المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(2) الثلاثة الذين خلفوا (1) ‌ ‌الخطبةُ الأولى: الحمدُ للهِ فارجِ الكُرباتِ ومغيثِ - شعاع من المحراب - جـ ١٠

[سليمان بن حمد العودة]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء العاشر

- ‌الأخوَّة الإسلامية

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية

- ‌عظمةُ الخالقِ في خَلْقِه

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌مظاهرُ صيفية

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌سنة الله في تدمير الظالمين

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌من سنن الله في نصر المؤمنين

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌فكاك الأسير

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌عَشْرُ وَقَفاتٍ في الرؤيا والمُعبرين

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌الحِيلَ

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌الجَنَّةُ حينَ تُزيَّنُ في رمضان

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌رمضانُ مدرسةُ الأخلاق

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌هجمات (التتر) بين الماضي والحاضر

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌مصيبة الأمة ونقفور النصارى

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌أشجُّ بني أمية ومجيبها

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌مكر الأعداء في القرآن الكريم

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌النعمان وفتح الفتوح، والمستقبل للأمة

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌ظاهرةٌ، وموسم

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌وقفات للحجاج وغيرهم وعن الهدي والأضاحي والأيام الفاضلة

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌بشارتان وختام التوبة

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌نهاية العام موعظة وذكرى

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌الثلاثة الذين خلفوا

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌مسكنات في الأزمات

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌هجمة الغرب ونصرة المظلومين في العراق

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌لماذا وكيف ندفع الفتن

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الصلاة بين الأداء والإقامةوصايا وتنبيهات

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانيةُ:

- ‌حرارةُ الصيفِ ذكرَى وعِبرة

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌الإنسان قوة بين ضعفين

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانيةُ:

- ‌ولا تسرفوا

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌(2) الثلاثة الذين خلفوا

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

الفصل: ‌ ‌(2) الثلاثة الذين خلفوا (1) ‌ ‌الخطبةُ الأولى: الحمدُ للهِ فارجِ الكُرباتِ ومغيثِ

(2) الثلاثة الذين خلفوا

(1)

‌الخطبةُ الأولى:

الحمدُ للهِ فارجِ الكُرباتِ ومغيثِ اللهفات، بيدهِ مقاليدُ السماواتِ والأرض، وعندهُ مفاتيحُ الغيبِ لا يَعلمُها إلا هو، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، يعلمُ ما في البرِّ والبحرِ وما تسقطُ منْ ورقةٍ إلا يعلمُها ولا حبةٍ في ظلماتِ الأرضِ ولا رطْبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ مبين.

وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، جاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِه، وتركَ أمتَهُ على مَحجَّةٍ بيضاءَ لا يزيغُ عنها إلا هالكٌ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين.

ورضيَ اللهُ عنِ الصحابةِ أجمعين، أولئكَ الذي أُوذوا وصبروا ومسَّتهمُ البأساءُ والضراء، حتى مكَّنَ اللهُ لهمْ في الأرضِ وفتحَ لهمْ قلوبَ العباد .. وعن التابعينَ لهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أوصيكمْ ونفسيَ معاشرَ المسلمينَ بتقوى الله، وتلكَ وصيته لمنْ قبلَنا ووصيتهُ لنا:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} (2).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (3).

أيها المسلمون: كانت الخُطبةُ الماضيةُ حديثًا مُعرِّفًا بالثلاثةِ الذين خُلِّفوا من

(1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 11/ 1/ 1424 هـ.

(2)

سورة النساء، الآية:131.

(3)

سورة التوبة، الآية:119.

