الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصَّاحِبُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ النَّحَّاسِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَدْرِ الدِّينِ يَعْقُوبَ بْنِ إبراهيم بن عبد اللَّهِ (1) بْنِ طَارِقِ بْنِ سَالِمِ بْنِ النَّحَّاسِ الْأَسَدِيُّ الْحَلَبِيُّ الْحَنَفِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ بِحَلَبَ، وَاشْتَغَلَ وَبَرَعَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً، وَدَرَّسَ بِهَا بِمَدَارِسَ كِبَارٍ، مِنْهَا الظاهرية والريحانية (2) ، وولي قضاء بِحَلَبَ وَالْوِزَارَةَ بِدِمَشْقَ، وَنَظَرَ الْخِزَانَةِ وَنَظَرَ الدَّوَاوِينِ وَالْأَوْقَافِ، وَلَمْ يَزَلْ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا مَعْرُوفًا بِالْفَضِيلَةِ وَالْإِنْصَافِ فِي الْمُنَاظَرَةِ، مُحِبًّا لِلْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَكَانَ يُحِبُّ الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَادِرِ وطائفته، توفي بِالْمِزَّةِ عَشِيَّةَ الِاثْنَيْنِ سَلْخَ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدْ جاوز الثمانين، ودفن يوم الثلاثاء مستهل سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ بِمَقْبَرَةٍ لَهُ بِالْمِزَّةِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْقُضَاةُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْوَهَّابِ بن الْقَاضِي الْأَعَزِّ أَبِي الْقَاسِمِ خَلَفِ بْنِ بَدْرٍ الْعَلَائِيُّ الشَّافِعِيُّ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى وَدُفِنَ بالقرافة بتربتهم.
ثم دخلت سنة ست وتسعين وستمائة استهلت والخليفة والسلطان ونائب مصر ونائب الشام والقضاة هم المذكورون في التي قبلها والسلطان الملك العادل كتبغا في نواحي حمص يتصيد، ومعه نائب مصر لاجين وأكابر الأمراء، ونائب الشام بدمشق وهو الأمير سيف الدين غرلو العادلي
.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي الْمُحَرَّمِ دَخَلَ السلطان كتبغا إلى دمشق وَصَلَّى الْجُمُعَةَ بِالْمَقْصُورَةِ وَزَارَ قَبْرَ هُودٍ وَصَلَّى عِنْدَهُ، وَأَخَذَ مِنَ النَّاسِ قِصَصَهُمْ بِيَدِهِ، وَجَلَسَ دار العدل في يَوْمَ السَّبْتَ وَوَقَّعَ عَلَى الْقَصَصِ هُوَ وَوَزِيرُهُ فَخْرُ الدِّينِ الْخَلِيلِيُّ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ حَضَرَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ النَّحَّاسِ فِي مَدْرَسَتَيْ أَبِيهِ الرَّيْحَانِيَّةِ (2) وَالظَّاهِرِيَّةِ وَحَضَرَ النَّاسُ عِنْدَهُ، ثُمَّ حَضَرَ السُّلْطَانُ دَارَ الْعَدْلِ يَوْمَ الثلاثاء وجاء يوم الجمعة فصلى الجمعة بِالْمَقْصُورَةِ ثُمَّ صَعِدَ فِي هَذَا الْيَوْمَ إِلَى مغارة الدم لزيارتها، وَدَعَا هُنَالِكَ وَتَصَدَّقَ بِجُمْلَةٍ مِنَ الْمَالِ، وَحَضَرَ الوزير الْخَلِيلِيِّ لَيْلَةَ الْأَحَدِ ثَالِثَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ إِلَى الْجَامِعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَجَلَسَ عِنْدَ شُبَّاكِ الْكَامِلِيَّةِ وقرأ القراؤن بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَسَمَ بِأَنْ يُكَمَّلَ دَاخِلُ الْجَامِعِ بالفرش
(1) في تذكرة النبيه 1 / 190: هبة الله.
انظر السلوك 1 / 817.
