الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(12) - (1485) - بَابُ الْقَنَاعَةِ
(56)
- 4080 - (1) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الْأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَض،
===
(12)
- (1485) - (بابُ القناعة)
(56)
- 4080 - (1)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الغِنى) - بكسر أوله مقصورًا - أي ليس الغنى الحقيقي المعتبر عند الله، النافع لصاحبه في الآخرة، المحمود عند الله وعند الناس .. ما كان (عن كثرةِ العَرَض) والعَرَضُ - بفتحتين -: متاع الدنيا وزخرفها، وقال القرطبي: والعرض - بفتح العين والراء -: حُطام الدنيا ومتاعها.
وأما العَرْضُ - بفتح العين وسكون الراء - فهو العُرُوضُ؛ وهو ما خلا العقار والحيوان مما يَدْخُلُه الكيلُ والوزنُ، قاله أبو عبيد.
وفي "كتاب العيني": العرض - بفتحتين -: ما نيل من الدنيا، ومنه قوله تعالى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} (1)، وجمعه عُروض. انتهى من "المفهم".
وقال ابن فارس: العرض - بالسكون -: كل ما كان من المال غَيْر نقد، وجمعُه عُروض، ومنه: عروض التجارة.
(1) سورة الأنفال: (67).
وَلكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ".
===
وأما بالفتح .. فما يصيبه الإنسان من حظه في الدنيا؛ كما في قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} (1)، وقوله:{وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} (2).
ويطلق بالاشتراك على ما يقابل الجوهر، وعلى كل ما يعرض للشخص من مرض ونحوه.
(ولكنَّ الغِنَى) المحمودَ الدائم (غِنى النفس) وقناعَتُها بما عندها من المال.
ومعنى الحديث: الغنى المحمود الدائم المستمرُّ الذي لا يزول عن صاحبه .. غنى النفس وشبعها عما في أيدي الناس، وقِلَّة حِرصها على جمع المال، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة؛ لأن من كان طالبًا للزيادة ولم يستغن بما معه من المال .. فليس له غنىً. انتهى "نووي" بزيادة وتصرف.
ولابن حبان من حديث أبي ذر الغفاري قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر؛ أترى كثرة المال هو الغنى؟ " قلت: نعم، قال:"وترى قلة المال هو الفقر؟ " قلت: نعم يا رسول الله، قال:"إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب".
قال بعض الشيوخ: والمراد بغنى النفس: القناعة.
ويمكن أن يراد به: ما سد الحاجة، قال الشاعر:
غنى النفس ما يكفيك في سدِّ حاجةٍ
…
فإن زاد شيءٌ عادَ ذاك الغِنى فَقْرا
قال الطيبي: ويمكن أن يراد بغنى النفس: حصول الكمالات العلمية والعملية، وأنشد أبو الطيب في معناه:
ومن يُنْفِقِ الساعاتِ في جمعِ مالِهِ
…
مخافةَ فقرٍ فالذي فعلَ الفقرُ
(1) سورة الأنفال: (67).
(2)
سورة الأعراف: (169).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
يعني: ينبغي أن ينفق ساعاته وأوقاته في الغنى الحقيقي؛ وهو طلب الكمالات؛ ليزيد غنىً بعد غنىً، لا في المال؛ لأنه فقر بعد فقر.
قلت: يعني: أن الفقر هو الحاجة، ومهما زاد شيئًا من المال أو الرياسة .. احتاج لحفظ ذلك، وعَظُم خوفُه من زواله، هذا في الدنيا، واحتاج إلى استعداد عظيم، وقيام بحقوق ذلك؛ لأجل الآخرة، فاستبان أن الفقر يكثر بكثرة عرَض الدنيا، ويقل بقلتها. انتهى من "السنوسي".
قال ابن بطال: معنى الحديث: ليس حقيقةُ الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسع الله عليه في المال لا يَقْنَع بما أوتي؛ فهو يجتهد في الازدياد، ولا يُبالي مِن أَين يأتيه، فكأنه فقير؛ لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى .. غنى النفس؛ وهو غنى من استغنى بما أوتي، وقنع به ورضي، ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب، فكأنه غني.
وقال القرطبي: ومعنى هذا الحديث: أن الغِنى النافعَ أو العظيمَ أو الممدوحَ هو غنى النفس؛ وبيانهُ: أنه إذا استغنَتْ نفسُه .. كفَّتْ عن المطامع، فعزَّتْ وعظُمت فجُعِلَ لها من الحُظْوةِ والنَّزاهةِ والتشريف والمدح .. أَكْثَرُ مِمن كان غنيًّا بماله، فقيرًا بحرصه وشرهه؛ فإن ذلك يُورِّطُه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال؛ لبخله ودناءة همته، فيكثر ذَامُّه من الناس، ويصغَّر قدرُه فيهم، فيكون أحقرَ مِن كل حقير، وأذلَّ من كل ذليل. انتهى من "المفهم".
