الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والنفوس إنما تؤثر الراحة والبطالة، ولا سيما أصحاب البساتين في أيام الفواكه وكثرت الشهوات في تلك الأيام ولا سيما القضاة.
وفيها توفي:
الملك السعيد صاحب ماردين نَجْمُ الدِّينِ بْنُ إِيلْ غَازِي بْنُ الْمَنْصُورِ ارتق بن أرسلان بن أيل غازي بن السني بن تمرتاش ابن أيل غازي بن أريثي وكان شجاعاً ملك يوماً، وقد وقع فِي قَلْعَتِهِ تَوْرَانْ شَاهِ بْنُ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدين كان نائباً للملك الظاهر بن العزيز بن الظاهر بن الناصر صاحب دمشق على حلب، وَقَدْ حَصَّنَ حَلَبَ مِنْ أَيْدِي الْمَغُولِ مُدَّةَ شهر، ثم تسلمها بعد محاصرة شديدة صلحا.
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ بِدِهْلِيزِ دَارِهِ.
وَفِيهَا قُتِلَ: الْمَلِكُ السَّعِيدُ حَسَنُ بْنُ عبد العزيز (1) ابن الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، كَانَ صَاحِبَ الصُّبَيْبَةِ وَبَانِيَاسَ بَعْدَ أَبِيهِ (2) ، ثُمَّ أُخِذَتَا مِنْهُ
وحبس بقلعة المنيرة (3) ، فَلَمَّا جَاءَتِ التَّتَارُ كَانَ مَعَهُمْ وَرَدُّوا عَلَيْهِ بِلَادَهُ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ عَيْنِ جَالُوتَ أُتي به أسيراً إلى بين يدي الْمُظَفَّرِ قُطُزَ فَضُرِبَ عُنُقُهُ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ لبس سرقوج (4) التتار وناصحهم على المسلمين.
عبد الرحمن بن عبد الرحيم بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طَاهِرِ ابن محمد بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، شَرَفُ الدِّينِ بْنُ الْعَجَمِيِّ الْحَلَبِيُّ الشَّافِعِي، مِنْ بَيْتِ الْعِلْمِ وَالرِّئَاسَةِ بِحَلَبَ، دَرَّسَ بِالظَّاهِرِيَّةِ وَوَقَفَ مدرسة بها ودفن بها، توفي حين دخلت لتتار حلب في صفر، فعذبوه وصبوا عَلَيْهِ مَاءً بَارِدًا فِي الشِّتَاءِ فَتَشَنَّجَ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَيْفُ الدِّينِ التُّرْكِيُّ، أَخَصُّ مماليك المعز التركماني، أحد مماليك الصالح أيوب بن
(1) وهو العزيز عثمان بن العادل.
(2)
توفي أبوسنة 630 هـ فقام مكانه ابنه الظاهر ثم مات سنة 631 هـ فتملك حسن هذا بعده انتزع منه نجم الدين أيوب الصبيبة وأعطاه " خبزا بالقاهرة " كما في ذيل مرآة الزمان.
وفي العبر " وأعطاه امرة مصر ".
ولما ملك الناصر الشام أخذه واعتقله بقلعة البيرة.
(ذيل مرآة الزمان 2 / 16 العبر 5 / 245 الوافي بالوفيات 12 / 100) .
(3)
كذا بالاصل، وهو تحريف والصواب: البيرة.
(4)
في العبر: سراقوس، وفي هامش مرآة الزمان: السراقوج: قبعة مغولية.
(*)
الكامل.
لَمَّا قُتِلَ أُسْتَاذُهُ الْمُعِزُّ قَامَ فِي تَوْلِيَةِ ولده نور الدين المنصور عَلِيٍّ، فَلَمَّا سَمِعَ بِأَمْرِ التَّتَارِ خَافَ أَنْ تختلف الكلمة لصغر ابْنِ أُسْتَاذِهِ فَعَزَلَهُ وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَبُويِعَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ كما تقدم، ثم سار إلى التتار فَجَعَلَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ نُصْرَةَ الْإِسْلَامِ كَمَا ذكرنا، وقد كان شجاعاً بطلاً كثير الخير ناصحاً للإسلام وأهله، وكان الناس يحبونه ويدعون له كثيراً.