(2)
في الاصل: الزنجانية تحريف.
والمدرسة الريحانية بدمشق أنشأها خواجا ريحان الطواشي خادم نور الدين محمود بن زنكي في سنة 565 هـ (الدارس 1 / 522) .
(*)
فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ نَحَوًا مِنْ شَهْرَيْنِ ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَفِي صَبِيحَةِ هَذَا الْيَوْمِ دَرَّسَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْحَرِيرِيِّ بِالْقَيْمَازِيَّةِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ النَّحَّاسِ باتفاق بينهم، وَحَضَرَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ صَلَّى السُّلْطَانُ الْجُمُعَةَ الأخرى بِالْمَقْصُورَةِ وَمَعَهُ وَزِيرُهُ ابْنُ الْخَلِيلِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ مَرَضٍ أَصَابَهُ، وَفِي سَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ أُمِرَ لِلْمَلِكِ الْكَامِلِ بْنِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ بْنِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَادِلِ بِطَبْلَخَانَةٍ (1) وَلُبْسِ الشَّرَبُوشِ، ودخل القلعة ودقت له الكوسات على بابه، ثم خرج السلطان العادل كتبغا بالعساكر من دمشق بكرة الثُّلَاثَاءِ ثَانِي عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ، وَخَرَجَ بَعْدَهُ الْوَزِيرُ فَاجْتَازَ بِدَارِ الْحَدِيثِ، وَزَارَ الْأَثَرَ النَّبَوِيَّ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ وَشَافَهَهُ بِتَدْرِيسِ النَّاصِرِيَّةِ، وَتَرَكَ زَيْنُ الدِّينِ تَدْرِيسَ الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ فَوَلِيَهَا الْقَاضِي كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ، وَذُكِرَ أن الوزير أعطى الشيخ شَيْئًا مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا فَقَبِلَهُ، وَكَذَلِكَ أَعْطَى خَادِمَ الْأَثَرِ وَهُوَ الْمَعِينُ خَطَّابٌ.
وَخَرَجَ الْأَعْيَانُ وَالْقُضَاةُ مَعَ الْوَزِيرِ لِتَوْدِيعِهِ.
وَوَقَعَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَطَرٌ جَيِّدٌ اسْتَشْفَى النَّاسُ بِهِ وَغَسَلَ آثَارَ الْعَسَاكِرِ مِنَ الْأَوْسَاخِ وَغَيْرِهَا، وَعَادَ التَّقِيُّ تَوْبَةُ مِنْ تَوْدِيعِ الْوَزِيرِ وَقَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ نَظَرَ الْخِزَانَةِ وَعَزَلَ عَنْهَا شِهَابَ الدِّينِ بْنَ النحاس، ودرس الشيخ ناصر الدِّينِ بِالنَّاصِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ آخَرِ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تَحَدَّثَ الناس فيما بينهم بوقوع تخبيط بين العساكر، وَخُلْفٍ وَتَشْوِيشٍ، فَغُلِّقَ بَابُ الْقَلْعَةِ الَّذِي يَلِي الْمَدِينَةَ، وَدَخَلَ الصَّاحِبُ شِهَابُ الدِّينِ إِلَيْهَا مِنْ ناحية الْخَوْخَةِ، وَتَهَيَّأَ النَّائِبُ وَالْأُمَرَاءُ وَرَكِبَ طَائِفَةٌ مِنَ الجيش على باب النصر وقوفاً، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَصْلَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ كَتْبُغَا إِلَى الْقَلْعَةِ فِي خَمْسَةِ أَنْفُسٍ أَوْ سِتَّةٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ، فَدَخَلَ الْقَلْعَةَ فَجَاءَ إِلَيْهِ الْأُمَرَاءُ
وَأَحْضَرَ ابْنَ جَمَاعَةَ وَحُسَامَ الدِّينِ الحنفي، وجددوا الحلف للأمراء ثانية فحلفوا، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى نُوَّابِ الْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ وَحَوَاصِلِهِ، وَأَقَامَ الْعَادِلُ بِالْقَلْعَةِ هَذِهِ الْأَيَّامَ، وَكَانَ الْخُلْفُ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُمْ بوادي فحمة يوم الاثنين التاسع وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمِيرَ حُسَامَ الدِّينِ لَاجِينَ كَانَ قَدْ وَاطَأَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْعَادِلِ، وَتَوَثَّقَ مِنْهُمْ وَأَشَارَ عَلَى الْعَادِلِ حِينَ خَرَجُوا مِنْ دِمَشْقَ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ الْخِزَانَةَ، وَذَلِكَ لِئَلَّا يَبْقَى بدمشق شئ مِنَ الْمَالِ يَتَقَوَّى بِهِ الْعَادِلُ إِنْ فَاتَهُمَ وَرَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ، وَيَكُونُ قُوَّةً لَهُ هُوَ فِي الطَّرِيقِ عَلَى مَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدْرِ، فَلَمَّا كَانُوا بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ قَتَلَ لَاجِينُ الأمير سيف الدين بيحاص (2) وبكتوت الازرق
(1) الطبلخانة: كلمة فارسية معناها فرقة الموسيقى السلطانية أو بيت الطبل ويشتمل على الطبول والابواق.
والطبلخانة أيضا المكان المخصص من حواصل السلطان لطبول الفرقة وأبواقها وتوابعها من الآلات.
ويحكم على ذلك أمير من أمراء العشرات ويعرف بأمير علم.
(التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 228) .
(2)
في مختصر أبي الفداء 4 / 34 والسلوك 1 / 820: بتخاص.
وانظر بدائع الزهور 1 / 1 / 391.
(*)
الْعَادِلِيَّيْنِ، وَأَخَذَ الْخِزَانَةَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَالْعَسْكَرَ، وقصدوا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْعَادِلُ بِذَلِكَ خَرَجَ في الدِّهْلِيزِ وَسَاقَ جَرِيدَةً إِلَى دِمَشْقَ فَدَخَلَهَا كَمَا ذكرنا، وتراجع إليه بَعْضُ مَمَالِيكِهِ كَزَيْنِ الدِّينِ غَلْبَكَ وَغَيْرِهِ، وَلَزِمَ شِهَابُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ الْقَلْعَةَ لِتَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَدَرَّسَ ابن الشَّرِيشِيِّ بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ بُكْرَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلِّ صَفْرٍ، وَتَقَلَّبَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلَزِمَ السُّلْطَانُ الْقَلْعَةَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَأَطْلَقَ كَثِيرًا مِنَ الْمُكُوسِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ تَوَاقِيعَ وَقُرِئَتْ عَلَى النَّاسِ، وَغَلَا السِّعْرُ جِدًّا فَبَلَغَتِ الْغِرَارَةُ مِائَتَيْنِ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وإنا إليه راجعون.
سلطنة الملك منصور لاجين السلحداري وَذَلِكَ أنَّه لَمَّا اسْتَاقَ الْخِزَانَةَ وَذَهَبَ بِالْجُيُوشِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ دَخَلَهَا فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وقد اتفق معه جُمْهُورِ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ وَبَايَعُوهُ وَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَاشِرِ
صَفَرٍ، وَدَقَّتْ بِمِصْرَ الْبَشَائِرُ، وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَبِالْقُدْسِ وَالْخَلِيلِ، وَلُقِّبَ بِالْمَلِكِ الْمَنْصُورِ، وكذلك دقت له البشائر بِالْكَرَكِ وَنَابُلُسَ وَصَفَدَ، وَذَهَبَتْ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أمراء دمشق، وقدمت التجريدة مِنْ جِهَةِ الرَّحْبَةِ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ كُجْكُنَ فَلَمْ يَدْخُلُوا الْبَلَدَ بَلْ نَزَلُوا بِمَيْدَانَ الحصن (1) ، وأظهروا مخالفة العادل وطاعة المنصور لاجين صاحب مصر، وَرَكِبَ إِلَيْهِ الْأُمَرَاءُ طَائِفَةً بَعْدَ طَائِفَةٍ، وَفَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ، فَضَعُفَ أَمْرُ الْعَادِلِ جِدًّا، فَلَمَّا رَأَى انْحِلَالَ أَمْرِهِ قَالَ لِلْأُمَرَاءِ: هُوَ خُشْدَاشِيٌّ وأنا وهو شئ واحد، وأنا سامع له مُطِيعٌ، وَأَنَا أَجْلِسُ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنَ الْقَلْعَةِ أَرَادَ، حَتَّى تُكَاتِبُوهُ وَتَنْظُرُوا مَا يَقُولُ.