ص: 280

صحابةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكيفَ عاشَ هؤلاءِ الأصحابُ رضي الله عنهم ظروفَ المحنةِ حين تخلَّفوا .. وكيفَ عاشوا وعاشَ المسلمونَ معهمْ ظروفَ التوبةِ حينَ تابَ اللهُ عليهم، كما شملَ الحديثُ قيمةَ الصدقِ معَ اللهِ وأثرَهُ على الصادقين، وكيفَ تزيدُ المواقفُ الصعبةُ عظماءَ الرجالِ عظمةً إلى عظمتهمْ ويقينًا إلى يقينهم، وأثرُ التوبةِ في رِفعةِ أصحابها إذا أنابوا إلى ربِّهم، وأستكملُ اليومَ أحداثًا ودروسًا أخرى في الحادثة، ومن ذلك:

الحرصُ على المبادرةِ بأعمالِ الخير، والحذرُ من التسويف، فاللهُ تعالى يقول:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (1)، ويقولُ تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} (2).

والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقول: «بادِروا بالأعمالِ فِتَنًا كقطعِ الليلِ المظلم، يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويُمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا، يبيعُ دينهُ بعرضٍ من الدنيا» (3).

وأما التسويفُ والتباطؤُ والتثاقلُ في عملِ الخيرِ الممكن .. فذاكَ المخدِّرُ الشديدُ الذي ينبغي أنْ يُحذَرَ، وهو سببٌ في التحسُّرِ والتألُّمِ والضيقِ والضجر، وانظروا إلى كعبِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه وهوَ يصفُ لنا أثرَ التسويفِ والتردُّد في فعلِ الخيرِ ويقول: «فطفقتُ أغدو لكي أتجهزَ معهم، فأرجعُ ولمْ أقضِ شيئًا، فأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ عليه، فلمْ يزلْ يتمادى بي حتى استمرَّ بالناس الجِدُّ، فأصبحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولمْ أقضِ منْ جهازي شيئًا، ثمَّ غدوتُ فرجعتُ ولمْ أقضِ شيئًا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارطَ الغزوُ،

(1) سورة الحديد، الآية:21.

(2)

سورة آل عمران، الآية:133.

(3)

أخرجه مسلم (118) في الإيمان، والترمذي (2196)، جامع الأصول 10/ 30.

ص: 281

فهممتُ أنْ أرتحلَ فأدرِكَهم، فياليتني فعلتُ، ثمَّ لمْ يُقدرْ ذلكَ لي (1).

فهلْ نحذرُ التسويفَ يا عبادَ الله .. وهلْ نُحاذرُ الكسلَ والتباطئَ في عملِ الخير، وهلْ نسلكُ الجدَّ والحزمَ كما قالَ ابنُ الجوزي: فينبغي للحازمِ أنْ يعملَ على الحزم، والحزمُ تَدَارُكُ الوقتِ وتركُ التسويف (2).

2 -

أصنافُ المجتمع، ومِنْ أيِّهمْ أنت؟ في أيِّ مجتمعٍ مؤمنونَ أقوياء، ومؤمنونَ ضعفاءُ لكنهمْ معذورونَ لضعفهم، ومنافقون، ومتخلفونَ لا عنْ نفاقٍ لكنْ عنٍ تسويفٍ أو كسل، وفي حديثِ كعبٍ رضي الله عنه تشخيصٌ لهذهِ الفئاتِ يقول:

فكنتُ إذا خرجتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فطفتُ فيهمْ أحزَنني أني لا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليهِ في النفاق، أو رجلًا ممنْ عذرَ اللهُ من الضعفاء.

وإذا تحدثَ كعبٌ عنْ صنفينِ ممنْ بقي، فهوَ وصاحباهُ يمثلانِ منْ تخلَّفَ دونَ عذرٍ لكنْ دونَ نفاق، وهذا صنفٌ ثالثٌ، أما الرابع .. فهمُ المجاهدونَ والسابقونَ معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأولئكَ أصحابُ القدحِ المعلَّى.

يا عبد الله: وإذا دُعي الناسُ للخيرِ فمنْ أيِّ الأصنافِ تُراكَ تُصنِّفُ نفسك؟

إنه لمُحزنٌ أنْ يحشرَ المؤمنُ نفسَهُ معَ المنافقين .. أو يُنزلَها منازلَ المعذورين، أو يقعدَ بها ببضاعةِ التسويف، ومن المعالي أنْ يكونَ معَ المسارعينَ للخيرات.

