الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ خَلِيلُ بْنُ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَنَائِبُهُ بِمِصْرَ وَأَعْمَالِهَا بَدْرُ الدِّينِ بَيْدَرَا، وَوَزِيرُهُ ابْنُ السَّلْعُوسِ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ، وَنَائِبُهُ بِالشَّامِ حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ السلحداري الْمَنْصُورِيُّ، وَقُضَاةُ الشَّامِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَصَاحِبُ الْيَمَنِ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ شَمْسُ الدِّين يُوسُفُ بْنُ الْمَنْصُورِ نُورِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَسُولٍ، وَصَاحِبُ مَكَّةَ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو نُمَيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ عَلِيِّ بن قتادة الحسيني، وَصَاحِبُ الْمَدِينَةِ عِزُّ الدِّينِ جَمَّازُ بْنُ شِيحَةَ الحسيني، وصاحب الروم غياث الدين كيخسرو، وهو ابن ركن الدين قلج أرسلان السلجوقي، وصاحب حماة تَقِيُّ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ نَاصِرِ الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين مُحَمَّدٍ، وَسُلْطَانُ بِلَادِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى بن جنيكزخان.
وَكَانَ أَوَّلَ هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَفِيهِ تُصُدِّقَ عَنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأُنْزِلَ السُّلْطَانُ إِلَى تُرْبَتِهِ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ فَدُفِنَ بِهَا تَحْتَ الْقُبَّةِ، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ بَدْرُ الدِّينِ بَيْدَرَا، وَعَلَمُ الدِّينِ الشُّجَاعِيُّ، وَفُرِّقَتْ صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ حِينَئِذٍ، وَلَمَّا قَدِمَ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ السَّلْعُوسِ مِنَ الْحِجَازِ خُلِعَ عَلَيْهِ لِلْوِزَارَةِ، وَكَتَبَ تَقْلِيدَهُ بِهَا الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الظَّاهِرِ كَاتِبُ الْإِنْشَا بِيَدِهِ، وَرَكِبَ الْوَزِيرُ فِي أُبَّهَةِ الْوِزَارَةِ إِلَى دَارِهِ، وَحَكَمَ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ (1) قُبِضَ عَلَى شَمْسِ الدِّينِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ وَسَيْفِ الدين بن جُرْمَكَ النَّاصِرِيُّ، وَأُفْرِجَ عَنِ الْأَمِيرِ زَيْنِ الدِّينِ كتبغا وكان قد قبض عليه مع طرقطاي (2) ، وَرُدَّ عَلَيْهِ إِقْطَاعُهُ، وَأُعِيدَ التَّقِيُّ تَوْبَةُ إِلَى وِزَارَةِ دِمَشْقَ مَرَّةً أُخْرَى.
وَفِيهَا أَثْبَتَ ابْنُ الخوي مَحْضَرًا يَتَضَمَّنُ أَنْ يَكُونَ تَدْرِيسُ النَّاصِرِيَّةِ لِلْقَاضِي الشافعي وانتزعها من زين الدين الفارقي.
فَتَحِ عَكَّا
وَبَقِيَّةِ السَّوَاحِلِ وَفِيهَا جَاءَ الْبَرِيدُ إِلَى دِمَشْقَ فِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِتَجْهِيزِ آلَاتِ الْحِصَارِ لَعَكَّا، وَنُودِيَ فِي دِمَشْقَ الْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى عَكَّا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ عَكَّا فِي هَذَا الْحِينِ عَدَوْا عَلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أموالهم، فأبرزت المناجيق إلى ناحية الجسورة، وخرجت العامة والمتطوعة يجرون في العجل حتى الفقهاء والمدرسين والصلحاء، وتولى ساقها الأمير علم الدين الدويداري، وَخَرَجَتِ الْعَسَاكِرُ بَيْنَ يَدَيْ نَائِبِ الشَّامِ، وَخَرَجَ هُوَ فِي آخِرِهِمْ، وَلَحِقَهُ صَاحِبُ حَمَاةَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ وَخَرَجَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، وَاتَّصَلَ بهم عسكر طرابلس، وركب الاشرف من
(1) في السلوك 1 / 762: سابع صفر.
(2)
طرنطاي، انظر ما سبق.
