الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
إخوةَ الإيمان:
8 -
وحينَ يكونُ الحديثُ عنِ المُسكِّناتِ في الأزماتِ فلا بدَّ أنْ يكونَ للعملِ النافعِ تعلُّمًا وتعليمًا ونشرًا نصيبٌ وافر؛ فالعلمُ نورٌ يضيءُ للسالكين، وهوَ خشيةٌ يقطعُ الخوفَ إلا منْ ربِّ العالمين، والعلمُ طريقٌ إلى الجنة، وهو سببٌ للأمنِ والطُّمأنينة، العلماءُ الربانيونَ أعرفُ الناسِ في الفتن، وأقدرهمْ على تسكينِ الناسِ حينَ المخاوفِ والمِحَن:{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (1).
والعلماءُ أعرفُ الناسِ بسُننِ اللهِ في الكون، وأعلمُ الناسِ بحركةِ التاريخِ ومصائرِ الأمم .. ولذا فتعلُّمُ العلمِ، ونشرُه، والقربُ منَ العلماءِ ومشورتهم، كلُّ ذلكَ مُسكِّنٌ في الأزمات، وهوَ في غيرها منْ بابِ أَوْلى.
9 -
أيها الناسُ: وليسَ كلُّ ما يُسمعُ بصحيح، ولوسائلِ الإعلامِ أثرُها في الإرجافِ والتخويف، ولا سيما إذا كانَ العدوُّ مستحوذًا على المعلومةِ ينشرُ منها ما يشاء، فاحذروا التهويلَ الإعلامي، ولا تكونوا أداةً للترويجِ والترويعِ بما لا يصحُّ ولا يثبتُ، وحَسْبُ المرءِ كذبًا أنْ يُحدِّثَ بكلِّ ما سمع، وفي القرآنِ تنويهٌ وتوجيه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (2).
فلا تستفِزنكمُ الأخبارُ الكاذبة، ولا يستخِفَّنّكمُ الذينَ لا يُوقنون.
(1) سورة النساء، الآية:83.
(2)
سورة الحجرات، الآية:6.
10 -
والمسكِّنُ العاشر: تثمينُ المكاسبِ الحاصلةِ في هذهِ الأزمات، وتقديرُ المنحِ الربانيةِ على إثرِ المحنِ والنكبات، فما منْ شرٍّ صَرْفٍ وقدْ يبتلي اللهُ عبادَهُ بالضراءِ ليعافيَهمْ ويُحزنَهمْ ويرفعَ درجاتِهم، فضلًا عما يقعُ في هذه النكباتِ منْ خيرٍ عامٍّ للمسلمين، تتوحَّدُ كلمتُهمْ وتتقاربُ قلوبُهم، ويتوبونَ إلى ربِّهم، ويدعونَهُ خَوْفًا وطمعًا، ويستغفرونَهُ سِرًّا وجَهرًا، ويصحِّحونَ مسارَهم، ويتفقَّدونَ مسيرتَهُم .. ويخطِّطونَ بوعيٍ لمستقبلهم، وهذهِ المكاسبُ وأمثالُها إذا ثُمِّنتْ وروعيتْ كانتْ منْ أعظمِ المسكِّناتِ وأقوى العلاجات (1).
11 -
ومنَ المسكِّناتِ: معرفةُ الأعداءِ على حقيقتهم، والحذرُ منهم، والاستعدادُ لهم، فللأمةِ المسلمةِ أعداءٌ ينكشفونَ أكثرَ في الأزمات، ومنهمُ الظاهرُ بعداوته، ومنهمُ المنافق، وإذا كانَ خيرُ القرونِ قيل لهم:{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} (2) فغيرُهمْ منْ بابِ أَوْلى، ففي الأزماتِ يَميزُ اللهُ الخبيثَ منَ الطيِّب، ويبيِّنُ الصادقَ منَ الكاذب .. وهكذا تستبينُ سبيلُ المجرمين، ويطمئِنُّ لقضاءِ اللهِ وقدرهِ المؤمنون، وتسكنُ النفوسُ إذْ تعرفُ أعداءها، وتستعدُّ لمقاومتهم.
12 -
ومنَ المسكِّنات: الوقوفُ على سِيَر الأنبياءِ وجهادِهمْ وثباتِهم، وما تَعرَّضَ له المؤمنونَ في تاريخهم، وإدراكُ سُنِّةِ اللهِ في الابتلاءِ والحكمةِ منْ ورائها {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (3).
