الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تسع وثمانين وخمسمائة
فيها كانت
وفاة السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّين يُوسُفُ بْنُ أيوب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
.
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ، وَخَرَجَ هُوَ وَأَخُوهُ العادل إِلَى الصَّيْدِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَالُ بينه وبين أخيه أنه بعد ما يفرغ من أمر الفرنج يَسِيرُ هُوَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَيَبْعَثُ أَخَاهُ إلى بغداد، فَإِذَا فَرَغَا مِنْ شَأْنِهِمَا سَارَا جَمِيعًا إِلَى بلاد أذربيجان، بلاد الْعَجَمِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا أَحَدٌ يُمَانِعُ عَنْهَا، فلما قدم الحجيج فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ حَادِي عَشَرَ صَفَرٍ خَرَجَ السلطان لتلقيهم، وكان معه ابن أخيه سيف الإسلام، صاحب اليمن، فأكرمه والتزمه، وعاد إلى القلعة فدخلها من باب الجديد، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ مَا رَكِبَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّهُ اعْتَرَاهُ حُمَّى
صَفْرَاوِيَّةٌ لَيْلَةَ السَّبْتِ سَادِسَ عَشَرَ صَفَرٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ دَخَلَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ وَابْنُ شَدَّادٍ وَابْنُهُ الْأَفْضَلُ، فَأَخَذَ يَشْكُو إِلَيْهِمْ كَثْرَةَ قَلَقِهِ الْبَارِحَةَ، وَطَابَ لَهُ الْحَدِيثُ، وَطَالَ مَجْلِسُهُمْ عِنْدَهُ، ثُمَّ تَزَايَدَ بِهِ الْمَرَضُ وَاسْتَمَرَّ، وَقَصَدَهُ الْأَطِبَّاءُ فِي الْيَوْمِ الرابع، ثم اعتراه يُبْسٌ وَحَصَلَ لَهُ عَرَقٌ شَدِيدٌ بِحَيْثُ نَفَذَ إلى الأرض، ثم قوي اليبس فأحضر الأمراء الْأَكَابِرِ فَبُويِعَ لِوَلَدِهِ الْأَفْضَلِ نُورِ الدِّينِ عَلَيٍّ، وكان نَائِبًا عَلَى دِمَشْقَ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا ظَهَرَتْ مَخَايِلُ الضَّعْفِ الشَّدِيدِ، وَغَيْبُوبَةُ الذِّهْنِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَكَانَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ الْفَاضِلُ وَابْنُ شَدَّادٍ وَقَاضِي الْبَلَدِ ابْنُ الزَّكِيِّ، ثم اشتد به الْحَالُ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ، وَاسْتَدْعَى الشَّيْخَ أَبَا جَعْفَرٍ إِمَامَ الْكَلَّاسَةِ لِيَبِيتَ عِنْدَهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُلَقِّنُهُ الشَّهَادَةَ إِذَا جَدَّ بِهِ الْأَمْرُ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عِنْدَهُ وهو في الغمرات فَقَرَأَ (هُوَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) [الحشر: 22] فَقَالَ: وَهُوَ كَذَلِكَ صَحِيحٌ.
