الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابْنُ السَّاعِي الْمُؤَرِّخُ (1) تَاجُ الدِّينِ بْنُ الْمُحْتَسِبِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّاعِي الْبَغْدَادِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَاعْتَنَى بِالتَّارِيخِ، وَجَمَعَ وَصَنَّفَ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْحَافِظِ وَلَا الضَّابِطِ الْمُتْقِنِ.
وَقَدْ أَوْصَى إِلَيْهِ ابْنُ النَّجَّارِ حِينَ تُوُفِّيَ، وَلَهُ تَارِيخٌ كَبِيرٌ عِنْدِي أَكْثَرُهُ، وَمُصَنَّفَاتٌ أُخَرُ مُفِيدَةٌ، وَآخِرُ مَا صَنَّفَ كِتَابٌ فِي الزُّهَّادِ، كَتَبَ فِي حَاشِيَتِهِ زَكِيُّ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ الْكَاتِبُ: مَا زَالَ تَاجُ الدِّينِ طُولَ المدى * من عمره يعتق فِي السَّيْرِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَتَدْوِينِهِ * وَفِعْلُهُ نَفْعُ بِلَا ضَيْرِ عَلَا عَلِيٌّ بِتَصَانِيفِهِ * وَهَذِهِ خَاتِمَةُ الْخَيْرِ ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وستمائة فِي ثَالِثَ عَشَرَ (2) الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ وَسَبَقَ الْعَسَاكِرَ إِلَى بِلَادِ حَلَبَ، فَلَمَّا تَوَافَتْ إِلَيْهِ أَرْسَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَمِيرَ بَدْرَ الدِّينِ الْأَتَابِكِيَّ بِأَلْفِ فَارِسٍ إِلَى الْبُلُسْتَيْنِ (3) ، فَصَادَفَ بِهَا جَمَاعَةً مِنْ عَسْكَرِ الرُّومِ فَرَكِبُوا إِلَيْهِ وَحَمَلُوا إِلَيْهِ الْإِقَامَاتِ، وَطَلَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْجَارُ وَابْنُ الْخَطِيرِ، فَرَسَمَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا الْقَاهِرَةَ فَتَلَقَّاهُمُ الْمَلِكُ السَّعِيدُ، ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ مِنْ حَلَبَ إِلَى الْقَاهِرَةِ فَدَخَلَهَا فِي ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ.
وَفِي خَامِسِ جُمَادَى الْأُولَى عَمِلَ السُّلْطَانُ عُرْسَ وَلَدِهِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ عَلَى بِنْتِ قَلَاوُونَ، وَاحْتَفَلَ السُّلْطَانُ بِهِ احْتِفَالًا عَظِيمًا، وَرَكِبَ الْجَيْشُ فِي الْمَيْدَانِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَلْعَبُونَ وَيَتَطَارَدُونَ،
وَيَحْمِلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ خَلَعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَأَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ، وَكَانَ مبلغ ما خلع ألف وثلثمائة خِلْعَةٍ بِمِصْرَ، وَجَاءَتْ مَرَاسِيمُهُ إِلَى الشَّامِ بِالْخِلَعِ عَلَى أَهْلِهَا، وَمَدَّ السُّلْطَانُ سِمَاطًا عَظِيمًا حَضَرَهُ الخاص والعام، والشارد والوارد، وحبس فِيهِ رُسُلُ التَّتَارِ وَرُسُلُ الْفِرِنْجِ وَعَلَيْهِمْ كُلِّهِمُ الْخِلَعُ الْهَائِلَةُ، وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا، وَحَمَلَ صَاحِبُ حَمَاةَ هَدَايَا عَظِيمَةً وَرَكِبَ إِلَى مِصْرَ لِلتَّهْنِئَةِ.
وَفِي حَادِي عَشَرَ شَوَّالٍ طِيفَ بِالْمَحْمَلِ وَبِكُسْوَةِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ بِالْقَاهِرَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَقْعَةُ الْبُلُسْتَيْنِ وَفَتْحُ قَيْسَارِيَّةَ
رَكِبَ السُّلْطَانُ مِنْ مِصْرَ فِي الْعَسَاكِرِ فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي سَابِعَ عَشَرَ شوال، فأقام بها ثلاثة
(1) وهو علي بن أنجب بن عثمان بن عبيد الله السلامي.
(2)
في تاريخ الملك الظاهر 2 / 139: الأربعاء الثالث من المحرم.
(3)
وترسم أيضا الابلستين، مدينة ببلاد الروم، واسمها الحالي البستان (ياقوت) .
