الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، يُعزُّ منْ يشاءُ ويُذلُّ منْ يشاء، ويهدي منْ يشاءُ ويضلُّ منْ يشاءُ وهوَ العليمُ الحكيم، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، إذا أحبَّ عبدًا نشرَ محبَّته بينَ خلْقِه، ومنْ هَتَكَ أستارَ اللهِ وتعدَّى على محارمِهِ فَضَحَهُ اللهُ في الدنيا، والفضيحةُ في الآخرة أشدُّ وأنكى، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه إمامَ المتقينَ وسيدَ العابدين، وقائدَ المجاهدين، وخيرةَ الخلقِ أجمعين، اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ النبيينَ والمرسلين.
إخوةَ الإسلامِ: وسياسةُ عمرَ بنِ عبدِ العزيز للأمةِ لمْ تكنْ بالغلظةِ والشدة، بلْ كانَ يجتهدُ في مُدَاراتِهم حتى قال: لو أقمتُ فيكمْ خمسينَ عامًا ما استكملتُ فيكمُ العدلَ، إني أُريدُ الأمرَ من أمرِ العامَّةِ، فأخافُ ألا تحملَه قلوبُهم، فأخرجُ معه طمعًا منْ طمعِ الدنيا، فإنْ أنكرَتْ قلوبُكُم هذا سكنتُ إلى هذا (1).
سادسًا: أهلُ الكتابِ يشهدونَ لعمرَ بنِ عبدِ العزيز:
لم يكتفِ عمرُ بالإحسانِ إلى أهلِ الإسلام، بلْ شملَ بعدلِهِ وإحسانِهِ أهلَ الكتاب .. ولم يكنْ إحسانُ عمرَ لأهلِ الكتابِ مصانعةً، أو تبعيةً لهم، لكنها الجديةُ في الدعوةِ والعدلُ في المعاملة؛ فمن أسلمَ رفعَ عنه الجزيةَ. ومنْ أعرضَ أو جهلَ الإسلامَ بعثَ لهُ بالدعوةِ للدينِ الحقِّ ..
ولقدْ بعثَ عمرُ وفدًا إلى (قيصر) يدعوهُ إلى الإسلام، فتهيأَ للوفد، وأقامَ البطارقةَ على رأسه، ثمَّ استدعى واحدًا من وفدِ عمرَ إليه، وأخبرهُ أنَّ أحدَ رجالِهِ كتب إليهِ يقول: إنَّ الرجلَ الصالحَ عمرَ بنَ عبدِ العزيز مات، قالَ يزيدُ -وهو
(1) السير للذهبي 5/ 130.
وافدُ المسلمينَ على (قيصرَ) - فبكيتُ واشتدَّ بكائي وارتفعَ صوتي، فقالَ (قيصرُ): ما يبكيك؟ ألِنَفْسِك تبكي، أمْ له، أم لأهلِ دينِكَ؟ قلتُ: لكلٍّ أبكي، قال: فابكِ لنفسكَ ولأهلِ دينك، فأما عمرُ فلا تبكِ له، فإنَّ اللهَ لمْ يكنْ ليجمعَ عليهِ خوفَ الدنيا وخوفَ الآخرة، ثمَّ قال: ما عجبتُ لهذا الراهبِ الذي تعبدَ في صومعته وتركَ الدنيا، ولكن عجبتُ لمن أتتْهُ الدنيا منقادةً حتى صارتْ في يدهِ ثمَّ خلّي عنها (1).
سابعًا: منْ سلوكياتِ عمرَ، يروعكَ في شخصيةِ الخليفةِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ عدةُ جوانبَ سلوكيةٍ مضيئة .. فهو الصادقُ الأمين، وما حملتْهُ مسئولياتُه وتعاملاتُه على الكذب، بلْ قالَ عنْ نفسه: ما كذبتُ منذُ علِمتُ أنَّ الكذبَ يضرُّ أهلَه (2).
وهو المتواضعُ رغمَ ما قدَمهُ لإسلامِهِ وأمَّتهِ، وقدْ قالَ رجلٌ لعمر جزاكَ اللهُ عن الإسلامِ خيرًا، قال: بلْ جزى اللهُ الإسلامَ عني خيرًا (3).
