الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكانت وفاته في جمادى الآخرة (1) وَدُفِنَ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ رحمه الله.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مَنْصُورٍ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَرَّانِيُّ الْحَنْبَلِيُّ تِلْمِيذُ الشَّيْخِ مَجْدِ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ نِيَابَةً عَنِ الْقَاضِي تَاجِ الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ، ثُمَّ وَلِيَ شمس الدين ابن الشَّيْخِ الْعِمَادِ الْقَضَاءَ مُسْتَقِلًّا فَاسْتَنَابَ بِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَرَجَعَ إِلَى الشَّامِ يَشْتَغِلُ وَيُفْتِي إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى السِّتِّينِ رحمه الله.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وستمائة
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلَكِ الظَّاهِرِ رُكْنِ الدِّينِ بَيْبَرْسَ
، صَاحِبِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ وَالْحَلَبِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَقَامَ وَلَدَهُ نَاصِرَ الدِّينِ أَبَا الْمَعَالِي محمد بركه خان الملقب السَّعِيدِ مِنْ بَعْدِهِ، وَوَفَاةُ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّين النَّوَوِيِّ إِمَامِ الشَّافِعِيَّةِ فِيهَا فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ وَقَدْ كَسَرَ التَّتَارَ عَلَى الْبُلُسْتَيْنِ، وَرَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا فَدَخَلَ دِمَشْقَ وَكَانَ يَوْمُ دُخُولِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، فَنَزَلَ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ الَّذِي بَنَاهُ غَرْبِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ الْمَيْدَانَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ، وَتَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ إِلَيْهِ بِأَنَّ أَبْغَا جَاءَ إِلَى الْمَعْرَكَةِ وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَتَأَسَّفَ عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمَغُولِ وَأَمَرَ بِقَتْلِ الْبَرْوَانَاهْ وَذَكَرُوا أَنَّهُ قَدْ عَزَمَ عَلَى قَصْدِ الشَّامِ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِجَمْعِ الْأُمَرَاءِ وَضَرَبَ مَشُورَةً فَاتَّفَقَ مَعَ الْأُمَرَاءِ على ملاقاته حيث كان [من البقاع](2) ، وَتَقَدَّمَ بِضَرْبِ الدِّهْلِيزِ عَلَى الْقَصْرِ (3) ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ أَبْغَا قَدْ رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ فَأَمَرَ بَرَدِّ الدِّهْلِيزِ وَأَقَامَ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ
يَجْتَمِعُ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ وَالْأُمَرَاءُ وَالدَّوْلَةُ فِي أَسَرِّ حَالٍ، وَأَنْعَمِ بَالٍ.
وَأَمَّا أَبْغَا فَإِنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْبَرْوَانَاهْ - وَكَانَ نَائِبَهُ عَلَى بِلَادِ الرُّومِ - وَكَانَ اسْمُهُ مُعِينَ الدِّينِ سُلَيْمَانَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَنٍ، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ بِمُمَالَأَتِهِ لِلْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَسَّنَ لَهُ دُخُولَ بِلَادِ الرُّومِ، وَكَانَ الْبَرْوَانَاهْ شُجَاعًا حَازِمًا كَرِيمًا جَوَادًا، وَلَهُ مَيْلٌ إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَكَانَ قَدْ جَاوَزَ الْخَمْسِينَ لَمَّا قُتِلَ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ خَامِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْقَاهِرُ بَهَاءُ الدِّينِ عبد الملك بن السُّلْطَانِ الْمُعَظَّمُ عِيسَى بْنُ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ رَجُلًا جَيِّدًا سَلِيمَ الصَّدْرِ كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، لَيِّنَ الْكَلِمَةِ كَثِيرَ التَّوَاضُعِ، يُعَانِي مَلَابِسَ الْعَرَبِ وَمَرَاكِبَهُمْ، وكان
(1) في تاريخ الملك الظاهر 2 / 203: توفي يوم السبت حادي عشرين جمادى الأولى.
وكان مولده سنة 636 هـ.
(2)
ما بين معكوفين من تاريخ الملك الظاهر 2 / 214.
(3)
كذا بالاصل، وفي تاريخ الملك الظاهر: القصير: تصغير لقصر، عرفها القلقشندي 4 / 367 بأنها ضيعة أول منزل لمن يريد حمص من دمشق.
