الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِكَمَالِهِ.
وَقَدْ كَانَ الْكَامِلُ مُخِيِّمًا بِظَاهِرِ آمِدَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَزِيرَةِ، قَدِ افْتَتَحَهَا بَعْدَ حِصَارٍ طَوِيلٍ وَهُوَ مَسْرُورٌ بِمَا نَالَ مِنْ مُلْكِهَا.
وَفِيهَا فُتِحَتْ دَارُ الضِّيَافَةِ بِبَغْدَادَ لِلْحَجِيجِ حِينَ قَدِمُوا مِنْ حَجِّهِمْ، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ النَّفَقَاتُ وَالْكَسَاوِي والصلات وفيها سارت العساكر المستنصرية صحبة الأمير
سيف الدِّينِ أَبِي الْفَضَائِلِ إِقْبَالٍ الْخَاصِّ الْمُسْتَنْصِرِيِّ إِلَى مَدِينَةِ إِرْبِلَ وَأَعْمَالِهَا، وَذَلِكَ لِمَرَضِ مَالِكِهَا مُظَفَّرِ الدِّينِ كُوكُبُرِي بْنِ زَيْنِ الدِّينِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ يَمْلِكُ الْبِلَادَ، فَحِينَ وَصَلَهَا الْجَيْشُ مَنَعَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ فَحَاصَرُوهُ حَتَّى افْتَتَحُوهُ عَنْوَةً فِي السَّابِعِ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَجَاءَتِ الْبَشَائِرُ بِذَلِكَ فَضُرِبَتِ الطُّبُولُ بِبَغْدَادَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَفَرِحَ أَهْلُهَا، وَكَتَبَ التَّقْلِيدَ عَلَيْهَا لِإِقْبَالٍ الْمَذْكُورِ، فَرَتَّبَ فِيهَا الْمَنَاصِبَ وسار فيها سِيرَةً جَيِّدَةً، وَامْتَدَحَ الشُّعَرَاءُ هَذَا الْفَتْحَ مِنْ حيث هو، وكذلك مدحوا فاتحها إقبال، ومن أحسن ما قال بعضهم في ذلك: يَا يَوْمَ سَابِعَ عَشْرَ شَوَّالِ الَّذِي * رُزِقَ السَّعَادَةَ أَوَّلًا وَأَخِيرَا هُنِّيتَ فِيهِ بِفَتْحِ إِرْبِلَ مِثْلَمَا * هُنِّيتَ فِيهِ وَقَدْ جَلَسْتَ وَزِيرَا يَعْنِي أن الوزير نصير الدين بن العلقمي، قد كان وَزَرَ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ مِنَ الْعَامِ الْمَاضِي، وَفِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ شُرِعَ فِي عِمَارَةِ دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ دَارًا لِلْأَمِيرِ قَايْمَازَ وَبِهَا حمام فهدمت وبنيت عِوَضَهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ السِّبْطُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنَّ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فُتِحَتْ دَارُ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةُ الْمُجَاوِرَةُ لِقَلْعَةِ دِمَشْقَ، وَأَمْلَى بِهَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الصَّلَاحِ الْحَدِيثَ، ووقف عليها الأشرف الأوقاف، وجعل بها نَعْلُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ وَسَمِعَ الْأَشْرَفُ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الزَّبِيدِيِّ، قُلْتُ: وَكَذَا سَمِعُوا عَلَيْهِ بِالدَّارِ وَبِالصَّالِحِيَّةِ.
قَالَ: وَفِيهَا فَتَحَ الْكَامِلُ آمِدَ وَحِصْنَ كيفا ووجد عند صاحبها خَمْسَمِائَةِ حُرَّةٍ لِلْفِرَاشِ فَعَذَّبَهُ الْأَشْرَفُ عَذَابًا أَلِيمًا.
وَفِيهَا قَصَدَ صَاحِبُ مَارِدِينَ وَجَيْشُ بِلَادِ الرُّومِ الْجَزِيرَةَ فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَفَعَلُوا مَا لَمْ يَفْعَلْهُ التتار بالمسلمين.
وممن توفي فيها
من الأعيان في هذه السنة مِنَ الْمَشَاهِيرِ: أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الشَّيْخِ أبي الفرج بن الجوزي كان شيخاً لطيفاً ظريفاً، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَعَمِلَ صِنَاعَةَ الْوَعْظِ مُدَّةً، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، وَكَانَ يَحْفَظُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَخْبَارِ وَالنَّوَادِرِ وَالْأَشْعَارِ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وخمسائة، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ تِسْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً.