والحاصل: أن المُتَّصف بغنى النفس يكون قانعًا بما رزقه الله تعالى، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة، ولا يُلِحُّ في الطلب، ولا يُلْحِفُ في السؤال، بل يرضى بما قسم الله له، فكأنه واجدٌ أبدًا، والمتصف بفقر النفس على الضد منه؛ لكونه لا يقنع بما أعطي، بل هو أبدًا في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه،
(57)
- 4081 - (2) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ لَهِيعَةَ،
===
ثم إذا فاته المطلوب .. حزن وأسف، فكأنه فقير من المال؛ لأنه لم يستغن بما أعطي، فكأنه ليس بغني، ثم إن غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره؛ علمًا بأن الذي عند الله تعالى خير له وأبقى، فهو مُعْرِضٌ عن الحرص والطلب.
قال الحافظ: وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب؛ بأن يفتقر إلى ربه في جميع أموره، ويتحقَّق أنه المعطي المانعُ، فيرضى بقضائه على نعمائه، ويفزع إليه في كشف ضرَّائه، فيَنْشَأ عن افتقار القلبِ إلى ربه غِنَى نفسه عن غيرِ ربه تعالى. انتهى منه.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب الرقاق، باب الغِنى غنى النفس، ومسلم في كتاب الزكاة، باب لَيْسَ العرضُ، والترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء أن الغنى غنى النفس، وأحمد في "مسنده".
فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستدلال به على الترجمة، والله أعلم.
* * *
ثم استشهد المؤلف لحديث أبي هريرة بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهم، فقال:
(57)
- 4081 - (2)(حدثنا محمد بن رمح) بن المهاجر التجيبي مولاهم المصري، ثقة ثبت، من العاشرة، مات سنة اثنتين وأربعين ومئتين (242 هـ). يروي عنه:(م ق).
(حدثنا عبد الله بن لهيعة) بن عقبة الحضرمي المصري القاضي، صدوق،
عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ وَحُمَيْدِ بْنِ هَانِئٍ الْخَوْلَانِيِّ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ يُخْبِرُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاص، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَرُزِقَ الْكَفَافَ
===
من السابعة، خلط بعد احتراق كتبه، مات سنة أربع وسبعين ومئة (174 هـ).
يروي عنه: (م د ت ق)، قالوا: وهو مختلف فيه.
(عن عبيد الله بن أبي جعفر) المصري الكناني مولاهم، اسم أبيه يسار، ثقة عابد فقيه، من الخامسة، مات سنة اثنتين، وقيل: أربع، وقيل: خمس، وقيل: ست وثلاثين ومئة (136 هـ). يروي عنه: (ع).
(وحميد بن هانئ) أبي حميد (الخولاني) المصري، لا بأس به، من الخامسة، وهو أكبر شيخ لابن وهب، مات سنة اثنتين وأربعين ومئة (142 هـ). يروي عنه:(م عم).
(أنهما سمعا أبا عبد الرحمن الحبلي) - بضم المهملة والموحدة - اسمه عبد الله بن يزيد المعافري، ثقة، من الثالثة، مات سنة مئة (100 هـ) بإفريقية. يروي عنه:(م عم).
حالة كون أبي عبد الرحمن (يخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص) رضي الله تعالى عنهما، من المهاجرين الأولين.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه عبد الله بن لهيعة، وهو مختلف فيه.
(عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: قد أفلح) وفاز وظفر بمطلوب الدنيا والآخرة (من هدي) وأرشد (إلى) دين (الإسلام) وشريعته ووُفِّق لانقيادها (ورزق الكفاف) أي: ما يَكُفُّه ويمنعه من مسألة الناس.
وَقَنِعَ بِهِ".
===
والكفاف - بفتح الكاف -: من الكف؛ وهو المنع، لا من الكفاية؛ كما قد يتوهم (وقنع به) أي: اكتفى بذلك القليل، فلم تطمح نفسه لطلب ما زاد عليه، فمن حصل له ذلك، وكف نفسه عما زاد على ذلك .. فقد فاز في الدنيا والآخرة. انتهى "مناوي".
قال القرطبي: والكفاف: ما يكف عن الحاجات، ويدفع الضرورات والفاقات، ولا يلحق بأهل الترفهات.
ومعنى هذا الحديث: أن من فعل تلك الأمور واتصف بها .. فقد حصل على مطلوبه، وظفر بمرغوبه في الدنيا والآخرة. انتهى من "المفهم".