ذكر عنه أنه لما كان يوم المعركة بعين جَالُوتَ قُتِلَ جَوَادُهُ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا فِي السَّاعة الرَّاهنة مِنَ الْوَشَاقِيَّةِ الَّذِينَ مَعَهُمُ الْجَنَائِبُ، فترجل وبقي واقفاً على الأرض ثابتاً، والقتال عمال في المعركة، وهو في موضع
السلطان مِنَ الْقَلْبِ، فَلَمَّا رَآهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ تَرَجَّلَ عن فرسه وحلف على السلطان ليركبنها فامتنع وقال لذلك الأمير: مَا كُنْتُ لِأَحْرِمَ الْمُسْلِمِينَ نَفْعَكَ.
وَلَمْ يَزَلْ كذلك حتى جاءته الوشاقية بالخيل فَرَكِبَ، فَلَامَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ وَقَالَ: يَا خُونْدُ لم لا ركبت فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لَقَتَلَكَ وَهَلَكَ الْإِسْلَامُ بِسَبَبِكَ، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَرُوحُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَهُ رَبٌّ لَا يُضَيِّعُهُ، قَدْ قُتِلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وفلان حتى عد خلقا من الملوك، فأقام للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضيع الإسلام.
رحمه الله وكان حين سار من مصر فِي خِدْمَتِهِ خَلْقٌ مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ الْبَحْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَعَهُ الْمَنْصُورُ صَاحِبُ حَمَاةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ.
فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ حَمَاةَ يَقُولُ له لا تتعني في مد سِمَاطٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلْيَكُنْ مَعَ الْجُنْدِيِّ لحمة يَأْكُلُهَا، وَالْعَجَلَ الْعَجَلَ، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُ مَعَ عَدُوِّهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ يوم الجمعة، وَهَذِهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ وَقْعَةَ بَدْرٍ كَانَتْ يوم الجمعة في رمضان، وكان فيها نصر الإسلام.
وَلَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ فِي شَوَّالٍ أَقَامَ بِهَا العدل ورتب الأمور، وأرسل بيبرس خَلْفَ التَّتَارِ لِيُخْرِجَهُمْ وَيَطْرُدَهُمْ عَنْ حَلْبَ، وَوَعْدَهُ بنيابتها فلم يف له لما رآه من المصلحة (1) ، فَوَقَعَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَلَمَّا عَادَ إلى مصر تمالا عليه الأمراء مع بيبرس فقتلوه بين القرابي وَالصَّالِحِيَّةِ (2) وَدُفِنَ بِالْقَصْرِ، وَكَانَ قَبْرُهُ يُزَارُ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ الظَّاهِرُ مِنِ الْمُلْكِ بَعَثَ إِلَى قَبْرِهِ فغيبه عن الناس، وكان لا يعرف بعد ذلك، قتل يَوْمَ السَّبت سَادِسَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ رحمه الله.
وَحَكَى الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ فِي الذَّيْلِ عَلَى الْمِرْآةِ عَنِ الشَّيْخِ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ غَانِمٍ عَنِ الْمَوْلَى تَاجِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَثِيرِ كَاتِبِ السِّرِّ فِي أَيَّامِ النَّاصِرِ صَاحِبِ دمشق، قال: لما كنا مع الناصر بوطاه برزه جاءت البريدية بخبر أن قطز قد تولى الملك بمصر، فقرأت ذلك على السلطان، فقال:
(1) تقدم أنه فوض نيابة حلب إلى الملك السعيد بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وبعد أن استقر السعيد في نيابة حلب سار سيرة رديئة وكان دأبه التحيل على أخذ مال الرعية.
وفي الروض الزاهر ص 67: ان الملك صار يظهر تكبرا وتغيرت نيته وفهم السلطان منه ذلك وطلب السلطان أن يفعل في الجهاد شيئا يشكره الله والناس عليه والملك المظفر يمنعه لئلا ينفرد السلطان بالذكر الحسن دونه (وانظر السلوك 1 / 435 والنجوم 7 / 82، 101) .