(*)
مُعَظَّمًا فِي الدَّوْلَةِ شُجَاعًا مِقْدَامًا، وَقَدْ رَوَى عن ابن الليثي وَأَجَازَ لِلْبِرْزَالِيِّ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ وَيُقَالُ إِنَّهُ سُمَّ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ سَمَّهُ في كأس خمر نَاوَلَهُ إِيَّاهُ فَشَرِبَهُ وَقَامَ السُّلْطَانُ إِلَى الْمُرْتَفَقِ ثُمَّ عَادَ وَأَخَذَ السَّاقِي الْكَأْسَ مِنْ يَدِ الْقَاهِرِ فَمَلَأَهُ وَنَاوَلَهُ السُّلْطَانَ الظَّاهِرَ وَالسَّاقِي لَا يشعر بشئ مِمَّا جَرَى، وَأَنْسَى اللَّهُ السُّلْطَانَ ذَلِكَ الْكَأْسَ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ غَيْرُهُ لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ وَيَقْضِيهِ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ فِي الْكَأْسِ بَقِيَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ، فَشَرِبَ الظَّاهِرُ مَا فِي الْكَأْسِ وَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى شَرِبَهُ فَاشْتَكَى بَطْنَهُ مِنْ سَاعَتِهِ، وَوَجَدَ الْوَهَجَ وَالْحَرَّ وَالْكَرْبَ الشَّدِيدَ مِنْ فَوْرِهِ، وَأَمَّا الْقَاهِرُ فَإِنَّهُ حُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهُوَ مَغْلُوبٌ فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ.
وَتَمَرَّضَ الظَّاهِرُ مِنْ ذَلِكَ أَيَّامًا (1) حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ بَعْدَ الظُّهْرِ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا عَظِيمًا عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عِزُّ الدِّينِ أَيْدَمُرُ وَكِبَارُ الْأُمَرَاءِ وَالدَّوْلَةُ، فَصَلَّوْا عَلَيْهِ سِرًّا وَجَعَلُوهُ فِي تَابُوتٍ وَرَفَعُوهُ إِلَى الْقَلْعَةِ مِنَ السُّورِ وَجَعَلُوهُ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الْبَحْرِيَّةِ إِلَى أَنْ نُقِلَ إِلَى تُرْبَتِهِ الَّتِي
بَنَاهَا وَلَدُهُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهِيَ دَارُ الْعَقِيقِيِّ تُجَاهَ الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ خَامِسَ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكُتِمَ مَوْتُهُ فَلَمْ يَعْلَمْ جُمْهُورُ النَّاس بِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَجَاءَتِ البيعة لولده السعيدمن مصر فحزن النَّاسُ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ تَرَحُّمًا كَثِيرًا، وَجُدِّدَتِ الْبَيْعَةُ أَيْضًا بِدِمَشْقَ وَجَاءَ تَقْلِيدُ النِّيَابَةِ بِالشَّامِ مُجَدَّدًا إِلَى عِزِّ الدِّينِ أَيْدَمُرَ نَائِبِهَا.
وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ شَهْمًا شُجَاعًا عَالِيَ الْهِمَّةِ بَعِيدَ الْغَوْرِ مِقْدَامًا جَسُورًا مُعْتَنِيًا بِأَمْرِ السَّلْطَنَةِ، يُشْفِقُ عَلَى الْإِسْلَامِ، مُتَحَلِّيًا بِالْمُلْكِ، لَهُ قَصْدٌ صَالِحٌ فِي نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَإِقَامَةِ شِعَارِ الْمُلْكِ، وَاسْتَمَرَّتْ أَيَّامُهُ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ إِلَى هَذَا الْحِينِ، فَفَتَحَ فِي هَذِهِ المدة فتوحات كثيرة قيسارية وأرسون وَيَافَا وَالشَّقِيفَ وَأَنْطَاكِيَةَ وَبَغْرَاسَ (2) وَطَبَرِيَّةَ وَالْقُصَيْرَ وَحِصْنَ الاكراد وحصن ابن عكار (3) والغرين وصافينا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَلَمْ يَدَعْ مَعَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ شَيْئًا مِنَ الْحُصُونِ، وَنَاصَفَ الْفِرِنْجَ عَلَى الْمَرْقَبِ، وَبَانِيَاسَ وبلاد انطرسوس، وَسَائِرِ مَا بَقِيَ بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْحُصُونِ، وولى في نصيبه
(1) في الروض الزاهر ص 474: ثلاثة عشر يوماً.
وحول ظروف مرضه وأسبابه كثرت الروايات منها تفيد بأنه مات بسبب دوزنطارية أصابته، وأخرى تشير إلى إنه مات مسموماً.