وهو الزاهدُ رغمَ أبَّهةِ الملكِ وسلطانِ الخلافة، ولذا قالَ مالكُ بنُ دينار: الناسُ يقولونَ: مالكُ بنُ دينارَ زاهدٌ، إنما الزاهدُ عمرُ بنُ عبدِ العزيز الذي أتتْهُ الدنيا فتركَها (4).
وهوَ الصائمُ القائمُ رغمَ أعباءِ الخلافة، والقارئُ لكتابِ اللهِ وإنْ كَثُرتْ مسئولياتُهُ، فقدْ وردَ أنهُ كانَ يصومُ الاثنينِ والخميسَ (5) وكان قلَّما يَدَعُ النظرَ في المصحف (6).
(1) السير 5/ 143.
(2)
السير 5/ 121.
(3)
السير 5/ 147.
(4)
الحلية 5/ 257.
(5)
الطبقات 5/ 333.
(6)
الطبقات 5/ 366.
ثامنًا: عمرُ الناصحُ لولاتِهِ وأمتهِ: لم يألُ، عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ النصحَ لولاتهِ وعمومِ المسلمين، كتبَ يومًا إلى أحدِ عمالِهِ يقول: أما بعدُ، فإني أوصيكَ بتقوى اللهِ ولزومِ طاعته، فإنَّ بتقوى اللهِ نجا أولياءُ اللهِ منْ سخطِه، وبها تحقَّق لهمْ ولايتُه .. التقوى عصمةٌ في الدنيا منَ الفتن، والمخرجُ منْ كربِ يومِ القيامة .. إلى أنْ يقول: فقدْ رأيتُ الناسَ كيفَ يموتونَ وكيفَ يتفرقون، ورأيت الموتَ كيفَ يعجلُ التائبَ توبَته، وذا الأملِ أملَه، وذا السلطانِ سلطاَنه، وكفى بالموتِ موعظةً بالغةً وشاغلًا عن الدنيا، ومرغبًا في الآخرة إلخ
…
(1).
ونصحَ عمرُ المستترينَ بالمعاصي عنْ أعينِ الخلقِ، وعينُ اللهِ ترقبُهم فقال: يا معشرَ المستترين، اعلموا أنَّ عندَ اللهِ مسألةً واضحة، قالَ اللهُ تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2). (3).
ونصحَ عمرُ عمومَ المسلمينَ بعدمِ الاغترارِ بالدنيا
…
وقدْ تصورَ حالَ أهلِ القبورِ وما آلوا إليهِ وما كانوا مشغولينَ به، وحذرَ من الغفلةِ، والغرورِ، وتمثلَ قولَ القائل:
تُسَرُّ بما يفنى وتُشغلُ بالصِّبا
كما غُرَّ باللذاتِ في النومِ حالمُ
نهارُكَ يا مغرورُ سهوٌ وغفلةٌ
وليلُكَ نومٌ والردى لكَ لازمُ
وتعملُ فيما سوفَ تكره غِبَّهُ
كذلكَ في الدنيا تعيشُ البهائمُ (4)
ولمْ ينسَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ نصيحةَ منْ سيخلفُه، فقدْ كتبَ إلى يزيدَ بنِ عبدِ الملكِ حينَ حضرهُ الموتُ يقول: سلامٌ عليكَ أما بعد، فإني لا أراني إلا
(1) حلية الأولياء 5/ 278.
(2)
سورة الحجر، الآيتان: 92، 93.
(3)
الحلية 5/ 288.
(4)
السابق 5/ 263.
لما بي، ولا أرى الأمرَ إلا سيُفضي إليك، واللهَ اللهَ في أمةِ محمدٍ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فتدعُ الدنيا لمنْ لا يَحْمَدُك، وتفضي إلى منْ لا يعذِرُك، والسلامُ عليك (1).
تاسعًا: قالوا عنْ عمرَ بنِ عبدِ العزيز: الناسُ شهودُ اللهِ في أرضه .. وقدْ أثنى كثيرٌ على عمرَ وخلافته، بلْ تحققَ فيه مقولةُ جدِّهِ لأمهِ عمرَ بنِ الخطابِ- وإنْ لمْ يَرَهُ- حيثُ وردَ أنهُ قال: منْ ولدي رجلٌ بوجْهِه شَجَّةٌ يملأُ الأرضَ عدلًا .. (2).