(*)
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِعَسَاكِرِهِ قَاصِدًا عَكَّا، فَتَوَافَتِ الْجُيُوشُ هُنَالِكَ، فَنَازَلَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ رَابِعِ (1) رَبِيعٍ الْآخِرِ ونصبت عليها المناجيق (2) مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ يُمْكِنُ نَصْبُهَا عَلَيْهَا، وَاجْتَهَدُوا غَايَةَ الِاجْتِهَادِ فِي مُحَارَبَتِهَا وَالتَّضْيِيقِ عَلَى أَهْلِهَا، واجتمع الناس بالجوامع لِقِرَاءَةِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، فَقَرَأَهُ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الفزاري، فحضر الْقُضَاةُ وَالْفُضَلَاءُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي أَثْنَاءِ مُحَاصَرَةِ عَكَّا وَقْعَ تَخْبِيطٌ مِنْ نَائِبِ الشَّامِ حُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ، فَتَوَهَّمَ أَنَّ السُّلْطَانَ يُرِيدُ مَسَكَهُ، وَكَانَ قَدْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ الْأَمِيرُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ أَبُو خُرْصٍ (3) ، فَرَكِبَ هَارِبًا فَرَدَّهُ عَلَمُ الدِّينِ الدويداري بالمسا به وَجَاءَ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ فَطَيَّبَ قَلْبَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَبَعَثَهُ إِلَى قَلْعَةِ صَفَدَ وَاحْتَاطَ عَلَى حَوَاصِلِهِ، وَرَسَمَ على أستاذ داره بَدْرِ الدِّينِ بَكَدَاشَ، وَجَرَى مَا لَا يَلِيقُ وُقُوعُهُ هُنَالِكَ، إِذِ الْوَقْتُ وَقْتُ عُسْرٍ وَضِيقٍ وَحِصَارٍ.
وَصَمَّمَ السُّلْطَانُ عَلَى الْحِصَارِ فَرَتَّبَ الْكُوسَاتِ ثلثمائة حِمْلٍ، ثُمَّ زَحَفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَابِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى (4) وَدُقَّتِ الْكُوسَاتُ جُمْلَةً وَاحِدَةً عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَطَلَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْأَسْوَارِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَنُصِبَتِ السَّنَاجِقُ الْإِسْلَامِيَّةُ فَوْقَ أَسْوَارِ الْبَلَدِ، فَوَلَّتِ الْفِرِنْجُ عِنْدَ ذَلِكَ الْأَدْبَارَ، وَرَكِبُوا هَارِبِينَ فِي مَرَاكِبِ التُّجَّارِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ عَدَدٌ لا يعلمه إِلَّا اللَّهُ
تَعَالَى، وَغَنِمُوا مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالرَّقِيقِ وَالْبَضَائِعِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِهَدْمِهَا وَتَخْرِيبِهَا، بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَسَّرَ اللَّهُ فَتَحَهَا نَهَارَ جُمُعَةٍ، كَمَا أَخَذَتْهَا الْفِرِنْجُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ (5) ، وَسَلَّمَتْ صور وصيدا قيادتهما إِلَى الْأَشْرَفِ، فَاسْتَوْثَقَ السَّاحِلُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَتَنَظَّفَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَجَاءَتِ الْبِطَاقَةُ إِلَى دِمَشْقَ بذلك ففرح المسلمون، ودقت البشائر في سائر الْحُصُونِ، وَزُيَّنَتِ الْبِلَادُ لِيَتَنَزَّهَ فِيهَا النَّاظِرُونَ وَالْمُتَفَرِّجُونَ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى صُورَ أَمِيرًا فَهَدَمَ أَسْوَارَهَا وَعَفَا آثَارَهَا.
وَقَدْ كَانَ لَهَا فِي أَيْدِي الْفِرِنْجِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَأَمَّا عَكَّا فَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ أَخَذَهَا مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، ثُمَّ إِنَّ الفرنج جاؤوا فَأَحَاطُوا بِهَا بِجُيُوشٍ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ جَاءَ صَلَاحُ الدِّينِ لِيُمَانِعَهُمْ عَنْهَا مُدَّةَ سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، ثم آخِرِ ذَلِكَ اسْتَمْلَكُوهَا وَقَتَلُوا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ خَلِيلَ بْنَ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ سَارَ مِنْ عَكَّا قَاصِدًا دِمَشْقَ فِي أُبَّهَةِ
(1) في السلوك 1 / 764: ثالث ربيع الآخرة.
