الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
أيها المسلمونَ: كيف انتصرَ المسلمون على أعدائِهم في الماضي، وكيف هُزِموا بعدُ، وكيف ينتصرُ المسلمون اليومَ وغدًا على عدوِّهم؟ تلك أسئلةٌ سَهلةٌ صعبة .. فما أسهلَ الحديثَ عنها، وما أعظمَ القيامَ بها .. وبكلِّ سهولةٍ يمكن القولُ: إنَّ المسلمين أسلافَنا انتصروا على عدوِّهم حين انتصروا على أنفسِهم، وخافهم عدوُّهم حين خافوا من ربِّهم، نَصَروا دينَ الله فنصرهم الله، وجاهدوا في سبيلِ الله مخلِصين فتحقَّقَ على أيديهم من النصرِ والتمكينِ والفتحِ المبينِ ما يشهدُ به العدوُّ والصديق، كانوا يبحثون عن الموتِ فتُوهَبُ لهم الحياةُ، وكانوا يتطلَّعون إلى الشهادة ويسألونَ ربَّهم أن يُبلِّغَهم إياها .. لقد قذفَ الله في قلوبِهم العزةَ بالإسلام وقال قائلهم:«نحن قومٌ أعزَّنا اللهُ بالإسلام، ومهما ابتَغَيْنا العِزةَ بغيره أذلَّنا الله» ، فقذف الله في قلوبِ أعدائِهم الرعبَ والمهابةَ منهم؛ والرعبُ بدايةُ الهزيمةِ.
تاقتْ نفوسُهم وتعالَتْ في الدنيا .. فكانت الآخرةُ همَّهم، وهجروا الأرضَ والأوطانَ والعشيرة والأزواجَ جهادًا في سبيل الله ودعوةً إلى دينه .. ووقف فارسُهم على جانب البحر وقال: واللهُ لو أعلمُ أن هناك أرضًا وقومًا خلفَ هذا البحرِ لم تبلُغْهم دعوةُ الإسلام، وتستطيعُ الخيلُ أن تصلَه، لأوطأْتُها إياه.
كانوا يتسابقون إلى الجهادِ في سبيل الله ومقارعةِ الأعداء .. يستوي في ذلك الشبابُ والكهولُ والأسوياءُ وأهلُ الأعذار، فالأعرجُ يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقد منعه أبناؤه من القتالِ ويقول: يا نبيَّ الله إني أريدُ أن أطأَ بعَرْجتي هذه الجنةَ، فلا تَحرِمْني من الجهادِ. فيأذنُ اللهُ فيُستشهَد! والأعمى يقول لأصحابه: إنني رجلٌ أعمى لا أستطيعُ الفرار، فأعطوني الرايةَ أحملها. فيُستشهَد والشبابُ بين يديْ
رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصارعون ليُثبِتوا مقدرتَهم على القتال، فيَقبَلُ من يَقبَل منهم، ويرجئُ آخرين لعدمِ بلوغهم ومقدرتِهم حتى يبلُغوا في المعركة القادمة، وهكذا.
بل حتى النساء لهذا الجيل- وهنَّ ممن عَذَرَ اللهُ عن الجهاد- كنَّ يشاركنَ في الجهاد، يداوِينَ الجَرحى ويَسقِينَ العطشى من المسلمين المجاهدين- وربما حملنَ السلاح ونكَأْنَ العدوَّ، بل ربما استحقَّت إحداهن لقب (المجاهدة) كنُسَيْبة بنت كعب التي شهدت أُحدًا وقال عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«لَمُقامُ نسيبةَ بنتِ كعبِ اليومَ خيرٌ من مُقامِ فلانٍ وفلان» ، وشهدتْ حمراءَ الأسدِ ودمُها ينزِف وشهدت الحديبيةَ، ويومَ حُنينٍ، ويومَ اليمامة، وبها قُطِعَت يدُها، وجُرحت يدها، وجُرحت سوى ذلك أحدَ عشرَ جُرحًا .. رضي الله عنها وأرضاها (1).