(2)
الصالحية: قرية بناها الصالح أيوب لجنده في منطقة السانح على طرف المنطقة الرملية في الطريق بين مصر والشام (السلوك 1 / 330) .
(*)
اذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَأَخْبِرْهُمْ بِهَذَا، قَالَ: فلما خرجت عنه لَقِيَنِي بَعْضُ الْأَجْنَادِ فَقَالَ لِي: جَاءَكُمُ الْخَبَرُ من مصر بِأَنَّ قُطُزَ قَدْ تَمَلَّكَ؟ فَقُلْتُ: مَا عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمٌ وَمَا يُدْرِيكَ أَنْتَ بِهَذَا؟ فقال: بلى والله سَيَلِي الْمَمْلَكَةَ وَيَكْسِرُ التَّتَارَ، فَقُلْتُ مِنْ أَيْنَ تَعْلَمُ هَذَا؟ فَقَالَ: كُنْتُ أَخْدِمُهُ وَهُوَ صَغِيرٌ وَكَانَ عَلَيْهِ قَمْلٌ كَثِيرٌ فَكُنْتُ أَفْلِيهِ وَأُهِينُهُ وأذمه، فقال لي يوماً: ويلك إيش تريد أُعْطِيَكَ إِذَا مَلَكْتُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ؟ فَقُلْتُ لَهُ أَنْتَ مَجْنُونٌ؟ فَقَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ وَقَالَ لِي: أَنْتَ تَمْلِكُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ وَتَكَسِرُ التَّتَارَ، وَقَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ لَا شكَّ فِيهِ، فَقُلْتُ لَهُ حِينَئِذٍ - وَكَانَ صَادِقًا - أُرِيدُ مِنْكَ إِمْرَةَ خَمْسِينَ فَارِسًا، فقال: نعم أبشر.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: فَلَمَّا قَالَ لِي هَذَا قلت له: هَذِهِ كُتُبُ الْمِصْرِيِّينَ بِأَنَّهُ قَدْ تَوَلَّى السَّلْطَنَةَ، فقال والله ليكسرن التتار، وكان كذلك، وَلَمَّا رَجَعَ النَّاصِرُ إِلَى نَاحِيَةِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَأَرَادَ دُخُولَهَا وَرَجَعَ عَنْهَا وَدَخَلَهَا أَكْثَرُ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ كَانَ هَذَا الْأَمِيرُ الْحَاكِي فِي جُمْلَةِ مَنْ دَخَلَهَا، فَأَعْطَاهُ الْمُظَفَّرُ إِمْرَةَ خَمْسِينَ فَارِسًا، ووفى له بالوعد، وهو الأمير جمال الدين التركماني.
قال ابن الأثير: فلقيني بمصر بَعْدَ أَنْ تَأَمَّرَ فَذَكَّرَنِي بِمَا كَانَ أَخْبَرَنِي عَنِ الْمُظَفَّرِ، فَذَكَرْتُهُ ثمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ التَّتَارِ على إثر ذلك فكسرهم وطردهم عن البلاد وقد روي عنه أنه لما رأى عصائب التتار قال للأمراء والجيوش الذين معه: لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس وتفئ الظلال وتهب الرياح، ويدعوا لنا الخطباء والناس في صلاتهم، رحمه الله تعالى.
وفيها هلك كتبغانوين نائب هولاكو على بلاد الشام لعنه اللَّهُ، وَمَعْنَى نُوِينَ يَعْنِي أَمِيرَ عَشَرَةِ آلَافٍ، وكان هذا الخبيث قد فتح لأستاذه هولاكو مِنْ أَقْصَى بِلَادِ الْعَجَمِ إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ أدرك جنكيزخان جد هولاكو، وكان كتبغا هذا يعتمد في حروبه للمسلمين أشياء لم يسبقه أحد إليها، كان إذا فتح بلداً ساق مقاتلة هذا البلد إلى البلد الآخر الذي يليه، ويطلب من أهل ذلك البلد أن يؤوا هَؤُلَاءِ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ فَعَلُوا حَصَلَ مَقْصُودُهُ فِي تَضْيِيقِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ عَلَيْهِمْ، فَتَقْصُرُ مُدَّةُ
الْحِصَارِ عليه لما ضاق على أهل البلد من أقواتهم، وإن امتنعوا من إيوائهم عندهم قاتلهم بأولئك المقاتلة الذين هم أهل البلد الذي فتحه قبل ذلك، فإن حَصَلَ الْفَتْحُ وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَضْعَفَ أُولَئِكَ بهؤلاء حتى يفني تلك المقاتلة، فإن حصل الفتح وإلا قاتلهم بجنده وأصحابه مع راحة أصحابه وتعب أهل البلد وضعفهم حتى يفتحهم سريعاً.
