الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(44) - (1407) - بَابُ فَضْلِ الْعَمَلِ
(120)
- 3764 - (1) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ .. فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ،
===
(44)
- (1407) - (باب فضل العمل)
(120)
- 3764 - (1)(حدثنا علي بن محمد) الطنافسي الكوفي.
(حدثنا وكيع) بن الجراح الرؤاسي.
(عن) سليمان (الأعمش) الكوفي.
(عن المعرور بن سويد) الأسدي أبو أمية الكوفي، ثقة، من الثانية، عاش مئة وعشرين سنة. يروي عنه:(ع).
(عن أبي ذر) الغفاري جندب بن جنادة الربذي رضي الله تعالى عنه، قدم إسلامه وتأخرت هجرته.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) أبو ذر: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (يقول الله) حالة كونه (تبارك) أي: تزايد بره وإحسانه إلي عباده مرة بعد مرة (وتعالى) أي: ترفع عن كل ما لا يليق به من سمات النقص: (من جاء) في يوم لقائي (بالحسنة) أي؛ بالفعلة الواحدة من الخير .. (فله) فلذلك الجائي (عشر أمثالها) أي: عشر أشباهها ونظائرها بوعدي الذي لا يخلف لكل أحد.
وقوله: (وأزيد) الواو فيه بمعنى: بل الإضرابية، (وأزيد) - بفتح أوله
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ .. فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ،
===
وكسر ثانيه - على صيغة المضارع المسند إلى المتكلم؛ أي: بل أزيد على تلك الأمثال العشر لمن أشاء بمقتضى فضلي وكرمي إلى سبع مئة ضعف وإلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا أنا.
قال النووي: ومعنى هذا الكلام: أن التضعيف بعشر أمثالها لا بد منه بمقتضى فضل الله تعالى ورحمته ووعده الذي لا يخلف.
والزيادة بكثرة التضعيف إلي سبع مئة ضعف وإلي أَضْعَافٍ كثيرةٍ يحصُل لبعض الناس دون بعض، على حسب مَشيئتِه سبحانه وتعالى. انتهى.
وفي "المرقاة": قوله: (وأَزيد) أي: لمن أُريد بالزيادة له من أهل السعادة على عشر أمثالها إلي سبع مئة وإلي مئة ألف وإلى أضعافٍ كثيرة.
وأما معنى الواو في قوله: (وأَزِيدُ) .. فمطلقُ الجمع إن أريد بالزيادة الرؤيةُ؛ كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (1).
وإن أريد الإضعاف .. فالواو بمعنى (أو) التنويعية؛ كما هي في قوله: (أو أَغْفِرُ) والأظهر ما قاله ابن حجر من أن العشر والزيادة يمكن اجتماعهما، بخلاف جزاء مثل السيئة ومغفرتُها؛ لا يمكن اجتماعُهما، فوجب ذِكْر (أو) الدال على أن الواقعَ أحدُهما فقط. انتهى "دهني".
(ومن جاء بالسيئة) أي: بالفعلة الواحدة السيئة؛ أي: فَعلَها وارتكبها بلا عذر .. (فجزاءُ سيئةٍ) مفعولةٍ؛ وهو مبتدأٌ، و (الفاء) لربط جملة الجواب بشرطه، والخبرُ قوله:(مِثْلُها) أي: مثل تلك السيئة المفعولة لا أَزِيدُ عليها (أو أغفر) تلك الواحدةَ ولا أُجازي عليها؛ أي: فجزاؤها عقوبة مماثلة لسيئته على مقتضى عدلي ووعيدي (أو أَغْفِرُ) له تلك السيئةَ الواحدةَ على مقتضى
(1) سورة يونس: (26).
وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا .. تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا .. تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي .. أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقِرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً ثُمَّ لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا .. لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً".
===
فضلي وسعة رحمتي؛ فلا أُجازيه عليها (ومَنْ تقرَّب مني) أي: إِليَّ (شبرًا) أَي: قَدْرَ شبر .. (تقربتُ منه) أي: إليه (ذراعًا، ومَنْ تقرَّب مني) أي: إلي (ذراعًا .. تقربْتُ منه) أي: إليه (باعًا، ومن أتاني) حالة كونه (يمشي) برجلَيهِ .. (أتيتُه هرولة) أي: سعيًا وجَرْيًا (ومن لقيني) حالة كونه حاملًا (بقِرَابِ الأرضِ) أي: بمِلْئِها (خطيئة) أي: سيئة؛ أي: أتاني بقدر ما يملأ الأرض خطيئة وسيئة.
