الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ كَانَ ثِقَةً عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا، لَمْ يَكُنْ فِي أولاد الشيخ عبد القادر الجيلاني خَيْرٌ مِنْهُ، لَمْ يَدْخُلْ فِيمَا دَخَلُوا فِيهِ مِنَ الْمَنَاصِبِ وَالْوِلَايَاتِ، بَلْ كَانَ مُتَقَلِّلًا مِنَ الدنيا مقبلاً على أمر الْآخِرَةِ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَسُمِعَ عَلَيْهِ أَيْضًا.
أبو الحزم مكي بن زيان (1) ابن شَبَّةَ بْنِ صَالِحِ الْمَاكِسِينِيُّ (2) ، مِنْ أَعْمَالِ سِنْجَارَ، ثم الموصلي النحوي، قدم بغداد وأخذ على ابْنِ الْخَشَّابِ وَابْنِ الْقَصَّارِ، وَالْكَمَالِ الْأَنْبَارِيِّ، وِقَدِمَ الشام فانتفع به خلق كثير مِنْهُمُ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ وَغَيْرُهُ وَكَانَ ضريراً، وكان يَتَعَصَّبُ لِأَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْأَدَبِ وَالْعَمَى، وَمِنْ شِعْرِهِ: إِذَا احْتَاجَ النَّوَالُ إِلَى شَفِيعٍ * فَلَا تَقْبَلْهُ تصبح قَرِيرَ عَيْنِ إِذَا عِيفَ النَّوَالُ لَفَرْدِ مَنٍّ * فَأَوْلَى أَنْ يُعَافَ لِمِنَّتَيْنِ وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا: نَفْسِي فِدَاءٌ لِأَغْيَدٍ غَنِجٍ * قَالَ لَنَا الْحَقَّ حين وَدَّعَنَا مَنْ وَدَّ شَيْئًا مِنْ حُبِّهِ طَمَعًا * في قتله للوداع ودعنا إِقْبَالٌ الْخَادِمُ جَمَالُ الدِّينِ أَحَدُ خُدَّامِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَاقِفُ الْإِقْبَالِيَّتَيْنِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَكَانَتَا دَارَيْنِ
فَجَعَلَهُمَا مَدْرَسَتَيْنِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِمَا وَقْفًا الْكَبِيرَةَ لِلشَّافِعِيَّةِ والصغيرة للحنفية، وعليها ثلث الوقف.
توفي بِالْقُدْسِ رحمه الله.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وستمائة فِيهَا رَجَعَ الْحُجَّاجُّ إِلَى الْعِرَاقِ وَهُمْ يَدْعُونَ الله ويشكون إليه ما لقوا من صدر جهان الْبُخَارِيِّ الْحَنَفِيِّ، الَّذِي كَانَ قَدِمَ بَغْدَادَ فِي رِسَالَةٍ فَاحْتَفَلَ بِهِ الْخَلِيفَةُ، وَخَرَجَ إِلَى الْحَجِّ في هذه السنة
،
(1) في وفيات الاعيان 5 / 278 وأنباه الرواة 3 / 320 والشذرات 5 / 11: ديان.
(2)
الماكسيني: نسبة إلى ماكسين: وهي بليدة من أعمال الجزيرة الفراتية على نهر الخابور ورغم صغرها تشابه المدن في حسن بنائها.
(*)
فَضَيَّقَ عَلَى النَّاس فِي الْمِيَاهِ وَالْمِيرَةِ، فَمَاتَ بسبب ذلك ستة آلاف من حجيج العراق، وكان فيما ذكروا يأمر غلمانه فتسبق إلى المناهل فيحجزون على المياه ويأخذون الماء فيرشونه حول خيمته في قيظ الحجاز ويسقونه للبقولات التي كانت تحمل معه في ترابها، ويمنعون منه الناس وابن السبيل، الأمين البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ ربهم ورضواناً، فَلَمَّا رَجَعَ مَعَ النَّاسِ لَعَنَتْهُ الْعَامَّةُ وَلَمْ تَحْتَفِلْ بِهِ الْخَاصَّةُ وَلَا أَكْرَمَهُ الْخَلِيفَةُ وَلَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَحَدًا، وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ وَالْعَامَّةُ مِنْ وَرَائِهِ يَرْجُمُونَهُ وَيَلْعَنُونَهُ، وَسَمَّاهُ النَّاسُ صَدْرَ جهنم، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله أن يزيدنا شفقة ورحمة لعباده، فإنه إنما يرحم من عباده الرحماء.