(2)
في السلوك: المجانيق (انظر مختصر أبي الفداء 4 / 24) .
(3)
وهو علم الدين سنجر الحموي (مختصر أبي الفداء 4 / 26، السلوك 1 / 767) .
(4)
في مختصر أبي الفداء 4 / 25 وتذكرة النبيه 1 / 137 بدائع الزهور 1 / 1 / 368: جمادى الآخرة.
(5)
كان ذلك يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة 587 هـ.
واستولى يومئذ الفرنج على من بها من المسلمين ثم قتلوهم.
(*)
الْمُلْكِ وَحُرْمَةٍ وَافِرَةٍ، وَفِي صُحْبَتِهِ وَزِيرِهِ ابْنُ السَّلْعُوسِ وَالْجُيُوشُ الْمَنْصُورَةُ، وَفِي هَذَا الْيَوْمِ اسْتَنَابَ بِالشَّامِ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الشُّجَاعِيُّ، وَسَكَنَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَزِيدَ فِي إِقْطَاعِهِ حَرَسْتَا وَلَمْ تُقْطَعْ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ لِمَصَالِحِ حَوَاصِلِ الْقَلْعَةِ، وجعل له في كل يوم ثلثمائة على دار الطعام، وَفُوِّضَ إِلَيْهِ أَنْ يُطْلِقَ مِنَ الْخِزَانَةِ مَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ مُشَاوِرَةٍ وَلَا مُرَاجَعَةٍ، وَأَرْسَلَهُ السُّلْطَانُ إِلَى صَيْدَا لِأَنَّهُ كَانَ
قَدْ بَقِيَ بها برج عصي، فَفَتَحَهُ وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِسَبَبِهِ، ثُمَّ عَادَ سَرِيعًا إِلَى السُّلْطَانِ فَوَدَّعَهُ، وَسَارَ السُّلْطَانُ نَحْوَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ، وَبَعَثَهُ إِلَى بَيْرُوتَ لِيَفْتَحَهَا فَسَارَ إِلَيْهَا فَفَتَحَهَا فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ، وسلمت عثلية (1) وَأَنْطَرْطُوسُ وَجُبَيْلٌ.
وَلَمْ يَبْقَ بِالسَّوَاحِلِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ مَعْقِلٌ لِلْفِرِنْجِ إِلَّا بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَرَاحَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الْقَاهِرَةِ فِي تَاسِعِ شَعْبَانَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ جِدًّا، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَأَفْرَجَ عَنْ بَدْرِ الدِّينِ بيسرى بعد سجن سبع سنين.
وَرَجَعَ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الشُّجَاعِيُّ نَائِبُ دِمَشْقَ إلى دمشق في سابع عشرين الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ نَظَّفَ السَّوَاحِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ بِهَا حَجَرٌ.
وَفِي رَابِعِ رَمَضَانَ أُفْرِجَ عَنْ حُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ مِنْ قَلْعَةِ صَفَدَ وَمَعَهُ جَمَاعَةُ أُمَرَاءَ، وَرَدَّ عليهم إقطاعاتهم، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَكْرَمَهُمْ (2) .
وَفِي أَوَائِلِ رَمَضَانَ طُلِبَ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ مِنَ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ وَهُوَ حَاكِمٌ بِهِ، وَخَطِيبٌ فِيهِ، عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَدَخَلَهَا فِي رَابِعَ عَشْرَةَ، وَأَفْطَرَ لَيْلَتَئِذٍ عِنْدَ الْوَزِيرِ ابْنِ السَّلْعُوسِ وَأَكْرَمَهُ جِدًّا وَاحْتَرَمَهُ، وَكَانَتْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَصَرَّحَ الْوَزِيرُ بِعَزْلِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ وَتَوْلِيَةِ ابْنِ جَمَاعَةَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وجاء القضاة إلى تهنئته وأصبح الشهود بخدمته (3) ، وَمَعَ الْقَضَاءِ خَطَابَةُ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ، وَتَدْرِيسُ الصَّالِحِيَّةِ، وَرَكِبَ فِي الْخِلْعَةِ وَالطَّرْحَةِ وَرَسَمَ لِبَقِيَّةِ الْقُضَاةِ أَنْ يَسْتَمِرُّوا بِلُبْسِ الطَّرَحَاتِ، وَذَهَبَ فَخَطَبَ بِالْجَامِعِ الأزهر، وانتقل إلى الصَّالِحِيَّةِ وَدَرَّسَ بِهَا فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَكَانَ دَرْسًا حَافِلًا، وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ رَسَمَ السُّلْطَانُ لِلْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَنْ يَخْطُبَ هُوَ بِنَفْسِهِ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ وَأَنْ يَذْكُرَ فِي خُطْبَتِهِ إنه قد ولى السلطنة للاشرف
(1) في مختصر أبي الفداء 4 / 25 والسلوك 1 / 765: عثليث، قال أبو الفداء: تسلم عثليث في مستهل شعبان ثم تسلم انطرطوس في خامس شعبان (انظر هامش 3 صفحة 765 السلوك ج 1) .