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم؛ اجعل رزق آل محمد قوتًا" أي: اكْفِهم من القوت بما لا يُرْهِقُهم إلى ذل المسألة، ولا يكون فيه فضولٌ تَبْعَثُهم على الترفُّهِ والتبسط في الدنيا، وفيه حجة لمن فضَّل الكفاف؛ لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال، وقد قال:"خَيْرُ الأمورِ أوساطُها". انتهى.
ويؤيده ما أخرجه ابن المبارك في "الزهد" بسند صحيح عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن ابن عباس: أنه سئل عن رجل قليل العمل قليل الذنوب، أو رجل كثير العمل كثير الذنوب، فقال: لا أعدل بالسلامة شيئًا، فمن حصل له ما يكفيه واقتنع به .. أمن من آفات الغنى وآفات الفقر.
وقد ورد حديث لو صح .. لكان نصًّا في المسألة؛ وهو ما أخرجه ابن ماجه من طريق نُفيع؛ وهو ضعيف، عن أنس رفعه:"ما من غني ولا فقير .. إلا وَدَّ يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتًا".
وقد تكلم ابن بطال على مسألة التفضيل بين الغَنيِّ والفقير بكلام طويل، حاصله: أن الفقير والغني متقابلان؛ لما يعرض لكل منهما في فقره وغناه من
(58)
- 4082 - (3) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ
===
العوارض فيمدح أو يذم، والفضل كله في الكفاف؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم، اجعل رزق آل محمد قوتًا" وسيأتي قريبًا.
قوله: "وقنع به" أي: قنع بما آتاه الله تعالى.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: مسلم في كتاب الزكاة، باب في القناعة والكفاف، والترمذي في الزهد، وابن حبان، والبغوي: في "شرح السنة" وغيره.
ودرجته: أنه حسن السند، لأن فيه ابن لهيعة، وهو مختلف فيه، صحيح المتن بما قبله، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة.
* * *
ثم استشهد المؤلف ثانيًا لحديث أبي هريرة بحديث آخر له رضي الله تعالى عنه، فقال:
(58)
- 4082 - (3)(حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير) الهمداني الكوفي، ثقة، من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين ومئتين (234 هـ). يروي عنه:(ع).
(وعلي بن محمد) بن إسحاق الطنافسي الكوفي، ثقة عابد، من العاشرة، مات سنة ثلاث، وقيل: خمس وثلاثين ومئتين. يروي عنه: (ق).
(1) سورة الإسراء: (29).
قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاع، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ؛ اجْعَلْ رِزقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا".
===
(قالا: حدثنا وكيع) بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة، من التاسعة، مات في آخر سنة ست أو أول سنة سبع وتسعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(حدثنا الأعمش) سليمان بن مهران الكاهلي الأسدي، ثقة، من الخامسة، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(عن عمارة بن القعقاع) بن شبرمة - بضم المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة - الضبي الكوفي، ثقة، من السادسة، أرسل عن ابن مسعود. يروي عنه:(ع).
(عن أبي زرعة) هرم بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الصحابي المشهور الكوفي، ثقة، من الثالثة. يروي عنه:(ع).
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم؛ اجعل رزق آل محمد) صلى الله عليه وسلم أي: ذريته وأهل بيته، أو أتباعه وأحبابه على وجه الكمال. انتهى "ملا علي"، ومفاد ما ذكره ابن الملك: كون (آل) مقحمًا.
(قوتًا) قال النووي: القوت عند أهل العربية واللغة: ما يسد الرمق. انتهى.
وفي "المشكاة" زيادة: (كفافًا) فقال ملا علي: وهو من القوت ما يكف الرجل عن الجوع، أو عن السؤال، والظاهر أن هذه الرواية تفسير للأولى. انتهى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
قال القرطبي: قوله: "قوتًا" أي: ما يقوتهم ويكفيهم؛ بحيث لا يشوشهم الجهد ولا ترهقهم الفاقة، ولا تذلهم المسألة والحاجة، ولا يكون أيضًا في ذلك فضول يخرج إلى الترف والتبسط في الدنيا والركون إليها.
وهذا يدل على زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وعلى تقلله منها، وهو حجة لمن قال: إن الكفاف أفضل من الفقر والغنى. انتهى من "المفهم".
قال النووي: وفي الحديث فضيلة التقلل من الدنيا والاقتصار على القوت منها والدعاء بذلك. انتهى.
قال القرطبي: ومعنى الحديث: أنه طلب الكفاف؛ فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة، وفي هذه سلامة من آفات الغنى والفقر جميعًا.