وقوله: (ثم) هنا زائدة؛ من تحريف النساخ؛ كما هي ساقطة من "صحيح مسلم"، حالة كونه (لا يشرك بي شيئًا) من المخلوق. . . (لقيته بمثلها) أي: بمثل ملء الأرض (مغفرة) بمقتضى فضلي وكرمي.
قوله: (شبرًا): وهي ما بين طرف الإبهام وطرف إحدى الأصابع الثلاثة، والذراع: ما بين المرفق وطرف الأصابع.
قال النووي: والبدع والبوع - بضم الموحدة - والبوع - بفتحها - كله بمعنىً واحد؛ وهو طول ذراعي الإنسان وعضديه وعرض صدره، قال الباجي: وهو قدر أربع أذرع.
قوله: (أتيته هرولة) أي: أتية هرولة؛ أي: سريعة، فهو منصوب على المفعولية المطلقة بأتيت؛ لأنه صفة لمصدر محذوف، وهذا كله كناية عن مضاعفة قربه تعالى.
قوله: (ومن لقيني بقراب الأرض) - بضم القاف - على المشهور؛ وهو ما يقارب ملئها، وحكي: كسر القاف، قال القاضي: قراب الأرض: ملؤها، أو ما
(121)
- 3765 - (2) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش،
===
يقارب ملأها؛ وقراب كل شيء قربه - بضم القاف - وقيل: يقال: بالكسر أيضًا، وهو إخبار عن سعة عفوه تعالى. انتهى من "الأبي".
وقوله: (خطيئة) تمييز لقراب منصوب به؛ أي: أتاني بقدر ما يملأ الأرض خطيئة وسيئة، حالة كونه (لا يشرك بي شيئًا) من المخلوق .. (لقيته بمثلها) أي: بمثل ملء الأرض (مغفرة) بمقتضى فضلي وكرمي.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب التوحيد، باب قوله تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (1)، ومسلم في كتاب الدعوات، باب في الحض على التوبة، وفي كتاب الذكر والدعاء، والترمذي في كتاب الدعوات، باب حسن الظن به تعالى، وأحمد.
فالحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستدلال به على الترجمة.
ثم استشهد المؤلف لحديث أبي ذر بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(121)
- 3765 - (2)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد) كلاهما (قالا: حدثنا أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير التميمي الكوفي، ثقة، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن) سليمان بن مهران (الأعمش) الأسدي الكاهلي الكوفي، ثقة، من الخامسة، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(1) سورة آل عمران: (28).
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي؛ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ .. ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ .. ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ،
===
(عن أبي صالح) ذكوان السمان المدني، ثقة، من الثالثة، مات سنة إحدى ومئة (101 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه: (يقول الله سبحانه) وتعالي: (أنا عند ظن عبدي بي) ومعية الرب مع عبده: صفة ثابتة له تعالى، نثبتها ونعتقدها، لا نكيفها ولا نمثلها ولا نعطلها ولا نؤولها تأويلًا تفصيليًا، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
(وأنا معه حين يذكرني) بامتثال أوامري واجتناب نواهي (فإن ذكرني في نفسه) أي: سرًّا أو خاليًا منفردًا من الناس .. (ذكرته في نفسي) بما أعد له من قرة أعين مما لم يطلع عليه أحد من خلقي (وإن ذكرني) بما ذكر آنفًا (في ملأ) من الناس .. (ذكرته في ملأ خير منهم) أي: من ملثه؛ وهم الملائكة.
قال بعضهم: ويحتمل أن المراد بهذا: الجهر، وبالأول: السر، ويحتمل أن المراد بالأول: الذكر حال الوحدة، وهنا: الذكر مع الكثرة الشاغلة عنه.
وقيل: قوله: (أنا عند ظن عبدي) معناه: ظن الإجابة عند الدعاء، وظن القبول عند التوبة، وظن المغفرة عند الاستغفار، وظن قبول الأعمال عند فعلها على شروطها متمسكًا بصادق وعده وجزيل فضله.
وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ شِبْرًا .. اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي .. أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً".
===
(وأنا معه حين يذكرني) أي: بالإجابة والقبول بمقتضى وعده وجزيل فضله.
قال الحافظ: قوله: (أنا عند ظن عبدي بي) أي: قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به.