وَقَدْ ذَكَرَ السِّبْطُ وَفَاةَ:
الْوَزِيرِ صفي الدين بْنِ شُكْرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَعَلَى مَحَبَّتِهِ لِلْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّ لَهُ مُصَنَّفًا سَمَّاهُ الْبَصَائِرَ، وَأَنَّهُ
تَغَضَّبَ عَلَيْهِ الْعَادِلُ ثُمَّ تَرَضَّاهُ الْكَامِلُ وَأَعَادَهُ إِلَى وِزَارَتِهِ وَحُرْمَتِهِ، وَدُفِنَ بِمَدْرَسَتِهِ الْمَشْهُورَةِ بِمِصْرَ وذكر إن أصله من قرية يقال له دميرة بمصر.
الملك ناصر الدين محمود ابن عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودِ بْنِ نُورِ الدِّينِ أَرْسَلَانَ شَاهْ بْنِ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودِ بْنِ عِمَادِ الدين بن زنكي بن آقْسُنْقُرَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدْ أَقَامَهُ بَدْرُ الدِّينِ لُؤْلُؤٌ صُورَةً حَتَّى تَمَكَّنَ أَمْرُهُ وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ فَكَانَ لَا يَصِلُ إِلَى أحد من الجواري ولا شئ مِنَ السَّرَارِي، حَتَّى لَا يُعْقِبَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ جَدُّهُ لِأُمِّهِ مُظَفَّرُ الدِّينِ كُوكُبُرِي صَاحِبُ إِرْبِلَ مَنَعَهُ حِينَئِذٍ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ (1) يَوْمًا حَتَّى مات كمداً وجوعاً وعطشاً رحمه الله، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صُورَةً، وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ الْمَوْصِلِ مِنْ بَيْتِ الْأَتَابَكِيِّ.
الْقَاضِي شَرَفُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الشِّيرَازِيِّ الشَّافِعِيِّ، وَكِلَاهُمَا كَانَ يَنُوبُ عَنِ ابْنِ الزَّكِيِّ وَابْنِ الحرستاني، وكان يدرس بالطرخانية.
وفيها سكنه، فَلَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُعَظَّمُ أَنْ يُفْتِيَ بِإِبَاحَةِ نَبِيذِ التَّمْرِ وَمَاءِ الرُّمَّانِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ أَنَا عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي ذَلِكَ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ شَاذَّةٌ، وَلَا يَصِحُّ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ، وَلَا الْأَثَرُ عَنْ عُمْرَ أَيْضًا.
فَغَضِبَ عَلَيْهِ الْمُعَظَّمُ وَعَزَلَهُ عَنِ التَّدْرِيسِ وَوَلَّاهُ لِتِلْمِيذِهِ الزَّيْنِ بْنِ الْعَتَّالِ، وَأَقَامَ الشَّيْخُ بِمَنْزِلِهِ حَتَّى مَاتَ.
قال أبو شامة: ومات في هذه السنة جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَاطِينِ مِنْهُمُ الْمُغِيثُ بْنُ الْمُغِيثِ بْنِ الْعَادِلِ، وَالْعَزِيزُ عُثْمَانُ بْنُ الْعَادِلِ، وَمُظَفَّرُ الدين صاحب إربل.
قُلْتُ أَمَّا صَاحِبُ إِرْبِلَ فَهُوَ:
الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ أبو سعيد كوكبري (2) ابن زين الدين علي بن تبكتكين أَحَدُ الْأَجْوَادِ وَالسَّادَاتِ الْكُبَرَاءِ وَالْمُلُوكِ الْأَمْجَادِ، لَهُ آثَارٌ حَسَنَةٌ وَقَدْ عَمَّرَ الْجَامِعَ الْمُظَفَّرِيَّ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَكَانَ قَدْ هَمَّ بِسِيَاقَةِ الْمَاءِ إِلَيْهِ من ماء بذيرة فَمَنَعَهُ الْمُعَظَّمُ مِنْ ذَلِكَ، وَاعْتَلَّ بِأَنَّهُ قَدْ يَمُرُّ عَلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ بِالسُّفُوحِ، وَكَانَ يَعْمَلُ المولد الشريف في
(1) في الاصل: ثلاث عشرة.
(2)
كوكبري: وهو اسم تركي معناه بالعربية: ذئب أزرق.