فَلَمَّا أَذَّنَ الصُّبْحُ جَاءَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، فَلَمَّا قَرَأَ الْقَارِئُ (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت) [التوبة: 129] تَبَسَّمَ وَتَهَلَّلَ وَجْهُهُ وَأَسْلَمَ رُوحَهُ إِلَى رَبِّهِ
سُبْحَانَهُ، وَمَاتَ رحمه الله، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، لِأَنَّهُ وُلِدَ بِتَكْرِيتَ فِي شُهُورِ سنة، سنة ثنتين وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، رحمه الله، فَقَدْ كَانَ رِدْءًا لِلْإِسْلَامِ وَحِرْزًا وَكَهْفًا مِنْ كَيْدِ الْكَفَرَةِ اللِّئَامِ، وذلك بتوفيق الله له، وَكَانَ أَهْلُ دِمَشْقَ لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِ مُصَابِهِ، وود كل منهم لو فداه بأولاده وأحبائه وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ غُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَاحْتُفِظَ عَلَى الْحَوَاصِلِ، ثمَّ أخذوا في تجهيزه، وحضر جميع أولاده وأهله، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى غُسْلَهُ خَطِيبُ الْبَلَدِ الْفَقِيهُ الدَّوْلَعِيُّ (1) ، وَكَانَ الَّذِي أَحْضَرَ الْكَفَنَ وَمُؤْنَةَ التَّجْهِيزِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ الْحَلَالِ، هَذَا وأولاده الكبار والصغار يتباكون وينادون، وأخذ الناس في العويل والانتحاب والدعاء له والابتهال، ثم أبرز جسمه في نعشه فِي تَابُوتٍ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَأَمَّ النَّاسَ عَلَيْهِ الْقَاضِي ابْنُ الزَّكِيِّ ثُمَّ دُفِنَ فِي داره بالقلعة المنصورة، ثم شرع ابْنُهُ فِي بِنَاءِ تُرْبَةٍ لَهُ وَمَدْرَسَةٍ لِلشَّافِعِيَّةِ بِالْقُرْبِ مِنْ مَسْجِدِ الْقَدَمِ، لِوَصِيَّتِهِ بِذَلِكَ قَدِيمًا، فلم يكمل بناؤها، وَذَلِكَ حِينَ قَدِمَ
وَلَدُهُ الْعَزِيزُ وَكَانَ مُحَاصِرًا لِأَخِيهِ الْأَفْضَلِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فِي سَنَةِ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَى لَهُ الْأَفْضَلُ دَارًا شَمَالِيَّ الْكَلَّاسَةِ فِي وِزَانِ مَا زَادَهُ الْقَاضِي الفاضل في الكلاسة، فجعلها تُرْبَةً، هَطَلَتْ سَحَائِبُ الرَّحْمَةِ عَلَيْهَا، وَوَصَلَتْ أَلْطَافُ الرَّأْفَةِ إِلَيْهَا.
وَكَانَ نَقْلُهُ إِلَيْهَا فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ تَحْتَ النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرابي ابن الزكي، عن إذن الأفضل، وَدَخَلَ فِي لَحْدِهِ وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ فَدَفَنَهُ بِنَفْسِهِ، وهو يومئذ سلطان الشام، وَيُقَالُ إِنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ سَيْفُهُ الَّذِي كَانَ يحضر به الجهاد، وذلك عن أمر القاضي الفاضل، وَتَفَاءَلُوا بِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَوَكَّأُ عليه، حتى يدخل الجنة إن شاء الله.
