الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هجمة الغرب ونصرة المظلومين في العراق
(1)
الخطبةُ الأولى:
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضلَّ لهُ، ومَنْ يضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وارضَ اللهمَّ عنِ الصحابةِ أجمعينَ، والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا.
أيها الناسُ: وتمرُّ بالعالَمِ المعاصرِ أحداثٌ يكادُ العاقلُ لهَوْلِها وصدمتِها لا يُصدِّقُ، فبالأمسِ دولةٌ قائمةٌ، واليومَ لمْ يبقَ منها إلا الخبرُ والعبرةُ، وبالأمسِ كانتْ شعوبٌ منتظمةٌ- وإنْ كانتْ بائسةً- ولكنَّها اليومَ تعيشُ وضعًا آخرَ، لا تدري ما هيَ صانعةٌ، ولا ما يُصنعُ بها في المستقبلِ، ولا يدري المقتولُ فيمَ قُتلَ.
إنَّ حركةَ التأريخِ ماضيةٌ، وسُنةَ اللهِ في التغييرِ جاريةٌ .. والعاقلُ مَنِ اتَّعظَ بغيرهِ، ولكنَّ المستنكَرَ- وإنْ كانَ غيرَ غريبٍ- أنْ تتعرَّضَ بلادُ المسلمينَ لغزوِ النصارى جهارًا نهارًا، وأنْ يَحْدُثَ التغييرُ بالقوةِ، وعلى مرأى العالَمِ ومسَمعِهِ، في زمنٍ باتَ يُسمَعُ كثيرًا عنْ حُرِّياتِ الآخرينَ وحقوقِ الآخرينَ، وأمْنِ الدولِ وسيادةِ الشعوبِ! ما الذي تغيّرَ فجأةً؟ وهلْ تكفي للهجمةِ تُهمةُ نزعِ أسلحةِ الدمارِ الشاملِ، ومنْ يُثبِتُ التهمةَ؟ وأينَ هيَ أسلحةُ الدمارِ الشاملِ بعدَ أنْ
(1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 1/ 3/ 1424 هـ.
وضعتِ الحربُ أوزارَها، ومَنْ يُحاكِمُ الجانيَ إذا لمْ تثبتْ تهمتُهُ؟
لا شكَّ أنَّ غزوَ العراقِ سابقةٌ في التاريخِ المعاصرِ لا ينبغي أنْ تمرَّ على المسلمينَ بسلامٍ وعفويّةِ، فالغربُ ذاتُه كانَ يتوقَّعُ ردودَ أفعالٍ صاخبةٍ، ومعَ الأسفِ كانَ استنكارُ غيرِ المسلمينَ أقوى وأبلغَ مِنَ المسلمينَ!
إننا لا نأسى على رُموزٍ ظَلَمةٍ غيّبتْهمُ الأحداثُ بعدَ طولِ ضجيجِ وإفسادٍ في الأرضِ، ولا نأسى على حزبٍ طالما أَهلكَ بجَبَروتِهِ الحرثَ والنسلَ، ولكننا نأسى ونحترقُ لأمّةِ العراقِ المسلمةِ، ولشعبِ العراقِ المسلمِ، نأسى لثروةِ الأمّةِ في بلدِ العراقِ، تلكَ التي لمْ يكتفِ الغُزاةُ والمفسدونَ بعدمِ الاكتراثِ بها أرواحًا، وأموالًا، ومُقدَّراتٍ .. بلْ تطاولوا على مُقدَّراتِ الأمّةِ وإرثِها الحضاريِّ حتى قيلَ:«أحدثُ حضارةٍ تُدمِّرُ أقدمَ حضارةِ» (1) فأحرَقوا الكتبَ، ودُمِّرتِ المكتباتُ، والتقتْ دماءُ البشرِ على مِدادِ الكتبِ، في مشهدٍ يُذكِّرُنا بهجمةِ (التَّترِ) على بغدادَ حينَ اختلطتْ مياهُ الأنهارِ معَ دماءِ المسلمينَ، وتغيَّرَ لونُ الماءِ بمِدادِ الكُتبِ، ولسنا ندري لِمَ كانتْ ضجةُ الغربِ حينَ حطمتْ طالبانُ الأصنامَ؟ واليومَ يرعى الغربُ تحطيمَ آثارِ العراقِ!
لقدْ كانتْ كارثةُ الأمسِ وكارثةُ اليومِ نُذُرًا للمسلمينَ وعواقبَ إلهيةً على الغفلةِ والفسادِ والخيانةِ التي تكفي أن تقعَ منْ فئةٍ ولا تستطيعُ الفئةُ الأخرى دفْعَها وإصلاحَها، فاللهُ يقول:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2).