(*)
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَيَحْتَفِلُ بِهِ احْتِفَالًا هَائِلًا، وَكَانَ مع ذلك شهماً شجاعاً فاتكاً بطلاً عاقلاً عالماً عادلاً رحمه الله وأكرم مثواه.
وقد صنف الشيخ أبو الخطاب ابن دِحْيَةَ لَهُ مُجَلَّدًا فِي الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ سَمَّاهُ: " التنوير في مولد البشير النذير "، فَأَجَازَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ طَالَتْ مُدَّتُهُ فِي الْمُلْكِ فِي زَمَانِ الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ، وقد كان محاصر عَكَّا وَإِلَى هَذِهِ السَّنَةِ مَحْمُودَ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ، قَالَ السِّبْطُ: حَكَى بَعْضُ مَنْ حَضَرَ سِمَاطَ المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وَعَشَرَةَ آلَافِ دَجَاجَةٍ، وَمِائَةَ أَلْفِ زُبْدِيَّةٍ، وَثَلَاثِينَ أَلْفَ صَحْنِ حَلْوَى، قَالَ: وَكَانَ يَحْضُرُ عِنْدَهُ فِي الْمَوْلِدِ أَعْيَانُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ فَيَخْلَعُ عَلَيْهِمْ وَيُطْلِقُ لَهُمْ وَيَعْمَلُ لِلصُّوفِيَّةِ سَمَاعًا مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْفَجْرِ، وَيَرْقُصُ بِنَفْسِهِ مَعَهُمْ، وَكَانَتْ لَهُ دَارُ ضِيَافَةٍ لِلْوَافِدِينَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ، وَكَانَتْ صَدَقَاتُهُ فِي جَمِيعِ الْقُرَبِ والطاعات على الحرمين وغيرهما، ويتفك مِنَ الْفِرِنْجِ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَلْقًا مِنَ الأسارى، حتى قيل إن جملة من استفكه مِنْ أَيْدِيهِمْ سِتُّونَ أَلْفَ أَسِيرٍ، قَالَتْ زَوْجَتُهُ ربيعة خاتون بنت أيوب (1) - وكان قد زَوَّجَهُ إِيَّاهَا أَخُوهَا صَلَاحُ الدِّينِ، لَمَّا كَانَ مَعَهُ عَلَى عَكَّا - قَالَتْ: كَانَ قَمِيصُهُ لَا يساوي خمسة دراهم فَعَاتَبْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: لُبْسِي ثَوْبًا بِخَمْسَةٍ وَأَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَلْبَسَ ثَوْبًا مُثَمَّنًا وأدع الفقير المسكين، وَكَانَ يَصْرِفُ عَلَى الْمَوْلِدِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى دَارِ الضِّيَافَةِ فِي كل سنة مائة أَلْفَ دِينَارٍ.
وَعَلَى الْحَرَمَيْنِ وَالْمِيَاهِ بِدَرْبِ الْحِجَازِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ سِوَى صَدَقَاتِ السِّرِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِقَلْعَةِ إِرْبِلَ،
وَأَوْصَى أَنْ يُحْمَلَ إِلَى مَكَّةَ فَلَمْ يَتَّفِقْ (2) فَدُفِنَ بِمَشْهَدِ عَلَيٍّ.
وَالْمَلِكُ الْعَزِيزُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الْعَادِلِ وَهُوَ شَقِيقُ الْمُعَظَّمِ، كَانَ صَاحِبَ بَانِيَاسَ وتملك الحصون التي هنالك، وهو الذي بنى المعظمية.
وَكَانَ عَاقِلًا قَلِيلَ الْكَلَامِ مُطِيعًا لِأَخِيهِ الْمُعَظَّمِ، وَدُفِنَ عِنْدَهُ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرَ رمضان ببستانه الناعمة من لهيا (3) رحمه الله وعفا عنه.
أبو المحاسن محمد بن نصر الدين بن نصر ابن الحسين بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبٍ الْأَنْصَارِيُّ، المعروف بابن عُنين الشاعر.
قَالَ ابْنُ السَّاعِي أَصْلُهُ مِنَ الْكُوفَةِ وَوُلِدَ بِدِمَشْقَ وَنَشَأَ بِهَا، وَسَافَرَ عَنْهَا سِنِينَ، فَجَابَ الأقطار والبلاد شرقا
(1) قال ابن خلكان 4 / 120: توفيت بدمشق في شعبان سنة 643، وغالب ظني أنها جاوزت ثمانين سنة، ودفنت في مدرستها الموقوفة على الحنابلة بسفح قاسيون.