وَفِيهَا قَبِضَ الْخَلِيفَةُ عَلَى وَزِيرِهِ ابْنِ مَهْدِيٍّ العلوي، وذلك أنه نُسِبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرُومُ الْخِلَافَةَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ حُبِسَ بِدَارِ طَاشْتِكِينَ حَتَّى مَاتَ بِهَا، وَكَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ: خَلِيلَيَّ قُولَا لِلْخَلِيفَةِ وانصحا (1) * تَوَقَّ وُقِيتَ السُّوءَ مَا أَنْتَ صَانِعُ وَزِيرُكَ هَذَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ فِيهِمَا * صَنِيعُكَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ ضَائِعُ فَإِنْ كَانَ حَقًّا مِنْ سُلَالَةِ حَيْدَرٍ (2) * فَهَذَا وَزِيرٌ فِي الْخِلَافَةِ طَامِعُ وَإِنْ كَانَ فِيمَا يَدَّعِي غَيْرَ صَادِقٍ * فَأَضْيَعُ مَا كَانَتْ لَدَيْهِ الصَّنَائِعُ
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ عَفِيفًا عَنِ الْأَمْوَالِ حَسَنَ السِّيرَةِ جَيِّدَ الْمُبَاشَرَةِ فَاللَّهُ أعلم بحاله.
وفي رمضان منها رَتَّبَ الْخَلِيفَةُ عِشْرِينَ دَارًا لِلضِّيَافَةِ يُفْطِرُ فِيهَا الصائمون من الفقراء، يطبخ لهم فِي كُلِّ يَوْمٍ فِيهَا طَعَامٌ كَثِيرٌ وَيُحْمَلُ إليها أيضاً من الخبز النقي والحلواء شئ كثير، وهذا الصنيع يشبه ما كانت قريش تفعله مِنَ الرِّفَادَةِ فِي زَمَنِ الْحَجِّ، وَكَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، كَمَا كَانَ الْعَبَّاسُ يَتَوَلَّى السِّقَايَةَ، وَقَدْ كَانَتْ فِيهِمُ السِّفَارَةُ وَاللِّوَاءُ والندوة له، كَمَا تقدَّم بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ، وَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْمَنَاصِبُ كُلُّهَا عَلَى أَتَمِّ الْأَحْوَالِ في الخلفاء العباسيين.
وفيها أرسل الخليفة الشَّيخ شهاب الدِّين الشهرزوري وَفِي صُحْبَتِهِ سُنْقُرُ السِّلِحْدَارُ إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ بِالْخِلْعَةِ السَّنِيَّةِ، وَفِيهَا الطَّوْقُ وَالسِّوَارَانِ، وَإِلَى جَمِيعِ أَوْلَادِهِ بِالْخِلَعِ أَيْضًا.
وَفِيهَا مَلَكَ الْأَوْحَدُ بْنُ الْعَادِلِ صَاحِبُ مَيَّافَارِقِينَ مَدِينَةَ خِلَاطَ بَعْدَ قَتْلِ صاحبها شرف الدين بَكْتَمُرَ، وَكَانَ شَابًّا جَمِيلَ الصُّورَةِ جِدًّا، قَتَلَهُ بَعْضُ مَمَالِيكِهِمْ (3) ثُمَّ قُتِلَ الْقَاتِلُ أَيْضًا، فَخَلَا البلد عن ملك فأخذها الا وحد بن العادل.
وَفِيهَا مَلَكَ خُوَارِزْمُ شَاهْ مُحَمَّدُ بْنُ تِكِشَ بلاد ما وراء النهر بعد حروب طويلة.
اتَّفق له في بعض
(1) صدره في ابن الاثير: ألا مبلغ عني الخليفة أحمدا.
(2)
في ابن الأثير 12 / 276: أحمد.
(3)
انظر حاشية 1 صفحة 10 فيمن توفي من الأعيان في سنة 589 هـ.
أقول وبعد مقتل هزار ديناري ملك بلبان خلاط وقد قتله ابن قلج أرسلان غدرا وطمعا في خلاط.
لكن أهلها منعوه منها وأرسلوا يدعون نجم الدين ليملكوه فحضر عندهم وملك خلاط.
(*)
المواقف أَمْرٌ عَجِيبٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْهَزَمُوا عَنِ خوارزم شاه وبقي معه عصابة قليلة من أصحابه، فقتل منهم كفار الْخِطَا مَنْ قَتَلُوا، وَأَسَرُوا خَلْقًا مِنْهُمْ، وَكَانَ السلطان خوارزم شاه في جملة من أسروا، أَسَرَهُ رَجُلٌ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ الْمَلِكُ، وَأَسَرَ مَعَهُ أَمِيرًا يُقَالُ له مَسْعُودٍ، فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ وَتَرَاجَعَتِ الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ إلى مقرها فقدوا السُّلْطَانَ فَاخَتَبَطُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا كَثِيرًا وانزعجت خراسان بكمالها، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حلف أَنَّ السُّلْطَانَ قَدْ قُتِلَ، وَأَمَّا مَا كَانَ من أمر
السلطان وذاك الأمير فقال الأمير للسلطان: من المصلحة أن تترك اسم الْمُلْكَ عَنْكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَتُظْهِرَ أَنَّكَ غلام لي، فقبل منه ما قال وأشار به، ثم جعل الملك يخدم ذلك الأمير يلبسه ثيابه ويسقيه الماء ويصنع له الطعام ويضعه بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يَأْلُو جُهْدًا فِي خِدْمَتِهِ، فَقَالَ الَّذِي أَسَرَهُمَا: إِنِّي أَرَى هَذَا يَخْدُمُكَ فمن أنت؟ فقال: أنا مسعود الأمير، وهذا غلامي، فقال: والله لو علم الأمراء أني قد أسرت أميراً وأطلقته لأطلقتك، فقال له: إِنِّي إِنَّمَا أَخْشَى عَلَى أَهْلِي، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنِّي قَدْ قُتِلْتُ وَيُقِيمُونَ الْمَأْتَمَ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُفَادِيَنِي عَلَى مَالٍ وَتُرْسِلَ مَنْ يَقْبِضُهُ مِنْهُمْ فَعَلْتَ خَيْرًا، فَقَالَ: نَعَمْ، فَعَيَّنَ رَجُلًا من أصحابه فقال له الأمير مَسْعُودٍ: إِنَّ أَهْلِي لَا يَعْرِفُونَ هَذَا وَلَكِنْ إن رأيت أن أرسل معه غلامي هذا فعلت ليبشرهم بحياتي فإنهم يعرفونه، ثم يسعى في تحصيل الْمَالِ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَجَهَّزَ مَعَهُمَا مَنْ يَحْفَظُهُمَا إلى مدينة خوارزم شاه.
