الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَجَبًا لِمَحْلُولِ الْعَقِيدَةِ جاهلٍ * بِالشَّرْعِ قَدْ أَذِنُوا لَهُ أَنْ يَقْعُدَا قَالَ أَبُو شَامَةَ: فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ مَاتَ شَخْصٌ زِنْدِيقٌ يَتَعَاطَى الْفَلْسَفَةَ وَالنَّظَرَ فِي
عِلْمِ الْأَوَائِلِ، وَكَانَ يسكن مدارس المسلمين، وقد أفسد عقائد جماعة من الشبان المشتغلين فيما بلغني، وكان أبو يزعم أنه من تلامذة ابن خطيب الري الرازي صاحب المصنفات حية ولد حية.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وستمائة
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ بِيَوْمِ الْخَمِيسِ وَلَيْسَ لِلنَّاسِ خليفة، وملك العراقين وخراسان وغيرها من بلاد المشرق للسلطان هولاكو خان ملك التتار، وَسُلْطَانُ دِيَارِ مِصْرَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطُزُ، مَمْلُوكُ الْمُعِزِّ أَيْبَكَ التُّرْكُمَانِيِّ، وَسُلْطَانُ دِمَشْقَ وَحَلَبَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ بْنُ الْعَزِيزِ بْنِ الظَّاهِرِ، وَبِلَادِ الْكَرَكِ وًالشُّوبَكِ لِلْمَلِكِ الْمُغِيثِ بْنِ الْعَادِلِ بْنِ الْكَامِلُ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أيوب، وهو حرب مَعَ النَّاصِرِ صَاحِبِ دِمَشْقَ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ، وَمَعَهُمَا الأمير ركن الدين بيبرس البند قداري، وقد عزموا على قتال المصريين وأخذ مصر منهم.
وَبَيْنَمَا النَّاسُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِقَصْدِ التَّتَارِ بِلَادَ الشَّامِ إِذْ دَخَلَ جيش المغول صحبة ملكهم هولاكو خان وَجَازُوا الْفُرَاتَ عَلَى جُسُورٍ عَمِلُوهَا، وَوَصَلُوا إِلَى حَلَبَ فِي ثَانِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فحاصروها سبعة أيام ثم افتتحوها بالأمان، ثم غدروا بأهلها وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عزوجل، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَسَبَوُا النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَجَرَى عَلَيْهِمْ قَرِيبٌ مِمَّا جَرَى عَلَى أَهْلِ بَغْدَادَ، فَجَاسُوا خلال الديار وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أذلة، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِمْ القلعة شهراً ثم استلموها بالأمان، وخرب أَسْوَارُ الْبَلَدِ وَأَسْوَارُ الْقَلْعَةِ وَبَقِيَتْ حَلَبُ كَأَنَّهَا حمار أجرب، وكان نائبها الملك المعظم توران شاه بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ وَكَانَ عَاقِلًا حَازِمًا، لَكِنَّهُ لم يوافقه الجيش على القتال، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً.
وَقَدْ كَانَ أرسل هولاكو يقول لأهل حلب (1) : نَحْنُ إِنَّمَا جِئْنَا لِقِتَالِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ بِدِمَشْقَ، فاجعلوا لنا عندكم شِحْنَةً، فَإِنْ كَانَتِ النُّصْرَةُ لَنَا فَالْبِلَادُ كُلُّهَا فِي حُكْمِنَا، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْنَا فَإِنْ شِئْتُمْ قبلتم الشحنة وإن شئتم أطلقتموه.
فأجابوه ما لك عِنْدَنَا إِلَّا السَّيْفُ، فَتَعَجَّبَ مِنْ ضَعْفِهِمْ وَجَوَابِهِمْ، فَزَحَفَ حِينَئِذٍ إِلَيْهِمْ وَأَحَاطَ بِالْبَلَدِ، وَكَانَ مَا كان بقدر الله سبحانه.
وَلَمَّا فُتِحَتْ حَلَبُ أَرْسَلَ صَاحِبُ حَمَاةَ بِمَفَاتِيحِهَا إلى هولاكو، فَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنَ الْعَجَمِ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يُقَالُ لَهُ: خسروشاه، فخرب أسوارها كمدينة حلب.
صفة أخذهم دمشق وَزَوَالِ مُلْكِهِمْ عَنْهَا سَرِيعًا
أَرْسَلَ هُولَاكُو وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى حَلَبَ جَيْشًا مَعَ أَمِيرٍ مِنْ كبار دولته يقال له كتبغانوين، فوردوا
(1) قال أبو الفداء في تاريخه: وكان رسول هولاكو إليهم في ذلك صاحب أرزن الروم (3 / 201) .