أما المُوسِرون وأهلُ الثراءِ من المسلمين فكانوا يَبذُلون أموالَهم رخيصةً في سبيل الله وتجهيزِ المجاهدين، وربما تسابقَ اثنان منهم فأتى أحدُهما بنصفِ ماله، وجاء الآخر بمالِه كلِّه، ذلك شأن الخيِّرينِ (أبي بكر وعمر) رضي الله عنهما، أما عثمانُ وابن عوفٍ وأمثالُهما فما ضَرَّهُم ما فعوا بعد تجهيزِ جيشِ العُسرة، وتبقى في المجتمع فئةٌ شاذَّةٌ منافقة يَلمِزون المطَّوِّعين من المؤمنين في الصدقات.
أما الفقراءُ الذين لا يجدون ما ينفقون، ولا ما عليه يحملون، فتفيضُ أعينُهم بالبكاء حزنًا ألَاّ يجدوا ما ينفقون، ولا يَضِيرُهم سُخْريةُ الساخرين بهم، فأولئك سَخِرَ اللهُ منهم.
نعم لقد كان أولئك الفاتحونَ يقاتلون في سبيلِ الله ولا يخافون لَوْمةَ لائمِ كتب اللهُ في قلوبِهم الإيمانَ فكانوا يُوالُون أو يعادُون في الله ولله، ويقاتلون من يَكفُر ولا يُوادُّون من حادَّ اللهَ ورسولَه ولو كانوا آباءَهم أو أبناءَهم أو إخوانَهم أو
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/ 278.
عشيرتَهم، ذلك الجيلُ كانوا باختصار: فرسانًا بالنهار، رهبانًا بالليل.
وجيلٌ تلك بعضُ سِمَاتِه حَرِيٌّ بالنصر، وخليقٌ بأن يخافَهم العدوُّ، ويفتحوا الأقاليمَ وينشروا دينَ الله. لكن ماذا جرى على مَن بعدَهم ممن هزمهم الأعداءُ وفرَّقوهم شِيَعًا، لقد أضاعوا الصلاةَ واتَّبعوا الشهواتِ، تعلَّقوا بالدنيا وتنافسوها، كَرِهوا الموتَ وأُصيبوا بالوَهْن، الشبابُ طَغَوْا بشبابِهم، بل ربما أمضَوْه في اللهوِ والترف، والكهولُ تعاجزوا وتباطئوا، والأغنياءُ بَخِلوا، والفقراءُ ذلُّوا بالمسألةِ وتشاغلوا بها، والنساءُ تسابقنَ إلى المُوضةِ وتعلَّقنَ بالتوافهِ من الأمور، بل أصبح بعضُهنَّ مَثارًا للفِتْنة ومحطةَ للتقليد وزُبالةِ القيَم والأفكارِ البالية المستورَدة. طاش ميزانُ الولاءِ والبراءِ .. وأصبح استِجداءُ العدوِّ وتقديمُ العونِ له أمرًا ظاهرًا. استهان بهم العدوُّ فاحتلَّ أرضَهم، بل تطاولَ إلى التدخُّل في شئونِهم الخاصة، واتَّهمهم بل تطاولَ على دينِهم ونبيِّهم صلى الله عليه وسلم.
وجيلٌ تلك بعضُ سِمَاتِهم أنَّى يُنصَرون.
أيها المسلمون: ومع ذلك فالخيرُ باقٍ في هذه الأُمةِ، وثَمَّةَ من يَأنَفُون من هذا الواقعِ، والمسلمون بشكلٍ عامٍّ باتوا يتململون ويُدرِكون أكثرَ حجمَ الخَطَر المُحدِق، والفرصةُ أمامهم للإصلاح والعَوْدة إلى الله مُشرَعة الأبواب، والنماذجُ الصادقة للسلفِ والخَلَف تَغْذُو سيرَهم، وفي تجاربِ المسلمين- عبرَ القرون- مع أعدائهم ما يُحفِّزُهم على النهوضِ والاستعلاء، واللهُ غالبٌ على أمره، ولَيَنصرنَّ اللهُ من ينصرُه، وجندُ الله هم الغالبون، والعاقبةُ للمتقين.
