الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكن أحد يتجاسر أن ينقل ملء كف خمر إلى دمشق إلا بالحيلة الخفية، فجزى الله العادل خيراً، ولا جزى المعظم خيراً على ما فعل، واعتذر المعظم في ذلك بأنه إنما صنع هذا المنكر لقلة الْأَمْوَالِ عَلَى الْجُنْدِ، وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى النَّفَقَاتِ فِي قتال الفرنج.
وهذا من جهله وقلة دينه وعدم معرفته بالأمور، فإن هذا الصنيع يديل عليهم الأعداء وينصرهم عليهم، ويتمكن منهم الداء ويثبط الجند عن القتال، فيولون بسببه الأدبار، وهذا مما يدمر ويخرب الديار ويديل الدول، كما في الأثر
" إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني ".
وهذا ظاهر لا يخفى عليَّ فطن.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا
مِنَ الْأَعْيَانِ: الْقَاضِي شَرَفُ الدِّينِ أَبُو طَالِبٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْنِ الْقُضَاةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلْطَانِ بْنِ يَحْيَى اللخمي الضَّرِيرُ الْبَغْدَادِيُّ، كَانَ يُنْسَبُ إِلَى عِلْمِ الْأَوَائِلِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَسَتَّرُ بِمَذْهَبِ الظَّاهِرِيَّةِ، قَالَ فِيهِ ابن الساعي: الداودي المذهب، الْمَعَرِّيُّ أَدَبًا وَاعْتِقَادًا، وَمِنْ شَعْرِهِ: إِلَى الرَّحْمَنِ أشكو ما ألافي * غداة عدوا عَلَى هَوْجِ النياقِ سَأَلْتُكُمُ بِمَنْ زَمَّ الْمَطَايَا * أمَّر بكم أمر من الفراقِ؟ وهل ذل أَشَدُّ مِنَ التَّنَائِي * وَهَلْ عَيْشٌ أَلَذُّ مِنَ التلاقِ؟ قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ.
عِمَادُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الدَّامَغَانِيِّ الْحَنَفِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِبَغْدَادَ مَرَّتَيْنِ نَحْوًا مِنْ أربع عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ عَارِفًا بِالْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ وَقِسْمَةِ التَّرِكَاتِ.
أَبُو الْيُمْنِ نَجَاحُ بْنُ عبد الله الحبشي السوداني نجم الدين مولى الخليفة الناصر، كان يسمى سلمان دار الخلافة، وكان لا يفارق الخليفة، فلما مات وجد عليه الخليفة وجداً كثيراً، وَكَانَ يَوْمُ جَنَازَتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، كَانَ بَيْنَ يدي نعشه مِائَةُ بَقَرَةٍ وَأَلْفُ شَاةٍ وَأَحْمَالٌ مِنَ التَّمْرِ وَالْخُبْزِ وَالْمَاوَرْدِ، وَقَدْ صَلَّى عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بِنَفْسِهِ تَحْتَ التَّاجِ، وَتَصَدَّقَ عَنْهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ عَلَى الْمَشَاهِدِ، وَمِثْلِهَا عَلَى الْمُجَاوِرِينَ بِالْحَرَمَيْنِ، وَأَعْتَقَ مَمَالِيكَهُ وَوَقَفَ عَنْهُ خَمْسَمِائَةِ مُجَلَّدٍ.
أبو المظفر محمد بن علوان
ابن مُهَاجِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُهَاجِرٍ الْمَوْصِلِيُّ، تَفَقَّهَ بِالنِّظَامِيَّةِ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ فساد أهل زمانه بها، وَتَقَدَّمَ فِي الْفَتْوَى وَالتَّدْرِيسِ بِمَدْرَسَةِ بَدْرِ الدِّينِ لؤلؤ وغيرها، وكان صالحاً ديناً.