3 -

عبادَ الله: لِمنْ يكونُ الولاءُ؟ والحذرُ منْ مؤامراتِ الأعداء: ولاءُ

(1) مسلم ح 2769.

(2)

تلبيس إبليس 404.

ص: 282

المؤمنِ للهِ ولرسولهِ وللمؤمنين {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (1).

أما البراءةُ منَ الكفارِ عمومًا، واليهودِ والنصارى على وجهِ الخصوص، وهوَ ما يعيشهُ المسلمونَ هذهِ الأيام، فقدْ جاءَ التحذيرُ منها في كتابِ اللهِ في قولهِ تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2).

قالَ القرطبي- رحمه الله في تفسيرِ هذهِ الآية: قولُه تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} يدلُّ على قطعِ المولاة شرعًا (3).

وقولُه تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ} أي: يَعضدُهمْ على المسلمين {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يعني أنَّ حُكْمَهُ كحُكْمِهم، وهوَ يمنعُ إثباتَ الميراثِ للمسلمِ منَ المرتِّد، ثمَّ قالَ القرطبيُّ: وكانَ الذي تولاهمُ ابنُ أبيّ (رأسُ المنافقين)، ثمَّ هذا الحكمُ باقٍ إلى يومِ القيامةِ في قطعِ الموالاة، وقدْ قالَ تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ

} (4)(5).

وفي قصةِ كعبٍ نموذجٌ لمؤامراتِ الأعداءِ ومحاولةِ تفكيكِ المجتمعِ المسلمِ في زمنِ النبوة، ولكنَّ الصحابةَ كانوا مدركينَ لهذهِ الفتنة، يقولُ: كعب: فبينا أنا أمشي بسوقِ المدينةِ إذا نبطيٌّ منْ أنباطِ أهل الشامِ ممنْ قدمَ بالطعامِ يبيعهُ بالمدينةِ يقول: منْ يَدلُّ على كعبِ بنِ مالك؟ قال: فطفقَ الناسُ يُشيرونَ لهُ إليّ، حتى جاءني فدفعَ إلي كتابًا منْ ملكِ غَسَّانَ، وكنتُ كاتبًا فقرأتُهُ فإذا فيه: أما

(1) سورة المائدة، الآية:55.

(2)

سورة المائدة، الآية:51.

(3)

6/ 216.

(4)

سورة هود، الآية:113.

(5)

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 217.

ص: 283

بعدُ: فإنهُ قدْ بلَغَنا أنَّ صاحبكَ قدْ جفاك، ولمْ يجعلْكَ اللهُ بدارِ هَوَانٍ ولا مَضْيَعةٍ، فالْحَقْ بنا نُواسِكَ، قالَ (كعب): فقلتُ حينَ قرأتُها: وهذهِ أيضًا منَ البلاء، فَتَيامَمْتُ بها التَّنورَ فَسَجَرْتُها بها (1).

وما أحوجَنا في مثلِ هذهِ الأزمانِ إلى مثلِ صنيعِ كعب، حيثُ أحرقَ مودَّتهمْ معَ حاجتهِ إليهم، حيثُ يحرصُ الأعداءُ على خلخلةِ المجتمعِ المسلمِ والتدسسِ بينَ أفراده، ويظهرونَ أنهمْ ناصحونَ مواسونَ يدافعونَ عنِ المسلمينَ واللهُ أعلمُ بما يُريدون، ولقدْ كانَ ردُّ كعبٍ مميتًا لفتنةٍ وقاضيًا على طمعِ الكفارِ في المسلمين، فقدْ جاءَ عنْ كعبٍ في روايةِ ابنِ أبي شيبةَ قوله (كعب): إنا لله، قد طمعَ فيَّ أهلُ الكفر (2). وعندَ ابنِ عائذ أنَّ كعبًا شكا أمرَهُ إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم وقال: ما زالَ إعراضُكَ عني حتى رغبَ فيَّ أهلُ الشِّركِ (3).