انظر (الروض الزاهر ص 473 - تاريخ الملك الظاهر 2 / 215 مختصر أبي الفداء 4 / 10 ابن العبري ص 503 شافع بن علي في حسن المناقب ص 163) .
(2)
في البداية المطبوعة: بعراض وهو تحريف.
(3)
في الاصل: حصن عكا.
وهو تصحيف، وما أثبتناه من تاريخ الملك الظاهر 2 / 8، وفي المقريزي السلوك 1 / 2 / 602: حصن عكار، هذا الحصن يقع على مسافة يوم من مدينة طرابلس نحو الشرق، قبل سمي باسم بانيه محرز بن عكار استولى عليه الافرنج وبقي بيدهم حتى سقط بيد الظاهر بيبرس سنة 669 هـ.
(الروض الزاهر ص 379 - أبو الفداء - المختصر 4 / 10) .
(*)
مِمَّا نَاصَفَهُمْ عَلَيْهِ النُّوَّابَ وَالْعُمَّالَ وَفَتَحَ قَيْسَارِيَّةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَأَوْقَعَ بِالرُّومِ وَالْمَغُولِ عَلَى الْبُلُسْتَيْنِ
بَأْسًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ مِنْ دُهُورٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَاسْتَعَادَ مِنْ صَاحِبِ سِيسَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَجَاسَ خِلَالَ دِيَارِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَاسْتَرَدَّ مِنْ أَيْدِي الْمُتَغَلِّبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْلَبَكَّ وَبُصْرَى وَصَرْخَدَ وَحِمْصَ وَعَجْلُونَ وَالصَّلْتَ وَتَدْمُرَ وَالرَّحْبَةَ وَتَلَّ بَاشِرٍ وَغَيْرَهَا، وَالْكَرَكَ وَالشَّوْبَكَ، وَفَتَحَ بِلَادَ النُّوبَةِ بِكَمَالِهَا مِنْ بِلَادِ السُّودَانِ، وَانْتَزَعَ بِلَادًا مِنَ التَّتَارِ كَثِيرَةً، منها شيرزور وَالْبِيرَةُ، وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَتُهُ مِنَ الْفُرَاتِ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ النَّوْبَةِ، وَعَمَّرَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْحُصُونِ وَالْمَعَاقِلِ وَالْجُسُورِ عَلَى الْأَنْهَارِ الْكِبَارِ، وَبَنَى دَارَ الذَّهَبِ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ، وَبَنَى قُبَّةً عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ عَمُودًا مُلَوَّنَةً مُذَهَّبَةً، وَصَوَّرَ فِيهَا صُوَرَ خَاصَّكِيَّتِهِ وَأَشْكَالَهُمْ، وَحَفَرَ أَنْهَارًا كَثِيرَةً وَخُلْجَانَاتٍ بِبِلَادِ مصر، منها نهر السرداس، وَبَنَى جَوَامِعَ كَثِيرَةً وَمَسَاجِدَ عَدِيدَةً، وَجَدَّدَ بِنَاءَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ احْتَرَقَ، وَوَضَعَ الدَّرَابِزِينَاتِ حَوْلَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، وَعَمِلَ فِيهِ مِنْبَرًا وَسَقَفَهُ بِالذَّهَبِ، وَجَدَّدَ الْمَارَسْتَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَجَدَّدَ قَبْرَ الْخَلِيلِ عليه السلام، وَزَادَ فِي زَاوِيَتِهِ وَمَا يُصْرَفُ إِلَى الْمُقِيمِينَ، وَبَنَى عَلَى الْمَكَانِ الْمَنْسُوبِ إِلَى قَبْرِ مُوسَى عليه السلام قُبَّةً قِبْلَيَّ أَرِيحَا، وَجَدَّدَ بِالْقُدْسِ أَشْيَاءَ حَسَنَةً مِنْ ذَلِكَ قُبَّةُ السِّلْسِلَةِ، وَرَمَّمَ سَقْفَ الصَّخْرَةِ وَغَيْرَهَا، وَبَنَى بِالْقُدْسِ خَانًا هَائِلًا بِمَامَلَا، وَنَقَلَ إِلَيْهِ بَابَ قَصْرِ الْخُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ مِنْ مِصْرَ، وَعَمِلَ فِيهِ طَاحُونًا وَفُرْنًا وَبُسْتَانًا، وَجَعَلَ لِلْوَارِدِينَ إِلَيْهِ أَشْيَاءَ تُصْرَفُ إِلَيْهِمْ فِي نَفَقَةِ وإصلاح أمتعتهم رحمه الله.