ثُمَّ عُمِلَ عَزَاؤُهُ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يحضره الخاص والعام، وَالرَّعِيَّةُ وَالْحُكَّامُ، وَقَدْ عَمِلَ الشُّعَرَاءُ فِيهِ مَرَاثِيَ كثيرة من أحسنها ما عمله العماد الكاتب في آخر كتابه البرق السامي، وهي مائتا بيت واثنان، وَقَدْ سَرَدَهَا الشَّيخ شِهَابُ الدِّين أَبُو شَامَةَ في الروضتين، منها قوله: شَمْلُ الْهُدَى وَالْمُلْكِ عَمَّ شَتَاتُهُ * وَالدَّهْرُ سَاءَ وَأَقْلَعَتْ حَسَنَاتُهُ أَيْنَ الَّذِي مُذْ لَمْ يَزَلْ مَخْشِيَّةً * مَرْجُوَّةً رَهَبَاتُهُ وَهِبَاتُهُ؟ أَيْنَ الَّذِي كَانَتْ لَهُ طَاعَاتُنَا * مَبْذُولَةً وَلِرَبِّهِ طَاعَاتُهُ؟ بِاللَّهِ أَيْنَ النَّاصِرُ الْمَلِكُ الَّذِي * لِلَّهِ خَالِصَةً صفتْ نِيَّاتُهُ؟ أَيْنَ الَّذِي مَا زَالَ سُلْطَانًا لَنَا * يُرْجَى نَدَاهُ وَتُتَّقَى سَطَوَاتُهُ؟ أَيْنَ الَّذِي شَرُفَ الزَّمَانُ بِفَضْلِهِ * وَسَمَتْ عَلَى الْفُضَلَاءِ تَشْرِيفَاتُهُ؟ أَيْنَ الَّذِي عَنَتِ الْفِرِنْجُ لِبَأْسِهِ * ذُلًّا، وَمِنْهَا أُدْرِكَتْ ثَارَاتُهُ؟ أَغْلَالُ أَعْنَاقِ الْعِدَا أَسْيَافُهُ * أَطْوَاقُ أَجْيَادِ الْوَرَى مناته
(1) الدولعي هو ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زيد بن ياسين بن زيد بن قائد بن جميل الارقمي الدولعي الشافعي، خطيب دمشق توفي في ربيع الأول سنة 598 هـ وله إحدى وتسعين سنة.
(*)
من للعلى مَنْ لِلذُّرَى مَنْ لِلْهُدَى * يَحْمِيهِ؟ مَنْ لِلْبَأْسِ مَنْ لِلنَّائِلِ؟
طَلَبَ الْبَقَاءَ لِمُلْكِهِ فِي آجلٍ * إِذْ لَمْ يَثِقْ بِبَقَاءِ ملكٍ عَاجِلِ بحرٌ أَعَادَ الْبَرَّ بَحْرًا بِرُّهُ * وَبِسَيْفِهِ فُتِحَتْ بِلَادُ السَّاحِلِ مَنْ كَانَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي أَيَّامِهِ * وَبِعِزِّهِ يُرْدُونَ أَهْلَ الْبَاطِلِ وَفُتُوحُهُ وَالْقُدْسُ مِنْ أَبْكَارِهَا * أَبْقَتْ لَهُ فَضْلًا بِغَيْرِ مُسَاجِلِ مَا كُنْتُ أَسْتَسْقِي لِقَبْرِكَ وَابِلًا * وَرَأَيْتُ جُودَكَ مُخْجِلًا لِلْوَابِلِ فَسَقَاكَ رِضْوَانُ الْإِلَهِ لِأَنَّنِي * لَا أَرْتَضِي سقيا الغمام الهاطل تركته وشئ مِنْ تَرْجَمَتِهِ قَالَ الْعِمَادُ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَتْرُكْ فِي خِزَانَتِهِ مِنَ الذَّهَبِ سِوَى جُرْمٍ وَاحِدٍ - أي دينار واحد - صورياً وَسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا (1) ، وَلَمْ يَتْرُكْ دَارًا وَلَا عَقَارًا وَلَا مَزْرَعَةً وَلَا بُسْتَانًا، وَلَا شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمْلَاكِ.
هَذَا وَلَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ سَبْعَةَ عَشَرَ ذكراً وابنة واحدة، وتوفي له في حَيَاتِهِ غَيْرُهُمْ، وَالَّذِينَ تَأَخَّرُوا بَعْدَهُ سِتَّةَ عَشَرَ ذَكَرًا أَكْبَرُهُمُ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ نُورُ الدِّينِ عَلِيٌّ، وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ، ثُمَّ الْعَزِيزُ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ عُثْمَانُ وُلِدَ بِمِصْرَ أَيْضًا فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ الظَّافِرُ مُظَفَّرُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْخَضِرُ، وُلِدَ بِمِصْرَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ شَقِيقُ الْأَفْضَلِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ غِيَاثُ الدِّينِ أَبُو مَنْصُورٍ غَازِيٌّ، وُلِدَ بِمِصْرَ فِي نِصْفِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، ثم العزيز فَتْحُ الدِّينِ أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ، وُلِدَ بِدِمَشْقَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِينَ.