قالَ ابنُ حجر معلقًا: ودلَّ صنيعُ كعبٍ هذا على قوةِ إيمانهِ ومحبتهِ للهِ ولرسوله، وإلا فمنْ صارَ في مثلِ حالهِ منَ الهجرِ والإعراض، قدْ يضعفُ عنِ احتمالِ ذلك، وتحمِلُهُ الرغبةُ في الجاهِ والمالِ على هُجرانِ منْ هجَرَه، ولا سيما معَ أمنهِ منَ الملكِ الذي استدعاهُ إليهِ أنهُ لا يُكرههُ على فراقِ دينهِ، لكنْ لما احتملَ عندَهُ أنهُ لا يأمَنُ من الافتتان، حسمَ المادةَ وأحرقَ الكتابَ ومنعَ الجواب (4).

وهكذا يكونُ المؤمنُ صادقًا في ولائهِ معَ المؤمنين، وفي عداوتهِ وبراءتهِ منَ

(1) مسلم (2769).

(2)

ابن حجر، الفتح 8/ 121.

(3)

الفتح 8/ 121.

(4)

الفتح 8/ 121.

ص: 284

الكفارِ في حالِ القوةِ أو حالِ الضعف، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (1).

4 -

صديقُكَ منْ صَدَقكَ لا منْ صدَّقَك: ثمةَ أصدقاءُ ربما أظهروا لكَ التعاطفَ حينَ تخطئ، أو حينَ تكونُ محتاجًا للنُّصح، وربما سهَّلوا لكَ الخطأ، أو حسَّنوا لكَ العزةَ بالإثم .. وأولئكَ قدْ يرقُّون لكَ وقدْ تنساقُ لنُصحهم- غيرَ مُقدِّرٍ للعواقب- وثمةَ أصدقاءُ آخرونَ ربما قَسَوا عليك لكنْ لمحبَّتهمْ لكَ وإخلاصِهمْ في نُصْحكَ قَسَوا، وحالُهمْ كمنْ قسى ليزدجروا، وربما لمْ يُجاملوكَ وإنْ غضبتَ عليهم، لكنهمْ يُثمنون العواقبَ، ويرونَ نَصَبَكَ في الدنيا أهونَ منْ عذابِ الآخرة، أولئكَ فاحرصْ عليهمْ وتمسَّكْ بنُصْحِهم، وقدِ استطاعَ كعبٌ أن يتجاوزَ نُصحَ ومشورةَ الصنفِ الأولِ فأفلحَ وأنجح، وها هوَ يقول: على إثرِ صِدْقهِ معَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وأنه لا عُذْر له، فقمتُ- يعني من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثارَ رجالٌ منْ بني سَلِمة فاتبعوني، فقالوا لي: واللهِ ما علمناكَ أذنبتَ ذنبًا قبلَ هذا، ولقدْ عجزتَ في ألا تكونَ اعتذرتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذرَ إليه المخلَّفون، فقدْ كانَ كافيكَ ذنبُكَ واستغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، يقولُ كعب: فواللهِ ما زالوا يؤَنِّبونني حتى أردتُ أنْ أرجعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأكذِّبَ نفسي (2).

كمْ نحنُ محتاجونَ للصدقِ معَ اللهِ ومعَ أنفسِنا- يا عبادَ الله- وهذا كعبٌ يبينُ لنا في نهاية قصّته إنهُ لمْ يُنجِهِ إلا الصدقُ، بلْ يعتبرها أعظمَ نعمةٍ بعدَ الإسلام، وما أحوَجنا كذلكَ إلى تجاوزِ الكذب، والحذر ممنْ يُلبِّسُ به، حتى وإنْ قيل لمن لا يحسن الكذب إنَّ هذا مسكينٌ وطيِّبُ القلبِ ولا يُحسنُ المخارج .. إلى غيرِ ذلكَ منْ عباراتٍ جارحهٍ للصدقِ والصادقين .. ومدحٍ وتلميعٍ للكذبِ

(1) سورة الطلاق، الآية:2.