أبو الطيب رزق الله بن يحيى ابن رِزْقُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَلِيفَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ رِزْقِ اللَّهِ بْنِ غَانِمِ بْنِ غنام التأخدري الْمُحَدِّثُ الْجَوَّالُ الرَّحَّالُ الثِّقَةُ الْحَافِظُ الْأَدِيبُ الشَّاعِرُ، أبو العباس أحمد بن برتكش بن عبد الله العمادي، وكان مِنْ أُمَرَاءِ سِنْجَارَ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ مَوَالِي الْمَلِكِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ صَاحِبِهَا، وَكَانَ أَحْمَدُ هذا ديناً شَاعِرًا ذَا مَالٍ جَزِيلٍ، وَأَمْلَاكٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدِ احْتَاطَ عَلَى أَمْوَالِهِ قُطْبُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ وَأَوْدَعَهُ سِجْنًا فَنُسِيَ فِيهِ وَمَاتَ كَمَدًا، وَمِنْ شِعْرِهِ: تَقُولُ وَقَدْ وَدَّعْتُهَا ودموعها * على خدها مِنْ خَشْيَةِ الْبَيْنِ تَلْتَقِي مَضَى أَكْثَرُ الْعُمْرِ الَّذِي كَانَ نَافِعًا * رُوَيْدَكَ فَاعْمَلْ صَالِحًا فِي الَّذِي بَقِي ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وستمائة فِيهَا أَمَرَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْجَوْزِيِّ محتسب بغداد بإزالة المنكر وكسر الملاهي عكس ما أمر به المعظم، وكان أمره في ذلك في أول هذه السنة ولله الحمد والمنة.
ظهور جنكيزخان وعبور التتار نَهْرَ جَيْحُونَ وَفِيهَا عَبَرَتِ التَّتَارُ نَهْرَ جَيْحُونَ صُحْبَةَ مَلِكِهِمْ جِنْكِزْخَانَ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ جِبَالَ طَمْغَاجَ (1) مِنْ أَرْضِ الصِّينِ وَلُغَتُهُمْ مُخَالِفَةٌ لِلُغَةِ سَائِرِ التَّتَارِ، وَهُمْ مِنْ أَشْجَعِهِمْ وَأَصْبَرِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَسَبَبُ دُخُولِهِمْ نَهْرَ جَيْحُونَ أَنَّ جِنْكِزْخَانَ بَعَثَ تُجَّارًا لَهُ وَمَعَهُمْ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ إلى بلاد خوارزم شاه يبتضعون لَهُ ثِيَابًا لِلْكُسْوَةِ، فَكَتَبَ نَائِبُهَا إِلَى خُوَارَزْمَ شَاهْ يَذْكُرُ لَهُ مَا مَعَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الأموال، فأرسل إليه بأن يقتلهم ويأخذ ما معهم، ففعل ذلك، فلما بلغ جنكزخان خبرهم أرسل يتهدد خوارزم شاه، ولم يكن ما فعله خوارزم شاه فعلاً جيداً، فلما تهدده أشار مَنْ أَشَارَ عَلَى خُوَارَزْمَ شَاهْ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ، فسار إليهم وهم في شغل شاغل بقتال كشلي خان، فنهب خوارزم شاه
(1) في تاريخ أبي الفداء: طوغاج: وهي واسطة الصين.
(*)
أَمْوَالَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيهِمْ وَأَطْفَالَهُمْ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ مَحْرُوبِينَ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ قِتَالًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، أُولَئِكَ يُقَاتِلُونَ عَنْ حَرِيمِهِمْ وَالْمُسْلِمُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مَتَى وَلَّوِا اسْتَأْصَلُوهُمْ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، حَتَّى إِنَّ الْخُيُولَ كَانَتْ تَزْلَقُ فِي الدِّمَاءِ، وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَمِنَ التَّتَارِ أَضْعَافُ ذَلِكَ، ثُمَّ تَحَاجَزَ الْفَرِيقَانِ وَوَلَّى كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى بِلَادِهِ وَلَجَأَ خُوَارَزْمُ شَاهْ وَأَصْحَابُهُ إِلَى بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ فَحَصَّنَهَا وَبَالَغَ فِي كَثْرَةِ مَنْ تَرَكَ فِيهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَرَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ لِيُجَهِّزَ الْجُيُوشَ الْكَثِيرَةَ، فَقَصَدَتِ التَّتَارُ بُخَارَى وَبِهَا عِشْرُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ فَحَاصَرَهَا جِنْكِزْخَانُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَهْلُهَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ وَدَخَلَهَا فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِيهِمْ مَكْرًا وَخَدِيعَةً، وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ الْقَلْعَةُ فَحَاصَرَهَا وَاسْتَعْمَلَ أَهْلَ الْبَلَدِ في طم خندقها وكانت التَّتَارُ يَأْتُونَ بِالْمَنَابِرِ وَالرَّبَعَاتِ فَيَطْرَحُونَهَا فِي الْخَنْدَقِ يطمونه بها ففتحوها قَسْرًا فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ (1) ، فَقَتَلَ مَنْ كَانَ بِهَا.