(2)
قال في بدائع الزهور 1 / 369 إن السلطان أمر بخنق مجموعة من الامراء كان قد حبسهم بالقلعة - ببرج الحية - وبينهم الامير لاجين، فخنقوا ولما أرادوا دفنهم وجدوا الامير لاجين فيه الروح فأخبروا السلطان بذلك فعطف عليه وأفرج عنه.
أما المقريزي في السلوك فقال انه افرج عن الامراء كافة ومن بينهم الامير لاجين.
(1 / 771) .
(3)
الخدمة هنا بمعنى التحية، وهذا الاستعمال الاصطلاحي " للخدمة " كثير الورود في كتب المؤرخين، وللخدمة في حضرة السلطان صيغ كثيرة: منها الايماء باليد اليمنى إلى الارض، وخفض الرأس نحو الركوع، وتقبيل الارض سجودا
…
وقد يأتي فعل " خدم " بمعنى أهدى.
(*)
خَلِيلِ بْنِ الْمَنْصُورِ، فَلَبِسَ خِلْعَةً سَوْدَاءَ وَخَطَبَ النَّاسَ بِالْخُطْبَةِ الَّتِي كَانَ خَطَبَ بِهَا فِي الدَّوْلَةِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَكَانَتْ مِنْ إِنْشَاءِ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ الْمَقْدِسِيِّ فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَيَكُونُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ أَزْيَدُ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَذَلِكَ بِجَامِعِ قَلْعَةِ الْجَبَلِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ ابْنُ جَمَاعَةَ يَخْطُبُ بِالْقَلْعَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَكَانَ يَسْتَنِيبُ فِي الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ.
وَأَمَّا ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ فَنَالَهُ مِنَ الْوَزِيرِ إِخْرَاقٌ وَمُصَادَرَةٌ وَإِهَانَةٌ بَالِغَةٌ، وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ مِنْ مَنَاصِبِهِ شَيْئًا، وَكَانَ بِيَدِهِ سَبْعَةَ عَشَرَ مَنْصِبًا، مِنْهَا الْقَضَاءُ وَالْخَطَابَةُ وَنَظَرُ الْأَحْبَاسِ (1) وَمَشْيَخَةُ الشُّيُوخِ، وَنَظَرُ الْخِزَانَةِ وَتَدَارِيسُ كِبَارٌ، وصادره بنحو من أربعين ألف، غَيْرَ مَرَاكِبِهِ وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ اسْتِكَانَةٌ لَهُ وَلَا خُضُوعٌ، ثُمَّ عَادَ فَرْضِيَ عَنْهُ وَوَلَّاهُ تَدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ، وَعُمِلَتْ خَتْمَةٌ عِنْدَ قَبْرِ الْمَنْصُورِ فِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ رَابِعِ ذِي الْقَعْدَةِ وَحَضَرَهَا الْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ، وَنَزَلَ السُّلْطَانُ وَمَعَهُ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ وَقْتَ السَّحَرِ، وَخَطَبَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ الختمة خطبة بليغة، حرض الناس عَلَى غَزْوِ بِلَادِ الْعِرَاقِ وَاسْتِنْقَاذِهَا مِنْ أَيْدِي التَّتَرِ، وَقَدْ كَانَ الْخَلِيفَةُ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْتَجِبًا فَرَآهُ النَّاسُ جَهْرَةً، وَرَكِبَ فِي الْأَسْوَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَعَمِلَ أَهْلُ دِمَشْقَ خَتْمَةً عَظِيمَةً بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ إِلَى جَانِبِ الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، فَقُرِئَتْ خَتَمَاتٌ كَثِيرَةٌ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ بَعْدَهَا الشَّيْخُ عِزُّ الدين القاروني، ثُمَّ ابْنُ الْبُزُورِيِّ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مَنْ لَهُ عَادَةٌ بِالْكَلَامِ وَجَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الْعِرَاقِ، وَنُودِيَ فِي النَّاس بِذَلِكَ، وَعُمِلَتْ سَلَاسِلُ عِظَامٌ بِسَبَبِ الْجَسُورَةِ عَلَى دِجْلَةَ بَغْدَادَ، وَحُصِّلَتِ الْأُجُورُ عَلَى الْمَقْصُودِ وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْمَقْصُودُ، وَحَصَلَ لِبَعْضِ النَّاسِ أَذَىً بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا نَادَى نَائِبُ الشَّامِ الشُّجَاعِيُّ أَنْ لَا تَلْبَسَ امْرَأَةٌ عمامة كبيرة، وخرب الأبنية التي على
نهر بَانِيَاسَ وَالْجَدَاوِلَ كُلَّهَا وَالْمَسَالِحَ وَالسِّقَايَاتِ الَّتِي عَلَى الْأَنْهَارِ كُلِّهَا، وَأَخْرَبَ جِسْرَ الزَّلَابِيَّةِ وَمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّكَاكِينِ، وَنَادَى أَنْ لَا يَمْشِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ أَطْلَقَ لَهُمْ هَذِهِ فَقَطْ، وَأَخْرَبَ الْحَمَّامَ الَّذِي كَانَ بَنَاهُ الْمَلِكُ السَّعِيدُ ظَاهِرَ بَابِ النَّصْرِ، وَلَمْ يَكُنْ بِدِمَشْقَ أَحْسَنُ مِنْهُ، وَوَسَّعَ الْمَيْدَانَ الْأَخْضَرَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمَالِ مِقْدَارَ سُدُسِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّهْرِ إِلَّا مِقْدَارًا يَسِيرًا، وَعَمِلَ هُوَ بِنَفْسِهِ والأمراء بحيطانه.
وفيها حبس جمال الدين آقوش الأفرم المنصوري وأميراً آخَرُ مَعَهُ فِي الْقَلْعَةِ.
وَفِيهَا حُمِلَ الْأَمِيرُ علم الدين الدويداري إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُقَيَّدًا.
وَقَدْ نَظَمَ الشَّيْخُ شهاب
(1) هو ديوان الاوقاف، وقد أنشئ أول ما أنشئ في عهد الفاطميين وكان يتولى شؤون الاوقاف الخاصة والعامة.
ولا يخدم فيها إلا أعيان كتاب المسلمين من الشهود والمعدلين ومتوليه يختار من بين العلماء المشهورين بالتقوى والصلاح، وكان ناظر هذا الديوان يشرف على رواتب العلماء والفقهاء وارباب الحديث وأئمة المساجد (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى 141) .
(*)
الدِّينِ مَحْمُودٌ (1) قَصِيدَةً فِي فَتْحِ عَكَّا: الْحَمْدُ لله زالت (2) دولة الصلب * وعز الترك دِينُ الْمُصْطَفَى الْعَرَبِيِّ هذا الذي كَانَتِ الْآمَالُ لَوْ طَلَبَتْ * رُؤْيَاهُ فِي النَّوْمِ لَاسْتَحْيَتْ مِنَ الطَّلَبِ مَا بَعْدَ عَكَّا وَقَدْ هُدَّتْ قَوَاعِدُهَا * في البحر للترك (3) عِنْدَ الْبَرِّ مِنْ أَرَبِ لَمْ يَبْقَ مِنْ بَعْدِهَا لِلْكُفْرِ إِذْ خَرِبَتْ * فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ وما يُنْجِي سِوَى الْهَرَبِ أُمُّ الْحُرُوبِ فَكَمْ قَدْ أَنْشَأَتْ فِتَنًا * شَابَ الْوَلِيدُ بِهَا هَوْلًا وَلَمْ تَشُبِ يَا يَوْمَ عَكَّا لَقَدْ أَنْسَيْتَ مَا سَبَقَتْ * بِهِ الْفُتُوحُ وَمَا قَدْ خُطَّ فِي الْكُتُبِ لَمْ يَبْلُغِ النُّطْقُ حَدَّ الشُّكْرِ فِيكَ فَمَا * عَسَى يَقُومُ بِهِ ذُو الشِّعْرِ وَالْأَدَبِ أَغْضَبْتَ عُبَّادَ عِيسَى إِذْ أَبَدْتَهُمُ * لِلَّهِ أَيُّ رضى في ذلك الغضب (4) وأشرف الهادي المصطفى الْبَشِيرُ عَلَى * ما أَسْلَفَ الْأَشْرَفُ السُّلْطَانُ مِنْ قُرَبِ
فَقَرَّ عَيْنًا لِهَذَا الْفَتْحِ وَابْتَهَجَتْ * بِبُشْرِهِ الْكَعْبَةُ الْغَرَّاءُ فِي الْحُجُبِ وَسَارَ فِي الْأَرْضِ سَيْرًا قَدْ سَمِعْتُ بِهِ (5) * فَالْبَرُّ فِي طَرَبٍ، وَالْبَحْرُ فِي حَرَبِ وَهِيَ طَوِيلَةٌ جِدًّا، وَلَهُ وَلِغَيْرِهِ فِي فَتْحِ عَكَّا أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ.