(2)
قال في الوفيات: سيروه مع الركب إلى الحجاز، فرجع الحاج تلك السنة من لينة - وهي منزلة في طريق الحجاز من جهة العراق - لعدم الماء وقاسوا مشقة عظيمة، ولم يصلوا إلى مكة فردوه ودفنوه بالكوفة بالقرب من المشهد.
(3)
وهي قرية بيت لهيا.
من صالحية دمشق.
(*)
وَغَرْبًا وَدَخَلَ الْجَزِيرَةَ وَبِلَادَ الرُّومِ وَالْعِرَاقَ وَخُرَاسَانَ وما وراء النهر والهند واليمن والحجاز وَبَغْدَادَ، وَمَدَحَ أَكْثَرَ أَهْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَحَصَّلَ أموالاً جزيلة، وكان ظريفاً شاعراً مطيقاً مَشْهُورًا، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ، وَقَدْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ دِمَشْقَ فَكَانَ بِهَا حَتَّى مَاتَ هَذِهِ السَّنَةَ فِي قَوْلِ ابْنِ السَّاعِي، وَأَمَّا السبط وغيره فأرخوا وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَقَدْ قِيلَ إنه مات في سنة إحدى وثلاثين والله أعلم.
والمشهور إن أصله من حوران مَدِينَةِ زَرْعٍ، وَكَانَتْ إِقَامَتُهُ بِدِمَشْقَ فِي الْجَزِيرَةِ قِبْلِيَّ الْجَامِعِ، وَكَانَ هَجَّاءً لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذلك، وصنف كتاباً سماه مقراض الأعراض، مشتمل عَلَى نَحْوٍ مِنْ خَمْسِمِائَةِ بَيْتٍ، قَلَّ مَنْ سَلِمَ مِنَ الدَّمَاشِقَةِ مِنْ شَرِّهِ، وَلَا الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ وَلَا أَخُوهُ الْعَادِلُ، وَقَدْ كَانَ يزن بترك الصلاة الْمَكْتُوبَةِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ نَفَاهُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى
الْهِنْدِ فَامْتَدَحَ مُلُوكَهَا وَحَصَّلَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَصَارَ إِلَى الْيَمَنِ فَيُقَالُ إِنَّهُ وَزَرَ لِبَعْضِ مُلُوكِهَا، ثُمَّ عَادَ فِي أَيَّامِ الْعَادِلِ إِلَى دِمَشْقَ وَلَمَّا مَلَكَ الْمُعَظَّمُ اسْتَوْزَرَهُ فَأَسَاءَ السِّيرَةَ وَاسْتَقَالَ هُوَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فَعَزَلَهُ، وَكَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَى الدَّمَاشِقَةِ مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ: فَعَلَامَ أَبْعَدْتُمْ أَخَا ثقةٍ * لَمْ يقترف ذَنْبًا وَلَا سَرَقَا؟ انْفُوا الْمُؤَذِّنَ مِنْ بِلَادِكُمُ * إِنْ كَانَ يُنْفَى كُلُّ مَنْ صَدَقَا وَمِمَّا هَجَا بِهِ الْمَلِكَ النَّاصِرَ صَلَاحَ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: سُلْطَانُنَا أَعْرَجٌ وَكَاتِبُهُ * ذُو عمشٍ ووزيره أحدبُ وَالدَّوْلَعِيُّ الْخَطِيبُ مُعْتَكِفٌ * وَهْوَ عَلَى قِشْرِ بيضةٍ يثبُ ولابن باقا وعظ يغش بِهِ النَّ * اسَ وَعَبْدُ اللَّطِيفِ محتسبُ وَصَاحِبُ الْأَمْرِ خُلْقُهُ شَرِسٌ * وَعَارِضُ الْجَيْشِ دَاؤُهُ عجبُ وَقَالَ فِي السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ سَيْفِ الدِّينِ رحمه الله تعالى وعفا عنه: إِنَّ سُلْطَانَنَا الَّذِي نَرْتَجِيهِ * وَاسِعُ الْمَالِ ضَيِّقُ الأنفاقِ هُوَ سَيْفٌ كَمَا يُقَالُ وَلَكِنْ * قَاطِعٌ لِلرُّسُومِ والأرزاقِ وَقَدْ حَضَرَ مَرَّةً مَجْلِسَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ بِخُرَاسَانَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَعِظُ النَّاسَ، فَجَاءَتْ حَمَامَةٌ خَلْفَهَا جَارِحٌ فَأَلْقَتْ نَفْسَهَا عَلَى الْفَخْرِ الرَّازِيِّ كَالْمُسْتَجِيرَةِ بِهِ، فَأَنْشَأَ ابْنُ عُنَيْنٍ يَقُولُ: جَاءَتْ سُلَيْمَانَ الزَّمَانِ حَمَامَةٌ (1) * وَالْمَوْتُ يَلْمَعُ من جناحي خاطف فرم لَوَاهُ الْجُوعُ حَتَّى ظِلُّهُ * بِإِزَائِهِ [يَجْرِي](2) بِقَلْبٍ واجف
(1) في ابن خلكان 4 / 251: بشكوها بدل حمامة.