قال الكرماني: وفي السياق إشارة إلي ترجيح جانب الرجاء على الخوف، وكأنه أخذه من جانب التسوية؛ فإن العاقل إذا سمع ذلك .. لا يعدل إلي ظن الوعيد، وهو جانب الخوف؛ لأنه لا يختاره لنفسه، بل يعدل إلي ظن وقوع الوعد، وهو جانب الرجاء، وهو كما قال أهل التحقيق: مقيد بالمحتضر.
ويؤيد ذلك: حديث: (لا يموتن أحدكم إلا هو يحسن الظن بالله).
(وإن ذكرني في ملأ) وجماعة من الناس .. (ذكرته في ملأ خير منهم) وهم الملائكة يعني: أن من ذكره في ملأ من الناس .. ذكره الله تعالى عند ملأ من الملائكة، أي: أثنى عليه ونَوَّه باسمه في الملائكة، وأمرَ جبريل أن ينادي بذكره في ملائكة السماوات، وهذا ظاهر في تفضيل الملائكة علي بني آدم، وهو أحد القولين للعلماء، وللمسألة غَوْرٌ ليس هذا محل ذكره.
(وإن اقترب إلي شبرًا): وهو ما بين طرف الإبهام وطرف الخنصر أو الوسطى .. (اقتربت إليه ذراعًا): وهو شبران (وإن أتاني) حالة كونه (يمشي) برجليه على عادته بلا إسراع في المشي (أتيته هرولة) أي: مسرعًا.
والمذهب الصحيح أن قرب الله إلي عبده ذراعًا أو باعًا وهرولته إلي عبده صفة ثابتة لله تعالى، نثبتها ونعتقدها، لا نكيفها ولا نمثلها ولا نؤولها تأويلًا تفصيليًا، ليس كمثله شيء؛ لأنه من أحاديث الصفات التي يصرف ظاهرها عن حقيقته مع عدم التأويل لها.
وقال القرطبي: هذه كلها أمثال ضُرِبَتْ لمن عَمِل عملًا من أعمال الطاعات
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وقصد به التقرب إلى الله تعالى، يدل على أن الله تعالى لا يُضِيعُ عملَ عامل وإن قلَّ، يقبلُه ويجعل له ثَوابَه مضاعفًا.
فإن قيل: مقتضى ظاهر هذا الخطاب: أن من عمل حسنة .. جوزي بمثليها؛ فإن الذراع شبران، والباع أربعة أذرع، وقد تقرر في الكتاب والسنة أن أقل ما يجازى على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا تحصى، فكيف وجه الجمع؟ !
قلنا: هذا الحديث ما سيقَ لبيان مقدار الأجور وعددِ تضاعيفها، وإنما سِيقَ لتحقيق أن الله تعالى لا يُضِيعُ عمل عامل؛ قليلًا كان أو كثيرًا، وأن الله يُسرع إلي قبوله وإلي مضاعفة الثواب عليه إسراعَ مَنْ جِيء إليه بشيء فبَادر لأخذه وتَبَشْبَشَ له بَشْبَشة مَنْ سُرَّ به، ووقَعَ منه الموقع، ألا ترى قوله:(وإن أتاني يمشي .. أتيته هرولة) وفي لفظ: (أسرعتُ إليه)؟ !
ولا تقدر الهرولة والإسراع بضعفي المَشْي، وأما عدد الأضعاف .. فيؤخذ من موضع آخر لا من هذا الحديث، والله أعلم. انتهى من "المفهم".
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب التوحيد، باب قوله تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (1)، وفي مواضع أخر، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الذكر والدعاء، والترمذي في كتاب الدعوات، باب في حسن الظن بالله عز وجل، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به.
(1) سورة آل عمران: (28).
(122)
- 3766 - (3) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ لَهُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: إِلَّا الصوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ".
===
ثم اسشتهد المؤلف ثانيًا لحديث أبي ذر بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(122)
- 3766 - (3)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع).
كلاهما رويا (عن الأعمش، عن أبي صالح) ذكوان السمان.
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا الحديث من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل عمل ابن آدم يضاعف له) بالبناء للمفعول؛ أي: يضاعف له جزاؤه وثوابه عند الله تعالى، والمراد بالعمل هنا: الأعمال الصالحة؛ لأن السيئة لا تضاعف (الحسنة) الواحدة تجزى (بعشر أمثالها) وهذا أقل المضاعفة، وإلا .. فقد يزاد في التضعيف (إلى سبع مئة ضعف) فما فوقها إلى ما شاء الله.