فلما دنوا من مدينة خوارزم سبق الملك إليها.
فلما رآه الناس فرحوا به فَرَحًا شَدِيدًا، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي سَائِرِ بِلَادِهِ، وَعَادَ الْمُلْكُ إِلَى نِصَابِهِ، وَاسْتَقَرَّ السُّرُورُ بِإِيَابِهِ، وَأَصْلَحَ مَا كَانَ وَهَى مِنْ مَمْلَكَتِهِ بِسَبَبِ ما اشتهر من قتله، وَحَاصَرَ هَرَاةَ وَأَخَذَهَا عَنْوَةً.
وَأَمَّا الَّذِي كَانَ قد أسره فإنه قال يوماً للأمير مسعود الذي يتوجه لي وينوهون به أن خوارزم شاه قد قُتل، فَقَالَ: لَا، هُوَ الَّذِي كَانَ فِي أَسْرِكَ، فَقَالَ لَهُ: فَهَلَّا أَعْلَمْتَنِي بِهِ حَتَّى كُنْتُ أَرُدُّهُ مُوَقَّرًا مُعَظَّمًا؟ فَقَالَ: خِفْتُكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: سِرْ بِنَا إِلَيْهِ، فَسَارَا إِلَيْهِ فَأَكْرَمَهُمَا إِكْرَامًا زائداً، وأحسن إليهما.
وأما غدر صاحب سمرقند فإنه قتل كل من كان في أسره مِنَ الْخُوَارِزْمِيَّةِ، حتَّى كَانَ الرَّجل يُقْطَعُ قِطْعَتَيْنِ وَيُعَلَّقُ فِي السُّوقِ كَمَا تُعَلَّقَ الْأَغْنَامُ، وَعَزَمَ عَلَى قَتْلِ زَوْجَتِهِ بِنْتِ خُوَارِزْمِ شَاهْ ثُمَّ رجع عن قتلها وَحَبَسَهَا فِي قَلْعَةٍ وَضَيَّقَ عَلَيْهَا، فلمَّا بَلَغَ الخبر إلى خُوَارِزْمَ شَاهْ سَارَ إِلَيْهِ فِي الْجُنُودِ فَنَازَلَهُ وَحَاصَرَ سَمَرْقَنْدَ فَأَخَذَهَا قَهْرًا وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَأَنْزَلَ الْمَلِكَ مِنَ القلعة وقتله صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا، وَاسْتَحْوَذَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَلَى تِلْكَ الممالك التي هنالك، وتحارب الْخِطَا وَمَلِكُ التَّتَارِ كَشْلَى خَانْ الْمُتَاخِمُ لِمَمْلَكَةِ الصين، فكتب ملك الخطا لخوارزم شَاهْ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى التَّتَارِ وَيَقُولُ: مَتَى غَلَبُونَا خلصوا إلى بلادك، وكذا وكذا.
وَكَتَبَ التَّتَارُ إِلَيْهِ أَيْضًا يَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى الْخِطَا وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ أَعْدَاؤُنَا وَأَعْدَاؤُكَ، فَكُنْ مَعَنَا عَلَيْهِمْ، فَكَتَبَ إِلَى كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يُطَيِّبُ
قَلْبَهُ، وَحَضَرَ الْوَقْعَةَ بَيْنَهُمْ وَهُوَ مُتَحَيِّزٌ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ، وكانت الدَّائِرَةُ عَلَى الْخِطَا، فَهَلَكُوا إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ، وَغَدَرَ التَّتَارُ مَا كَانُوا عَاهَدُوا عَلَيْهِ خُوَارِزْمَ شاه، فوقعت بينهم الْوَحْشَةُ الْأَكِيدَةُ، وَتَوَاعَدُوا لِلْقِتَالِ، وَخَافَ مِنْهُمْ خُوَارِزْمُ شَاهْ وَخَرَّبَ بِلَادًا كَثِيرَةً مُتَاخِمَةً لِبِلَادِ كَشْلَى خَانْ خَوْفًا عَلَيْهَا أَنْ يَمْلِكَهَا،