أجلْ، إنَّ المتأمِّلَ في سياقِ التاريخِ يرى أنَّ أمّةَ الإسلامِ منذُ القِدَمِ مستهدفةٌ
(1) الرياض 29/ 2/ 1424 هـ.
(2)
سورة الأنفال، الآية:25.
منْ قِبَل أعدائها، وممتَحنةٌ بهجماتٍ شرسةٍ تتابعُ عليها .. ولكنَّ أحوالَ المسلمينَ صلاحًا أو فسادًا، صدقًا أو نفاقًا هيَ الفيصلُ في رسمِ النتائجِ ..
وسأقصُّ عليكمْ منْ ذاكرةِ التاريخِ عجبًا .. أمةٌ منَ النصارى تتقصَّدُ بلادَ المسلمينَ في النصفِ الثاني منَ القرنِ الخامسِ الهجريِّ، وتلتقي بالمسلمينَ في جيشٍ لَجِبٍ لا طاقةَ للمسلمينَ بهِ، ولا مقارنةَ على الإطلاقِ بينَ الجيشينِ .. ثمَّ تنتهي المعركةُ لصالح المسلمينَ، بلْ ويؤسَرُ زعيمُ النصارى، فكيفَ وقعَ، ومَعَ مَنْ وقعَ هذا؟
قالَ ابنُ الأثيرِ وعنه الذهبيُّ: في هذهِ السنةِ (463 هـ) خرجَ أرمانوسُ ملكُ الرومِ في مائتي ألفٍ منَ الرُّومِ، والفِرَنْجِ، والغربِ، والرُّوسِ، والبجناكِ، والكُرجِ، وغيرِهمْ، منْ طوائفِ تلكَ البلادِ، فجاءوا في تجمُّل كثير، وزيٍّ عظيم، وقَصَدَ بلادَ الإسلامِ، فوَصلَ إلى ملازكرد (1) من أعمالِ خِلاطَ. فبلغَ السلطانَ ألْب أرسلان الخبرُ، وهوَ بمدينةِ خُوَيّ من أذْرَبِيجانَ، قدْ عادَ منْ حَلَبَ، وسمعَ ما هُوَ مَلكُ الرومِ فيهِ منْ كثرةِ الجُموعِ، فلمْ يتمكَّنْ منْ جمْعِ العساكرِ لبُعدِها وقُربِ العدوِّ، فسيَّر الأثقالَ مَعَ زوجتهِ ونظامِ المُلكِ إلى هَمَذانَ، وسارَ هوَ فيمنْ عندَهُ مِنَ العساكرِ، وهمْ خمسةَ عَشَرَ ألفَ فارسٍ، وجدَّ في السَّيرِ، وقالَ لهمْ: إنّني أقاتلُ محتسِبًا صابرًا، فإنْ سلِمْتُ فنعمةٌ منَ اللهِ تعالى، وإنْ كانتِ الشهادةُ فإنَّ ابني مَلِكْشاه وليُّ عهدي؛ وساروا.
فلمّا قاربَ العدوَّ جعلَ له مقدّمةً، فصادفتْ مقدّمتُه، عند خِلاطَ، مُقدَّمَ الروسيّةِ في نحوِ عشرةِ آلافٍ منَ الرومِ، فاقتَتَلوا، فانهزمتِ الروسيّةُ، وأُسرَ مُقدَّمُهم، وحُملَ إلى السلطانِ، فجَدَع أنْفَه، وأنفذَ بالسَّلب إلى نظامِ المُلكِ،
(1) وعند ياقوت والذهبي (منازكرد)«سير أعلام النبلاء» 18/ 415.
وأَمَرَهُ أنْ يرسلَه إلى بغدادَ، فلمّا تقاربَ العسكرانِ وتراءى الكفرُ والإيمانُ) أرسلَ السلطانُ إلى ملكِ الرومِ يطلبُ منهُ المُهادنةَ، فقالَ: لا هُدنة إلا بالرَّيِّ، فانزعجَ السلطانُ لذلكَ، فقالَ لهُ إمامُه وفقيهُه أبو نصرٍ محمّدُ بنُ عبدِ الملكِ البخاريُّ، الحنفيُّ: إنَكَ تقاتلُ عن دينٍ وَعَدَ اللهُ بنصرهِ وإظهارِه على سائرِ الأديانِ، وأرجو أنْ يكونَ اللهُ تعالى قد كَتَبَ باسمِك هذا الفتحَ، فالقَهمْ يومَ الجُمعةِ، بعدَ الزوالِ، في الساعةِ التي يكونُ الخطباءُ على المنابرِ، فإنِّهمْ يَدعُون للمجاهدينَ بالنصرِ، والدعاءُ مقرونٌ بالإجابةِ.