(*)
أَيَّامٍ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى دَخَلَ حَلَبَ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَقَامَ بِهَا يَوْمًا وَرَسَمَ لِنَائِبِ حَلَبَ أَنْ يُقِيمَ بِعَسْكَرِ حَلَبَ عَلَى الفرات لحفظ المنائر (1) ، وَسَارَ السُّلْطَانُ فَقَطَعَ الدَّرْبَنْدَ (2) فِي نِصْفِ يَوْمٍ، وَوَقَعَ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَغُولِ فَهَزَمَهُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ تَاسِعَ ذِي الْقَعْدَةِ وَصَعِدَ الْعَسْكَرُ عَلَى الْجِبَالِ فَأَشْرَفُوا عَلَى وَطْأَةِ الْبُلُسْتَيْنِ فَرَأَوُا التَّتَارَ قَدْ رَتَّبُوا عَسْكَرَهُمْ وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَعَزَلُوا عَنْهُمْ عَسْكَرَ الرُّومِ خَوْفًا مِنْ مُخَامَرَتِهِمْ، فَلَمَّا تراأى الْجَمْعَانِ حَمَلَتْ مَيْسَرَةُ التَّتَارِ فَصَدَمَتْ سَنَاجِقَ (3) السُّلْطَانِ، وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُمْ فَشَقُّوهَا، وَسَاقَتْ إِلَى الْمَيْمَنَةِ، فَلَمَّا رَأَى السُّلْطَانُ ذَلِكَ أَرْدَفَ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ لَاحَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ فَرَأَى الْمَيْسَرَةَ قَدْ كَادَتْ أَنْ تَتَحَطَّمَ فَأَمَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ بِإِرْدَافِهَا، ثُمَّ حَمَلَ الْعَسْكَرُ جَمِيعُهُ حَمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى التَّتَارِ فَتَرَجَّلُوا إِلَى الْأَرْضِ عَنْ آخِرِهِمْ، وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ صَبْرًا عَظِيمًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَحَاطَتْ بِالتَّتَارِ الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا جَمَاعَةٌ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ ضِيَاءُ الدين بن
الخطير، وسيف الدين قيماز، وسيف الدين بنجو الجاشنكير (4) ، وعز الدين أيبك الثقفي (5) ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْمَغُولِ، وَمِنْ أُمَرَاءِ الرُّومِ، وَهَرَبَ الْبَرْوَانَاهْ فَنَجَا بِنَفْسِهِ، وَدَخَلَ قَيْسَارِيَّةَ فِي بُكْرَةِ الْأَحَدِ ثَانِي عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ (6) ، وَأَعْلَمَ أُمَرَاءُ الرُّومِ مَلِكَهُمْ بِكَسْرَةِ التَّتَارِ عَلَى الْبُلُسْتَيْنِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِالْهَزِيمَةِ فَانْهَزَمُوا مِنْهَا وَأَخْلَوْهَا، فَدَخَلَهَا الْمَلِكُ الظَّاهِرُ وَصَلَّى بِهَا الْجُمُعَةَ سَابِعَ (7) ذِي الْقَعْدَةِ، وَخُطِبَ لَهُ بِهَا، ثُمَّ كَرَّ راجعاً مؤيداً منصوراً.
وسارت الْبَشَائِرُ إِلَى الْبُلْدَانِ فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ بِنَصْرِ الله.
وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ هَذِهِ الْوَقْعَةِ أَبْغَا جَاءَ حَتَّى وَقَفَ بِنَفْسِهِ وَجَيْشِهِ، وَشَاهَدَ مَكَانَ الْمَعْرَكَةِ وَمَنْ فِيهَا مِنْ قَتْلَى الْمَغُولِ، فَغَاظَهُ ذَلِكَ وَأَعْظَمَهُ وَحَنَقَ عَلَى الْبَرْوَانَاهْ إِذْ لَمْ يُعْلِمْهُ بجلية الحال، وكان يظن أَمْرَ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ دُونَ هَذَا كُلِّهِ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَى أَهْلِ قَيْسَارِيَّةَ وَأَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَقِيلَ قَتَلَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ قَيْسَارِيَّةَ وَأَرْزَنِ الرُّومِ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ حَبِيبٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون.
(1) في تاريخ الملك الظاهر 2 / 158: المعابر.
(2)
في تاريخ الملك الظاهر 2 / 159 والروض الزاهر ص 458: أقجادربند.
وهي قرية على فم الطريق الجبلي بين نهر كوكصو (الازرق) والبلستين (صبح الاعشى 14 / 143) .
(3)
سناجق ومفردها سنجق، ومعناه الرمح.
والمراد هنا الفرسان المكلفون حمل رايات السلطان في أعلى الرماح، ومهمتهم رفع معنويات العسكر ويكونون عادة في الوسط (الصبح 5 / 458) .
(4)
الجاشنكير: هو الذي يتصدى لذوقان المأكول والمشروب قبل السلطان أو الامير خوفاً من أن يدس عليه فيه سم ونحوه.
وهو مركب من لفظين فارسيين: جاشنا: ومعناه الذوق، وكير: بمعنى التعاطي (صبح الاعشى 5 / 460) .
(5)
كذا بالاصل، وفي تاريخ الملك الظاهر 2 / 161 واليونيني 3 / 177: الشقيقي.
(6)
في تاريخ الملك الظاهر 2 / 162: ذي الحجة.
والصواب ما أثبتناه.
(7)
كذا بالاصل، وفي تاريخ الملك الظاهر: السابع عشر وهو الاصح.
(*)