وكان يبعث إلى الحصن يقول: إن ماءكم قد قلَّ فنخشى أن نأخذكم عنوة فنقتلكم عن آخركم ونسبي نساءكم وأولادكم فما بقاؤكم بعد ذهاب مائكم، فَافْتَحُوا صُلْحًا قَبْلَ أَنْ نَأْخُذَكُمْ قَسْرًا فَيَقُولُونَ له: إِنَّ الْمَاءَ عِنْدَنَا كَثِيرٌ فَلَا نَحْتَاجُ إِلَى مَاءٍ.
فَيَقُولُ لَا أُصَدِّقُ حَتَّى أَبْعَثَ مِنْ عِنْدِي مَنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا انصرفت عنكم، فيقولون: ابعث من يشرف عليه، فَيُرْسِلُ رِجَالًا مِنْ جَيْشِهِ مَعَهُمْ رِمَاحٌ مُجَوَّفَةٌ محشوة سماً، فإذا دخلوا الحصن الذي قد أعياه ساطوا ذلك الماء بتلك الرماح على أنهم يفتشونه ويعرفون قدره، فينفتح ذلك السم ويستقر في ذلك الْمَاءِ فَيَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ لعنه الله لعنة تدخل معه قبره.
وكان
شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَسَنَّ وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى دين النصارى ولكن لا يمكنه الخروج من حكم جنكيزخان فِي الْيَاسَاقِ (1) .
قَالَ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ: وَقَدْ رَأَيْتُهُ بِبَعْلَبَكَّ حِينَ حَاصَرَ قَلْعَتَهَا، وَكَانَ شيخاً حسناً له لحية طويلة مسترسلة قد ضفرها مثل الدبوقة، وتارة يعلقها من خلفه بِأُذُنِهِ، وَكَانَ مَهِيبًا شَدِيدَ السَّطْوَةِ، قَالَ: وَقَدْ دَخَلَ الْجَامِعَ فَصَعِدَ الْمَنَارَةَ لِيَتَأَمَّلَ الْقَلْعَةَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ الْغَرْبِيِّ فَدَخَلَ دُكَّانًا خَرَابًا فَقَضَى حَاجَتَهُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ مكشوف العورة، فلما فرغ من حاجته مَسَحَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِقُطْنٍ مُلَبَّدٍ مَسْحَةً وَاحِدَةً.
قال ولما بلغه خروج المظفر بالعساكر من مصر تلوم في أمره وحار ماذا يفعل، ثم حملته نفسه الأبية على لقائه، وظن أنه منصور على جاري عَادَتُهُ، فَحَمَلَ يَوْمئِذٍ عَلَى الْمَيْسَرَةِ فَكَسَرَهَا ثُمَّ أيد الله المسلمين وثبتهم في المعركة فَحَمَلُوا حَمْلَةً صَادِقَةً عَلَى التَّتَارِ فَهَزَمُوهُمْ هَزِيمَةً لا تجبر أبدا، وقتل أميرهم كتبغانوين فِي الْمَعْرَكَةِ وَأُسِرَ ابْنُهُ، وَكَانَ شَابًّا حَسَنًا، فَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدِيِ الْمُظَفَّرِ قُطُزَ فَقَالَ لَهُ أَهَرَبَ أَبُوكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَهْرُبُ، فَطَلَبُوهُ
فَوَجَدُوهُ بَيْنَ الْقَتْلَى، فَلَمَّا رَآهُ ابْنُهُ صَرَخَ وبكى، فلما تحققه المظفر سجد لله تعالى ثمَّ قال: أنام طَيِّبًا.
كَانَ هَذَا سَعَادَةُ التَّتَارِ وَبِقَتْلِهِ ذَهَبَ سَعْدُهُمْ، وَهَكَذَا كَانَ كَمَا قَالَ وَلَمْ يُفْلِحُوا بَعْدَهُ أَبَدًا، وَكَانَ قَتْلُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْخَامِسَ والعشرين من رمضان، وكان الذي قتله الأمير آقوش الشمسي رحمه الله.
الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْفَقِيهُ الْيُونِينِيُّ الْحَنْبَلِيُّ الْبَعْلَبَكّيُّ الْحَافِظُ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى بْنِ أَبِي الرِّجَالِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقُ، كذا نقل هذه النسبة الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ مِنْ خَطِّ أَخِيهِ الْأَكْبَرِ أَبِي الْحُسَيْنِ عَلِيٍّ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ وَالِدَهُ قَالَ لَهُ نَحْنُ مِنْ سُلَالَةِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، قال وإنما قال له هذا عند الموت ليتخرج من قبول الصدقات.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْيُونِينِيُّ الْحَنْبَلِيُّ تَقِيُّ الدِّينِ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الْحَافِظُ الْمُفِيدُ البارع العابدة النَّاسِكُ، وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الخشوعي وحنبلاً الكندي والحافظ عبد الغني وكان يثني عليه، وتفقه على الموفق، ولزم الشيخ عبد الله اليونيني فانتفع بِهِ، وَكَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ يُثْنِي عَلَيْهِ ويقدمه ويقتدي به في الفتاوى، وقد لبس الخرقة من شيخ شيخه عبد الله البطائحي،
(1) الياساق أو الياسا أو السياسة: وهي مجموعة القوانين التي خمنها جنكيزخان وقررها من ذهنه، رتب فيها أحكاما وحدد فيها حدودا أكثرها مخالف للشريعة المحمدية لذلك سماها الياسا الكبرى وقد اكتتبها وأمر أن تجعل في خزائنه تتوارث عنه في أعقابه وأن يتعلمها صغار أهل بيته (خطط المقريزي 3 / 60 صبح الاعشى 4 / 310) .
(*)
وَبَرَعَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَحِفِظَ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ بِالْفَاءِ وَالْوَاوِ، وَحِفِظَ قِطْعَةً صَالِحَةً مِنْ مسند أحمد، وكان يعرف العربية أخذها عَنِ التَّاجِ الْكِنْدِيِّ، وَكَتَبَ مَلِيحًا حَسَنًا، وَكَانَ الناس ينتفعون بفنونه الكثيرة، ويأخذون عنه الطرق الحسنة، وقد حصلت له وجاهة عظيمة عند الملوك، توضأ مرة عند الملك الأشرف بِالْقَلْعَةِ حَالَ سَمَاعِ الْبُخَارِيِّ عَلَى الزَّبِيدِيِّ، فَلَمَّا فرغ من الوضوء نفض السلطان تخفيفته وَبَسَطَهَا عَلَى الْأَرْضِ لِيَطَأَ عَلَيْهَا، وَحَلَفَ السُّلْطَانُ له إنها طاهرة ولا بد أن يطأ
برجليه عليها ففعل ذلك.
وقدم الكامل على أخيه الأشرف دمشق فأنزله الْقَلْعَةَ وَتَحَوَّلَ الْأَشْرَفُ لِدَارِ السَّعَادَةِ وَجَعَلَ يَذْكُرُ للكامل محاسن الشيخ الفقيه، فقال الكامل: أحب أَنْ أَرَاهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ إِلَى بَعْلَبَكَّ بِطَاقَةً واستحضره فَوَصَلَ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، فَنَزَلَ الْكَامِلُ إِلَيْهِ وتحادثا وتذاكرا شيئاً من العلم، فجرت مَسْأَلَةُ الْقَتْلِ بِالْمُثَقِّلِ، وَجَرَى ذِكْرُ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ الَّتِي قَتَلَهَا الْيَهُودِيُّ فَرَضَّ رَأْسَهَا بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِ، فَقَالَ الْكَامِلُ: إِنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ.
