الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَنْ أَذَاهُمْ وَالتُّرْجُمَانُ يُعِيدُ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ الْمَلِكُ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ فَضْلِ الْخَلِيفَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنِّي إِذَا قَدِمْتُ بَغْدَادَ أقمت من يكون بهذه الصفة، وأما ما ذَكَرْتَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَذَاهُمْ
فَإِنِّي لَمْ أُوذِ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَكِنَّ الْخَلِيفَةَ فِي سُجُونِهِ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ يَتَنَاسَلُونَ فِي السُّجُونِ، فَهُوَ الَّذِي آذَى بَنِي الْعَبَّاسِ، ثُمَّ تَرَكَهُ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَانْصَرَفَ السُّهْرَوَرْدِيُّ رَاجِعًا، وَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمَلِكِ وَجُنْدِهِ ثلجاً عظيماً ثلاثة أيَّام حتى طم الحزاكي والخيام، ووصل إلى قريب رؤوس الْأَعْلَامِ، وَتَقَطَّعَتْ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلُهُمْ، وَعَمَّهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، فَرَدَّهُمُ اللَّهُ خَائِبِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَفِيهَا انْقَضَتِ الْهُدْنَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْعَادِلِ وَالْفِرِنْجِ واتفق قدوم العادل من مصر فاجتمع هو وابنه المعظم ببيسان، فركبت الفرنج من عكا وَصُحْبَتُهُمْ مُلُوكُ السَّوَاحِلِ كُلُّهُمْ وَسَاقُوا كُلُّهُمْ قَاصِدِينَ معافصة الْعَادِلِ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ فَرَّ مِنْهُمْ لِكَثْرَةِ جيوشهم وقلة من معه، فقال ابنه المعظم إلى أين يا أبة؟ فَشَتَمَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَقَالَ لَهُ أَقْطَعْتَ الشَّامَ مَمَالِيكَكَ وتركت أبناء الناس، ثم توجه الْعَادِلُ إِلَى دِمَشْقَ وَكَتَبَ إِلَى وَالِيهَا الْمُعْتَمِدِ لِيُحَصِّنَهَا مِنَ الْفِرِنْجِ وَيَنْقُلَ إِلَيْهَا مِنَ الْغَلَّاتِ مِنْ دَارَيَّا إِلَى الْقَلْعَةِ، وَيُرْسِلَ الْمَاءَ عَلَى أَرَاضِي دَارَيَّا وَقَصْرِ حَجَّاجٍ وَالشَّاغُورِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ وَابْتَهَلُوا إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ وَكَثُرَ الضجيج بالجامع، وأقبل السلطان فنزل مرج الصُّفَّرِ وَأَرْسَلَ إِلَى مُلُوكِ الشَّرْقِ لِيَقْدَمُوا لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ صَاحِبُ حِمْصَ أسد الدين، فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ فَدَخَلَ مِنْ بَابِ الْفَرَجِ وَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى سِتِّ الشَّامِ بِدَارِهَا عِنْدَ الْمَارَسْتَانِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دَارِهِ، وَلَمَّا قَدِمَ أَسَدُ الدين سرى عن الناس فلما أصبح توجه نحو العادل إلى مرج الصفر.
وأما الفرنج فإنهم قدموا بَيْسَانَ فَنَهَبُوا مَا كَانَ بِهَا مِنَ الْغَلَّاتِ والدواب، وقتلوا وسبوا شَيْئًا كَثِيرًا، ثُمَّ عَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا يقتلون وينهبون ويأسرون مَا بَيْنَ بَيْسَانَ إِلَى بَانِيَاسَ، وَخَرَجُوا إِلَى أراضي الجولان إلى نوى وغيرها، وَسَارَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ فَنَزَلَ عَلَى عَقَبَةِ اللَّبَنِ بين القدس ونابلس خوفاً على القدس منهم، فإنه هو الأهم الأكبر، ثُمَّ حَاصَرَ الْفِرِنْجُ حِصْنَ الطُّورِ حِصَارًا هَائِلًا (1) وَمَانَعَ عَنْهُ الَّذِينَ بِهِ مِنَ الْأَبْطَالِ مُمَانَعَةً هَائِلَةً، ثُمَّ كَرَّ الْفِرِنْجُ رَاجِعِينَ إِلَى عَكَّا ومعهم الأسارى من المسلمين، وَجَاءَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ إِلَى الطُّورِ فَخَلَعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ بِهِ وَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ، ثُمَّ اتَّفَقَ هو وأبوه على هدمه كما سيأتي.
وفيها توفي
من الأعيان: الشيخ الإمام العلامة الشَّيْخُ الْعِمَادُ أَخُو الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ، أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيِّ بن سرور المقدسي،
(1) استمروا عليه سبعة عشر يوماً (ابن الاثير - العبر لابن خلدون) .