وقال القاري في "المرقاة"(9/ 20): وحكم الكفاف يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال؛ فمنهم: من يعتاد قلة الأكل حتى إنه يأكل في كل أسبوع مرة، فكفافه وقوته تلك المرة في كل أسبوع.
ومنهم: من يعتاد الأكل في كل يوم مرة أو مرتين، فكفافه ذلك أيضًا؛ لأنه إن تركه .. أضر ذلك ولم يقو على الطاعة.
ومنهم: من يكون كثير العيال، فكفافه ما يسد رمق عياله.
ومنهم: من يقل عياله، فلا يحتاج إلى طلب الزيادة وكثرة الأشغال، فإذًا: قدر الكفاية غير مقدر، ومقداره غير معين، إلا أن المحمود: ما به القوة على الطاعة والاشتغال على قدر الحاجة.
وهذا الحديث علم من أعلام النبوة، وقد أجاب الله سبحانه وتعالى هذا الدعاء؛ فإنه ترى عترته صلى الله عليه وسلم من زمنه إلى زماننا هذا ليس في أيديهم غير الكفاف الذي لا يموت به صاحبه، والكفاف لا يستطيع دونه، ولم
(59)
- 4083 - (4) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي وَيَعْلَى،
===
تسلَّم إليهم مملكةٌ؛ كما حصلت لغيرهم، ولم تقُم لهم سلطة على وجهٍ يعتد به، وإن ظَهرَ بعضهم على بعض القطر اليسير من الملك الكبير، والنادر كالمعدوم، بل هم أقلُّ الناس معاشًا وأندرهم قوتًا، وأقصرهم كفافًا في أكثر الأزمنة والبلاد.
والنكتةُ في ذكر هذا الحديث في كتاب الزهد: تنبيه غير آل محمد صلى الله عليه وسلم على إيثار القوت والكفاف، وتثبيتهم على الفقر، وكف اللسان عن شكاية قلة الرزق والمعاش؛ لأنه إذا أريد بأفاضل الأمة وخيارهم هذا الأمر .. فكيف بمن هو مفضول من الشرار؟ !
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب الرقاق، باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، والترمذي في كتاب الزهد.
فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
* * *
ثم استأنس المؤلف للترجمة بحديث أنس رضي الله تعالى عنه، فقال:
(59)
- 4083 - (4)(حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير) الهمداني الكوفي، ثقة، من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين ومئتين (234 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثنا أبي) عبد الله بن نمير الكوفي الهمداني، ثقة، من التاسعة، مات سنة تسع وتسعين ومئة (199 هـ). يروي عنه:(ع).
(ويعلى) بن عبيد بن أبي أمية الطنافسي أبو يوسف الكوفي، ثقة إلا
عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ نُفَيْعٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ غَنِيٍّ وَلَا فَقِيرٍ إِلَّا وَدَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيَا قُوتًا".
===
في حديثه عن الثوري ففيه لين، من كبار التاسعة، مات سنة بضع ومئتين (203 هـ). يروي عنه:(ع).
كلاهما (عن إسماعيل بن أبي خالد) سعيد البجلي الأحمسي، ثقة، من الرابعة، مات سنة ست وأربعين ومئة (146 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن نفيع) بن الحارث أبي داوود الأعمى، مشهور بكنيته الكوفي، ويقال له: نافع، متروك، وقد كذبه ابن معين، من الخامسة. يروي عنه:(ت ق).
(عن أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الضعف؛ لأن فيه أبا داوود الأعمى، وهو متروك.
(قال) أنس: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من غني) أي: صاحب مال (ولا فقير .. إلا ود) وأحب حبًّا شديدًا (يوم القيامة أنه أوتي) وأعطي - بالبناء للمفعول - (من الدنيا قوتًا) أي: قدر ما يقوت ويعيش به، وفي رواية:(كفافًا) أي: شيئًا يسد رمقه بغير زيادة على ذلك، قيل: سمي قوتًا؛ لحصول القوة منه.
وقد احتج بهذا الحديث من فضل الفقر على الغنى، وقد اتفق الجميع على أن ما أَحْوَج من الفقر .. مكروه، وما أَبْطَر من الغنى .. مذموم؛ والكفاف: حالة متوسطة بين الفقر والغنى، وخير الأمور أوسطها، ولذلك سألها المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله:"اللهم؛ اجعل رزق آل محمد قوتًا" ومعلوم أنه لا يسأل لهم إلا أفضل الأحوال؛ والكفاف حالة سليمة من آفات الغنى المطغي وآفات الفقر المدقع الذي كان يتعوَّذ منهما، فهي أفضل منهما.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
قال القرطبي: فعلى هذا؛ فأهل الكفاف هم صدر كتيبة الفقر الداخلين الجنة قبل الأغنياء بخمس مئة عام؛ لأنهم وسطهم؛ والوسط: العدل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (1)؛ أي: عدلًا خيارًا، وليسوا من الأغنياء، ولا من الفقراء.