(2)

مسلم (2769).

ص: 285

والكاذبين، واللهُ تعالى يدعونا للصدقِ وهوَ أصدقُ القائلين:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (1)، ويحذرنا من الكذب ويقول:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (2).

5 -

الدفاعُ عنْ عِرْضِ المسلم .. وقعَ في قصةِ كعبٍ ما يُذكِّرنا بنموذجينِ للتعاملِ مع الخطأ والتقصير، أما النموذجُ الأولُ فهوَ المستعجلُ بالحكمِ المصدرُ للتُّهم، وما أسهلَ هذا على بعضِ الناسِ، وما أعظمهُ عندَ الله، والرسولُ صلى الله عليه وسلم يُحذرُ ويقول:«كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرام؛ دمهُ ومالهُ وعِرْضُه» .

أما النموذج الثاني فهوَ المتريِّثُ بالحكمِ المدافعُ عن عِرْضِ أخيه إذا اعتُديَ عليهِ بغيرِ حقٍّ، وما أحوجَ مجالسَنا لمثلِ هؤلاء، وأولئكَ يستحقونَ العتقَ منَ النار، كما قال صلى الله عليه وسلم:«منْ ذبَّ عنْ عِرْضٍ أخيهِ بالغَيْبِة، كانَ حقًا على اللهِ أنْ يعتقَهُ منَ النار» (3).

والنموذجانِ يَظْهرانِ بجلاءٍ في قصةِ كعب، فحينَ سألَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنْ كعبٍ حينَ بلغَ تبوكَ، قالَ رجلٌ منْ بني سلمة: يا رسول الله، حبسه بُرادهُ والنظرُ في عطفَيْه، فقالَ لهُ معاذُ بنُ جبل: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ الله، ما علمْنا عليه إلا خيرًا (4).

ومعَ ذلكَ، وفيما يخصُّ الرجلينِ المتحدثينِ عن كعبٍ حينَ تخلَّف، قالَ ابنُ حجر: وفيهِ جوازُ الطعنِ في الرجلِ بما يغلبُ على اجتهادِ الطاعنِ عن حميَّةٍ

(1) سورة التوبة، الآية:119.

(2)

سورة النحل، الآية:105.

(3)

رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني، صحيح الجامع 5/ 290.

(4)

مسلم 4/ 2122.

ص: 286

للهِ ورسوله، وفيها: جوازُ الردِّ على الطاعنِ إذا غلبَ على ظنِّ الرادِّ وَهْمُ الطاعنِ أو غلَطُه (1). وهوَ تحريرٌ جميلٌ ودفاعٌ عن الصحابيينِ لاجتهادهما، ولكنَّ الاحتياطَ في حمايةِ عرضِ المسلمِ مطلب، والأصلُ في المسلمِ السلامةُ والخير.

6 -

ومنْ دروسِ القصةِ أنَّ التخلفَ عنِ الجهادِ في زمنِ النبوةِ معصيةٌ يُعاقِبُ عليها الرسولُ صلى الله عليه وسلم ويَهجرُ مِنْ أجلِها المسلمون، وتضيقُ الأرضُ بما رَحُبتْ على المتخلِّفين.

ثمَّ يدورُ الزمانُ، وتتخلفُ الأمةُ عن الجهاد .. بلْ يُعتبرُ المجاهدون نَشازًا غريبًا يُتهمونَ بالإرهاب، ويطارَدُونَ ويلاحقون .. والله المستعانُ.

اللهمَّ اجعلْنا هُداةً مهتدين، لا ضالينَ ولا مضلِّين، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ.

(1) الفتح 8/ 124.

ص: 287