وجاءت البريدية بالمكاتبات بالأمر بالاحتياط على القلعة وعلى العادل وبقي الناس في هرج وأقوال ذات ألوان مختلفة، وأبواب القلعة مغلقة، وأبواب البلد سِوَى بَابِ النَّصْرِ إِلَّا الْخَوْخَةَ، وَالْعَامَّةُ حَوْلَ الْقَلْعَةِ قَدِ ازْدَحَمُوا حَتَّى سَقَطَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بالخندق فَمَاتَ بَعْضُهُمْ، وَأَمْسَى النَّاسُ عَشِيَّةَ السَّبْتِ وَقَدْ أُعْلِنَ بِاسْمِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ لَاجِينَ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِذَلِكَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَدَعَا لَهُ الْمُؤَذِّنُونَ فِي سَحَرِ لَيْلَةِ الْأَحَدِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَتَلَوْا قَوْلِهِ تَعَالَى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) الآية [آل عمران: 26] .
وَأَصْبَحَ النَّاسُ يَوْمَ الْأَحَدِ فَاجْتَمَعَ الْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ وَفِيهِمْ غُرْلُو الْعَادِلِيُّ بِدَارِ السَّعَادَةِ فَحَلَفُوا لِلْمَنْصُورِ لَاجِينَ، وَنُودِيَ بِذَلِكَ فِي الْبَلَدِ، وَأَنْ يَفْتَحَ النَّاسُ دَكَاكِينَهُمْ، وَاخْتَفَى الصَّاحِبُ شِهَابُ الدِّينِ وَأَخُوهُ زَيْنُ الدِّينِ الْمُحْتَسِبُ، فَعَمِلَ الْوَالِي ابْنُ النَّشَّابِيِّ حِسْبَةَ الْبَلَدِ، ثُمَّ ظَهَرَ زَيْنُ الدِّينِ فَبَاشَرَهَا عَلَى عَادَتِهِ.
وَكَذَلِكَ ظَهَرَ أَخُوهُ شهاب الدين، وسافر نائب البلد غرلو والأمير جاعان إلى
(1) في السلوك 1 / 824: ميدان الحصا قريباً من مسجد القدم.
(*)
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يُعْلِمَانِ السُّلْطَانَ بِوُقُوعِ التَّحْلِيفِ عَلَى مَا رَسَمَ بِهِ، وَجَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَاشِرَ صَفَرٍ، وَشَقَّ الْقَاهِرَةَ فِي سَادِسَ عَشَرَةَ (1) فِي أُبَّهَةِ الْمَمْلَكَةِ، وَعَلَيْهِ الْخِلْعَةُ الْخَلِيفِيَّةُ (2) وَالْأُمَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وأنه قد استناب بمصر الأمير سيف الدين سنقر الْمَنْصُورِيَّ،
وَخُطِبَ لِلْمَنْصُورِ لَاجِينَ بِدِمَشْقَ أَوَّلَ يَوْمٍ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَحَضَرَ الْمَقْصُورَةَ الْقُضَاةُ وَشَمْسُ الدِّينِ الأعسر وكجكن، واستدمر وَجَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ، وَتَوَجَّهَ الْقَاضِي إِمَامُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ وَحُسَامُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ وَجَمَالُ الدِّينِ الْمَالِكِيُّ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَطْلُوبِينَ، وَقَدِمَ الْأَمِيرُ حسام الدين أستاذ دار السلطان، وسيف الدين جاعان من جهة السلطان فحلفوا الأمراء ثانية ودخلوا على العادل الْقَلْعَةِ وَمَعَهُمُ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ وَكُجْكُنُ فَحَلَّفُوهُ أَيْمَانًا مُؤَكَّدَةً بَعْدَ مَا طَالَ بينهم الكلام بالتركي، وذكروا بالتركي في مبايعته أنه راض مِنَ الْبُلْدَانِ أَيَّ بَلَدٍ كَانَ، فَوَقَعَ التَّعْيِينُ بَعْدَ الْيَمِينِ عَلَى قَلْعَةِ صَرْخَدَ، وَجَاءَتِ الْمَرَاسِيمُ بِالْوِزَارَةِ لِتَقِيِّ الدِّينِ تَوْبَةَ، وَعُزِلَ شِهَابُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ، وَبِالْحِسْبَةِ لِأَمِينِ الدِّينِ يُوسُفَ الْأَرْمِنِيِّ الرُّومِيِّ صَاحِبِ شَمْسِ الدِّينِ الْأَيْكِيِّ، عِوَضًا عَنْ زَيْنِ الدين الحنفي، وَدَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قَبْجَقُ الْمَنْصُورِيُّ عَلَى نِيَابَةِ الشَّامِ إِلَى دِمَشْقَ بُكْرَةَ السَّبْتِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَنَزَلَ دَارَ السَّعَادَةِ عوضاً عن سيف الدين غُرْلُو الْعَادِلِيِّ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ لِتَلَقِّيهِ، وَحَضَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْمَقْصُورَةِ فَصَلَّى بِهَا وقرأ بعد الجمعة كتاب سلطاني حسامي بإبطال الضمانات من الأوقاف والأملاك بغير رضى أصحابها، قرأه القاضي محيي الدين ابن فَضْلِ اللَّهِ صَاحِبُ دِيوَانِ الْإِنْشَاءِ، وَنُودِيَ فِي الْبَلَدِ مَنْ لَهُ مَظْلِمَةٌ فَلْيَأْتِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ إِلَى دَارِ الْعَدْلِ، وَخَلَعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْمُقَدَّمِينَ وأرباب المناصب من القضاة والكتبة، وَخَلَعَ عَلَى ابْنِ جَمَاعَةَ خِلْعَتَيْنِ وَاحِدَةً لِلْقَضَاءِ وَالْأُخْرَى لِلْخَطَابَةِ.
وَلَمَّا كَانَ فِي شَهْرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَصَلَ الْبَرِيدُ فَأَخْبَرَ بِوِلَايَةِ إِمَامِ الدِّينِ القزويني (3) القضاء بِالشَّامِ عِوَضًا عَنْ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ، وإبقاء ابن جماعة على الخطابة، وتدريس الْقَيْمُرِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ بِيَدِ إِمَامِ الدِّينِ، وَجَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ بِذَلِكَ وَفِيهِ احْتِرَامٌ وَإِكْرَامٌ لَهُ، فدرس بالقيمرية (4)
(1) في السلوك 1 / 822: يوم الخميس خامس عشر صفر.
الخلعة الخليفية وكانت تتألف من جبة سوداء بزيق وأكمام واسعة (السلوك 1 / 823) ، قلت والزيق من القميص ما أحاط منه بالعنق، والزيق في النسائج عند العامة الخط الدقيق المنسوج فيها مخالفا لونها، وقد يراد بالزيق أيضا قدة من الثوب (محيط المحيط) .
(3)
وهو إمام الدين عمر بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن عبد الكريم القزويني الشافعي، وكان السلطان قد عرض عليه قضاء القضاة بديار مصر فلم يقبل واختار دمشق، فولاه قضاء القضاة بدمشق في رابع جمادى الأولى.
(4)
المدرسة القيمرية الكبرى بدمشق، أنشأها القيمري الامام مقدم الجيوش ناصر الدين حسين بن عبد العزيز المتوفى سنة 665 هـ (الدارس 1 / 441) .
(*)