عباد اللهَ: وكم هو جميلٌ هذا العنوانُ الذي عبَّر به الكاتبُ عن وصفِ أحوالِ المسلمين اليومَ بهذا التعبير (المستَضعَفُون الأقوياءُ) ثم قال: مُخطئ من يظنُّ أن المسلمين الصادقين أصبحوا لُقْمةً سائغةً في أيدي أعدائهم، ومغرورٌ من يُمنِّي نفسَه بسهولةِ المعركة الطويلةِ معهم، وواهمٌ أو مُغفَّل من يعتقدُ أن تلك المعركةَ
ستنتهي بإنهائِهم أو احتوائِهم أو إِلجائِهم إلى التخلِّي عن رسالتِهم الموكولة من الله إليهم بأن يُخرِجوا الناسَ من الظُّلماتِ إلى النور، ويملئوا الأرضَ قِسطًا وعدلًا بعد أَن مُلِئت جَوْرًا وظُلْمًا.
فهؤلاء المسلمون- رغمَ استضعافِهم- أداةٌ إلهيَّة قَدَريّة سيُجري اللهُ تعالى بهم سُنَّته، ويحقِّق بهم وعدَه بانتشاره نورِه وانتصارِ دينه وانكسار أعدائه {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1). ثم يقول الكاتب- وفَّقَه اللهُ-: صحيحٌ أن المسلمين الآن ضُعفاءُ في تفرُّقِهم، مشتَّتون بجراحِهم، ضائعون بفِقدانِ القيادةِ العالمَية الواحدة الرائدة، وصحيحٌ أن ظِلالًا من الذُّلِّ لا تزالُ تخيِّم على رءوس الأُمة بعد طولِ مخاصمةٍ لمَعقِد العزِّ والتمكين المتمثِّل في ذُرْوةِ سنامِ الإسلام، ولكنْ هذه كلُّها أعراضٌ لأمراضٍ سرعانَ ما تزولُ بزوال أسبابِها، والأيامُ تُثبِت هذا، فلا تزال العودة إلى الله تعالى بالمسلمين رويدًا رويدًا إلى آفاقٍ رَحْبةٍ من رحمة الله.
ثم استعرضَ الكاتبُ مكرَ الأعداء وماذا حقَّقَ من إيجابياتٍ للمسلمين، وجالَ جولاتٍ متعددةً في عددٍ من المناطق الملتهبةِ، وتفاءَل بمستقبلٍ مشرِقٍ للإسلام والمسلمين من خلال مسمَّياتِه التالية:
1 -
فلسطينُ عَطاءٌ بلا غِطاء.
2 -
أفغانستان: طالِبان وغلامُ الأخدود.
3 -
الشِّيشان دورٌ كبير لشعبٍ صغير.
4 -
أكرادُ العراق ووميضُ أملٍ في الآفاق.
(1) سورة التوبة، الآية:33.
5 -
الفِلِبِّين أولُ الغيثِ قَطْرة.
وتحتَ كلِّ مسمًّى تحدَّث الكاتبُ وفصَّل عبرَ رُؤًى وإحصائياتٍ حَريَّةِ بالقراءَة والتأمُّل كما جاء في (مجلة البيان) في عددها الأخير: ذي القَعْدة 1423 هـ.
وما أحوجَ المسلمين اليومَ إلى نظرةٍ متفائلة تَنظُر بنورِ الله .. وتتعامل مع كيدِ الأعداء وَفْقَ سُننِ الله، ألا وإن دين الله منتصرٌ .. ولكنَّ السؤالَ المهمَّ لكل واحدٍ منا: ماذا قدَّم لنُصرةِ هذا الدينِ؟ وما دور إيمانِنا بحقائق القرآن: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (1){وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (2){إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (3){وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} (4){إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (5).
(1) سورة النحل، الآية:128.
(2)
سورة الصافات، الآية:173.
(3)
سورة الطارق، الآيات: 15 - 17.
(4)
سورة الأنفال، الآية:59.
(5)
سورة الأنفال، الآية:36.