فلمّا كانتْ تلكَ الساعةُ صلَّى بهمْ، وبكى السلطانُ، فبكى الناسُ لبكائهِ، ودعا ودعَوْا له، وقالَ لهمْ: مَن أرادَ الانصرافَ فلْينصرفْ، فما ها هنا سُلطانٌ يأمرُ ويَنهى، وألقى القوسَ والنُّشّابَ، وأخذَ السيفَ والدبُّوسَ، وعَقدَ ذَنَبَ فرسِه بيدهِ، وفعلَ عسكرُه مثْلَه، ولبسَ البياضَ، وتحنَّط، وقالَ: إنْ قُتلتُ فهذا كَفَني.
وزحفَ إلى الرومِ، وزَحفوا إليهِ، فلمّا قارَبَهمْ ترجَّلَ وعفَّر وجْهَه على الترابِ، وبكى، وأكثرَ الدعاءَ، ثم رَكِبَ وحَمَلَ، وحَملتِ العساكرُ معهُ، فحَصَلَ المسلمونَ في وسطهمْ، وحَجزَ الغبارُ بينهمْ، فقَتَلَ المسلمونَ فيهمْ كيفَ شاءوا، وأنزل اللهُ نصْرَه عليهم، فانهزم الرومُ، وقُتلَ منهمْ ما لا يُحصى، حتى امتلأتِ الأرضُ بجُثثِ القتلى، وأُسرَ ملكُ الرومِ
…
، فلمّا أُحضرَ (الملكُ الروميُّ المأسورُ) ضَرَبَه السلطانُ ألْبُ أرسلان ثلاثَ مَقارعَ بيدهِ، وقالَ لهُ: ألمْ أُرسلْ إليكَ في الهُدنةِ فأَبَيتَ؟ فقالَ: دعني منَ التوبيخِ، قالَ: ما عزمُك لو ظفرتَ بي؟ قالَ (ملكُ الرومِ): كلُّ قبيحٍ، قالَ له ألْب أرسلان: فما تؤُمِّلُ وتظنُّ بي؟ قالَ: القتلَ، أو تُشهِّرني في بلادكَ، والثالثةُ بعيدةٌ (العفو) وقبولُ الفداءِ، قالَ لهُ أَلْب أرسلان: ما عزمتُ على غيرِها، فاشترى نفْسَه بألفِ ألفِ دينارٍ وخمسِ مائةِ
ألفِ دينارٍ، وإطلاقِ كلِّ أسيرِ في بلادهِ منَ المسلمينَ (1).
تأمَّلوا- إخوةَ الإيمانِ- الفَرْقَ في الصدقِ معَ اللهِ، وكيفَ تتحوَّلُ القِلَّةُ الصابرةُ المحتسِبةُ إلى قوةٍ مرهبةٍ مرعبةٍ، وكيفَ يَحيقُ المكرُ السيئُ بأهلهِ، وتتفرَّقُ الجموعُ المحتشدةُ إلى قتلى وأسرى ومحزونينَ حينَ يَصْدُقُ المجاهدونَ، وتأمَّلوا- على صعيدٍ آخرَ- الفرقَ بينَ معاملةِ المسلمينَ حينَ يَنتصرون، وإنْ ظُلِموا واعتُديَ عليهمْ، فالعفوُ والتسامحُ خلافُ ما طنطنَ به غيرُ المسلمينَ في هيآتهمْ ودساتيرِهم وما طافوا بهِ العالمَ دَجَلًا وجَعْجَعةً في إعلامهمْ ولكن المسلمين تمثلوهُ واقعًا عمليًا في حياتهم .. وغيرُ المسلمينَ إذا ظفرَ أحدُهمْ فَعَلَ الأفاعيلَ وتجاوزَ الدساتيرَ، وظهرتْ جاهليتُه في العراءِ، يَنهبونَ ويَسلبونَ ويُفسدونَ ويَحرِقون، ويكيدونَ ويمكرونَ، ويُخططون بلْ يوطرون الفسادَ للمستقبل .. ! !
تلكَ حضارةُ الغربِ- وإن رغموا-، وتلكَ حضارةُ المسلمينَ إذا ما اتقَوْا وآمَنوا، والزَّبَدُ يَذهبُ جُفاءً، ويَمكثُ في الأرضِ ما يَنفعُ الناسَ. نفعني اللهُ وإياكم بهَدْيِ كتابهِ.
(1) سير أعلام النبلاء 18/ 415، 416.