ فاجعَلْهُنَّ في مِزْوَدِكَ، كُلَّمَا أَرَدْتَ أنْ تأخُذَ منهُ شَيْئاً فأدْخِلْ فيهِ يَدَكَ فخُذْهُ، ولا تَنْثُرْهُ نَثْراً"، فقدْ حَمَلْتُ منْ ذلكَ التَّمرِ كَذا وكَذا مِنْ وَسْقٍ في سَبيلِ الله، فكُنَّا نَأْكُلُ مِنهُ ونُطْعِمُ، وكانَ لا يُفارِقُ حِقْوِي حتَّى كانَ يَوْمُ قَتْلِ عُثمانَ فإنَّهُ انقطَعَ.

"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بتمراتٍ فقلت: يا رسولَ الله! ادعُ الله فيهنَّ بالبركة، فضمَّهنَّ ثم دعا لي فيهن"؛ أي: في التمرات "بالبركة، قال: خذهنَّ فاجعلْهُن في مِزْودك" - بكسر الميم - هو ما يجعل فيه الزَّاد.

"كلَّما أردتَ أن تأخذ منه شيئاً فأدخِلْ فيه يدَك فخذه، ولا تنشره نشراً، فقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا من وسقٍ": وهو ستون صاعاً "في سبيل الله تعالى، فكنَّا نأكل منه ونُطعم، وكان لا يفارق حقوي"؛ أي: مَعْقِد إزاري، "حتى كان يوم قتلِ عثمان، فإنَّه"؛ أي: المِزْود "انقطع مني"؛ أي: سقط وضاع، وفيه إشارة إلى أن الفساد إذا شاع وكثُر بين الناس ارتفعت البركة، كما

ص: 366