وسئلَ محمدُ بنُ عليِّ بنِ الحسينِ عنْ عمرَ بنِ عبدِ العزيز فقال: هوَ نجيبُ بني أُميةَ، وإنه يُبعثُ يومَ القيامةِ أمةً وحدَه (3).
وقالَ ميمونُ بنُ مهرانَ: كانتِ العلماءُ معَ عمرَ بنِ عبدِ العزيز تلامذةً (4).
وقالَ مالكُ بنُ دينار: لمّا وليَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز قالتْ رعاءُ الشاءِ: منْ هذا الصالحُ الذي قامَ على الناس خليفةً؟
عدلُه كفَّ الذئابَ عنْ شائِنَا (5).
عاشرًا: جلساءُ عمرَ وأصحابُ مشورتِهِ: كانَ العلماءُ والفقهاءُ والناصحون همْ جلساءَ عمرَ وأصحابُ مشورته، ومنذ كانَ واليًا على المدينةِ استدعى عشرةً منْ خيارِ أهلِ المدينة وفقهائِها، وقال: إني دعوتُكمْ لأمرِ تؤجَرونَ فيه، ونكونُ فيه أعوانًا على الحقِّ، ما أريدُ أنْ أقطعَ أمرًا إلا برأيكمْ أو برأيِ منْ حضرَ منكم، فإنْ رأيتمْ أحدًا يتعدَّى، أو بلغَكم عنْ عاملٍ ظُلامةٍ، فأُحرِّجُ باللهِ على منْ بلغهُ
(1) الطبقات 5/ 406.
(2)
السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 363.
(3)
المصدر السابق/ 365.
(4)
السابق/ 365.
(5)
السابق/ 370.
ذلكَ إلا بلّغني، فجزَوْهُ خيرًا وتفرقوا (1).
أما الشعراءُ والمداحونَ فلمْ يكنْ لهمْ سوقٌ في خلافةِ عمرَ، وعنهمْ يعبرُ الشاعرُ جريرٌ الذي قدمَ إلى عمرَ وطالَ مقامُه على بابِ عمرَ، ولم يلتفتْ إليهِ فكتبَ إلى عونِ بنِ عبدِ الله وكانَ خصيصًا بعمر يقول:
يا أيها القارئُ المرخِّي عمامتَهُ
…
هذا زمانُكَ إني قدْ مضى زمني
أبلغْ خليفَتَنا إنْ كنتَ لاقِيَهُ
…
أني لدى البابِ كالعصفورِ في قرنِ (2)
أيها المسلمون: هذه نماذجُ غاليةٌ في تاريخِنا .. وأولئكَ النبلاءُ منْ رجالِنا، وحقَّ للتاريخِ أنْ يسطرَ مآثرَهم بمدادٍ منْ ذهب، وحقَّ للمسلمينَ أن يفخروا بمثلِ هؤلاء، إنهمْ رجالٌ عرفوا قيمةَ الدنيا وقدرَ الآخرة، افتخروا بالإسلامِ فافتخرَ بهمُ المسلمون، ومثَّلوا الإسلامَ فاستجابَ لهمْ غيرُ المسلمين.
أولئك آبائي فجئني بمثلهِمْ
…
إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ
وليسَ عمرُ فلتةً في التاريخ، بل لهُ نظائرُ قبلَه وبعده، ولا يزالُ الخيرُ في هذهِ الأمة، ولئنْ غَفَتْ هذه الأمة فترةً من الزمن، فما أسرعَ ما يستيقظُ النائمُ، ولئنْ ذَلَّتْ وعَزَّ أعداؤُها فالأيامُ دولٌ .. والعاقبةُ للمتقينَ ولا عدوانَ إلا على الظالمين.
ولكنْ قراءةُ التاريخِ بعمقٍ واحدةٌ من سبلِ نهضةِ المسلمين وعزتِهم؛ ففي التاريخِ عبرةٌ، وفي أحداثِ الزمانِ موعظةٌ لأولي الألباب.
(1) سير أعلام النبلاء 5/ 118.
(2)
السيوطي/ 379.