وفيه حجة لمن ذهب إلى تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر، يكفي في فضله: أن كل أحد يتمناه يوم القيامة، كذا في "الفيض"، والله أعلم.
قال السندي: قوله: "أنه أوتي من الدنيا قوتًا" أي: لأنه قد يعدم القوت فيؤديه ذلك إلى ما لا ينبغي، فيتمنى أنه لو كان رزقه الله القوت، والله أعلم. انتهى منه.
قال السيوطي: هذا الحديث أورده ابن الجوزي في "الموضوعات"، وأعلَّه بنفيع بن الحارث؛ فإنه متروك، وهو مرويٌّ في "مسند أحمد"، وله شاهد من حديث ابن مسعود أخرجه الخطيب في "تاريخه" بهذا الإسناد والمتن، وكل من رواه إنما روى بإسناد نفيع بن الحارث.
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه ضعيف؛ لضعف سنده، وغرضه: الاستئناس به للترجمة، فهو: ضعيف السند والمتن (12)(422).
* * *
ثم استشهد المؤلف ثالثًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث عُبيد الله بن مُحْصِنٍ رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(1) سورة البقرة: (143).
(60)
- 4084 - (5) حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ وَمُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُمَيْلَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيّ، عَنْ أَبِيهِ
===
(60)
- 4084 - (5)(حدثنا سويد بن سعيد) بن سهل الهروي الأصل ثم الحدثاني، صدوق في نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه، فأفحش فيه ابن معين القول، من قدماء العاشرة، فهو مختلف فيه، مات سنة أربعين ومئتين (240 هـ) وله مئة سنة. يروي عنه:(م ق).
(ومجاهد بن موسى) الخوارزمي الختلي - بضم المعجمة وتشديد المثناة المفتوحة - أبو علي نزيل بغداد، ثقة، من العاشرة، مات سنة أربع وأربعين ومئتين (244 هـ) وله ست وثمانون سنة. يروي عنه (م عم).
(قالا: حدثنا مروان بن معاوية) بن الحارث بن أسماء الفزاري أبو عبد الله الكوفي، نزيل مكة ودمشق، ثقة حافظ وكان يدلس أسماء المشايخ، من الثامنة، مات سنة ثلاث وتسعين ومئة (193 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثنا عبد الرحمن بن أبي شُمَيلةَ) - بمعجمة مصغرًا - الأنصاري المدني القُبَائي - بضم القاف وتخفيف الموحدة ممدودةً - مقبول، من السابعة. يروي عنه:(ت ق).
(عن سلمة بن عبيد الله بن محصن الأنصاري) الخطمي المدني، مجهول، من الرابعة. يروي عنه:(ت ق). روى عن: أبيه، ويقال: له صحبة، ويروي عنه: عبد الرحمن بن أبي شميلة، ذكره ابن حبان في "الثقات"، له في "السنن" حديث واحد:(من أصبح منكم آمنًا في سربه) وهو هذا الحديث، وقال أحمد: لا أعرفه، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، فهو مختلف فيه.
(عن أبيه) عبيد الله بن محصن الأنصاري الخطمي المدني، مختلف في
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافىً فِي جَسَدِه، آمِنًا فِي سِرْبِه،
===
صحبته، والصحيح أنه صحابي رضي الله تعالى عنه، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث: (من أصبح منكم آمنًا في سربه
…
) وهو هذا الحديث ويروي عنه: ابنه سلمة. يروي عنه: (ت ق).
قلت: وقال ابن عبد البر: أكثرهم يصحح صحبته، وقال أبو نعيم: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه، وذكره البخاري في "التاريخ الكبير" فيمن اسمه عبيد الله - مصغرًا - وفي "سنن الترمذي" في سياق حديثه (وكانت له صحبة). يروي عنه:(ت ق).
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه عبد الرحمن بن شميلة، وهو مختلف فيه، وفيه سلمة بن عبيد الله الأنصاري وهو مختلف فيه، وأما سويد بن سعيد وإن كان مختلفًا فيه .. فقد قارنه مجاهد بن موسى، فقواه به.
(قال) عبيد الله بن محصن: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أصبح منكم) أيها المؤمنون (معافىً) اسم مفعول؛ من عافى المفاعلة؛ أي: صحيحًا سليمًا من العلل والأسقام (في جسده) أي: في بدنه ظاهرًا وباطنًا (آمنًا) أي: غير خائف من عدو (في سربه) المشهور: كسر السين؛ أي: في نفسه.
