الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
أمةَ القرآنِ: وبعدَ قرونٍ متطاولةٍ وبعدَ أحاديثَ وقصصٍ عنْ مصارعِ الغابرينَ المستكبرين، يعرضُ القرآنُ على مشارفِ بعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم قصةَ أصحابِ الفيل، الذينَ انساحوا في الأرضِ يسفكونَ الدماءَ ويذِّلونَ الأعزاءَ وينهبون الأموالَ ويسيطرونَ على المقدَّرات .. والهدفُ في النهاية قريشٌ وبيتُ اللهِ الحرام .. ولئنْ تحققَّ لأبرهة وجيشهِ جزءٌ من النصرِ على تجمعاتِ سحقوها وشعوبٍ أذلوُها، فقد كانَ موعدُ قدر اللهِ فيهم عندَ بيتهِ المحرَّم، وكانت سنةُ اللهِ في إهلاكهم بجندٍ من السماءِ حَصَبتْهم حتى هلَكَ منْ هلَكَ منهم، وعادَ خاسئًا منْ عادَ منهم، وماتَ في الطريق منْ ماتَ منهم، وخُلِّدت الحادثةُ في كتابِ اللهِ، تشهدُ على سحْقِ الباطلِ وتدميرِ المجرمين، وإبطالِ كيدِ الكائدين {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} (1).
أيها المسلمون: وبعُثَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم بالهدى ودينِ الحقِ وشعَّ نورُ الإسلام، فما فتئ الأعداء يتربصونَ بالمسلمينَ الدوائرَ؛ أوذيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنونَ في مكة، فهاجرَ منْ هاجرَ منهمْ إلى الحبشة، وماَت تحتَ التعذيبِ منْ مات، وأخيرًا ارتحلَ المسلمونَ عن مكةَ مهاجرينَ إلى المدينةِ على إثرِ مطاردةِ قريش وتضييقها، وكانَ القرآنُ ينزلُ مسلِّيًا لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ومذكِّرًا لهمْ بسنةِ اللهِ في الإيذاءِ وما يعقبهُ من تمكين، وكانَ فيما نزلَ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم قولهُ تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَاّ قَلِيلًا،
(1) سورة الفيل، الآيات: 1 - 5.
سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} (1).
وهاجرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى المدينةِ وابتدأتْ مرحلةٌ جديدةٌ منَ الجهاد، فقريشٌ لمْ تكفَّ عنْ مطاردةِ المؤمنينَ وهمْ خارج حدودِها، وكانتْ غزوةُ الأحزابِ ذروةَ الصراعِ بين الحقِّ والباطلِ، حيثُ تجمعتِ الأحزابُ وتألَّفتْ الأعداءُ وتحالفَ اليهودُ مع المشركين، وانضمَّ إليهمُ المنافقون في مشهدٍ زلزلَ المؤمنين، وزاغتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ .. فلما صدَقَ المسلمونَ معَ ربِّهم وثَبتوا مع نبيِّهم جاءَ الفرجُ، ودافعَ اللهُ عن أوليائه {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (2).
وما فتئ اليهودُ يتحرشونَ بالمسلمين، تارةً، ويتحيَّنونَ الفرصةَ للقضاءِ على الرسولِ صلى الله عليه وسلم أخرى، حتى أبطلَ اللهُ كيدَهم وخُضِّدَت شوكتُهم، بلْ دخلَ في الإسلام مُنقادًا منْ فتحَ اللهُ على قلبهِ منهم.
وهكذا النصارى أجلَبوا على المسلمين، وهمُّوا باقتحامِ المدينةِ، فأرسلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه لمنازَلَتهم وكانتْ وقعةُ مؤتة، ورغمَ ما فيها منْ شهداءِ المسلمينَ بدايةّ لجهادِ النصارى، حتى تحطمتْ دولُتهم، وورثَ المسلمونَ أرضَهم وديارَهم، ومنْ يتأملُ الفرقَ بينَ (مؤتَة) في السنةِ الثامنةِ للهجرة، واليرموكَ في السنةِ الثالثةِ عشرةَ أو الخامسةَ عشرةَ- كما قالَ المؤرخون- يرى أنَّ فارق الزمانِ ضئيلٌ بين قوةِ الرومِ العظمى في مؤتة، وبينَ تحطيمِ قوتِهم وانتصارِ المسلمين عليهم في اليرموك.
(1) سورة الإسراء، الآيتان: 76 - 77.
(2)
سورة الأحزاب، الآيتان:25.
أيها المسلمون: وبعدَ نحوِ ستةِ قرونٍ كانتْ موجاتُ المغولِ وحملاتُ الصليبيين، وكان إعصارًا مدمِّرًا وغزوًا ساحقًا، أُبيدتْ الدولُ والممالكُ وأفنيتْ الشعوبُ وأُهلكَ الحرثُ والنسلُ .. فلما بلغَ الظلمُ نهايتَه حلَّتْ بهم سُنةُ الله في التدميرِ والفناءِ، ولم يبقَ إلا أخبارُهم تُروى عبرةً للمعتبرين.
وبعدُ يا عبادَ الله: فهذا الاستعراضُ التاريخيُّ لبيانِ طرفٍ منْ سننِ اللهِ في تدميرِ الظالمين، والدرسُ يقولُ: إن لكلِّ أجلٍ كتابٌ، ولكلِّ بدايةٍ نهايةٌ، ولكلِّ قوةٍ ضعفٌ، وآياتُ القرآن الحكيم تعرضُ لهذه السنَّةِ الربانيةِ في عددٍ منْ سورِ القرآنِ وآياتهِ، فهلْ نسمعُ ونعقلُ منها منْ مثل قولِهِ تعالى:{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} (1) وقوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2)، وقوله:{وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا، وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَكُلًا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} (3).
أيها المسلمون: ويبقى بعدَ ذلكَ السؤالُ المهمُّ: ماذا عنْ سُنن اللهِ في نصرِ المؤمنين، وهلْ منْ نماذجَ منْ نصرِ القلةِ المؤمنةِ على الكثرةِ الكافرةِ؟
ذلكَ ما سأعرضُ له فيالخطبةُ القادمةِ إن شاءَ الله.
(1) سورة الأنبياء، الآية:11.
(2)
سورة الأنعام، الآيتان: 44 - 45.
(3)
سورة الفرقان، الآيات: 37 - 39.
نعمْ، إذا كانَ للهِ سُننٌ في التدمير والإهلاكِ، فلهُ كذلكَ سننٌ في النصرِ والتمكين
…
وعلى المسلمينَ أنْ يعلموا هذه السننَ، ويعملوا بها إنْ أرادوا نصرًا وتمكينًا وعزًا وفتحنًا مبينًا.
اللهم انصرْ دينَك وعبادَك، وانتقمْ منَ الكافرينَ الظالمين.