(1) وفي التنزيل: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} سورة آل عمران، الآيتان: 140، 141.
(2)
سورة آل عمران، الآيتان: 166، 167.
(3)
سورة العنكبوت، الآيتان: 2 - 3.
إنها الذكرى والموعظةُ والتثبيتُ في قَصَصِ المرسلين: {وَكُلًا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (1).
13 -
وأخيرًا- وليسَ آخرًا- دونكمْ هذا المثبِّتُ فتدبِّروهُ والزَموه، إنه حبلُ اللهِ المتينُ، وكتابهُ المبينُ، هدًى وشفاءٌ، ونورٌ وبرهانٌ بصائرُ للناس، ورحمةٌ للعالمين:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2).
{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (3).
آهٍ على المسلمين! ! كمْ ضيَّعوا كتابَ ربِّهمْ وفيهِ ذكرُهمْ وتقواهم، وسرُّ تفوُّقِهمْ ودليلُ أعدائهم، كم هجروه تلاوةً أو حُكمًا أو كليهما، وهو المنقذُ لهمْ في الأزمات، والهادي لمسيرتهمْ حين تَدْلَهِمُّ الخطوبُ وتَحْلوْ لكُ الظلماتُ، يُتلى على مسامعهمْ صباحَ مساءَ، ولكنَّ القلوبَ شاردةٌ، وكمْ يتقدمونَ بهِ في مناسباتهم، ولكنهمْ يغيبونَ عنهُ حينَ أزماتهم، يخافُ منهُ الأعداءُ ولا يُثمنُ المسلمونَ خوفَ الأعداء، إنهُ كتابٌ مفتوحٌ يقرأُ المسلمونَ فيهِ أسبابَ النصر وعواملَ الهزيمة، وسرَّ النجاحِ وأسبابَ الفشل، ومصدرَ القوةِ، ومكمنَ الخطر، ناصحٌ للمؤمنينَ ومبشرٌ لهم، ومغيظٌ للكفارِ ومتوعدٌ لهم، فهلْ يستمسكُ المسلمونَ بالذي أوحيَ إلى نبيِّهم، وهلْ يتذكرونَ أنهمْ سيُسألونَ عنه؟ !
وهلْ تكونُ الأزماتُ سببًا لمزيدِ إقبالهم عليه {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (4).
(1) سورة هود، الآية:120.
(2)
سورة النحل، الآية:102.
(3)
سورة الفرقان، الآية:32.
(4)
سورة محمد، الآية:24.
اللهمَّ اهدِنا بهدايةِ القرآن، واشفِنا بشفاءِ القرآن، واجعَلْهُ لنا هاديًا ودليلًا.
هذه- معاشرَ المسلمين- مُسكِّناتٌ ومسلِّياتٌ في الأزمات، وهيَ كذلك أمورٌ إيجابيةٌ في جميعِ الحالات .. إنها لا تُسْكِّنُ ولا تفتِّر، بلْ تسكِّن وتُطمئِنُ وتُثمر، وهيَ ليستْ ظنيَّةً تُصدقها التجاربُ، بلْ ثابتةً أكيدةَ المفعول .. ولكنَّ شرْطَها الإيمانُ والتصديقُ، خُذوها بقوَّةٍ، ولتكنْ سنَدًا لكم للعملِ المثمرِ في الدنيا، وزادًا للآخرة.
كم نَئِنُّ ونتناولُ منْ مسكناتٍ تمتلئُ بها صيدلياتُنا .. وربما سكَنَ الألمُ ثمَّ عاد .. لكننا قدْ نغفلُ عنْ هذهِ المسكِّناتِ الإيمانيةِ وهيَ في متناولِ أيدينا فلا يكنْ حالُنا:
كالعِيْس في البَيْداءِ يقتُلُها الظَّما
…
والماءُ فوقَ ظُهورِها مَحْمولُ
{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1)، {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (2)، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (3).
اذكروا اللهَ يذكركمْ، واشكروه على نعمهِ يزدْكم ولذكرُ اللهَ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
(1) سورة الرعد، الآية:28.
(2)
سورة العنكبوت، الآية:45.
(3)
سورة النحل، الآية:91.