(*)
الشيخ العمادي أَصْغَرَ مِنْ أَخِيهِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ بِسَنَتَيْنِ، وقدم مع الجماعة إلى دمشق سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ودخل بَغْدَادَ مَرَّتَيْنِ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا ورعاً كَثِيرَ الصِّيَامِ، يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَكَانَ فقيهاً مفتياً، وله كتاب الفروع وَصَنَّفَ أَحْكَامًا وَلَمْ يُتِمَّهُ، وَكَانَ يَؤُمُّ بِمِحْرَابِ الْحَنَابِلَةِ مَعَ الشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ بِغَيْرِ مِحْرَابٍ، ثُمَّ وُضِعَ الْمِحْرَابُ فِي سَنَةِ سبع عشرة وستمائة، وكان أيضاً يَؤُمُّ بِالنَّاسِ لِقَضَاءِ الْفَوَائِتِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ.
صَلَّى الْمَغْرِبَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَكَانَ صائماً ثم رجع إلى منزله بِدِمَشْقَ فَأَفْطَرَ ثُمَّ مَاتَ فَجْأَةً، فَصَلَّى عَلَيْهِ بالجامع الأموي، صلى عليه الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ عِنْدَ مُصَلَّاهُمْ، ثُمَّ صَعِدُوا بِهِ إِلَى السَّفْحِ، وَكَانَ يَوْمُ مَوْتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا من كثرة الناس.
قَالَ سِبْطُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ كَانَ الْخَلْقُ مِنَ الكهف إلى مغارة الدم إلى المنطور لو بذر السمسم ما وقع إلا على رؤوس الناس، قال فلما رجعت تلك الليلة فكرت فيه وفي جنازته وكثرة من شهدها وقلت: هذا كان رجلاً صالحاً ولعله أن يكون نظر إلى ربه حين وضع في قبره، وَمَرَّ بِذِهْنِي أَبْيَاتُ الثَّوْرِيِّ الَّتِي أَنْشَدَهَا بَعْدَ موته في المنام: نَظَرْتُ إِلَى رَبِّي كِفَاحًا فَقَالَ لِي * هَنِيئًا رضائي عنك يا بن سعيد لقد كنت قواماً إذا أظلم الدُّجَى * بِعَبْرَةِ مُشْتِاقٍ وَقَلْبِ عَمِيدِ فَدُونَكَ فَاخْتَرْ أي قصر أردته * وزرني فإني عنك غَيْرُ بَعِيدِ ثُمَّ قُلْتُ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ العماد رأى ربه كما رآه الثَّوْرِيُّ، فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ الشَّيْخَ الْعِمَادَ فِي الْمَنَامِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ خَضْرَاءُ وَعِمَامَةٌ خَضْرَاءُ، وَهُوَ فِي مَكَانٍ مُتَّسِعٍ كَأَنَّهُ رَوْضَةٌ، وَهُوَ يَرْقَى فِي دَرَجٍ مُتَّسِعَةٍ، فَقُلْتُ: يَا عِمَادَ الدِّينِ كَيْفَ بِتَّ فَإِنِّي وَاللَّهِ مُفَكِّرٌ فِيكَ؟ فَنَظَرَ إِلَيَّ وتبسم على عادته التي كنت أعرفه
فيها فِي الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ إِلَهِي حِينَ أُنْزِلْتُ حُفْرَتِي * وَفَارَقْتُ أَصْحَابِي وَأَهْلِي وَجِيرَتِي وَقَالَ: جُزِيتَ الْخَيْرَ عَنِّي فَإِنَّنِي * رَضِيتُ فَهَا عَفْوِي لَدَيْكَ وَرَحْمَتِي دأبت زماناً تأمل العفو وَالرِّضَا * فَوُقِّيتَ نِيرَانِي وَلُقِّيتَ جَنَّتِي قَالَ فَانْتَبَهْتُ وأنا مذعور وكتبت الأبيات والله أعلم.
القاضي جمال الدين ابن الْحَرَسْتَانِيِّ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الفضل أبو القاسم الأنصاري ابن الْحَرَسْتَانِيِّ قَاضِي الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ وُلِدَ سَنَةَ عِشْرِينَ وخمسمائة، وكان أبوه من أهل حرستان، فَنَزَلَ دَاخِلَ بَابِ تُومَا وأمَّ بِمَسْجِدِ الزَّيْنَبِيِّ وَنَشَأَ وَلَدُهُ هَذَا نَشْأَةً حَسَنَةً سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَشَارَكَ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ فِي كَثِيرٍ من شيوخه، وكان يجلس للإسماع بِمَقْصُورَةِ الْخَضِرِ، وَعِنْدَهَا كَانَ يُصَلِّي دَائِمًا لَا تفوته الجماعة