وقيل: السرب: الجماعة؛ أي: في قومه وعشيرته؛ فالمعنى: في أهله وعياله، وقيل: بفتح السين؛ أي: في مسلكه وطريقه، وقيل: بفتحتين؛ أي: في بيته، كذا ذكره القاري عن بعض الشراح.
وقال التوربشتي: أبي بعضهم أن يُقْرأَ بفتحتين؛ أي: في بيته، ولم
عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ .. فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا".
===
يذكر روايةً، ولو سُلِّم له قولُه: أن يطلق السَّرَبُ على كل بيت .. كان قولُه هذا حَرِيًّا بأن يكون أقوى الأقاويل، إلا أن السرب يقال للبيت الذي هو في الأرض.
وفي "القاموس": السرب: الطريق، وبالكسر: الطريق والبال والقلب والنفس والجماعة، وبالتحريك: جُحْرُ الوحْشِيِّ والحفيرُ تحت الأرض. انتهى.
فيكون المراد من الحديث: المبالغة في حصول الأمن له، ولو في بيت تحت الأرض ضيق؛ كجحر الوحش، أو التشبيه به؛ في خفائه وعدم ضياعه.
(عنده قوت يومه) الحاضر؛ أي: كفاية قوته من وجه الحلال .. (فكأنما حيزت له الدنيا) بصيغة المبني للمجهول؛ من الحيازة؛ وهي الجمع والضم؛ أي: جمعت، والضمير في:(له) عائدٌ لـ (من) في قوله: (من أصبح منكم) رابط للجملة المذكورة هنا للجملة السابقة؛ أي: فكأنما حيزت الدنيا وجمعت له.
وزاد في "المشكاة": (بحذافيرها) قال القاري: أي: بتمامها؛ والحذافير: الجوانب، وقيل: الأعالي، واحده حِذْفَار، أو حُذْفُور.
والمعنى: فكأنما أعطي الدنيا بأسرها، كذا في المرقاة (9/ 47).
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي في كتاب الزهد، باب في وصف من حيزت له الدنيا.
ودرجته: أنه حسن؛ لكون سنده حسنًا، وغرضه: الاستشهاد به.
* * *
ثم استشهد المؤلف رابعًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث آخر له رضي الله تعالى عنه، فقال:
(61)
- 4085 - (6) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَإِنَّهُ
===
(61)
- 4085 - (6)(حدثنا أبو بكر) ابن أبي شيبة.
(حدثنا وكيع) بن الجراح، (وأبو معاوية) محمد بن خازم الضرير، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن) سليمان بن مهران (الأعمش) الأسدي الكاهلي الكوفي، ثقة ثبت قارئ، من الخامسة، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة. يروي عنه:(ع).
(عن أبي صالح) ذكوان السمان الزيات.
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظروا) أيها المؤمنون (إلى من هو أسفل منكم) أي: إلى من هو أقل منكم مالًا، أو إلى من هو أقبح منكم، أو إلى من هو أضعف منكم جسمًا (ولا تنظروا إلى من هو فوقكم) منزلة في ذلك المذكور، والظرف في الموضعين متعلق بمحذوف خبر المبتدأ الذي هو ضمير الغائب.
والمعنى: انظروا أيها المسلمون إلى من هو أسفل منكم في المال والجمال والجاه مثلًا؛ فإنه يظهر عليكم ما أنعم الله به عليكم، فتشكرونه على ذلك، فتقومون بحق النعمة (ولا تنظروا إلى من هو فوقكم) في ذلك.
(فإنه) أي: فإن النظر إلى من هو أسفل منكم؛ فالضمير عائد إلى مصدر (انظروا).
أَجْدَرُ أَلَّا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ"، قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: "عَلَيْكُمْ".
===
(أجدر) وأحق وأوجب بـ (ألَّا تزدروا) أي: بألا تستصغروا ولا تحقروا (نعمة الله) التي أنعم الله بها عليكم.
(قال أبو معاوية) أي: زاد أبو معاوية على وكيع لفظة: (عليكم) بعد قوله: (نعمة الله) أي: أقرب بألا تزدروا نعمة الله التي أنعم الله تعالى بها عليكم.
من الازدراء؛ وهو الاحتقار والانتقاص والتعييب، وهو افتعال؛ من زريت عليه زريًا وزِريةً وزِرايةً - بكسر أوله - من باب رمى؛ إذا عبت عليه.
وأصل ازدريت: ازتريت، فقلبت (تاء) الافتعال (دالًا) لأجل مناسبة الزاي، كذا في "الكاشف" للخطابي (9/ 334).