(قال الله سبحانه) وتعالي: (إلا الصوم) قال البيضاوي: معناه: أن الحسنات يضاعف جزاؤها من عشرة أمثالها إلى سبع مئة ضعف، إلا الصوم فلا يضاعف إلى هذا القدر، بل ثوابُه لا يُقدِّرُ قَدْرَه، ولا يحصيه أحدٌ إلا الله تعالى، ولذلك يتولَّى جزاءه، ولا يَكِلُه إلى غيره؛ كما قال:(فإنه) أي: فإن الصومَ (لي) أي: مختصٌّ عِلْمُ قدرِ جزائِه بِي (وأنا أجزي به) أي: أنا مختص
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
بعلم قدر جزائه لا أُطْلِعَه على أحد غيري؛ فإنه يَدعُ شهوته وطعامه لأجل طلبِ رضائي، فلا أُطْلِعُ جزاءَه على غيري.
قوله: (إلي سبع مئة ضعف) قال العلامة الزَّبيدي في "شرح الإحياء": في هذا الحديث فوائد؛ الأولي: ظاهره يقتضي أن أقل التضعيف عشرة أمثال، وغايته سبع مئة ضعف.
وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} (1): فقيل: المراد: يضاعف هذا التضعيف وهو السبع مئة، وقيل: المراد: يضاعف فوق السبع مئة لمن يشاء.
وقد ورد التضعيف بأكثر من السبع مئة في أعمال كثيرة، في أخبار كثيرة، أكثر ما جاء فيه ما رواه الحاكم في "صحيحه" من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعًا:"من حج من مكة ماشيًا حتى يرجع إلي مكة .. كتب الله له بكل خطوة سبع مئة حسنة، كلُّ حسنة مثلُ حسنات الحرم" قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: بكل حسنة من العمل مئة ألف حسنة من الثواب" وقد أخرجه الدارقطني في "الأفراد"، والطبراني في "الكبير" والبيهقي.
والجمع بينه وبين حديث أبي هريرة هذا: أنه لم يرد في حديث أبي هريرة هذا انتهاء التضعيف؛ بدليل أن في بعض طرقه بعد قوله: (إلى سبع مئة إلى أضعاف كثيرة) وفي أخرى: (إلى ما يشاء الله) فهذه الزيادة تبين أن هذا التضعيف يزاد على السبع مئة، والزيادة من الثقة مقبولة على الصحيح.
والثانية: قال القاضي أبو بكر بن العربي: قوله: (إلى سبع مئة ضعف)
(1) سورة البقرة: (261).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
يعني بظاهره: الجهاد في سبيل الله؛ ففيه ينتهي التضعيف بنص القرآن، وقد جاء في الحديث الصحيح:(أن العمل الصالح في أيام العشر أحب من الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع) قال: فهذان عملان.
قال العراقي في "شرح الترمذي": وعمل ثالث، روى أحمد في "سنده":(النفقة في الحج تضاعف "كالنفقة في سبيل الله، الدرهم سبع مئة ضعف).
قال: وعمل رابع؛ وهو كلمة حق عند سلطان جائر؛ ففي الحديث: (أنه أفضل الجهاد) رواه أبو داوود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد.
قال: وعمل خامس؛ وهو ذكر الله؛ فإنه قد ورد: (أنه أفضل الجهاد) من حديث أبي الدرداء وأبي سعيد وعبد الله بن عمرو ومعاذ، ثم ذكر هذه الأحاديث مفصلة، فليراجع. انتهى "فتح الملهم".
قال البيضاوي: والسبب في اختصاص الصوم بهذه المزية أمران؛ أحدهما: أن سائر العبادات مما يطلع عليه العباد، والصوم سر بين العبد وبين الله تعالى، يفعله خالصًا له ويعامله به طالبًا لرضاه، وإلي ذلك الإشارة بقوله:(فإنه لي).
والآخر: أن سائر الحسنات راجعة إلي صرف المال واستعمال البدن، والصوم يتضمن كسر النفس وتعويض البدن للنقصان.
وفيه الصبر على مُضَضِ الجُوع والعطش وترك الشهوات، وإلي ذلك أشار بقوله:(يدع شهوته من أجلي) كما في رواية مسلم. انتهى منه.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب الجهاد، باب ما يكره في رفع الصوت في التكبير، ومسلم في كتاب الصيام، باب فضل الصيام، والبيهقي في "الكبرى" في كتاب الصيام، باب من يكره السواك بالعشر إذا كان صائمًا، وأبو داوود والترمذي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به.
وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب: ثلاثة أحاديث:
الأول منها للاستدلال، والأخيران للاستشهاد.
والله سبحانه وتعالى أعلم