وَلَمَّا رَجَعَ الْبَرِيدُ أَخْبَرَ بِأَنَّ السُّلْطَانَ لَمَّا عَادَ إِلَى مِصْرَ خَلْعَ عَلَى وَزِيرِهِ ابْنِ السَّلْعُوسِ جَمِيعَ مَلَابِسِهِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ، وَمَرْكُوبَهُ الَّذِي كَانَ تَحْتَهُ، فَرَكِبَهُ وَرَسَمَ لَهُ بِثَمَانِيَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ خِزَانَةِ دِمَشْقَ، لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهَا قَرْيَةَ قَرَحْتَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ انْتَهَتْ عِمَارَةُ قَلْعَةِ حَلَبَ بَعْدَ الْخَرَابِ الَّذِي أَصَابَهَا مِنْ هُولَاكُو وَأَصْحَابِهِ عَامَ ثَمَانٍ وخمسين.
وفيها في شوال شُرِعَ فِي عِمَارَةِ قَلْعَةِ دِمَشْقَ وَبِنَاءِ الدُّورِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالطَّارِمَةِ (6) وَالْقُبَّةِ الزَّرْقَاءِ، حَسَبَ مَا رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ الْأَشْرَفُ خَلِيلُ بْنُ قَلَاوُونَ لِنَائِبِهِ عَلَمِ الدِّينِ سَنْجَرَ الشُّجَاعِيِّ.
وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ أُعِيدَ إِلَى نِيَابَةِ الْقَلْعَةِ الْأَمِيرُ أَرْجُوَاشُ وَأُعْطِيَ إِقْطَاعَاتٍ سَنِيَّةً.
وَفِيهَا أُرْسِلَ الشَّيْخُ الرَّجِيحِيُّ مِنْ ذُرِّيَّةِ الشَّيْخِ يُونُسَ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ مَحْصُورًا إِلَى القاهرة، وفيها درس عز الدين القاروني بِالْمَدْرَسَةِ النَّجِيبِيَّةِ عِوَضًا عَنْ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ خَلِّكَانَ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ دَرَّسَ نَجْمُ الدِّينِ مَكِّيٌّ بِالرَّوَاحِيَّةِ عِوَضًا عَنْ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ المقدسي، وفيه درس كمال الدين الطبيب
(1) وهو شهاب الدين محمود بن سلمان الحلبي، أديب كبير عمل بدواوين الانشاء بالشام ومصر نحو خمسين عاما.
مولده بحلب سنة 644 ووفاته بدمشق سنة 725 هـ (الدارس 2 / 236 فوات الوفيات ج 4 / ترجمة 508) .
(2)
في فوات الوفيات 1 / 410: ذلت.
(3)
في فوات الوفيات: للشرك.
(4)
في تذكرة النبيه 1 / 138: وكم له من رضى في ذلك الغضب.
(5)
في الفوات: وسار في الأرض سير الريح سمعته.. (6) الطارمة: وهي لفظة فارسية الاصل، تعني هنا: بيت من خشب يبنى سقفه على هيئة لجلوس السلطان وجمعها طارمات (محيط المحيط، المقريزي المواعظ والاعتبار 1 / 35) .
(*)