(2)
من ابن خلكان.
(*)
مَنْ أَعْلَمَ (1) الْوَرْقَاءَ أَنَّ مَحَلَّكُمْ * حَرَمٌ وَأَنَّكَ مَلْجَأٌ لِلْخَائِفِ الشَّيخ شِهَابُ الدِّين السُّهْرَوَرْدِيُّ
صَاحِبُ عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ، عُمَرُ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ محمد بن حمويه (2) ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ الْبِكْرِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، شِهَابُ الدِّينِ أبو حفص السهروردي، شيخ الصوفية ببغداد، كان مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ وَسَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرَدَّدَ فِي الرَّسْلِيَّةِ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ مِرَارًا، وَحُصِّلَتْ لَهُ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ فَفَرَّقَهَا بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَقَدْ حَجَّ مَرَّةً وَفِي صُحْبَتِهِ خَلْقٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ لا يعلمهم إلا الله عزوجل، وكانت فيه مروءة وإغاثة للملهوفين، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ الْبِذْلَةِ، قَالَ مرة في ميعاده هذا البيت وكرره: ما في الصحاب أخو وجد تطارحه * إلا محب له في الركب محبوب فقام شاب وكان في المجلس فأنشده: كأنما يوسف في كل راحلة * وله وفي كُلِّ بَيْتٍ مِنْهُ يَعْقُوبُ فَصَاحَ الشَّيْخُ وَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَقَصَدَ الشَّابَّ لِيَعْتَذِرَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجِدْهُ وَوَجَدَ مَكَانَهُ حُفْرَةً فِيهَا دَمٌ كَثِيرٌ مِنْ كَثْرَةِ مَا كَانَ يَفْحَصُ بِرِجْلَيْهِ عِنْدَ إنشاد الشيخ البيت.
وذكر له ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ أَنَاشِيدِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا، وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ (3) وَلَهُ ثَلَاثٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ابن الأثير مصنف أسد الغابة والكامل هُوَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ عِزُّ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الشَّيْبَانِيُّ الْجَزَرِيُّ الْمَوْصِلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَثِيرِ مُصَنِّفُ كتاب أُسُد الْغَابَةِ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَكِتَابِ الْكَامِلِ فِي التَّارِيخِ وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِهَا حَوَادِثَ، ابْتَدَأَهُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ إِلَى سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدْ كان يتردد إلى بغداد خَصِيصًا عِنْدَ مُلُوكِ الْمَوْصِلِ، وَوَزَرَ لِبَعْضِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَقَامَ بِهَا فِي آخِرِ عُمْرِهِ مُوَقَّرًا مُعَظَّمًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بِهَا فِي شعبان فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً رحمه الله.
وأما أخوه أَبُو السَّعَادَاتِ الْمُبَارَكُ فَهُوَ مُصَنِّفُ كِتَابِ جَامِعِ الْأُصُولِ وَغَيْرِهِ، وَأَخُوهُمَا الْوَزِيرُ ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ اللَّهِ كَانَ وَزِيرًا لِلْمَلِكِ الْأَفْضَلِ عَلِيِّ بْنِ النَّاصِرِ فَاتِحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، صَاحِبِ دمشق كما
(1) في ابن خلكان: من نبأ.
(2)
ذكره ابن خلكان 3 / 446: عُمَرُ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عمويه.
(3)
في الوفيات المطبوع 3 / 448: توفي في مستهل المحرم 632 ببغداد، ودفن من الغد بالوردية.
(*)