ثُمَّ عَادَ إِلَى الْبَلَدِ فَاصْطَفَى أَمْوَالَ تجارها وأحلها لِجُنْدِهِ فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا الله عزوجل، وَأَسَرُوا الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ، وَفَعَلُوا مَعَهُنَّ الْفَوَاحِشَ بِحَضْرَةِ أَهْلِيهِنَّ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَاتَلَ دُونَ حَرِيمِهِ حَتَّى قُتِلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُسِرَ فَعُذِّبَ بِأَنْوَاعِ العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثُمَّ أَلْقَتِ التَّتَارُ النَّارَ فِي دُورِ بُخَارَى وَمَدَارِسِهَا وَمَسَاجِدِهَا فَاحْتَرَقَتْ حَتَّى صَارَتْ بِلَاقِعَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، ثُمَّ كَرُّوا رَاجِعِينَ عَنْهَا قَاصِدِينَ سمرقند، وكان من أمرهم ما سنذكره فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ هَذِهِ السَّنَةِ خُرِّبَ سُورُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَمَّرَهُ اللَّهُ بِذِكْرِهِ، أَمَرَ بِذَلِكَ الْمُعَظَّمُ خَوْفًا مِنَ اسْتِيلَاءِ الْفِرِنْجِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَشُورَةِ مَنْ أَشَارَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْفِرِنْجَ إِذَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ جَعَلُوهُ وَسِيلَةً إِلَى أَخْذِ الشَّامِ جَمِيعِهِ، فَشَرَعَ فِي تَخْرِيبِ السُّورِ فِي أَوَّلِ يَوْمِ الْمُحَرَّمِ فَهَرَبَ مِنْهُ أَهْلُهُ خَوْفًا مِنَ الْفِرِنْجِ أَنْ يَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَتَرَكُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَثَاثَهُمْ وَتَمَزَّقُوا فِي الْبِلَادِ كُلَّ مُمَزَّقٍ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ بيع القنطار الزيت بعشرة دراهم والرطل النُّحَاسِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ.
وَضَجَّ النَّاسُ وَابْتَهَلُوا إِلَى الله
عند الصخرة وفي الأقصى، وهي أيضاً فعلة شنعاء من المعظم مع ما أظهر من الفواحش في العام الماضي، فقال بعضهم يهجو المعظم بذلك.
في رجب حلل الحميّا * وَأُخْرِبَ الْقُدْسُ فِي المحرمُ وَفِيهَا اسْتَحْوَذَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى مَدِينَةِ دِمْيَاطَ وَدَخَلُوهَا بِالْأَمَانِ فَغَدَرُوا بِأَهْلِهَا وَقَتَلُوا رِجَالَهَا وَسَبَوْا نِسَاءَهَا وَأَطْفَالَهَا، وَفَجَرُوا بِالنِّسَاءِ وبعثوا بمنبر الجامع والربعات ورؤوس القتلى إلى الجزائر، وجعلوا الجامع كنيسة.
وفيها غضب المعظم على القاضي زكي الدين بن الزكي، وَسَبَبُهُ أَنَّ عَمَّتَهُ سِتَّ الشَّامِ بِنْتَ أَيُّوبَ مَرِضَتْ فِي دَارِهَا الَّتِي جَعَلَتْهَا بَعْدَهَا مَدْرَسَةً فأرسلت إلى القاضي لتوصي إليه، فذهب
(1) في ابن الاثير: اثني عشر يوماً.
(*)