ثُمَّ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ مَسْعُودٌ، وُلِدَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعَيْنِ وَهُوَ شَقِيقُ الْعَزِيزِ، ثُمَّ الْأَغَرُّ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ، وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعَيْنِ، وَهُوَ شَقِيقُ الْعَزِيزِ أَيْضًا، ثُمَّ الزَّاهِرُ مُجِيرُ الدِّينِ أَبُو سُلَيْمَانَ دَاوُدُ، وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَهُوَ شَقِيقُ الظَّاهِرِ، ثُمَّ أَبُو الْفَضْلِ قُطْبُ الدِّينِ مُوسَى، وَهُوَ شَقِيقُ الْأَفْضَلِ، وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وسبعين أيضاً، ثم لقب بالمظفر أيضاً، ثُمَّ الْأَشْرَفُ مُعِزُّ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ، وُلِدَ بِالشَّامِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، ثُمَّ الْمُحْسِنُ ظَهِيرُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ شَقِيقُ الَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ الْمُعَظَّمُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو مَنْصُورٍ توران شاه وُلِدَ بِمِصْرَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ،
وَتَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ إِلَى سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، ثُمَّ الْجَوَّالُ رُكْنُ الدِّينِ أَبُو سَعِيدٍ أَيُّوبُ وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعَيْنِ، وَهُوَ شَقِيقٌ لِلْمُعِزِّ، ثُمَّ الْغَالِبُ نَصِيرُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ ملك شاه، وُلِدَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعَيْنِ وَهُوَ شَقِيقُ الْمُعَظَّمِ، ثُمَّ الْمَنْصُورُ أَبُو بَكْرٍ أَخُو المعظم لأبويه، ولد بحران بعد وفاة
(1) في ابن الاثير 12 / 96 أربعين درهما ناصرية.
(*)
السلطان، ثم عماد الدين شادي لأم ولد، ونصير الدِّينِ مَرْوَانُ لِأُمِّ وَلَدٍ أَيْضًا.
وَأَمَّا الْبِنْتُ فَهِيَ مُؤْنِسَةُ خَاتُونَ تَزَوَّجَهَا ابْنُ عمِّها الْمَلِكُ الْكَامِلُ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِنَّمَا لَمْ يُخْلِفْ أموالاً ولا أملاكاً لجوده وكرمه وإحسانه إلى أمرائه وغيرهم، حتى إلى أعدائه، وقد تقدم من ذلك ما يكفي، وقد كان متقللاً في ملبسه، ومأكله ومركبه، وكان لا يَلْبَسُ إِلَّا الْقُطْنَ وَالْكَتَّانَ وَالصُّوفَ، وَلَا يُعْرَفُ أنه تخطى إلى مكروه، ولا سيما بَعْدَ أَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمُلْكِ، بَلْ كان همه الأكبر ومقصده الأعظم نصره الإسلام، وكسر أعدائه اللئام، وكان يعمل رأيه في ذلك وحده، ومع من يثق به ليلاً ونهاراً، وَهَذَا مَعَ مَا لَدَيْهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَاضِلِ، وَالْفَوَائِدِ الْفَرَائِدِ، فِي اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الْحَمَاسَةَ بِتَمَامِهَا، وَكَانَ مُوَاظِبًا عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا فِي الجماعة، يُقَالُ إِنَّهُ لَمْ تَفُتْهُ الْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةٍ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ، حَتَّى وَلَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، كَانَ يَدْخُلُ الْإِمَامُ فَيُصَلِّي بِهِ، فكان يتجشم القيام مع ضعفه، وَكَانَ يَفْهَمُ مَا يُقَالُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ، وَيُشَارِكُ فِي ذَلِكَ مُشَارَكَةً قَرِيبَةً حَسَنَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْعِبَارَةِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ لَهُ الْقُطْبُ النَّيْسَابُورِيُّ عَقِيدَةً فَكَانَ يَحْفَظُهَا وَيُحَفِّظُهَا مَنْ عَقَلَ مِنْ أَوْلَادِهِ، وكان يحب سماع القرآن والحديث والعلم، ويواظب على سماع الحديث، حتى أنه يسمع في بعض مصافه جزء وَهُوَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فَكَانَ يَتَبَجِّحُ بِذَلِكَ وَيَقُولُ هَذَا مَوْقِفٌ لَمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ فِي مِثْلِهِ حَدِيثًا، وَكَانَ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْعِمَادِ الْكَاتِبِ.