وقال في "المصباح": زرى عليه زريًا؛ من باب رمى، وزرية وزراية؛ إذا عابه واستهزأ به. انتهى.
والمعنى: لا تحقروا نعمة الله، والتزموا شكرها. انتهى "أبي".
قال القرطبي: قوله: "انظروا إلى من هو أسفل منكم" أي: اعتبروا إلى من فضلتم عليه في المال والخلق والعافية، فيظهر عليكم ما أنعم الله به عليكم فتشكرونه على ذلك، فتوفون بحق النعمة، وذلك بخلاف ما إذا نظر إلى ما فُضِّلَ به عليه غيره من ذلك؛ فإنه يَضْمِحلُّ عنده ما أنعم به عليه من النعم، فيحتقرها فلا يحسبها نعمًا، فينسى حق الله فيها من الشكر، وربما حمله ذلك النظر إلى أن تمتدَّ عينه إلى الدنيا، فينافسَ أهلها، ويتَقَطَّعَ لحسرةِ فوتها، ويحسدَ أهلها، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة. انتهى منه.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في الرقاق، باب لينظر إلى من هو أسفل منه، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، والترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، وقال: هذا حديث صحيح، وأحمد في "المسند".
(62)
- 4086 - (7) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
===
فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
* * *
ثم استشهد المؤلف خامسًا لحديث أبي هريرة الأول بحديث آخر له رضي الله تعالى عنه، فقال:
(62)
- 4086 - (7)(حدثنا أحمد بن سنان) بن أسد بن حِبَّان - بكسر المهملة بعدها موحدة - أبو جعفر القطان الواسطي، ثقة حافظ، من الحادية عشرة، مات سنة تسع وخمسين ومئتين (259 هـ)، وقيل قبلها. يروي عنه:(خ م د س ق).
(حدثنا كثير بن هشام) الكلابي أبو سهل الرَّقِّي، نزيل بغداد، ثقة، من التاسعة، مات سنة سبع ومئتين (207 هـ)، وقيل: ثمان ومئتين. يروي عنه: (م عم).
(حدثنا جعفر بن برقان) - بضم الموحدة وسكون الراء بعدها قاف - الكلابي أبو عبد الله الرقي، صدوق يهم في حديث الزهري، من السابعة، مات سنة خمسين ومئة، وقيل بعدها. يروي عنه:(م عم).
(حدثنا يزيد بن الأصم) واسمه عمرو بن عبيد بن معاوية البَكَّائي - بفتح الموحدة والتشديد - أبو عوف الكوفي، نزل الرقة وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين، يقال: له رؤيةٌ ولا تَثْبُتُ، وهو ثقة، من الثالثة، مات سنة ثلاث ومئة (103 هـ). يروي عنه:(م عم).
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلكِنْ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى أَعْمَالِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ".
===
حالة كون أبي هريرة (رفعه) أي: رفع هذا الحديث (إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي: لم يوقفه على نفسه.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.
(قال) النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى) جمال (صوركم و) إلى كثرة (أموالكم، ولكن إنما ينظر إلى) إخلاص (أعمالكم و) إلى نية (قلوبكم).
والحاصل: أن من حسن عمله، وصلحت نيته، سواء كان نحيف الجسم، دميم الصورة، فارغ اليد .. رضي الله عنه ونظر إليه، ومن ساء عمله، وفسدت نيته .. سخط الله عليه، وأعرض عنه، وإن كان كبير الجسم، جميل الصورة، كثير المال.
وقال محمد الدهني في "هامش مسلم": يعني: أن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم المجردة عن السيرة المرضية، ولا إلى أموالكم العارية عن الخيرات، ولكن ينظر إلى قلوبكم التي هي محل التقوى، وأعمالكم التي يتقرب بها إلى الله العلي الأعلى. انتهى منه.
قوله: (إن الله لا ينظر إلى صوركم) وفي رواية مسلم: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم)، قال القاضي عياض: نظر الله الذي بمعنى: الرؤية يتعلق بكل موجود، وهذا النظر بمعنى: المجازاة والإثابة، ويتعلق هذا بمن شاء الله به ذلك.
فالمعنى: أن الله لا يجازيكم ولا يثيبكم على صوركم وأموالكم، وإنما يثيبكم على ما في قلوبكم من قصد الخير ونيته؛ وإنما كان كذلك؛ لأن أعمال القلب هي المصححةُ للأعمالِ الظاهرة، والأعمالُ الظاهرةُ إنما هي أمارات
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
ظنية، لا دلالة عقلية، ترتَّب على ذلك عدمُ الغلوِّ في تعظيم من حسنت أعماله الظاهرة؛ إذ لعل الله تعالى يعلم من قلبه وصفًا مذمومًا لا تصح معه تلك الأفعال.