فَقَالَ الشَّيْخُ الْفَقِيهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ " فَاعْتَرَفَ "، فَقَالَ الْكَامِلُ: أَنَا اخْتَصَرْتُ صَحِيحَ مُسْلِمٍ وَلَمْ أَجِدْ هذا فيه، فَأَرْسَلَ الْكَامِلُ فَأَحْضَرَ خَمْسَ مُجَلَّدَاتِ اخْتِصَارِهِ لِمُسْلِمٍ، فأخذ الكامل مجلداً والأشرف آخر وعماد الدين بن موسك آخر وَأَخَذَ الشَّيْخُ الْفَقِيهُ مُجَلَّدًا فَأَوَّلَ مَا فَتَحَهُ وَجَدَ الْحَدِيثَ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْفَقِيهُ، فَتَعَجَّبَ الْكَامِلُ مِنَ اسْتِحْضَارِهِ وَسُرْعَةِ كَشْفِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَأَرْسَلَهُ الْأَشْرَفُ سَرِيعًا إِلَى بَعْلَبَكَّ، وَقَالَ لِلْكَامِلِ: إِنَّهُ لَا يُؤْثِرُ بِبَعْلَبَكَّ شَيْئًا، فَأَرْسَلَ لَهُ الْكَامِلُ ذَهَبًا كَثِيرًا، قَالَ وَلَدُهُ قُطْبُ الدِّينِ: كَانَ وَالِدِي يَقْبَلُ بِرَّ الْمُلُوكِ وَيَقُولُ أَنَا لِي فِي بَيْتِ الْمَالِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، وَلَا يَقْبَلُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَلَا مِنَ الْوُزَرَاءِ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ هَدِيَّةَ مَأْكُولٍ وَنَحْوِهِ، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ فَيَقْبَلُونَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ وَالِاسْتِشْفَاءِ.
وَذُكِرَ أَنَّهُ كَثُرَ مَالُهُ وَأَثْرَى، وَصَارَ لَهُ سَعَةٌ مِنَ الْمَالِ كَثِيرَةٌ، وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ الْأَشْرَفَ كَتَبَ لَهُ كِتَابًا بِقَرْيَةِ يُونِيَنَ وَأَعْطَاهُ لِمُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْجَوْزِيِّ لِيَأْخُذَ عَلَيْهِ خَطَّ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا شَعَرَ وَالِدِي بِذَلِكَ أَخَذَ الْكِتَابَ وَمَزَّقَهُ وَقَالَ: أَنَا فِي غُنْيَةٍ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ وَكَانَ وَالِدِي لَا يَقْبَلُ شَيْئًا مِنَ الصدقة ويزعم أنه من ذرية علي بن أبي طالب من جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقِيرًا لَا شئ لَهُ، وَكَانَ لِلشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ زَوْجَةٌ وَلَهَا ابْنَةٌ جَمِيلَةٌ، وَكَانَ الشَّيْخُ يَقُولُ لَهَا: زَوِّجِيهَا مِنَ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ، فَتَقُولُ إِنَّهُ فَقِيرٌ وَأَنَا أحب أن تكون ابنتي سعيدة، فيقول الشيخ عبد الله كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمَا إِيَّاهُ وَإِيَّاهَا فِي دَارٍ فِيهَا بَرَكَةٌ وَلَهُ رِزْقٌ كَثِيرٌ وَالْمُلُوكُ يَتَرَدَّدُونَ إِلَى زِيَارَتِهِ، فَزَوَّجَتْهَا مِنْهُ فَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَكَانَتْ أُولَى زَوْجَاتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَتِ الملوك كلهم يحترمونه ويعظمونه ويجيئون إلى مدينته، بَنُو الْعَادِلِ وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ
كَانَ مَشَايِخُ الْفُقَهَاءِ كَابْنِ الصَّلَاحِ، وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَابْنِ الْحَاجِبِ، والحصري، وَشَمْسِ الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، وَابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَغَيْرِهِمْ يُعَظِّمُونَهُ وَيَرْجِعُونَ إِلَى قَوْلِهِ لِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وديانته