وَبَنَى عَلَى قَبْرِ أَبِي عُبَيْدَةَ بِالْقُرْبِ مِنْ عمتنا مَشْهَدًا، وَوَقَفَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ لِلْوَارِدِينَ إِلَيْهِ، وَعَمَّرَ جِسْرَ دَامِيَةٍ، وَجَدَّدَ قَبْرَ جَعْفَرٍ الطَّيَّارِ بِنَاحِيَةِ الْكَرَكِ، وَوَقَفَ عَلَى الزَّائِرِينَ لَهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وجدد قلعة صفت وَجَامِعَهَا، وَجَدَّدَ جَامِعَ الرَّمْلَةِ وَغَيْرَهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي كَانَتِ الْفِرِنْجُ قَدْ أَخَذَتْهَا وَخَرَّبَتْ جَوَامِعَهَا وَمَسَاجِدَهَا، وَبَنَى بِحَلَبَ دَارًا هَائِلَةً، وَبِدِمَشْقَ الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ وَالْمَدْرَسَةَ الظَّاهِرِيَّةَ وَغَيْرَهَا، وَضَرَبَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ الْجَيِّدَةَ الْخَالِصَةَ عَلَى النُّصْحِ وَالْمُعَامَلَةِ الْجَيِّدَةِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَهُ مِنَ الْآثَارِ الْحَسَنَةِ وَالْأَمَاكِنِ مَا لَمْ يُبْنَ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ وَمُلُوكِ بَنِي أَيُّوبَ، مَعَ اشتغاله في الجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاسْتَخْدَمَ مِنَ الْجُيُوشِ شَيْئًا كثيراً، ورد إليه نحواً مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَغُولِ فَأَقْطَعَهُمْ وأمَّر كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَكَانَ مُقْتَصِدًا فِي مَلْبَسِهِ وَمَطْعَمِهِ وَكَذَلِكَ جَيْشُهُ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ
الدَّوْلَةَ الْعَبَّاسِيَّةَ بَعْدَ دُثُورِهَا، وَبَقِيَ النَّاسُ بِلَا خَلِيفَةٍ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَهُوَ الَّذِي أَقَامَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ قَاضِيًا مُسْتَقِلًّا قَاضِيَ قُضَاةٍ.
وَكَانَ رحمه الله مُتَيَقِّظًا شَهْمًا شُجَاعًا لَا يَفْتُرُ عَنِ الْأَعْدَاءِ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، بَلْ هُوَ مُنَاجِزٌ لِأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلَمِّ شَعَثِهِ وَاجْتِمَاعِ شَمْلِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ أَقَامَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُتَأَخِّرِ عَوْنًا وَنَصْرًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَشَجًا فِي حُلُوقِ الْمَارِقِينَ مِنَ الْفِرِنْجِ وَالتَّتَارِ، وَالْمُشْرِكِينَ.
وَأَبْطَلَ الْخُمُورَ وَنَفَى الْفُسَّاقَ مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ لَا يرى شيئاً من الفساد والمفاسد إلى سَعَى فِي إِزَالَتِهِ بِجُهْدِهِ وَطَاقَتِهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سِيرَتِهِ مَا أَرْشَدَ إِلَى حُسْنِ طَوِيَّتِهِ وَسَرِيرَتِهِ، وَقَدْ جَمَعَ لَهُ كَاتِبُهُ ابْنُ عَبْدِ الظَّاهِرِ سِيرَةً مُطَوَّلَةً، وَكَذَلِكَ ابْنُ شَدَّادٍ أَيْضًا.
وَقَدْ تَرَكَ مِنَ
الأولاد عشرة: ثلاثة ذكور (1) وسبع (2) إِنَاثٍ وَمَاتَ وَعُمْرُهُ مَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ إِلَى السِّتِّينِ، وَلَهُ أَوْقَافٌ وَصِلَاتٌ وَصَدَقَاتٌ، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ الْحَسَنَاتِ، وَتَجَاوَزَ لَهُ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَقَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ السَّعِيدُ بِمُبَايَعَةِ أَبِيهِ لَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَكَانَ عُمُرُ السَّعِيدِ يَوْمَئِذٍ دُونَ الْعِشْرِينَ (3) سَنَةً، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ وَأَتَمِّ الرِّجَالِ، وَفِي صفر وصلت الهدايا من الفنس مع رسله إلى الديار المصرية فوجدا السُّلْطَانَ قَدْ مَاتَ، وَقَدْ أُقِيمَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ وَلَدُهُ مَكَانَهُ وَالدَّوْلَةُ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَالْمَعْرِفَةُ بَعْدَهُ مَا تَنَكَّرَتْ، وَلَكِنِ الْبِلَادُ قَدْ فَقَدَتْ أَسَدَهَا بَلْ أَسَدَّهَا وَأَشَدَّهَا، بَلِ الَّذِي بَلَغَ أَشُدَّهَا، وَإِذَا انْفَتَحَتْ ثَغْرَةٌ مِنْ سُورِ الْإِسْلَامِ سَدَّهَا، وَكُلَّمَا انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ مِنْ عُرَى الْعَزَائِمِ شَدَّهَا، وَكُلَّمَا رَامَتْ فِرْقَةٌ مَارِقَةٌ مِنْ طَوَائِفِ الطَّغَامِ أَنْ تَلِجَ إِلَى حَوْمَةِ الْإِسْلَامِ صَدَّهَا وَرَدَّهَا، فَسَامَحَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ، وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مُتَقَلَّبَهُ وَمَثْوَاهُ.