وَكَانَ رَقِيقَ الْقَلْبِ سَرِيعَ الدَّمْعَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْحَدِيثِ، وكان كثير التعظيم لشرائع الدين.
كان قد صحب وَلَدِهِ الظَّاهِرِ وَهُوَ بِحَلَبَ شَابٌّ يُقَالُ لَهُ الشِّهَابُ السُّهْرَوَرْدِيُّ، وَكَانَ يَعْرِفُ الْكِيمْيَا وَشَيْئًا مِنَ الشَّعْبَذَةِ وَالْأَبْوَابِ
النِّيرَنْجِيَّاتِ، فَافْتَتَنَ بِهِ وَلَدُ السُّلْطَانِ الظَّاهِرُ، وَقَرَّبَهُ وَأَحَبَّهُ، وَخَالَفَ فِيهِ حَمَلَةَ الشَّرْعِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ لَا مَحَالَةَ، فَصَلَبَهُ عَنْ أَمْرِ وَالِدِهِ وَشَهَّرَهُ، وَيُقَالُ بَلْ حَبَسَهُ بين حيطين حَتَّى مَاتَ كَمَدًا، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وثمانين وخمسمائة، وكان مِنْ أَشْجَعِ النَّاس وَأَقْوَاهُمْ بَدَنًا وَقَلْبًا، مَعَ مَا كَانَ يَعْتَرِي جِسْمَهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ، ولا سيما في حصار عَكَّا، فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ كَثْرَةِ جُمُوعِهِمْ وَأَمْدَادِهِمْ لَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلَّا قُوَّةً وَشَجَاعَةً، وَقَدْ بَلَغَتْ جُمُوعُهُمْ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَيُقَالُ سِتَّمِائَةِ ألف، فقتل منهم مائة ألف مقاتل.
ولما انفصل الحرب وتسلموا عكا وقتلوا من كان بها من المسلمين وساروا برمتهم إلى القدس جعل يسايرهم منزلة منزلة، وَجُيُوشُهُمْ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَنْ مَعَهُ، وَمَعَ هَذَا نصره الله وخذلهم، وسبقهم إلى القدس فصانه وحماه منهم، وَلَمْ يَزَلْ بِجَيْشِهِ مُقِيمًا بِهِ يُرْهِبُهُمْ وَيُرْعِبُهُمْ ويغلبهم ويسلبهم حَتَّى تَضَرَّعُوا إِلَيْهِ وَخَضَعُوا لَدَيْهِ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ في الصلح، وأن تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا سألوا على الوجه الذي أراده، لا على مَا يُرِيدُونَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الرَّحْمَةِ التي رحم الله بها المؤمنين، فَإِنَّهُ مَا انْقَضَتْ تِلْكَ السُّنُونَ حَتَّى مَلَكَ البلاد أخوه الْعَادِلُ فَعَزَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَذَلَّ بِهِ الْكَافِرُونَ، وكان سخياً جبياً ضَحُوكَ الْوَجْهِ كَثِيرَ الْبِشْرِ، لَا يَتَضَجَّرُ مِنْ خير