وترتَّبَ أيضًا عليه عدم احتقار مسلمٍ ساءت أفعاله الظاهرة؛ إذ لعل الله تعالى يعلم من قلبه وصفًا محمودًا يغفر له بسببه، وهذا في الحكم على عاقبة الرجل الذي ساءت أفعاله الظاهرة، فلا يحكم عليه بكونه من النار مثلًا، فإنه يمكن أن يغفر له الله تعالى؛ لتوبته فيما بعد، أو لسبب من الأسباب، ولا يجوز لبشر أن يتحكم على الله تعالى، أما بالنسبة لأفعاله .. فلا شك في أنها يحكم عليها بكونها ذنبًا أو معصيةً، ويجب أن ينكر عليها، وإلا .. لتعطلت الأحكامُ كلُّها.
والذي يظهر عندي من معنى الحديث: أن الله تعالى لا ينظر إلى قوة أجسادكم وإلى صوركم الحسنة، وإنما ينظر إلى أعمالكم الظاهرة والباطنة جميعًا، فأشار بقوله:"قلوبكم" إلى الأعمال الباطنة؛ كما أشار بقوله: "أعمالكم" إلى الأعمال الظاهرة.
والحاصل: أن من حسن عمله .. رضي عنه الله تعالى، سواء كان نحيف الجسم دميم الصورة، ومن ساء عمله .. سخط الله منه سبحانه وتعالى، سواء كان قوي الجسم حسن الصورة، فلا مجال في هذا الحديث لمن ادعى:(أن المطلوب من الإنسان تزكية القلب فقط، ولا عبرة بأفعاله الظاهرة، فيفعل في ظاهره ما يشاء) كما تفوه بذلك بعضُ الملاحِدة، وجهلة المتصوفة، ونصوص القرآن والسنة مطبقةٌ على كون الإنسان مكلفًا على تصحيح أعماله الظاهرة.
والواقع أن الأعمال الظاهرة لا تفسد إلا بفساد القلب، فهي علامة على فساد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
باطنه، أما أَنْ يُغْفرَ له بوصف خفي .. فذلك شيء آخر، فلا يلزم منه ألا يقع الإنكار على أعماله الظاهرة الفاسدة، فلو لم تكن هناك قيمة للأعمال الظاهرة .. لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم:(وأعمالكم) عقب قوله: (إلى قلوبكم) ولكنه صلى الله عليه وسلم ذكر الأمرين، فدل على أن المطلوب: إِصلَاحُ الباطن والظاهر جميعًا.
وكذلك لا يخفى بطلان قول من استدل بهذا الحديث على: أن الأجساد والصور لا يتعلق بها حكم شرعي، فيجوز للمرء أن يختار لتزيين جسده وتحسين صورته ما شاء من طريق؛ كحلق اللحية، وإرسال الشارب، وما إلى ذلك، والواقع أن حديث الباب لا علاقة له بمثل هذا، وأن ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من إعفاء اللحية، وإحفاء الشارب .. من جملة الأعمال الظاهرة المأمور بها، فلا شك في كونها من جملة الشرائع التي كلفنا الله تعالى بها.
وإنما المراد من نفي النظر إلى الأجساد والصور: أن حسن الصورة وقبحها لا مدخل له في رضا الله وسخطه، وإنما العبرة بالأعمال التي يباشرها، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كثير من الأعمال التي تتعلق بالجسد والصور؛ كأمره بإعفاء اللحية، وقص الشوارب، وتقليم الأظفار، ولعنه للواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات، فكيف يقال: إن هذه الأحكام خارجة عن شريعة الله تعالى؟ ! كذا في "التكملة"(5/ 362).
(ولكن إنما ينظر إلى أعمالكم) قال السندي: فأصلحوا أعمالكم وقلوبكم، ولا تجعلوا همتكم متعلقة بالبدن والمال.
ولعل المراد بالنظر وعدمه: أنه لا يقبل المرء ولا يقربه بحسن الصورة وكثرة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
المال، ولا يرده بضد ذلك، وإنما يقبله بحسن العمل، وخلوص القلب، ويرده بضد ذلك، وإلا .. فما شيء يغيب عن نظر الله تعالى، والله أعلم.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: مسلم في كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره، والبغوي في "شرح السنة"، وأحمد في "مسنده".
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أبي هريرة الأول.
* * *
وجملة ما ذكره في هذا الباب: سبعة أحاديث:
الأول للاستدلال، والرابع للاستئناس، والبواقي للاستشهاد.
والله سبحانه وتعالى أعلم