وَكَانَتِ الْعَسَاكِرُ الشَّامِيَّةُ قَدْ سَارَتْ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَعَهُمْ مِحَفَّةٌ يُظْهِرُونَ أَنَّ السلطان بها مَرِيضٌ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى الْقَاهِرَةِ فَجَدَّدُوا الْبَيْعَةَ لِلسَّعِيدِ بَعْدَمَا أَظْهَرُوا مَوْتَ الْمَلِكِ السَّدِيدِ الَّذِي هُوَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ شَهِيدٌ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ خُطِبَ فِي جَمِيعِ الْجَوَامِعِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْمَلِكِ السَّعِيدِ، وَصَلَّى عَلَى وَالِدِهِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَاسْتَهَلَّتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ.
وَفِي مُنْتَصَفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ رَكِبَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ بالعصائب على عادته وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ الْمِصْرِيُّ وَالشَّامِيُّ، حَتَّى
وَصَلَ إِلَى الْجَبَلِ الْأَحْمَرِ وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا، وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَعَلَيْهِ أُبَّهَةُ الْمَلِكِ وَرِيَاسَةُ السَّلْطَنَةِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ رَابِعِ جُمَادَى الْأُولَى فُتِحَتْ مَدْرَسَةُ الْأَمِيرِ شَمْسِ الدِّينِ آقْسُنْقُرَ الْفَارِقَانِيِّ بِالْقَاهِرَةِ، بَحَارَةِ الْوَزِيرِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعَمِلَ فِيهَا مَشْيَخَةَ حَدِيثٍ وَقَارِئٍ.
وَبَعْدَهُ بِيَوْمٍ عُقِدَ عَقْد ابْنِ الخليفة المستمسك بالله بن الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، عَلَى ابْنَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْصِرِ بْنِ الظَّاهِرِ، وَحَضَرَ وَالِدُهُ وَالسُّلْطَانُ وَوُجُوهُ النَّاسِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعِ جُمَادَى الْأُولَى شُرِعَ فِي بِنَاءِ الدَّارِ الَّتِي تُعْرَفُ بِدَارِ الْعَقِيقِيِّ، تُجَاهَ الْعَادِلِيَّةِ، لِتُجْعَلَ مَدْرَسَةً وَتُرْبَةً لِلْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا دَارًا لِلْعَقِيقِيِّ، وَهِيَ الْمُجَاوِرَةُ لِحَمَّامِ الْعَقِيقِيِّ، وَأُسِّسَ أَسَاسُ التُّرْبَةِ فِي خَامِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَأُسِّسَتِ الْمَدْرَسَةُ أَيْضًا.
وفي رمضان طلعت سحابة عظيمة بمدينة صفت لَمَعَ مِنْهَا بَرْقٌ شَدِيدٌ، وَسَطَعَ مِنْهَا لِسَانُ نَارٍ، وَسُمِعَ مِنْهَا صَوْتٌ شَدِيدٌ هَائِلٌ، وَوَقَعَ منها على منارة صفت صَاعِقَةٌ شَقَّتْهَا مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا شَقًّا يدخل الكف فيه.
(1) ذكر ابن شداد في تاريخه 2 / 226: الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة - ونجم الدين خضر، والعادل بدر الدين سلامش، وولدين ماتا طفلين في شهر واحد سنة 668 - ولكل واحد سنتان.
(2)
في الاصل: سبعة.
(3)
كان مولده في صفر سنة 658 هـ، أمه بنت حسام الدين بركه خان بن دولة خان الخوارزمي.
(*)