(*)
دِمَشْقَ فِي آخِرِ صَفَرٍ فَأَخَذُوهَا سَرِيعًا مِنْ غير ممانعة ولا مدافع، بَلْ تَلَقَّاهُمْ كِبَارُهَا بِالرُّحْبِ وَالسَّعَةِ، وَقَدْ كَتَبَ هولاكو أماناً لِأَهْلِ الْبَلَدِ، فَقُرِئَ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ وَنُودِيَ بِهِ في البلد، فأمن الناس على وجل من الغدر، كَمَا فُعِلَ بِأَهْلِ حَلَبَ، هَذَا وَالْقَلْعَةُ مُمْتَنِعَةٌ مَسْتُورَةٌ، وَفِي أَعَالِيهَا الْمَجَانِيقُ مَنْصُوبَةٌ وَالْحَالُ شَدِيدَةٌ، فأحضرت التتار منجنيقاً يحمل عَلَى عَجَلٍ وَالْخُيُولُ تَجُرُّهَا، وَهُمْ رَاكِبُونَ عَلَى الخيل وأسلحتهم على أبقار كثيرة، فنصب المنجانيق على القلعة من غربيها، وخربوا حِيطَانًا كَثِيرَةً وَأَخَذُوا حِجَارَتَهَا وَرَمَوْا بِهَا الْقَلْعَةَ رَمْيًا مُتَوَاتِرًا كَالْمَطَرِ الْمُتَدَارِكِ، فَهَدَمُوا كَثِيرًا مِنْ أعاليها وشرافاتها وَتَدَاعَتْ لِلسُّقُوطِ فَأَجَابَهُمْ مُتَوَلِّيهَا فِي آخِرِ ذَلِكَ النَّهَارِ لِلْمُصَالَحَةِ، فَفَتَحُوهَا وَخَرَّبُوا كُلَّ بَدَنَةٍ فِيهَا، وأعالي بروجها، وذلك في نصف جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَتَلُوا الْمُتَوَلِّيَ بِهَا بَدْرَ الدِّينِ بْنَ قَرَاجَا، وَنَقِيبَهَا جَمَالَ الدين بن الصيرفي الحلبي، وسلموا البلد والقلعة إلى أمير منهم يقال له إبل سيان، وكان لعنه الله مُعَظِّمًا لِدِينِ النَّصَارَى، فَاجْتَمَعَ بِهِ أَسَاقِفَتُهُمْ وَقُسُوسُهُمْ، فَعَظَّمَهُمْ جِدًّا، وَزَارَ كَنَائِسَهُمْ، فَصَارَتْ لَهُمْ دَوْلَةٌ وصولة بسببه، وذهب طائفة من النصارى إلى هولاكو وأخذوا معهم هدايا وتحفاً، وَقَدِمُوا مِنْ عِنْدِهِ وَمَعَهُمْ أَمَانٌ فَرَمَانٌ مِنْ جهته، ودخلوا من باب توما ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس، هم يُنَادُونَ بِشِعَارِهِمْ وَيَقُولُونَ: ظَهَرَ الدِّينُ الصَّحِيحُ دِينُ المسيح.
ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أواني فِيهَا خَمْرٌ لَا يَمُرُّونَ عَلَى بَابِ مَسْجِدٍ إِلَّا رَشُّوا عِنْدَهُ خَمْرًا، وَقَمَاقِمَ مَلْآنَةً خَمْرًا يرشون منها علي وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق أَنْ يَقُومَ لِصَلِيبِهِمْ، وَدَخَلُوا مَنْ دَرْبِ الْحَجَرِ فَوَقَفُوا عِنْدَ رِبَاطِ الشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ، وَرَشُّوا عنده خَمْرَا، وَكَذَلِكَ عَلَى بَابِ مَسْجِدِ دَرْبِ الْحَجَرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَاجْتَازُوا فِي السُّوقِ حَتَّى وَصَلُوا دَرْبِ الرَّيْحَانِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ، فَتَكَاثَرَ عَلَيْهِمُ
الْمُسْلِمُونَ فَرَدُّوهُمْ إِلَى سُوقِ كَنِيسَةِ مَرْيَمَ، فَوَقَفَ خَطِيبُهُمْ إِلَى دَكَّةِ دُكَّانٍ فِي عَطْفَةِ السُّوقِ فمدح دنى النَّصَارَى وَذَمَّ دِينَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلَهُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وإنا إليه راجعون.
ثم دخلوا بعد ذلك إلى كنيسة مريم وكانت عامرة ولكن هَذَا سَبَبَ خَرَابِهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَحَكَى الشَّيْخُ قطب الدين في ذيله على المرآة أنهم ضربوا بالناقوس في كنيسة مَرْيَمَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَذَكَرَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا إلى الجامع بخمر وكان في نِيَّتِهِمْ إِنْ طَالَتْ مُدَّةُ التَّتَارِ أَنْ يُخَرِّبُوا كثيراً من المساجد وغيرها، وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا فِي الْبَلَدِ اجْتَمَعَ قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَالشُّهُودُ وَالْفُقَهَاءُ فَدَخَلُوا الْقَلْعَةَ يَشْكُونَ هَذَا الحال إلى متسلمها إبل سيان فَأُهِينُوا وَطُرِدُوا، وَقَدَّمَ كَلَامَ رُؤَسَاءِ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذا كان في أول هذه السنة وسلطان الشام الناصر بن العزيز مقيم في وطأة برزه، ومعه جيوش كثيرة من الأمراء وَأَبْنَاءِ الْمُلُوكِ لِيُنَاجِزُوا التَّتَارَ إِنْ قَدِمُوا عَلَيْهِمْ، وكان في جملة من معه الامير بيبرس البند قداري في جماعة من البحرية، ولكن الكلمة بَيْنَ الْجُيُوشِ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ مُؤْتَلِفَةٍ، لِمَا يُرِيدُهُ الله عزوجل.
وَقَدْ عَزَمَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى خَلْعِ النَّاصِرِ وَسَجْنِهِ وَمُبَايَعَةِ أَخِيهِ شَقِيقِهِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ على، فلما عرف الناصر ذلك هرب إلى القلعة وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ شَذَرَ مَذَرَ